أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

ونجم إذ قال الإله بعزمه

قم يا محمّد في البريّة فاخطب

وانصب أبا حسن لقومك إنه

هاد وما بلّغت إن لم تنصب

فدعاه ثمّ دعاهم فأقامه

لهم فبين مصدّق ومكذّب

جعل الولاية بعده لمهذّب

ما كان يجعلها لغير مهذّب

وله مناقب لا ترام متى يرد

ساع تناول بعضها بتذبذب

إنّا ندين بحبّ آل محمّد

دينا ومن يحبّهم يستوجب

منّا المودّة والولاء ومن يرد

بدلا بآل محمّد لا يحبب

ومتى يمت يرد الجحيم ولا يرد

حوض الرسول وإن يرده يضرب

ضرب المحاذر أن تعر ركابه

بالسوط سالفة البعير الأجرب

وكأنّ قلبي حين يذكر أحمدا

ووصيّ أحمد نيط من ذي مخلب

بذرى القوادم من جناح مصعّد

في الجو أو بذرى جناح مصوب

حتى يكاد من النزاع إليهما

يفري الحجاب عن الضلوع القلّب

هبة وما يهب الإله لعبده

يزدد ومهما لا يهب لا يوهب

يمحو ويثبت ما يشاء وعنده

علم الكتاب وعلم ما لم يكتب (١)

قال السيّد المرتضى علم الهدى (٣٥٥ ـ ٤٣٦ ه‍) في شرحه لمذهّبة السيّد الحميري ، إن قوله :

وانصب أبا حسن لقومك إنه

هاد وما بلّغت إن لم تنصب

هذا اللفظ يعني (النصب) لا يليق إلّا بالإمامة والخلافة دون المحبة والنصرة ، وقوله :

جعل الولاية بعده لمهذّب. صريح في الإمامة لأن الإمامة هي التي جعلت له بعده ، والمحبة والنصرة حاصلتان في الحال وغير مختصّتين بعد الوفاة (٢).

__________________

(١) الغدير ج ٢ / ٢١٣.

(٢) الغدير ج ٢ / ٢١٤.

٧٢١

تنبيه :

حتى لو قلنا أن «المولى» بمعنى المحبة والنصرة كما يقول العامة ، فإنّ تقديم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لابن عمه وصهره أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام على بقية الصحابة في المحبة والنصرة ، فيه دلالة قطعية على رفعته وعظمته وأهليته للخلافة والإمامة ، وإلّا فما الداعي لتخصيصه بالمحبة والنصرة دون غيره من الصحابة؟! اللهم إلّا أن يكون المقصود هو الإمامة التي من لوازمها المحبة والنصرة ، وأي معنى للأمر بمحبته ونصرته إن لم تكن هذه النصرة أو المحبة ملازمة لادعائه الإمامة وهو عليه‌السلام محقّ بدعواه ، كيف لا! والحق يدور معه حيثما دار. وبالجملة :

إن حديث الغدير دلالة قطعية على إمامة مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام لتلك القرائن المتقدمة وغيرها ، فلفظة «المولى» سواء كانت نصا في المعنى المستفاد بالوضع اللغوي أو مجملة في مفادها لاشتراكها بين معان جمة ، وسواء كانت عريّة عن القرائن لإثبات ما ندّعيه من معنى الإمامة أو محتفّة بها ، فإنها في المقام لا تدل إلّا على ذلك لفهم من وعاه من الحضور في ذلك المحتشد العظيم ، ومن بلغه النبأ بعد حين ممّن يحتجّ بقوله في اللغة من غير نكير بينهم ، وتتابع هذا الفهم فيمن بعدهم من الشعراء ورجالات الأدب حتى عصرنا الحاضر ، وذلك حجّة قاطعة في المعنى المراد.

وهناك زرافات من الناس فهموا من اللفظ هذا المعنى وإن لم يعربوا عنه بقريض لكنّهم أبدوه في صريح كلماتهم ، أو أنه ظهر من لوائح خطابهم ، ومن أولئك الشيخان أبو بكر وعمر ، وقد أتيا أمير المؤمنين عليه‌السلام مهنئين ومبايعين وهما يقولان : «أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة» (١).

__________________

(١) أخرجه الطبري محمد بن جرير في كتاب الولاية ، وأحمد بن محمد الطبري الشهير بالخليلي في كتاب مناقب الإمام عليّ بن أبي طالب. المصنّف ، مسند أحمد ج ٤ / ٢٨١ ، تفسير الطبري ـ

٧٢٢

فليت شعري أي معنى من معاني المولى الممكنة تطبيقه على مولانا لم يكن قبل ذلك اليوم حتى تجدّد به فأتيا يهنئانه لأجله ويصارحانه بأنه أصبح ملتفعا به يوم ذاك؟ أهو معنى النصرة أو المحبة اللتين لم يزل أمير المؤمنين عليه‌السلام متصفا بهما منذ رضع ثدي الإيمان مع صنوه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ أم غيرها مما لا يمكن أن يراد في خصوص المقام؟ لاها الله لا ذلك ولا هذا ، وإنما أرادا معنى فهمه كل الحضور من أنه أولى بهما وبالمسلمين أجمع من أنفسهم وعلى ذلك بايعاه وهنئاه.

ومن أولئك : الحارث بن النعمان الفهري ـ أو جابر ـ المنتقم منه بعاجل العقوبة يوم جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول : يا محمّد؟ أمرتنا بالشهادتين والصلاة والزكاة والحج ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك ففضّلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، فهذا شيء منك أم من الله؟ فقال رسول الله : والذي لا إله إلّا هو أن هذا من الله ، فولّى جابر يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمّد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله (١) ، وأنزل الله تعالى: (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ* لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ* مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) (٢).

