أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

كان يعرض عليّ جميع عملي لو لا الحديدة التي أصبت بها ؛ يعني القتل (١).

ويذكر ابن الأثير في موضع آخر (٢) ، أن تاج الملك كان عدوّا لنظام الملك ومتهما في قتله ، كما صرّح في صفحة ٢١٠ أن تاج الملك هو الذي سعى بقتل نظام الملك ليستولي على الوزارة.

وقد يكون بحسب هذه الرواية قد أوعز تاج الملك إلى الغلام الدّيلمي كي يقتل نظام الملك ، وقد يكون أيضا الغلام الديلمي قتل نظام الملك حقدا عليه لتشيّعه ، ولا معارضة بين الاحتمالين ، كما أنّه لا معارضة بين ما ذكره مقاتل بن عطية (من أنّ ملكشاه مات اغتيالا ويؤكد هذا ما ذكر في العبر من أنّ ملكشاه سمّ في خلال) وبين ما ذكره ابن الأثير (من أنّه مات محموما) ، إذ قد يكون الصيد الذي أكله ملكشاه مسموما بواسطة الأعداء ، أو يكون قد دسّ له السمّ في غير لحم الصيد ، أو أنه مات بسبب السم ولكنّهم ظنوا موته بسبب لحم الصيد نتيجة الحمى ، ويكون سبب الحمى هو السم وهو الأقرب عندي ، ولا تعارض بين الروايتين ، وعلى فرض التعارض بين رواية ابن الأثير ورواية مقاتل بن عطية ، لا بدّ من ترجيح رواية الثاني على الأول ، لأن شهادة ابن عطيّة قريبة من الحسّ بخلاف شهادة ابن الأثير المنقولة بخبر واحد والتي تتوفر فيها دواعي الكذب حرصا على عقيدة أبناء السنّة في تلك الفترة.

ولو قيل : لا يمكننا الاعتماد على شهادة ابن عطية لكونها خبرا واحدا أيضا ، إذ كيف يمكننا أن نصدّق ما ذكره ابن عطيّة؟

قلنا : ما قيل في ابن عطية يقال أيضا في ابن الأثير ، إذ من أين نثبت حينئذ ما ادّعاه ابن الأثير.

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ١٠ / ٢٠٤.

(٢) الكامل في التاريخ ج ١٠ / ٢١٥.

٦١

هذا مضافا إلى ترجيح شهادة ابن عطية لكونها أقرب إلى الواقعة والمنقولة بواسطة واحدة ، بخلاف المنقولة بوسائط متعددة أو بحسب السماع.

هذا مضافا إلى وجوب تقديم شهادة الإمامي الثقة على غيره حال التعارض كما لا يخفى على من جاس ديار علم الحديث والدراية.

فإن قيل : كيف وثقتم قول ابن عطية؟

قلنا : من إقراره في كتابه بالتشيع حيث ثبت عندنا صحة صدوره لوجود قرائن ، ودعوى كونه ملفّقا بحاجة إلى دليل.

ولو قيل لنا : الأصل عدم تشيّعه! قلنا : إنما يجري الأصل المذكور حال الشك ، وهو منتف عندنا ، وعلى فرض عدم تشيّعه يتساوى حينئذ قوله مع ابن الأثير ، ويتعارضان ـ على أقل تقدير ـ فيؤخذ بقول ابن عطية لقيام القرينة على ذلك لا سيّما أن ابن الأثير نفسه اعتمد عليه ونقل عنه شعره في مدحه لنظام الملك ، ولو لم يكن موثوقا عند ابن الأثير فكيف يأخذ بقوله ويعتمد عليه ويصف (١) شعره بأنه من أحسن ما قيل في نظام الملك؟!.

٣ ـ وأما مقاتل بن عطيّة :

مؤرّخ جليل وشاعر وأديب ، ثقة نقّاد ، يلقب بشبل الدولة ، أصله عربي ، من الحجاز ، ارتحل منها إلى بغداد ، ثم إلى خراسان فكان من المقربين لنظام الملك.

قال المؤرّخ ابن خلكان :

أبو الهيجاء مقاتل بن عطيّة البكريّ الحجازيّ ، الملقّب شبل الدولة ؛ كان من أولاد أمراء العرب فوقع بينه وبين إخوته وحشة أوجبت رحيله عنهم ،

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ١٠ / ٢٠٦.

٦٢

ففارقهم ووصل إلى بغداد ، ثم خرج إلى خراسان واختصّ بالوزير نظام الملك وصاهره ، ولما قتل نظام الملك رثاه أبو الهيجاء ببيتين ثم عاد إلى بغداد وأقام بها مدة وعزم على قصد كرمان مسترفدا وزيرها ناصر الدين مكرم بن العلاء ، وكان من الأجواد المشاهير فكتب إلى الإمام المستظهر بالله قصّة يلتمس فيها الإنعام عليه بكتاب إلى الوزير المذكور مضمونه : «يا أبا الهيجاء ، أبعدت النجعة ، أسرع الله بك الرّجعة وفي ابن العلاء مقنع ، وطريقة في الخير مهيع وما يسديه إليك تستحلي ثمرة شكره ، وتستعذب مياه برّه ، والسلام».

