أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

عليهم حقّ القول في الحديث (١) ، ثم في القرن الرابع تلقته الأمة بالقبول ، وأخبت به الحفّاظ الإثبات من دون غمر فيه رادّين عنه قول من يقدح فيه ممن لا يعرف باسمه ورسمه.

هذا مضافا إلى أن مشايخ الشيخين (البخاري ومسلم) قد رووه بأسانيد صحاح وحسان ، مخبتين إليه وفيهم جمع من الذين يروي عنهم الشيخان بأسانيدهم في الصحيحين من مشيخة القرن الثالث وهم (٢).

يحيى بن آدم المتوفى ٢٠٣ ه‍.

عبد الرزّاق بن همام المتوفى ٢١١ ه‍.

حجّاج بن منهال المتوفى ٢١٧ ه‍.

علي بن عيّاش المتوفى ٢١٩ ه‍.

قيس بن حفص المتوفى ٢٢٧ ه‍.

عبيد الله بن عمر المتوفى ٢٣٥ ه‍.

عثمان بن أبي شيبة المتوفى ٢٣٩ ه‍.

أبو الجوزاء أحمد المتوفى ٢٤٦ ه‍.

نصر بن عليّ المتوفى ٢٥١ ه‍.

يوسف بن موسى المتوفى ٢٥٣ ه‍.

أسود بن عامر المتوفى ٢٠٨ ه‍.

عبيد الله بن موسى المتوفى ٢١٣ ه‍.

عفان بن مسلم المتوفى ٢١٩ ه‍.

موسى بن إسماعيل المتوفى ٢٢٣ ه‍.

عبد الله بن أبي شيبة المتوفى ٢٣٥ ه‍.

ابن راهويه إسحاق المتوفى ٢٣٧ ه‍.

حسين بن حريث المتوفى ٢٤٤ ه‍.

يوسف بن عيسى المتوفى ٢٤٩ ه‍.

محمّد بن المثنّى المتوفى ٢٥٢ ه‍.

شبابة بن سوار المتوفى ٢٠٦ ه‍.

عبد الله بن يزيد المتوفى ٢١٢ ه‍.

فضل بن دكين المتوفى ٢١٨ ه‍.

محمّد بن كثير المتوفى ٢٢٣ ه‍.

هدبة بن خالد المتوفى ٢٣٥ ه‍.

ابراهيم بن المنذر المتوفى ٢٣٦ ه‍.

قتيبة بن سعيد المتوفى ٢٤٠ ه‍.

__________________

(١) الغدير : ج ١ / ٢١٠.

(٢) للوقوف على تراجم هؤلاء يراجع الغدير ج ١ / ٨٢ ـ ٩٣.

٧٠١

أبو كريب محمد المتوفى ٢٤٨ ه‍.

محمّد صاعقة المتوفى ٢٥٥ ه‍.

محمّد بن بشار المتوفى ٢٥٢ ه‍.

أبعد هذا يقال أن الشيخين لم يخرجاه ، وكأنّ إخراجهما للحديث المذكور يزده قوة ، إذ إنّ عدم ذكرهما له قد يكون إخفاء لشرفه وطمسا لمعالمه ، كما فعل ابن حجر الهيتمي حيث عدّ حديث الغدير من الآحاد فكيف يسوغ للشيعة الاحتجاج به على الإمامة (١).

يورد عليه :

إن ابن حجر نفسه يرى الحديث متواترا لرواية ثمانية من الصحابة (٢) ، وأنّ في القوم من يرى الحديث متواترا لرواية أربعة من الصحابة له ويقول : لا تحلّ مخالفته (٣) ، ويجزم بتواتر حديث : الأئمة من قريش ويقول : رواه أنس بن مالك ، وعبد الله بن عمر ، ومعاوية ، وروى معناه جابر بن عبد الله ، وجابر بن سمرة ، وعبادة بن الصامت.