فهل المعنى الملازم للتفضيل هو الذي استعظمه هذا الكافر الحاسد ، وطفق يشكّك أنّه من الله أم أنه محاباة من الرسول ، يمكن أن يراد به أحد ذينك المعنيين

__________________

ـ ج ٣ / ١٢٨ ، التمهيد في أصول الدين للباقلاني ص ١١٧ ، الفصول المهمة لابن الصبّاغ ص ٢٥ ، فضائل الصحابة لأبي سعيد السمعاني ص ٢٧٢ وسر العالمين للغزالي ص ٩. الملل والنحل للشهرستاني المطبوع بهامش الفصل لابن حزم ج ١ / ٢٢٠ ، وقد أخرجه الحجة الأميني في الغدير ج ١ / ٢٧٦ عن ستين مصدرا عاميّا فليراجع.

(١) تفسير القرآن لأبي عبيد الهروي / سورة المعارج ، تفسير شفاء الصدور / أبو بكر النقّاش ، والكشف والبيان / أبو إسحاق النيسابوري ، وتفسير القرطبي / سورة المعارج ، ودعاة الهداة إلى حق الموالاة / أبو القاسم الحسكاني.

(٢) سورة المعارج : ١ ـ ٣.

٧٢٣

أو غيرهما؟ أحسب أن ضميرك الحرّ لا يستبيح لك ذلك ، ويقول لك بكل صراحة : إنه هو تلك الولاية المطلقة التي لم يؤمن بها طواغيت قريش في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا بعد قهر من آيات باهرة ، وبراهين دامغة ، وحروب طاحنة ، حتى جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، فكانت هي في أمير المؤمنين أثقل عليهم وأعظم ، وقد جاهر الحارث ـ أو جابر ـ بما أضمره غيره فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر.

فالمولويّة المستعظمة عند العرب الذين لم يكونوا يتنازلون بالخضوع لكل أحد ليست هي المحبة والنصرة ولا شيء من معاني الكلمة ، وإنما هي الرئاسة الكبرى التي كانوا يستصعبون حمل نيرها إلّا بموجب يخضعهم لها وهي التي استوضحها أمير المؤمنين عليه‌السلام للملإ باستفهام في رحبة الكوفة لنفر قالوا له : السلام عليك يا مولانا ، فقال لهم : كيف أكون مولاكم وأنتم رهط من العرب؟ فأجابوه إنّا سمعنا رسول الله يقول يوم غدير خم : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، ففهم القوم ما فهموه من نصّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهذا المعنى غير خاف حتى على المخدّرات في الحجال فقد ذكر الزمخشري في ربيع الأبرار الباب الحادي والأربعين :

إن معاوية حجّ مرة فطلب امرأة يقال لها : دارميّة الحجونيّة من شيعة أمير المؤمنين عليّ وكانت سوداء ضخمة ، فقال : كيف حالك يا بنت حام؟ فقالت : بخير ولست بحام إنما أنا امرأة من بني كنانة ، فقال : صدقت ، هل تعلمين لم دعوتك؟

قالت : يا سبحان الله وإني لم أعلم الغيب ، قال : لأسألك لم أحببت عليّا وأبغضتيني ، وواليتيه وعاديتيني؟ قالت : أو تعفني؟ قال : لا ، قالت : أما إذا أبيت فإني أحببت عليّا على عدله في الرعيّة ، وقسمه بالسويّة ، وأبغضتك على قتال من هو أولى بالأمر منك ، وطلبك ما ليس لك ، وواليت عليّا على ما عقد له رسول الله من الولاية يوم خم بمشهد منك ، وحبّه للمساكين ، وإعظامه لأهل الدين ،

٧٢٤

وعاديتك على سفكك الدماء ، وشقّك العصا ، وجورك في القضاء وحكمك بالهوى.

والواقف على موارد الحجاج بين أفراد الأمة وفي مجتمعاتها وفي تضاعيف الكتب منذ ذلك العهد المتقادم إلى عصورنا هذه جدّ عليم بأن القوم لم يفهموا من الحديث إلّا المعنى الذي يحتج به للإمامة المطلقة وهو الأولويّة من كل أحد بنفسه وماله في دينه ودنياه الثابت ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولخلفائه الذين نصّ عليهم بأمر من الله تعالى.

القرينة العاشرة :

إن ذيل الحديث وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» وفي جملة من طرقه بزيادة قوله : «وانصر من نصره ، واخذل من خذله» قرينة على المدّعى بوجوه لا تلتأم إلّا مع معنى الأولويّة الملازمة للإمامة.

الوجه الأول :

إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا صدع بما خوّل الله سبحانه وصيّه من المقام الشامخ بالرئاسة العامّة على الأمة جمعاء ، والإمامة المطلقة من بعده ، كان يعلم بطبع الحال أنّ تمام هذا الأمر بتوفر الجنود والأعوان وطاعة أصحاب الولايات والعمّال مع علمه بأن في الملأ من يحسده كما ورد في الكتاب العزيز (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (١) وفيهم من يحقد عليه ، وفي زمر المنافقين من يضمر له العداء لأوتار جاهلية ، وستكون من بعده هناة تجلبها النهمة والشره من أرباب المطامع لطلب الولايات والتفضيل في العطاء ، ولا يدع الحقّ الإمام عليّا عليه‌السلام أن يسعفهم بمبتغاهم لعدم الحنكة والجدارة فيهم فيقلّبون عليه ظهر المجن ، وقد أخبر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجمل الحال بقوله : إن تولوا عليّا تجدوه هاديا مهديا يسلك بكم الطريق

__________________

(١) أخرج ابن المغازلي في المناقب ، وابن أبي الحديد في شرحه ج ٢ / ٢٣٦ والحضرمي الشافعي في الرشفة ص ٢٧ : أنها نزلت في الإمام عليّ وما خصّ به من العلم.