فاكتفى أبو الهيجاء بهذه الأسطر واستغنى عن الكتاب ، وتوجه إلى كرمان فلما وصلها قصد حضرة الوزير ، واستأذن في الدخول ، فأذن له ، فدخل عليه ، وعرض على رأيه القصّة ، فلما رآها قام وخرج من دسته إجلالا لها ، وتعظيما لكاتبها ، وأطلق لأبي الهيجاء ألف دينار في ساعته ثم عاد إلى دسته ، فعرّفه أبو الهيجاء أنّ معه قصيدة يمدحه بها ، فاستنشده إياها ، فأنشده:

دع العيس تذرع عرض الفلا

إلى ابن العلي وإلّا فلا

فلما سمع الوزير هذا البيت أطلق له ألف دينار أخرى ، ولما أكمل إنشاده القصيدة أطلق له ألف دينار أخرى ، وخلع عليه ، وقاد إليه جوادا بمركبه وقال له :

دعاء أمير المؤمنين مسموع مرفوع وقد دعى لك بسرعة الرّجوع ؛ وجهّزه بجميع ما يحتاج إليه فرجع بغداد ، وأقام بها قليلا ، ثم سافر إلى ما وراء النهر وعاد إلى خراسان ، ونزل إلى هراة ، واستوطنها ؛ ومرض في آخر عمره ، وتسودن ، وحمل إلى البيمارستان وتوفي به حدود سنة خمس وخمسمائة رحمه‌الله تعالى (١).

__________________

(١) وفيات الأعيان ج ٥ / ٢٥٧ ـ ٢٥٨ ، ط / بيروت ، رقم الترجمة ٧٣٤.

٦٣

وقال خير الدين الزركلي :

مقاتل بن عطيّة البكري الحجازيّ ، أبو الهيجاء ، شبل الدولة ، شاعر من بيت إمارة في البادية.

رحل من الحجاز وسكن بغداد ، ثم تنقّل في البلاد إلى أن أقام في خراسان ، واختص بالوزير نظام الملك فصاهره ، ولمّا قتل نظام الملك عاد إلى بغداد. طاف البلاد مسترفدا أمراءها ففاز بمال وافر ، وأقام بمرو إلى أن مات. وكانت بينه وبين الإمام الزمخشري مكاتبات ومداعبات ، وشعره جيّد (١).

ويعرف صدق لهجته واعتقاده بأحقية ما يعتقده الشيعة وأن الحق معهم ، من الشعر الذي أنشده بحق عمه «والد زوجته» نظام الملك ، وكل من ترجم له من مؤرخي السنة لم يذكر من شعره المؤلف من ستة أبيات ، سوى بيتين فقط قال في مرثيته :

كان الوزير نظام الملك لؤلؤة

نفيسة صاغها الرحمن من شرف

عزّت فلم تعرف الأيام قيمتها

فردّها غيرة منه إلى الصّدف (٢)

اختار مذهب حق في محاورة

تبدى الحقيقة في برهان منكشف

دين التشيّع حق لا مراء له

وما سواه سراب خادع السجف

لكنّ حقدا دفينا حرّكوه له

فبات بدر الدجى في ظل منخسف

عليه ألف سلام الله تالية

تترى على روحه في الخلد والغرف (٣)

__________________

(١) الأعلام ج ٧ / ٢٨١ ، ط بيروت.

(٢) هذان البيتان رواهما ابن الأثير في الكامل ج ١٠ / ٢٠٤ ، وابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب ج ٣ / ٣٧٥.

(٣) الأبيات الأربعة الأخيرة ذكرها مقاتل في آخر الكتاب وعدم ذكر مؤرخي العامة لها واضح لا يحتاج إلى تفسير.

٦٤

وأما النقطة الثانية :

وهي : هل هذه المحاورة حقيقة خارجيّة أم نظرية افتراضية؟

والجواب :

وافق بعض المحقّقين (١) على الثاني معتمدا على جملة قرائن ارتقت به إلى درجة الاطمئنان ، ونحن إذ نجلّ ونحترم رأيه ، لكننا ملزمون بمناقشة ما أورده ، لعدم صلوح تلك الإيرادات لتكون بمجموعها دليلا أو قرائن متعدّدة ترقى به إلى افتراضية المحاورة ، أو نفي حصولها في بغداد!

ونحن لا نستبعد صحة حصول المحاورة في بغداد وذلك للأمور التالية :

أولا : إنّ احتمال كون الكتاب لمقاتل بن عطيّة مقدّم على احتمال أن يكون قد وضعه بعض من تأخّر عنه ، لأن الاحتمال الأول أقوى من الاحتمال الثاني المبني على أصالة العدم ، ولابنتائه ـ أي الأول ـ على معلوم الحال بعكس الثاني المبتني على مجهول الحال. ولو فرضنا تساوي الاحتمالين ـ مع أنهما ليسا بمتساويين ـ فحينئذ يتساقطان ، إلّا إذا وجدت قرائن تفيد الاطمئنان على الوقوع أو عدم الوقوع.

ثانيا : اعتراف كل من أرّخ عن ملكشاه ونظام الملك حبّهما للعلم والعلماء ، لا سيما نظام الملك الذي عرف مجلسه بالقرّاء والفقهاء وأئمة المسلمين وأهل الخير والصلاح ، ولا شك أنّ كثرة ملازمة العلماء والخوض مع الفقهاء وأئمة المسلمين يدفع بالفرد إلى حبّ الاستطلاع والتحرّي عن الحقيقة.

ثالثا : إنّ شدة مواظبتهما على زيارة مشاهد الأئمة في العراق ومشهد الإمام الرضا عليه‌السلام في إيران لدلالة ساطعة على تشيّعهما ؛ فقد أرّخ ابن الأثير

__________________

(١) هو أخي العلّامة السيد جعفر مرتضى سدّده المولى ، ذكر هذه الإيرادات في الفصل الأخير من الجزء الأول لكتاب «مأساة الزهراء (ع)».