وآخر يقول ذلك في حديث آخر رواه الإمام عليّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويرويه عن الإمام عليّ اثنا عشر رجل فيقول : هذه اثنتا عشرة طريقا إليه ومثل هذا يبلغ حدّ التواتر ، وآخر يرى حديث: «تقتلك الفئة الباغية» متواترا ويقول : تواترت الروايات به روي ذلك عن عمّار وعثمان وابن مسعود وحذيفة وابن عبّاس في آخرين ، وجوّد السيوطي قول من حدّد التواتر بعشرة وقال في ألفيّته ص ١٦ :

وما رواه عدد جم يجب

إحالة اجتماعهم على الكذب

فمتواتر وقوم حدّدوا

بعشرة وهو لديّ أجود

__________________

(١) الصواعق المحرقة ص ٤٢ ، الفصل الخامس في بيان شبه الرافضة.

(٢) راجع الغدير : ج ١ / ٣٢١ ، نقلا عن الصواعق المحرقة ص ١٣.

(٣) قال ابن حزم في المحلّى في مسألة عدم جواز بيع الماء : فهؤلاء أربعة من الصحابة رضي الله عنهم فهو نقل متواتر لا تحل مخالفته.

٧٠٢

هذه نظريتهم المشهورة في تحديد التواتر ، لكنّهم إذا وقفوا على حديث الغدير اتخذوا له حدّا أعلى لم تبلغه رواية مائة وعشر صحابي أو أكثر ، بالغا ما بلغ (١).

وزبدة المقال :

إن حديث الغدير من أصح الأحاديث الدالة على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه أفضل التحية والسلام ، ولم يختلف على صحته اثنان من الإمامية ، حيث أشبعوا البحث عنه من حيث السند والتوثيق والمتن والدلالة في مؤلفات كثيرة تبلغ المئات ، قديما وحديثا ، ناهيك عمّا كتبه علماء العامة دفاعا عن هذا الحديث سندا ودلالة لكنّ بعضهم شكّك بدلالة لفظ «المولى» من حيث ادعائهم انصرافها إلى معان مشتركة.

ويا للأسف يأتي من (٢) ينسب نفسه إلى الإمامية فيشكّك بالسند بعد تسليم جمهور العامة به ، فلا يروق له أن يبحث العامة في الدلالة ، مع أن الطريق للبحث في السند له مجال ـ حسب زعمه ـ ضاربا تواتر الحديث وقوة سنده عرض الجدار ، غير مبال لأصول التشيع كدين شيّد بنيانه النبيّ الأكرم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أنه لم يأتنا ببرهان على مدعاه سوى ما أدى إليه ظنه الشخصي الذي هو أقرب إلى الاستحسانات الأشعرية منه إلى الأدلة والبراهين الشرعية والمنطقية.

فلم يعجبه سند حديث الغدير الذي تصافقت الأمة على صحته وروي بطرق كثيرة جدا من الطرفين ، مدعيا أن السند فيه نقاش تأكيدا لمناقشة الدلالة ، فقال : «إنّ مشكلتنا هي أن حديث الغدير هو من الأحاديث المروية بشكل مكثّف من السنّة والشيعة ، ولذلك فإن الكثير من إخواننا المسلمين السنّة يناقشون الدلالة ولا يناقشون السند ، في الوقت الذي لا بدّ أن تدرس القضية من خلال ذلك أيضا ..» (٣).

__________________

(١) الغدير : ج ١ / ٣٢٢.

(٢) هو السيّد محمد حسين فضل الله.

(٣) الندوة : ج ١ / ٤٢٢.

٧٠٣

فهو بهذا الكلام يتمنى على العامة ـ الذين بخعوا وخضعوا للحديث الشريف ـ أن يناقشوا السند المتواتر لأن المتن أو الدلالة المتواترة أيضا ـ بنظره ـ غير كاف لتضعيف الحديث الذي طالما احتج به الشيعة الإمامية منذ الصدر الأول للإسلام إلى وقتنا هذا ، وعليه يكون هذا المشكّك أول من فقأ سند الحديث من حيث خروجه عن الإجماع الإمامي ، حيث لم يسبقه إلى ذلك سابق إلا التفتازاني (١) الذي أنكر صحّة صدر الحديث ، أو البعض (٢) المنكر لصحة صدور الحديث ، وكلاهما من أكابر المعاندين عند الأشاعرة ، وخروج المذكور عن الإجماع القطعي لا يخرج بمسألة الغدير من دائرة القطعيات إلى دائرة المشكوك ، لأن الخارج شاذ لا يعبؤ به كما هو المعروف في مصطلح علم الحديث والدراية.