٧٢٥

المستقيم (١) ، وفي لفظ آخر : وأن تؤمروا عليّا ولا أراكم فاعلين تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم الطريق المستقيم (٢).

فطفق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو لمن والاه ونصره ، وعلى من عاداه وخذله ليتمّ له أمر الخلافة ، وليعلم الناس أنّ موالاته مجلبة لموالاة الله سبحانه ، وأن عداؤه وخذلانه مدعاة لغضب الله وسخطه ، فيزدلف إلى الحق وأهله ، ومثل هذا الدعاء بلفظ العام لا يكون إلّا فيمن هذا شأنه ، ولذلك إنّ أفراد المؤمنين الذين أوجب الله محبة بعضهم لبعض لم يؤثر فيهم هذا القول ، فإن منافرة بعضهم لبعض لا يبلغ بالنبيّ هذا المبلغ من الدعاء ، وإنما يحصل مثله فيما إذا كان المدعوّ له دعامة الدين ، وعلم الإسلام ، وإمام الأمة ، وبالتثبيط عنه يكون فتّ في عضد الحقّ وانحلال لعرى الإسلام.

الوجه الثاني :

إن هذا الدعاء بعمومه الأفرادي بالموصول ، والأزماني والأحوالي بحذف المتعلّق تدلّ على عصمة الإمام عليه‌السلام لإفادته وجوب موالاته ونصرته ، ووجوب الانحياز عن العداء له وخذلانه على كل أحد في كل حين وعلى كل حال ، وذلك يوجب أن يكون عليه‌السلام في كل تلك الأحوال على صفة لا تصدر منه معصية ، ولا يقول إلّا الحق ، ولا يعمل إلّا به ، ولا يكون إلّا معه ، لأنه لو صدر منه شيء من المعصية لوجب الإنكار عليه ونصب العداء له لعمله المنكر والتخذيل عنه ، فحيث لم يستثن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لفظه العام شيئا من أطواره وأزمانه علمنا أنه لم يكن عليه‌السلام في كل تلك المدد والأطوار إلّا على الصفة التي ذكرناها ، وصاحب هذه الصفة يجب أن يكون إماما لقبح أن يأمّه من هو دونه على ما هو المقرّر في محله ، وإذا كان إماما فهو أولى الناس منهم بأنفسهم.

__________________

(١) حلية الأولياء لأبي نعيم ج ١ / ٦٤.

(٢) كنز العمّال ج ٦ / ١٦٠.

٧٢٦

الوجه الثالث :

إنّ الأنسب بهذا الدعاء الذي ذيّل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به كلامه ، ولا بدّ أنه مرتبط بما قبله أن يكون غرضه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيان التكليف على الحاضرين من فرض الطاعة ووجوب الموالاة ، فيكون في الدعاء ترغيب لهم على الطاعة والخضوع له ، وتحذير عن التمرد والجموح تجاه أمره ، وذلك لا يكون إلّا إذا نزّلنا المولى بمعنى الأولى ، بخلاف ما إذا كان المراد به المحب أو الناصر فإنه حينئذ لم يعلم إلّا أنّ الإمام عليّا عليه‌السلام محب من يحبّه رسول الله أو ينصر من ينصره ، فيناسب إذن أن يكون الدعاء له إن قام بالمحبة أو النصرة لا للناس عامّة إن نهضوا بموالاته ، وعليهم إن تظاهروا بنصب العداء له ، إلّا أن يكون الغرض بذلك توكيد الصلات الوديّة بينه وبين الأمة إذا علموا أنه يحب وينصر كلّ فرد منهم في كل حال وفي كل زمان ، كما أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك فهو يخلّفه عليهما ، وبذلك يكون لهم منجاة من كل هلكة ، ومأوى من كل خوف ، وملجأ من كل ضعة ، شأن الملوك ورعاياهم ، والأمراء والسوقة ، فإنهما في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذه الصفة ، فلا بد أن يكونا فيمن يحذو حذوه أيضا كذلك وإلّا لاختلّ سياق الكلام ، فالمعنى على ما وصفناه بعد المماشات مع القوم متحد مع معنى الإمامة ، ومؤد مفاد الأولى.

القرينة الحادية عشر :

إن قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما جاء بلفظ جرير وزيد بن أرقم وعامر بن ليلى ، وفي لفظ حذيفة بن أسيد بسند صحيح : ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمّدا عبده ورسوله؟ (إلى أن قال) : قالوا : بلى نشهد بذلك. قال : اللهم اشهد ثم قال : يا أيّها الناس إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، فإن وقوع الولاية في سياق الشهادة بالتوحيد والرسالة وسردها عقيب المولويّة المطلقة لله سبحانه ولرسوله من بعده لا يمكن إلّا أن يراد بها معنى الإمامة الملازمة للأولوية على الناس منهم بأنفسهم.

٧٢٧

القرينة الثانية عشر :

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد بيان الولاية لأمير المؤمنين عليه‌السلام : «هنئوني هنئوني إن الله تعالى خصّني بالنبوة وخصّ أهل بيتي بالإمامة» صريح بالإمامة المخصوصة بأهل بيته الذين سيّدهم والمقدّم فيهم هو أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ثم إنّ نفس التهنئة والبيعة والمصافقة والاحتفال بها واتصالها ثلاثة أيام ، هذه كلها لا تلائم غير معنى الخلافة والأولويّة ، لذلك ترى الشيخين أبي بكر وعمر لقيا أمير المؤمنين فهنئاه بالولاية ، وفيها بيان لمعنى المولى الذي لهج به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يكون المتحلّى به إلا أولى الناس منهم بأنفسهم.

هذه جملة من القرائن الحالية والمقالية الدالة على أنّ معنى «مولى» في الحديث الشريف هو الأولى بالتصرف المستلزم للإمامة والخلافة. لقد تمخضت الحقيقة من معنى المولى ، وظهرت بأجلى مظاهرها ، بحيث لم يبق للخصم منتدح عن الخضوع لها ، إلّا من يبغي لدادا أو يرتاد انحرافا عن الطريقة المثلى.