٦٥

عنهما أنّهما (أي ملكشاه ونظام الملك) زارا مشهد الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام وقبر معروف ، وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرها من القبور المعروفة ، فقال ابن زكرويه الواسطي يهنّئ نظام الملك بقصيدة منها :

زرت المشاهد زورة مشهورة

أرضت مضاجع من بها مدفون

فكأنك الغيث استهلّ بتربها

وكأنها بك روضة ومعين

فازت قداحك بالثواب وأنجحت

ولك الإله على النجاح ضمين (١)

كما أنه زار مشهديّ أمير المؤمنين علي والحسين عليهما‌السلام (٢)

هذا مضافا إلى دعواتهما تحت قباب مشاهد الأئمة ، ولو لا اعتقادهما الصحيح بهم عليهم‌السلام لما زارا مشاهدهم ودعيا الله تعالى عندهم عليهم‌السلام ، وإلا كان بإمكانهما أن لا يزورا تلك المشاهد المقدّسة لا سيما مع وجود ضرائح لكبار علماء العامة في العراق وإيران ، كما أنّ زيارتهما لتلك الأماكن المقدّسة مع كون الشيعة في أقصى حالات التقيّة والخوف وسيطرة الحكام الظالمين على مقدّراتهم الاجتماعية والاقتصادية مؤشر عظيم لما قلنا ، هذا بالغضّ عن أن زيارتهما لتلك الأماكن توجب سخط العامّة المتعصّبين ، ولكنهما لم يعبأ بما يوجب الهلاك لهما مع اعتقادهما بولاية العترة الطاهرة ، فقد روى ابن الأثير :

«أنّ السلطان لمّا خرج عليه أخوه تكش بخراسان اجتاز بمشهد علي بن موسى الرضا بطوس فزاره ، فلما خرج قال لنظام الملك : بأيّ شيء دعوت؟ قال : دعوت الله أن ينصرك (في نسخة أن ينصرنا) ، فقال : أما أنا فلم أدع بهذا بل قلت : اللهمّ انصر أصلحنا للمسلمين وأنفعنا للرعيّة» (٣).

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ١٠ / ١٥٦ وتعبيره بالقبر المعروف هو قبر الإمام الجواد وغيرها من القبور المعروفة إشارة إلى قبور الأئمة في الكاظميين وسامرّاء.

(٢) نفس المصدر ص ١٥٦.

(٣) الكامل في التاريخ ، ج ١٠ / ٢١١.

٦٦

وهنا تساؤل :

لما ذا هرع إلى زيارة مولانا الإمام الرضا عليه‌السلام عند ما علم أن أخاه تكش خرج عليه طالبا للسلطة ، مع أنه بإمكانه أن يهرع بالدعاء إلى أحد قباب علماء العامة ليدعو الله تعالى عندها لينجيه من أخيه.

ويمكننا أن نجيب ببساطة أن فعلهما المزبور ليس إلّا علامة حبّ وتقدير للأئمة عليهم‌السلام ، وهما فرع المعرفة والاعتقاد بإمامتهم عليهم‌السلام.

إذن ، لو لم يعتقدا بإمامة الأئمة عليهم‌السلام لم يكن هناك مسوّغ لزيارتهم والدعاء عندهم ، وليس هناك ما يدلّ على حقيقة أو سبب تشيّعهما سوى ما جرى بالمحاورة في بغداد المنقولة بواسطة مقاتل بن عطية على أقل التقادير ، فيشكّل هذا قرينة على صحّة وقوع المحاورة والله أعلم.

وأما الإيرادات التي شكّلت قرائن على كون المحاورة افتراضية فهي التالي :

الإيراد الأول : الأسلوب التعبيري ؛ بمعنى أنّ كثيرا من موارد الكتاب قد استعملت فيها تعابير لم تكن متداولة في تلك الفترة الزمنية ، منها كلمة : مؤتمر التي وردت في ستة مواضع من الكتاب ، فهذا يشكّل قرينة على أن المحاورة افتراضية.

يجاب عنه :

١ ـ إن كلمة «مؤتمر» المضافة إلى الكتاب ليست من صنع مقاتل بن عطيّة ، والدليل عليه أنّ ابن عطية ذكر في آخر الكتاب أنه كان حاضرا في المجلس والمحاورة ، فقد استعمل كلمة «مجلس ومحاورة» ، كما أنّه ذكر في البيت الثالث من شعره أن نظام الملك :

اختار مذهب حقّ في محاورة

تبدي الحقيقة في برهان منكشف

٦٧

ولم يستعمل كلمة «مؤتمر» كما في أوائل الكتاب ممّا يعطينا اطمئنانا أن كلمة «مؤتمر» استحدثها بعض من طبعوا الكتاب ، وقس عليها بقيّة الموارد المستحدثة في الكتاب.

٢ ـ إن الإيراد المذكور لم يأخذ بنظر الاعتبار مسألة التلاعب والتحريف في الأحاديث النبويّة التي تكتسب هالة مقدّسة عند المسلمين ومع هذا مستها أيدي السوء ، فكيف بكتاب صغير ليس عليه أيّ حصانة تمنع من طروء التلاعب ببعض عناوينه ومصطلحاته لا سيما وأنّ الكتاب قد مضت على كتابته مئات السنين ، فمثلا لم تمض على وفاة العارف جواد الملكي التبريزي خمسون سنة حتى بدّل عنوان كتابه : «السير إلى الله» إلى ثلاثة أسماء.