كلمات حول مفاد الحديث

للاعلام الأئمة في تآليفهم

نذكر هنا كلمات درّية لجمع من العلماء الأعلام عند العامة حداهم التنقيب إلى المجاهرة بالحق ، فلهجوا به غير آبهين بما هنالك من جلبة ولغط ، فإليك عيون ألفاظهم :

(١) قال ابن زولاق الحسن بن إبراهيم أبو محمّد المصريّ المتوفى ٣٨٧ ه‍ في «تاريخ مصر» : وفي ثمانية عشر من ذي الحجة سنة ٣٦٢ ه‍ وهو يوم الغدير تجمّع خلق من أهل مصر والمغاربة ومن تبعهم للدعاء ، لأنّه يوم عيد ، لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فيه واستخلفه (١).

__________________

(١) حكاه عنه المقريزي في الخطط ج ٢ / ٢٢٢.

٧٢٨

يعرب هذا الكلام عن أنّ ابن زولاق وهو ذلك العربي المتضلّع لم يفهم من الحديث إلّا المعنى الذي نرتئيه ، ولم ير ذلك اليوم إلّا يوم عهد إلى أمير المؤمنين واستخلاف (١).

(٢) قال الإمام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري المتوفى ٤٦٨ ه‍ بعد ذكر حديث الغدير : هذه الولاية التي أثبتها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي مسئول عنها يوم القيامة في قوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) أي عن ولاية عليّ رضي الله عنه ، والمعنى : إنهم يسألون هل والوه حقّ الموالاة كما أوصاهم النبيّ أم أضاعوها وأهملوها؟ فتكون عليهم المطالبة والتبعة (٢).

وذكره وأخرج حديثه شيخ الإسلام الحمويني في «فرائد السمطين» في الباب الرابع عشر ، وجمال الدين الزرندي في نظم درر السمطين وابن حجر في الصواعق ص ٨٩ والحضرمي في «الرشفة» ص ٢٤ (٣).

(٣) قال أبو حامد الغزالي المتوفى ٥٠٥ ه‍ في كتابه «سر العالمين» (٤) ص ٩ :

اختلف العلماء في ترتيب الخلافة وتحصيلها لمن آل أمرها إليه ، فمنهم من زعم أنها بالنص ، ودليلهم في المسألة قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٥) وقد دعاهم أبو بكر بعد رسول الله إلى الطاعة فأجابوا ،

__________________

(١) الغدير للأميني ج ١ / ٣٩١.

(٢) حكاه عن الأميني في الغدير ج ١ / ٣٨٧ و ٣٩١ وقد لعبت أيادي الدس والتحريف فحذفت سورة الصافات من أصل كتاب «أسباب النزول» إخفاء للحق وكتمانا للحقيقة.

(٣) الغدير للأميني ج ١ / ٣٨٧.

(٤) لا شك أن كتاب «سر العالمين» هو للغزالي كما نصّ على ذلك الذهبي في ميزان الاعتدال ج ١ / ٥٠٠ في ترجمة الحسن بن صباح الإسماعيلي فراجع.

(٥) سورة الفتح : ١٦.

٧٢٩

وقال بعض المفسرين في قوله تعالى : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) (١) ، قال في الحديث : إن أباك هو الخليفة من بعدي يا حميراء ، وقالت امرأة : إذا فقدناك فإلى من نرجع؟ فأشار إلى أبي بكر ، ولأنه أمّ بالمسلمين على بقاء رسول الله والإمامة عماد الدين.

هذا جملة ما يتعلق به القائلون بالنصوص ثم تأوّلوا وقالوا : لو كان عليّ أوّل الخلفاء لانسحب عليهم ذيل الفناء ولم يأتوا بفتوح ولا مناقب ، ولا يقدح في كونه رابعا كما لا يقدح في نبوة رسول الله إذا كان آخرا ، والذين عدلوا عن هذا الطريق زعموا أن هذا وما يتعلق به فاسد ، وتأويل بارد جاء على زعمكم وأهويتكم ، وقد وقع الميراث في الخلافة والأحكام مثل داود وزكريا وسليمان ويحيى ، قالوا : كان لأزواجه ثمن الخلافة ، فبهذا تعلقوا وهذا باطل إذ لو كان ميراثا لكان العبّاس أولى.

لكن أسفرت الحجّة وجهها ، وأجمع الجماهير على متن الحديث من خطبته في يوم غدير خم باتفاق الجميع وهو يقول : من كنت مولاه فعلي مولاه. فقال عمر : بخ بخ يا أبا الحسن؟ لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ، فهذا تسليم ورضى وتحكيم ، ثمّ بعد هذا غلب الهوى لحبّ الرئاسة ، وحمل عمود الخلافة ، وعقود البنود ، وخفقان الهوى في قعقعة الرايات ، واشتباك ازدحام الخيول ، وفتح الأمصار سقاهم كأس الهوى فعادوا إلى الخلاف الأول فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون.

(٤) قال شمس الدين سبط ابن الجوزي الحنفي المتوفي ٦٥٤ ه‍ في «تذكرة خواص الأمة» ص ١٨ :

اتفق علماء السير أن قصّة الغدير كانت بعد رجوع النبيّ صلى الله عليه [وآله] من حجّة الوداع في الثامن عشر من ذي الحجّة جمع الصحابة وكانوا مائة وعشرين

__________________

(١) سورة التحريم : ٣.