١ ـ الرسالة اللقائية.

٢ ـ رسالة لقاء الله.

٣ ـ السير والسلوك.

مع أنّ مؤلف الكتاب ذكر في كتابه أسرار الصّلاة اسم الكتاب : «السير إلى الله» ، ولهذا فإنّ طبعة عام ١٩٩٠ م تحت عنوان «السير إلى الله» هي الحجّة لأنّ الناشر أثبت قول المصنّف الذي هو الحجّة في المقام.

هذا مضافا إلى أنّ عناوين كتاب : «السير إلى الله» لم يضعها المؤلف وإنما وضعها بعض من تأخّر عنه. فإذا كان حال كتاب لم يمض عليه قرن قد حرّفت بعض مضامينه فكيف بكتاب مضى عليه قرون؟!

الإيراد الثاني : ركاكة التعابير وأخطاء نحويّة :

يجاب عنه :

١ ـ وإن كان شبل الدولة أبو الهيجاء كاتبا وشاعرا ، يبعد أن تصدر منه أمثال هذه الأخطاء ، وهكذا العلماء المتواجدون في المجلس ، وفي أغلب

٦٨

المحاورات لا يراعي المحاور القواعد الإنشائية أو النحوية وغيرها لا سيّما وأنّ كل فريق يستجمع فكره ومشاعره للتغلب على الآخر وهو ملحوظ حتى عند كبار الأدباء والعلماء.

٢ ـ إنّ يد التحريف لم تقتصر على تحريف المضامين التاريخية فحسب بل تحاول أن تطال الألفاظ والصّيغ الإنشائية ، لتبعد بالنصّ عن حقيقته وتصبغ عليه هشاشة التعبير فيقلّ الاطمئنان به بل يكاد ينعدم عند قارئه.

هذا مضافا إلى أنّ وجود أخطاء نحويّة في الكتاب ليست دليلا على المدّعى ، ولا يقدح بصدور الكتاب عن شبل الدولة ، ولا ينفي الواقعة من أساسها ، بل إنّ الأخطاء النحوية وركاكة التعبير لا يخلو منها كتاب علميّ في العصور المتقدّمة وفي عصرنا الحاضر الذي كثر فيه فن الطبع والكتابة ، ومع هذا تجد الكثير من هذه الأخطاء ، فكيف بعصر انعدمت فيه وسائل العلم ، فصار المحرّر يكتب ما يعرفه من الألفاظ من دون مراجعة ؛ ومن هنا كثر التصحيف في الروايات وغيرها.

٣ ـ إنّ الأخطاء المذكورة لا تعدو كونها أخطاء تعمّدها الأعداء للحطّ من قدر الكتاب وقيمته العلمية ، لا سيّما أنه موضع نظر كلّ من طالعه حيث يتميّز عن غيره من الكتب التاريخية بقوّة الحجج مع سلاسة التعبير ، حتى صار الكتاب شوكة في أعين الحاقدين.

الإيراد الثالث : وقوع خطأ في آية قرآنية كقوله : «إنّا هديناه النّجدين» والصحيح «وهديناه النجدين».

يجاب عنه :

إنّ هذا لا يصح أن يكون مستندا أو قرينة ترقى به إلى فرضيّة المحاورة ، بعد أن عرفنا أنّ الأخطاء الإنشائية وغيرها تغصّ بها كتب عصر التطوّر

٦٩

والتكنولوجيا ، فكيف بتلك العصور القاحلة؟!

الإيراد الرابع : الاستغراب من الملك شاه كيف كان محبّا للعلم وفي نفس الوقت جهله بوجود طائفة شيعيّة ، بالإضافة إلى استغرابه من ألب أرسلان كيف لم يؤدّب ابنه ملكشاه للمنصب الذي سيتصدّى له ولما ذا لم يحشد له من العلماء والمتخصّصين لتعليمه؟

ويجاب عنه :

كيف يعقل أن يخصّص ألب أرسلان لولده ملكشاه كل ما ذكر مع أنّ الأمراء والحكام جلّ اهتمامهم بتدبير سلطانهم واللهو مع جواريهم ونسائهم ، من هنا نرى أغلب السلاطين لا سيّما في تلك العصور كانوا يستعينون بأصحاب الرأي والمشورة عند إقدامهم على الأمور الخطيرة. وقد حدّثنا التاريخ كيف أنّ أبا بكر وعمر بن الخطاب وهما من أكابر أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانا يستعينان بمولى الثقلين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وكانت تخفى عليهما أبسط الأمور لا حاجة لنا لذكرها هنا ، بل صاحب الإيراد يعلم ذلك وبالتفاصيل.

هذا مضافا إلى أنّ ملكشاه كان يستعين بنظام الملك ، وكان جلّ اهتمامه بالصّيد ، مع التأكيد على أن ألب أرسلان لم يكن بذاك المستوى الإيماني الذي يؤهّله لأن يخصّص لابنه من يؤدّبه.

الإيراد الخامس : إن ملكشاه كان طائشا في حين أنّ الكتاب المذكور يصفه بالحنكة والعقل. فمن طيشه أنه أعطى قرارا بقتل الشيعة كلّهم لكنّ نظام الملك ردّه عن ذلك.

يجاب عنه :

إن صدور الرعونة والطّيش لا يفلت منه أحد من كبار العلماء والحكماء سوى من سدّده الله تعالى ، فكيف بمن قضى حياته في الحرام إلى أن وفّقه الله

٧٠

تعالى للهداية والإيمان. فما صدر منه كان زلّة لسان ، ونفثة شيطان (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي).