٧٣٠

ألفا وقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه .. الحديث. نصّ صلى الله عليه [وآله] على ذلك بصريح العبارة دون التلويح والإشارة. وذكر أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره بإسناده أنّ النبيّ صلّى الله عليه [وآله] لمّا قال ذلك طار في الأقطار ، وشاع في البلاد والأمصار (ثمّ ذكر ما مرّ في آية سأل) فقال : فأما قوله : من كنت مولاه ، فقال علماء العربية : لفظ المولى ترد على وجوه (ثم ذكر من معاني المولى تسعة فقال :) والعاشر بمعنى الأولى ، قال الله تعالى : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) ثمّ طفق يبطل إرادة كلّ من المعاني المذكورة واحدا واحدا فقال : والمراد من الحديث الطاعة المحضة المخصوصة فتعيّن الوجه العاشر وهو : الأولى ومعناه : من كنت أولى به من نفسه فعليّ أولى به ، وقد صرّح بهذا المعنى الحافظ أبو الفرج يحيى بن سعيد الثقفي الأصبهاني في كتابه المسمّى ب «مرج البحرين» فإنّه قد روى هذا الحديث بإسناده إلى مشايخه وقال فيه : فأخذ رسول الله صلى الله عليه [وآله] بيد عليّعليه‌السلام فقال : من كنت وليّه وأولى به من نفسه فعليّ وليّه. فعلم أنّ جميع المعاني راجعة إلى الوجه العاشر ، ودلّ عليه أيضا قوله عليه‌السلام : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وهذا نصّ صريح في إثبات إمامته وقبول طاعته وكذا قوله صلى الله عليه [وآله] : وأدر الحقّ معه حيثما دار وكيفما دار. اه.

(٥) قال كمال الدين ابن طلحة الشافعي المتوفّى ٦٥٤ ه‍ في «مطالب السئول» ص ١٦ بعد ذكر حديث الغدير ونزول آية التبليغ فيه : فقوله صلى الله عليه [وآله] : من كنت مولاه فعليّ مولاه. قد اشتمل على لفظة (من) وهي موضوعة للعموم ، فاقتضى أنّ كلّ إنسان كان رسول الله صلى الله عليه [وآله] مولاه كان عليّ مولاه ، واشتمل على لفظة المولى وهي لفظة مستعملة بإزاء معان متعدّدة قد ورد القرآن الكريم بها ، فتارة تكون بمعنى (أولى) ، قال الله تعالى في حقّ المنافقين : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) معناه : أولى بكم ، ثمّ ذكر من معانيها : الناصر والوارث والعصبة والصديق والحميم والمعتق ؛ فقال : وإذا كانت واردة لهذه

٧٣١

المعاني فعلى أيّها حملت إمّا على كونه أولى كما ذهب إليه طائفة ، أو على كونه صديقا حميما فيكون معنى الحديث : من كنت أولى به أو ناصره أو وارثه أو عصبته أو حميمه أو صديقه فإنّ عليّا منه كذلك. وهذا صريح في تخصيصه لعليّ عليه‌السلام بهذه المنقبة العليّة وجعله لغيره كنفسه بالنسبة إلى من دخلت عليهم كلمة (من) التي هي للعموم بما لا يجعله لغيره.

وليعلم أن هذا الحديث هو من أسرار قوله تعالى في آية المباهلة : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) (١) والمراد نفس عليّ على ما تقدّم فإن الله تعالى لمّا قرن بين نفس رسول الله وبين نفس عليّ وجمعهما بضمير مضاف إلى رسول الله أثبت رسول الله لنفس عليّ بهذا الحديث ما هو ثابت لنفسه على المؤمنين عموما فإنّه أيّ النبيّ عليه‌السلام أولى بالمؤمنين ، وناصر المؤمنين ، وسيّد المؤمنين ، وكل معنى أمكن إثباته مما دل عليه لفظ المولى لرسول الله فقد جعله لعليّ عليه‌السلام وهي مرتبة سامية ومنزلة سامقة ودرجة عليّة ومكانة رفيعة خصّصه بها دون غيره ، فلهذا صار ذلك اليوم يوم عيد وموسم سرور لأوليائه.

(إلى أن قال) : ثم لم يزل يخصّصه بعد ذلك بخصائص من صفاته نظرا إلى ما ذكرناه حتى روى الحافظ أيضا في حليته ج ١ / ٦٧ بسنده عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله لأبي برزة وأنا أسمع : يا أبا برزة؟ إنّ الله عهد إليّ في عليّ بن أبي طالب : إنه راية الهدى ، ومنار الإيمان وإمام أوليائي ، ونور جميع من أطاعني ، يا أبا برزة؟ عليّ إمام المتقين ، من أحبّه أحبّني ، ومن أبغضه أبغضني فبشّره بذلك.

فإذا وضح لك هذا المستند ظهرت حكمة تخصّصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا بكثير من الصفات دون غيره وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

(٦) قال صدر الحفّاظ أبو عبد الله الكنجي الشافعيّ المتوفى ٦٥٨ ه‍ في «كفاية الطالب» ص ٦٩ بعد ذكر قول رسول الله لعليّ : لو كنت مستخلفا أحدا لم

__________________

(١) سورة آل عمران : ٦١.

٧٣٢

يكن أحد أحقّ منك لقدمتك في الإسلام ، وقرابتك من رسول الله ، وصهرك عندك فاطمة سيّدة نساء العالمين.