الإيراد السادس : يصرّح الكتاب بأنّ أهل السنّة اغتالوا ملكشاه ووزيره ، في حين أنّ ابن الأثير ذكر أن الذي دبّر قتل نظام الملك هو ملكشاه نفسه ، وأمّا الملك شاه فقد مرض ومات.

وهذا الإيراد قد أجبنا عنه في الترجمة فليلاحظ.

الإيراد السابع : الملك لا يثق إلّا بوزيره مع وجود علماء كبار ، فكيف لا يثق بهم ملكشاه؟

ويجاب عنه :

إنّ ملكشاه لم يعتقد بقول الفريقين لكونهما خصمين متنازعين ، والقاضي وظيفته الفصل بين المتنازعين لا أن يكون طرفا ، وإنما يصبح طرفا إذا حصل على قرائن وبيّنات تأخذ بعنقه لكي يكون مع أحد المتنازعين ، وملكشاه أخذ ببيّنة وزيره لكونه مطلعا (١) على تاريخ الفرق الإسلامية ولمعاشرته للفقهاء والعلماء وقد علمنا بترجمة نظام الملك أنّ مجلسه كان عامرا بالفقهاء ، وكان إذا دخل عليه أبو القاسم القشيري وأبو المعالي الجويني قام لهما.

الإيراد الثامن : الاستغراب من عدم حضور العلماء البارزين في تلك الفترة ، ولو كانوا حاضرين فلما لم يعلن عن أسمائهم؟

هذا مضافا إلى عدم حصولنا على معلومات عن درجاتهم العلمية.

يجاب عنه :

إنّ عدم وجود علماء مشهورين في المحاورة ليس دليلا على عدم

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ١٠ / ٨.

٧١

وقوعها ، إذ إنّ حضورهم فرع دعوة السلطان لهم ، وعدم دعوته لهم إنما هو لأسباب لم نطّلع عليها. وأما عدم حصولنا على معلومات عن العلماء المشاركين في المناظرة وعن دورهم وأثرهم في البلاد لا يكون مبرّرا أيضا لعدم إحاطتهم العلمية وعدم قدرتهم على المجادلة ، إذ إنّ إتقان فنّ المجادلة ليست حكرا على العلماء البارزين وليس الإقناع منحصرا بهم حتى يقال لما لم يكونوا حاضرين؟.

مع التأكيد على عدم وجود ملازمة بين عدم معرفتنا بهم وبين عدم إحاطتهم العلمية ، فربّما كانوا محيطين وقادرين على الجدال والمناقشة وإن كنّا لا نعرفهم أو لم نحصل على معلومات عن درجاتهم العلميّة ، وما نراه من خلال المحاورة أنّ العلويّ كان محيطا بكثير من التفاصيل والدقائق التاريخية والفقهية ، فما ادّعاه صاحب الإيراد مصادرة على المطلوب.

بل إن حصر إحاطة العلماء البارزين بمسائل التاريخ وأحكام الفقه وعلم الكلام والفلسفة ما هي إلّا دعوى بحاجة إلى برهان ودليل ، مع أن العكس قد يكون هو الصحيح لا سيّما وأن الظروف الموضوعية والسياسات الوضعية سيّدة الموقف ترفع وتضع من شاءت بلا حساب ، وأكبر شاهد على ما قلنا ما نلحظه اليوم من سياسات عرجاء خفّضت أكابر العلماء وأقعدتهم في بيوتهم ، كل ذلك لأنهم يخالفونها الرأي ولا يتبنّون أفكارها ، وفي المقابل رفعت أشخاصا لم نكن نسمع بذكرهم بل ليس لهم باع في سوق العلم.

هذا مضافا إلى أنّ عدم معرفتنا بهؤلاء العلماء لفقدان المعلومات عنهم في كتب التراجم والتاريخ قد يكون نتيجة عوامل قسرية حجبت تراجمهم عنّا ، وفي تاريخنا شواهد كثيرة على مثل ذلك ، لا سيما في العهدين الأمويّ والعباسيّ حيث أخفيت خلالهما تراجم كثير من العظماء الذين وقفوا في وجه الظلم والفساد في تلك الفترة ؛ بل إنّ بني أمية دسّوا في متون الأخبار فضائل عن

٧٢

بني أميّة ، كما وتلاعبوا بالأسانيد الصّحاح وأضافوها إلى أخبار تمجّد ملكهم ، وتقدح بكلّ من خالفهم.

الإيراد التاسع : إنّ الكتاب خلط بين مفهوميّ الإمامة والخلافة ؛ بمعنى أنّه يتحدّث عن الخلافة بطريقة الحديث عن الإمامة ، ثم استشهد بما ذكره الكتاب ص ١١١ حينما قال : «لم يتّخذهم كل المسلمين خلفاء ، وإنما أهل السنّة فقط».

ثم قال صاحب الإيراد : «فإن هذه العبارة تعني أنّ الحديث عن الإمامة لا عن الخلافة لأنّ خلافتهم وحكومتهم إنما هي حدث تاريخيّ لا يمكن إنكاره من شيعي وسني ولكن الكلام والجدل إنّما هو في أنّ هذه الحكومة هل هي مشروعة أم لا؟ كما أنّ الكلام إنما هو في إمامة علي عليه‌السلام التي تكون الحكومة أحد مظاهرها ...».