ثم قال : وهذا الحديث وإن دلّ على عدم الاستخلاف لكن حديث غدير خمّ دليل على التولية وهي الاستخلاف ، وهذا الحديث أعني حديث غدير خم ناسخ لأنه كان في آخر عمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٧) قال سعد الدين الفرغاني المتوفى ٦٩٩ ه‍ كما ذكره الذهبي في العبر ـ في شرح تائيّة ابن الفارض الحموي المتوفى ٥٧٦ ه‍ التي أوّلها :

سقتني حميّا الحبّ زاحة مقتلي

وكأسي محيّا من عن الحسن جلّت

في شرح قوله :

وأوضح بالتأويل ما كان مشكلا

عليّ بعلم ناله بالوصيّة

قال : وكذا هذا البيت مبتدأ محذوف الخبر تقديره : وبيان عليّ كرّم الله وجهه وإيضاحه بتأويل ما كان مشكلا من الكتاب والسنّة بوساطة علم ناله بأن جعله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصيّه وقائما مقام نفسه بقوله : من كنت مولاه فعليّ مولاه. وذلك كان يوم غدير خمّ على ما قاله كرّم الله وجهه في جملة أبيات منها قوله :

وأوصاني النبيّ على اختياري

لأمّته رضى منه بحكمي

وأوجب لي ولايته عليكم

رسول الله يوم غدير خم

وغدير خم ماء على منزل من المدينة على طريق يقال له الآن : طريق المشاة إلى مكة ، كان هذا البيان بالتأويل بالعلم الحاصل بالوصيّة من جملة الفضائل التي لا تحصى خصّه بها رسول الله فورثها عليه الصلاة والسلام. ثم قال :

وأما حصّة عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه من العلم والكشف ، وكشف معضلات الكلام العظيم ، والكتاب الكريم الذي هو من أخصّ معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأوضح بيان بما ناله بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا مدينة العلم وعليّ بابها. وبقوله : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، مع فضائل أخر لا تعدّ ولا تحصى.

٧٣٣

(٨) قال علاء الدين أبو المكارم السمنانيّ البياضيّ المكيّ المتوفى ٧٣٦ ه‍ في «العروة الوثقى» :

وقال ـ أي النبيّ ـ لعليّ عليه‌السلام وسلام الملائكة الكرام : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ولكن لا نبيّ بعدي.

وقال في غدير خمّ بعد حجّة الوداع على ملأ من المهاجرين والأنصار آخذا بكتفه : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. وهذا حديث متفق على صحته فصار سيد الأولياء ، وكان قلبه على قلب محمّد عليه التحية والسلام ، وإلى هذا السر أشار سيّد الصدّيقين صاحب غار النبي أبو بكر حين بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى عليّ لاستحضاره بقوله : يا أبا عبيدة؟ أنت أمين هذه الأمة أبعثك إلى من هو من في مرتبة من فقدناه بالأمس ، ينبغي أن تتكلم عنده بحسن الأدب. انتهى كلامه.

أقول : ليت شعري إذا ما كان أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام نفس رسول الله ، ومرتبتهعليه‌السلام نفس مرتبة رسول الله فلم اقتحموا داره واعتدوا على زوجه فاطمة الصدّيقة الكبرى وأسقطوا جنينها وكسّروا أضلاعها ، ونفوا عنه الأخوة بينه وبين رسول الله ، ولم لم يسلموه ما منه سلبوه؟!

(٩) قال الطيبي حسن بن محمّد المتوفى ٧٤٣ ه‍ في «الكاشف» في شرح حديث الغدير ، قوله : إني أولى بالمؤمنين من أنفسهم. يعني به قوله تعالى. النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، أطلق فلم يعرف بأي شيء هو أولى بهم من أنفسهم ، ثم قيّد بقوله : وأزواجه أمهاتهم. ليؤذن بأنه بمنزلة الأب ، ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم. وقال مجاهد : كلّ نبي فهو أبو أمته. ولذلك صار المؤمنون إخوة. فإذن وقع التشبيه في قوله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه. في كونه كالأب ، فيجب على الأمّة احترامه وتوقيره وبرّه ، وعليه رضي الله عنه أن يشفق عليهم ويرأف بهم رأفة الوالد على الأولاد ، ولذا هنّأ

٧٣٤

عمر بقوله : يا ابن أبي طالب؟ أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة».

(١٠) قال شهاب الدين ابن شمس الدين دولت آبادي المتوفي ١٠٤٩ ه‍ في «هداية السعداء» وفي «التشريح» قال أبو القاسم (رح) من قال : فإنّ عليّا أفضل من عثمان فلا شيء عليه لأنّه قال أبو حنيفة وقال ابن مبارك : من قال : إن عليّا أفضل العالمين أو : أفضل الناس ، وأكبر الكبراء فلا شيء عليه لأن المراد منه أفضل الناس في عصره وزمان خلافته كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كنت مولاه فعليّ مولاه. أي في زمان خلافته ومثل هذا الكلام قد ورد في القرآن والأحاديث وفي أقوال العلماء بقدر لا يحصى ولا يعدّ.

وقال أيضا في «هداية السعداء» : وفي حاصل التمهيد في خلافة أبي بكر ودستور الحقائق : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا رجع من مكّة نزل في غدير خم فأمر أن يجمع رحال الإبل فجعلها كالمنبر فصعد عليها فقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله. وقال الله عزوجل : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.

قال أهل السنّة : المراد من الحديث : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، أي في وقت خلافته وإمامته.

يرد عليه :

أولا : إذا كانت ولاية أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام خاصة في وقت خلافته ، فإن ولاية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينئذ خاصة في وقت بعثته ونبوته للملازمة بين ولاية النبيّ وولاية أمير المؤمنين لحديث الغدير المتقدم ولغيره من الأحاديث الدالة على ثبوت الفضيلة والولاية له ، وبما أنّ النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وولايته ليست مخصوصة بزمن بعثته ، كذا فإنّ الإمام عليّا له ما لرسول الله من الولاية على المؤمنين ، وهل يمكن لمن حصر الولاية بزمن خلافته أن يحصر قوله (إِنَّما وَلِيُّكُمُ

٧٣٥

اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ..) بزمن نزول الآية؟ فإن أجاب بنعم ، فعليه أن يحمل ولاية رسول الله حينئذ على نزول الآية ، وهذا لم يقل به أحد من المسلمين.