يجاب عنه :

ليس في العبارة أيّ خلط بين مفهوميّ الإمامة والخلافة ، لأنّ المتنازع عليه بعد رحيل النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما هو الخلافة لا الإمامة ، فأمير المؤمنين عليه‌السلام إمام سواء استلم الخلافة أم لا ، فحينما كان عليه‌السلام جليس داره سنوات عديدة كان إماما ، وخلافته التي هي أحد مظاهر إمامته قد اغتصبها القوم ، والقوم ادّعوا الخلافة ولم يدّعوا الإمامة ، والمسلمون السّنّة يعتقدون بالخلافة لا بالإمامة ، لكون الخلافة رئاسة دنيوية ترك النبي ـ بزعمهم ـ أمر تفويضها إلى الأمة ، تختار منها رجلا يقود الناس ، ولو فرض استعمال كلمة إمامة بدلا من خلافة أو بالعكس فمن باب التسامح بالألفاظ أو من قبيل ترادف لفظين لمعنى واحد.

الإيراد العاشر : ذكر الكتاب أنّ معاوية سبّ أمير المؤمنين عليه‌السلام

٧٣

أربعين سنة وامتدّ سب الإمام إلى سبعين سنة ، مع أن معاوية أعلن بسب الإمام عليّ حوالي ٢٣ سنة ، وامتدّ سبّهم للأمير عليه‌السلام أكثر من ثمانين سنة.

والجواب :

إنّ الكتاب صرّح بأن معاوية كان يسبّ عليا أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى أربعين سنة وهذا غير بعيد ، لأنّ معاوية كان معروفا ببغضه لعليّ عليه‌السلام هو وأبوه أبو سفيان ولا يبعد أنّه كان يسبّ الإمام عليّا عليه‌السلام قبل أن يستلم الحكم في بلاد الشام (ويشهد له أنّ زياد بن أبيه وهو أمويّ كان يسبّ الإمام عليّا عليه‌السلام قبل موته عام ٥٣ ه‍ بسنوات) ثم تجاهر بالسبّ وأمر الخطباء والعلماء أن يسبّوه على المنابر خلال فترة حكمه.

وبعبارة : إنّ معاوية قد تجاهر بسبّ الإمام عليه‌السلام خلال فترة حكمه ٢٣ عاما ، وبقيّة السبعين أو الثمانين كانت موزعة على فترة ما قبل استلام معاوية للسلطة وبعدها إلى أن جاء عمر بن عبد العزيز فرفع السبّ ، ولكن بقي الحاقدون يسبّون الإمام عليه‌السلام.

فملخص القول :

إنّ مدة السبّ تراوحت ما بين السبعين إلى التسعين سنة ، فمبدأ التجاهر بالسبّ كان بأمر من زياد بن أبيه كما نصّ على ذلك العلّامة المجلسي (قدس‌سره) (١).

ثم أمر به معاوية ثانية وأكدّ عليه حتى صار سنّة لا تترك ، وكان ذلك أول خلافته على بلاد الشام عام ٤٠ ه‍ إلى أن توفي عام ٦٠ ه‍ ، ثم استمر السب طيلة حكم بني أمية إلى عهد عمر بن عبد العزيز فأبطله وكتب إلى نوابه بإبطاله (٢)

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣٩ / ٣٢١.

(٢) الكامل لابن الأثير ج ٥ / ٤٢. وسفينة البحار ج ٢ / ٢٧١ نقلا عن حياة الحيوان للدميري.

٧٤

وقرأ مكانه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١).

ففترة السب الأموي هي على الشكل التالي :

١٦ سنة قبل تسلم معاوية للخلافة الإسلامية في الشام أي منذ أن وليّ عثمان الخلافة عام ٢٤ ه‍ وجمع لمعاوية الشام وجعله عليها أميرا (٢) من قبله. وقد ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج ج ٣ ص ٢٨٧ : «أن المغيرة بن شعبة كان يلعن عليا عليه‌السلام لعنا صريحا على منبر الكوفة ، وكان بلغه عن عليّ في أيام عمر أنه قال : لئن رأيت المغيرة لأرجمنّه بأحجاره ..» ، ثم نقل عن أبي جعفر أنه قال : قد تظاهرت الرواية عن عروة بن الزبير أنه كان يأخذه الزمع (يعني الرعدة) عند ذكر علي عليه‌السلام فيسبّه ، بل من المظنون جدا أن السب كان قبل أن يولّي عثمان معاوية إمارة الشام ، وذلك حينما أمّره عمر بن الخطاب واليا عليها ، ولكنه لم يسبّه علنا وإنما في المجالس الخاصة ، ولكن بعد توليه للخلافة عام ٤٠ ه‍ أمر ولاته وقضاته وكل من له سلطة عليه بسبّ أمير المؤمنينعليه‌السلام وبقي شعارا لبني أمية إلى عهد عمر بن عبد العزيز.

لكن قد يقال : إنّ المراد بالسب هو إعلانه على الناس لا الإسرار به.

والجواب : إن حكم السب واحد ، سواء كان في المحافل الخاصة أم كان بأمر رسمي ، وكون معاوية سبّ أمير المؤمنين أربعين سنة ليس المراد منه التجاهر بالسبّ فحسب بل الأعم منه.

وها نحن نضع بين يدي القارئ جدولا زمنيا يبيّن فترة السبّ منذ عهد عثمان بن عفان.

__________________

(١) سورة النحل : ٩٠.

(٢) الكامل لابن الأثير ج ٢ / ٤٣١.

٧٥

١ ـ أيام عثمان بن عفّان ، وفترة من

عهد عمر بن الخطاب.

أكثر من ستة عشر عاما.

٢ ـ خلافة معاوية بن أبي سفيان

من عام ٤٠ ه‍ إلى عام ٦٠ ه‍.

٣ ـ خلافة يزيد بن معاوية

٣ سنوات وستة أشهر (١) ، وقيل ثمانية أشهر.

٤ ـ خلافة معاوية بن يزيد

٤٠ يوما وقيل ثلاثة أشهر (٢)

٥ ـ خلافة مروان بن الحكم

تسعة أشهر ، وقيل عشرة (٣)

٦ ـ خلافة عبد الملك بن مروان

٢١ سنة وشهرا ونصف (٤)

٧ ـ خلافة الوليد بن عبد الملك

تسع سنين وسبعة أشهر ، وقيل تسع سنين وثمانية أشهر ، وقيل تسع سنين وأحد عشر شهرا (٥)

٨ ـ خلافة سليمان بن عبد الملك

سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام ، وقيل سنتين وثمانية أشهر إلا خمسة أيام (٦)

٩ ـ خلافة عمر بن عبد العزيز

في عهده انقطع السبّ رسميا ، ولكنه بقي على ألسن الناس إلى آخر ملوك بني أمية ، ومدة خلافته : سنتين وخمسة أشهر (٧).

١٠ ـ خلافة يزيد بن عبد الملك

مدة خلافته : أربع سنين وشهرا وأياما (٨).

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ج ٤ / ١٢٥ ، وتاريخ الطبري ج ٤ / ٣٨٤.

(٢) الكامل لابن الأثير ج ٤ / ١٤٠ ، والطبري ج ٤ / ٣٨٦.

(٣) تاريخ الطبري ج ٤ / ٤٧٥.

(٤) الكامل ج ٤ / ٣٣٧ ، والطبري ج ٤ / ٢١١.

(٥) الكامل ج ٥ / ٨ ـ ٩.

(٦) الكامل ج ٥ / ٣٧.

(٧) الكامل ج ٥ / ٥٨.

(٨) الكامل ج ٥ / ١٢٠.

٧٦

١١ ـ خلافة هشام بن عبد الملك

مدة خلافته : ١٩ سنة وسبعة أشهر (١) ، وقيل : تسعة أشهر وواحد وعشرين يوما.

١٢ ـ خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك

مدة خلافته : سنة وشهرين (٢) واثنين وعشرين يوما.

١٣ ـ خلافة يزيد بن الوليد

مدة خلافته : ستة أشهر (٣) واثني عشر يوما.

١٤ ـ خلافة إبراهيم بن الوليد

مدة خلافته : ثلاثة أشهر (٤) ، وقيل أربعة أشهر.

١٥ ـ خلافة مروان بن محمد

مدة خلافته : ٥ سنين وعشرة أشهر (٥) وستة عشر يوما.

وبالجملة تكون فترة السبّ منذ عهد معاوية إلى عهد عمر بن عبد العزيز ٦٩ سنة وثلاثة أشهر وخمسة عشر يوما تقريبا. أما إذا جمعنا ثلاث وعشرين سنة فترة معاوية وابنه يزيد مع مدة السبّ السري الذي دام حدود ١٦ سنة فيكون المجموع ٣٩ عاما وثمانية أشهر ، بل يمكن أن نتخطّى المدة المذكورة فيما لو حسبنا أن بداية ولايته على بلاد الشام ومبايعة أهلها له إنّما كانت عام ٣٧ للهجرة ـ حسبما جاء في تاريخ الطبري ج ٤ / ٢٣٩ ـ فيكون مجموع عهده ٢٣ عاما.

__________________

(١) كشكول البهائي ج ٣ / ٣٨٨ والكامل ج ٥ / ٢٦١.

(٢) الكشكول ج ٣ / ٣٨٨ والكامل ج ٥ / ٢٨٩.

(٣) الكامل ج ٥ / ٣١٠.

(٤) الكامل ج ٥ / ٣١١.

(٥) الكامل ج ٥ / ٤٢٨ والكشكول ج ٣ / ٣٨٨.

٧٧

وبالغضّ عن كل ذلك فإنّ «مؤتمر علماء بغداد» لم يحدّد تجاهر معاوية بالسبّ وإنما قال ما نصّه : «لأنه [أي معاوية] كان يسبّ الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام إلى أربعين سنة ، وقد امتدّ سبّ الإمام إلى سبعين سنة» فأين هذا من قول صاحب الدعوى من أنّه [أي معاوية] «قد أعلن بسبّ الإمام عليّ عليه‌السلام حوالى ٢٣ سنة ..» ففرق بين سبّ الإمام عليه‌السلام إلى أربعين سنة وبين «الإعلان» بالسبّ الذي ادّعاه المحقق المذكور!! .. فالسبعة عشرة عاما المتبقية كانت قبل حكم معاوية ، وعليه فما قاله في «المؤتمر» ليس خطأ فادحا بل هو موافق للاعتبار عند التدقيق.

وفي الختام سواء أكان السبّ سبعين عاما أم ثمانين وأكثر فإنه لا يقدح بأصل المحاورة لا سيما وأن المحاور لا يستجمع فكره جيدا في المعلومات التاريخية المبثوثة في بطون الكتب ، وطبيعة المحاورات أن يخطئ المتحاوران في ضبط المعلومات.