ثانيا : إن حذف المتعلق بقوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) دليل العموم ، وحيث لم يذكر القيد دل ذلك على شمولية ولايته لما قبل استلامه الخلافة الظاهرية ، ولو أراد التقييد لكان عليه أن يقيّد ـ حسب مقدمات الحكمة ـ وحيث لم يفعل يبقى الإطلاق على حاله ، ويثبت المطلوب.

(١١) قال أبو شكور محمّد بن عبد السعيد بن محمّد الكشي السالمي الحنفي في ـ التمهيد في بيان التوحيد ـ قالت الروافض : الإمامة منصوصة لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بدليل أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعله وصيا لنفسه وجعله خليفة من بعده حيث قال : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي. ثمّ هارون عليه‌السلام كان خليفة موسى عليه‌السلام فكذلك عليّ رضي الله عنه.

والثاني : وهو : أن النبي عليه‌السلام جعله وليّا للناس لمّا رجع من مكّة ونزل في غدير خم فأمر النبي أن يجمع رحال الإبل فجعلها كالمنبر وصعد عليها فقال : ألست بأولى المؤمنين من أنفسهم؟ فقالوا : نعم ، فقال عليه‌السلام : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، والله جلّ جلاله يقول : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) الآية. نزلت في شأن عليّ رضي الله عنه دل على أنه كان أولى الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثم قال في الجواب عمّا ذكر : وأمّا قوله : بأنّ النبيّ عليه‌السلام جعله وليّا ، قلنا : أراد به في وقته يعني بعد عثمان رضي الله عنه ، وفي زمن معاوية رضي الله عنه ونحن كذا نقول. وكذا الجواب عن قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية. فنقول : إن عليّا رضي الله عنه كان وليّا وأميرا بهذا الدليل في أيامه ووقته وهو بعد عثمان رضي الله وأما قبل ذلك فلا.

٧٣٦

(١٢) قال ابن كثير المكي الشافعي المتوفى ١٠٤٧ ه‍ في ـ وسيلة المال في عدّ مناقب الآل ـ بعد ذكر حديث الغدير بعدّة طرق : وأخرج الدارقطني في الفضائل عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال : سمعت أبا بكر يقول : عليّ بن أبي طالب عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : الذين حثّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التمسّك بهم ، والأخذ بهديهم فإنهم نجوم الهدى من اقتدى بهم اهتدى ، وخصّه أبو بكر بذلك (رض) لأنّه الإمام في هذا الشأن ، وباب مدينة العلم والعرفان ، فهو إمام الأئمة ، وعالم الأمة ، وكأنه أخذ ذلك من تخصيصه عليه‌السلام من بينهم يوم غدير خم بما سبق ، وهذا حديث صحيح لا مرية فيه ولا شك ينافيه ، وروي عن الجمّ الغفير من الصحابة ، وشاع واشتهر وناهيك بمجمع حجة الوداع.

(١٣) قال السيّد محمّد اليمني المتوفى ١١٨٢ ه‍ في ـ الروضة النديّة شرح التحفة العلويّة ـ بعد ذكر حديث الغدير بعدّة طرق ، وتكلّم الفقيه حميد على معانيه وأطال وننقل بعض ذلك (إلى أن قال) : ومنها قوله : أخذ بيده ورفعها وقال : من كنت مولاه فهذا مولاه. والمولى إذا أطلق من غير قرينة فهم منه أنّه المالك المتصرّف ، وإذا كان في الأصل يستعمل لمعان عدّة منها : المالك للتصرف ولهذا إذا قيل : هذا مولى القوم سبق إلى الأفهام أنه المالك للتصرّف في أمورهم. ثم عدّ منها : الناصر وابن العمّ والمعتق والمعتق. فقال : ومنها : بمعنى الأولى قال تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ). أي أولى بكم وبعذابكم. وبعد فلو لم يكن السابق إلى الأفهام من لفظة مولى السابق المالك للتصرّف لكانت منسوبة إلى المعاني كلها على سواء وحملناها عليها جميعا إلّا ما يتعذّر في حقّه عليه‌السلام من المعتق والمعتق فيدخل في ذلك المالك للتصرّف ، والأولى المفيد ملك التصرّف على الأمّة ، وإذا كان أولى بالمؤمنين من أنفسهم كان إماما ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من كنت وليّه فهذا وليّه. والولي المالك للتصرّف بالسبق إلى الفهم ، وإن استعمل في غيره ، وعلى هذا قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : والسلطان ولي من لا وليّ له. يريد ملك التصرّف في عقد النكاح يعني أن الإمام له الولاية فيه حيث لا عصبة بطريق الحقيقة ، فإنه يجب

٧٣٧

حملها عليها أجمع إذا لم يدلّ دليل على التخصيص.

(١٤) قال الشيخ العجيلي الشافعي في ـ ذخيرة المآل شرح عقد جواهر اللآل في فضائل الآل ـ بعد ذكر حديث الغدير وقصّة الحارث بن نعمان الفهري : وهو من أقوى الأدلّة على أن عليّا رضي الله عنه أولى بالإمامة والخلافة والصداقة والنصرة والاتّباع باعتبار الأحوال والأوقات والخصوص والعموم ، وليس في هذا مناقضة لما سبق وما سيأتي إنشاء الله تعالى من أن عليّا رضي الله عنه تكلّم فيه بعض من كان معه في اليمن فلمّا قضى حجّه خطب بهذا تنبيها على قدره وردّا على من تكلّم فيه كبريدة فإنّه كان يبغضه ولما خرج إلى اليمن رأى جفوة فقصّه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يتغيّر وجهه ويقول : يا بريدة؟ ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ من كنت مولاه فعليّ مولاه. لا تقع يا بريدة في عليّ فإن عليّا مني وأنا منه ، وهو وليّكم بعدي.