تخيل أيها العزيز أن على المحاور في جلسة ما أن يحضر معه إلى جلسة التحاور مكتبة لينطق عن مدة سب الإمام بالتحديد وغيره من المواضيع فجأة دون تحضير لحساسية الخوض في تاريخ ملك فلان وفلان. أفيحتمل ذلك العقل احتواء كل المعلومات وسط محاورة ضخمة وأن يسع فكره تواريخ الزمان برمّتها وبالتحديد دون زيادة أو نقصان؟! كيف وكلّ منا معرّض للسهو والنسيان؟!

هذا مضافا إلى أنه ليس لدينا معلومات دقيقة عن فترة السب ، لكن ما لدينا أنها تراوحت ما بين الأربعين إلى ثلاث وثمانين سنة أي إلى آخر حكم بني أميّة. فالمؤرّخ الأميني رضوان الله تعالى عليه ذكر في كتابه الغدير ج ١٠ ص ٢٦٥ قال : لم يزل معاوية وعماله دائبين على ذلك ـ أي السبّ ـ حتى تمرّن عليه الصغير وهرم الشيخ الكبير ، ولعلّ في أوليات الأمر كان يوجد هناك من

٧٨

يمتنع عن القيام بتلك السبّة المخزية ، وكان يسع لبعض النفوس الشريفة أن يتخلّف عنها ، غير أن شدّة معاوية الحليم في إجراء أحدوثته ، وسطوة عماله الخصماء الألداء على أهل بيت الوحي ، وتهالكهم دون تدعيم تلك الإمرة الغاشمة وتنفيذ تلك البدعة الملعونة ، حكمت في البلاد حتى عمّت البلوى وخضعت إليها الرقاب .. فكانت العادة مستمرة منذ شهادة أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى نهي عمر بن عبد العزيز طيلة أربعين سنة على صهوات المنابر وفي الحواضر الإسلامية كلها من الشام إلى الري إلى الكوفة إلى البصرة إلى عاصمة الإسلام المدينة المشرّفة إلى حرم أمن الله مكة المعظّمة إلى مشرق العالم الإسلامي وغربه ، وعند مجتمعات المسلمين جمعاء ، لعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه على منابر الشرق والغرب ولم يلعن على منبر سجستان إلا مرّة ..».

فهنا صرّح قدّس سره : أن اللعن دام أربعين سنة في حين لو دققنا بالفترة ما بين حكم معاوية وعمر بن عبد العزيز لكان العدد فاق الأربعين قطعا.

إذن هناك تسامح بتحديد الفترة بدقة ؛ لكنّ القدر المتيقن أن السبّ بقي أربعين عاما بالضبط ، أما الزائد فمختلف فيه ، والله أعلم بحقائق الأمور.

الإيراد الحادي عشر : مفاده : أن الكتاب خلط بين السبّ واللعن ، حيث ادّعى الكتاب جواز سبّ الصحابي المنحرف ، ولكنه استدل بما يثبت جواز اللعن لا السبّ.

والحق أن يقال :

إنّ هذا الإيراد صحيح لا غبار عليه ، لكن سبحان من لا ينسى ولا يجهل. لكن قد يقال : إن السب من اللوازم البعيدة للعن ، لأن اللعن عبارة عن الطرد من الرحمة الإلهية والسب عبارة عن الانتقاص من الفاسقين والمارقين والكافرين ، وجواز لعن هؤلاء وطردهم من الرحمة يستتبع الانتقاص منهم وعدم

٧٩

استحقاقهم لنيل الرحمة والغفران ، وليس هذا إلا انتقاصا منهم واستحقارا لشأنهم ، وإلّا لو لم يستتبع الانتقاص لا لاستتبع الإطراء والمديح ، وهذا لم يقل به أحد ، لأن اللعن لا يخلو من أمرين:

إما فيه مديح وإطراء ، وإما فيه انتقاص وازدراء ، فإذا انتفى الأول ثبت الثاني لأن الطرد كما قلنا لا يعتبر عرفا ولغة مديحا حتى يقال : إنه لا يستتبع الانتقاص ، لذا جمع الكليني في أصوله روايات نزّلت اللعن منزلة السب. روى في باب السباب الحديث السادس عن أحدهما عليه‌السلام قال : إن اللعنة إذا خرجت من في صاحبها تردّدت ، فإن وجدت مساغا وإلا رجعت على صاحبها.

فقد أقحم الكليني عليه الرحمة أخبار اللعن في باب السباب ، وذلك لوجود مشابهة بين المفهومين في بعض اللوازم كما لا يخفى عند التأمل.

من هنا نهى سبحانه المؤمنين أن يسبّوا الذين يدعون من دون الله لئلا يسبوا الله عدوا بغير علم (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (١). فعلّة تحريم السب من أجل أن لا يتطفل المسبوبون على الله تعالى فيسبونه بغير علم.

من هنا أوصى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جماعة فقال لهم : «لا تسبّوا الناس فتكتسبوا العداوة بينهم». وغيرها من الروايات التي نهت عن سبّ وشتم معتقدات الكافرين لأن السبّ والشتم لا يمنعان أحدا من المضي في طريق الخطأ ، بل إن السب يزيد في تعصبهم وعنادهم ولجاجهم ، فيستسهلون إطلاق ألسنتهم بسب مقام الربوبية ومقام الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام.

الإيراد الثاني عشر : وهو أن الكتاب ذكر أن سورة عبس نزلت في عثمان كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة ، وصاحب الإيراد لم يرتض هذا

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٠٨.

٨٠