ـ هذه ثلة من كلمات أكابر علماء العامة حول مفاد الحديث ، وهناك الكثير من نظائرها ، أعرضنا عن إثباتها حرصا على عدم الإسهاب.

إلى هنا نكون قد انتهينا من عرض جملة من القرائن المتصلة والمنفصلة الدالة على صحة حديث الغدير وهي ولله الحمد كافية لمن ألقى السمع وهو شهيد.

النقطة الثالثة :

الإيرادات الواردة على حديث الغدير الشريف

نثير في هذه النقطة بعض الإيرادات الواهية التي نفثها بعض المخالفين والمعاندين على حديث الغدير المقطوع الصدور سندا ودلالة من رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باتفاق المسلمين خاصة وعامة.

الإيراد الأول :

بأن خبر الغدير من أخبار الآحاد في مقابلة الإجماع ، ولو صحّ لما خفي على

٧٣٨

الصحابة والتابعين والمحدثين المهرة ، ولو سلّم فغايته إثبات خلافته عليه‌السلام لا نفي خلافة الآخرين ، وهذا الإيراد للقوشجي المتوفى ٨٧٩ ه‍.

فإليك أخي القارئ عين ألفاظه ، قال عند شرح قول المحقّق الطوسي «ولحديث الغدير المتواتر ...» :

«وأجيب بأنه غير متواتر بل هو خبر واحد في مقابلة الإجماع كيف؟ وقد قدح في صحته كثير من أهل الحديث ، ولم ينقله المحققون منهم كالبخاري ومسلم والواقدي .. ولو سلّم أي دلالته على الإمامة ـ فغايته الدلالة على استحقاق الإمامة وثبوتها في المال ، لكن من أين يلزم نفي إمامة الأئمة الثلاثة (١)؟».

وفي موضع آخر قال في مقام رده على بعض الأخبار : «بأنه خبر واحد في مقابلة الإجماع ولو صحّ لما خفى على الصحابة والتابعين والمهرة المتقنين من المحدثين سيّما عليّ وأولاده الطاهرين ولو سلم فغايته إثبات خلافته لا نفي خلافة الآخرين (٢).

يرد عليه :

(١) إن إنكاره تواتر الحديث لم يصدر إلّا عن التعنت والتعصب ، ومخالف لما أجمع عليه الفريقان من تواتره ، وقد ذكرنا طرقه من مصادر القوم في النقطة الأولى ، هذا مضافا إلى أن أكابر علماء العامة أمثال الحاكم حيث صحّح كثيرا من طرقه ، وكذا الذهبي على نصبه وعداوته ، وابن حجر على تعصّبه اعترفا بصحة كثير من طرقه أيضا ، فلا مجال حينئذ لمنع تواتره لاستفاضة طرقه بينهم فضلا عنا ، استفاضة توجب أعلى مراتب التواتر عند من أنصف ، وقد اعترف السيوطي بتواتره وكذا ابن الجزري حتى نسب منكر تواتره إلى الجهل والتعصب.

(٢) وأما عدم ذكر البخاري ومسلم له فغير عجيب ، إذ كم أهملا أخبارا

__________________

(١) شرح التجريد للقوشجي ، ط / قم ، حجري ، ص ٣٦٩.

(٢) شرح التجريد ص ٣٧٠.

٧٣٩

صحيحة عندهم واستدركها أصحابهما ، فإنّ إهمالهما لهذا الحديث الصحيح المتواتر لا لمجرد عدم موافقته لمذهبهما بل لرعاية ملوك زمانهما وهوى قومهما ، والناس على دين ملوكهم ، وبهذا تعلم عذر من أنكر حديث الغدير كأبي داود السجستاني وأبي حاتم الرازي وغيرهما من أئمة الحديث ، ونحن مع كثرة تأكيدنا وثلة من محققي العامة على حديث الغدير ، لا نستغرب أن ينكر هؤلاء الحديث الشريف لشدّة بغضهم لعترة رسول الله ، من هنا نتأسى بقول شيعي موال أجاب عامّيا معترضا على الشيعة بقوله : ما لكم تنوحون على الإمام الحسين في كل وقت وقد مضت على قتله السنون؟ فقال : نخاف أن تنكروا قتله ومظلوميته كما أنكرتم بيعة الغدير.

وبالجملة : فقد اعترف أكابر العامة بتواتر الحديث ووضوح دلالته ، فارتكاب القدح فيه يكون ناشئا عن اعوجاج الفطرة وسوء الاستعداد ، والتورط في العصبيّة والعناد ، ذلك جزاؤهم جهنم بما اتخذوا آيات الله وأوليائه هزوا.

(٣) دعواه أن الحديث خبر واحد في مقابلة الإجماع مصادرة على المطلوب وافتراء وكذبا صريحا بعد ما ذكرنا سابقا تواتر الحديث وكونه مجمعا على روايته بين فرق الإسلام ، وقد رواه السيد العلّامة المحدّث البحراني في كتاب غاية المرام بمائة طريق من طرق العامة ، وبسبعين طريقا من طرق الخاصة ، وقد أفرد له محمّد بن جرير الطبري صاحب التاريخ كتابا سمّاه «كتاب الولاية».

هذا مضافا إلى أن الإجماع لوحده غير كاف لإثبات الحجية وإلا لكان إجماع النصارى واليهود حجة ، فاتفاق المجمعين على شيء لا يخرجه من البطلان إلى الصحة ، ولا يغيّر من عنوانه الأولي. ولو سلّمنا بوجود إجماع على النفي إلا أن أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام وأصحابه الميامين خالفوا الإجماع المدعى كذبا وافتراء ، ألم يصرّح الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن الحق مع عليّ وعليّ مع الحق(١)؟! فلو كان

__________________

(١) راجع إحقاق الحق ج ٥ / ٦٢٣ فقد خرّج مصادره وطرقه من كتب العامة.

٧٤٠