ولنا على المذكور ملاحظات هي :

(١) من المعروف في مصطلح الحديث أن النص المتواتر يغني تواتره عن البحث في سنده ، فإذا كان الحديث مرويا بشكل مكثّف ـ أي كونه متواترا ـ فلا حاجة حينئذ للدعوة إلى دراسة السند لأن الأخبار المتضافرة أو المتواترة يعني أن أسانيدها ومداليلها صحيحة وموثوقة ، لأن التواتر يضفي على القضية قوة فوق قوتها ، وجلاء ووضوحا في تحققها وحصولها ؛ فالبحث عن السند المتواتر حينئذ يعتبر خطأ فادحا عند الفقهاء وأرباب الحديث ، والتواتر كما في مصطلح علم الرجال يخرج بالقضية من دائرة الظنون والتشكيكات ليدخلها في دائرة الضروريات الدينية والتاريخية المسلّمة ، بحيث لا تدخل المسألة أو القضية المتواترة في بحث الأسانيد. هذا مضافا إلى أن سند حديث الغدير في أعلى درجات الصحة والتوثيق بشهادة كبار علماء العامة ، ولم يأتنا المشكّك ولو بمصداق واحد لإثبات ضعف الحديث والدعوة إلى البحث في سنده ، وما تشكيكه بالحديث وغيره من المعتقدات سوى تبنّي للفكر الأشعري ودعوة للانعتاق من الفكر الإمامي الذي

__________________

(١) المقاصد ص ٢٩٠ على ما ذكره صاحب الغدير : ج ١ / ٣١٥.

(٢) حكاه الطحاوي عن بعض على ما ذكره صاحب الغدير ج ١ / ٣١٥.

٧٠٤

طالما حاربه خصومه لا سيّما الوهابية في زماننا وعجزوا عن الصمود بوجهه ، فاخترعوا أصناما لهم من داخل الفكر الإمامي ليسهل النيل من معتقداتنا وجرّ القواعد الموالية إلى مذهب لا يمت إلى الدين بصلة ، فها هو داعية التشكيك يصرّح بمكنون صدره فيقول : «... إن من الصعب إيجاد وحدة إسلامية على الصعيد السياسي في مثل هذا الجو المليء بالحساسيات المذهبية الثقافية ، لأن التعقيدات الداخلية الحادة في بعض المراحل الأشد قوّة وصعوبة وحيوية لتسقط الهيكل على رءوس الجميع ، ولهذا فلا بدّ من الانصراف إلى دراسة الوحدة في المسألة الثقافية لا سيّما العقائدية المتصلة بالتفاصيل في هذا المحور أو ذاك بغية تأسيس القاعدة الصلبة التي يلتقي عليها الجميع في كل تنوعاتها الفكرية المتحركة في خطوط القاعدة في حركة الكل داخل الجزء ..» (١).

فمن أجل الوحدة الإسلامية نال هذا الرجل من معتقداتنا تحت ذريعة البحث العلمي والتحقيق فيما كتبه الأقدمون.

(٢) العمل بالخبر المتواتر ليس أقل قيمة من الخبر الضعيف الذي يأخذ به المشكّك المذكور إذا لم يكن هناك داع للكذب فيه (٢) ، فإذا جاز الأخذ بالخبر الضعيف ـ بحسب مدعاه ـ فلم لا يجوز الأخذ بالخبر المتواتر؟! بل أي داع للكذب في حديث الغدير المروي بشكل مكثف كما قال. وإذا لم يكن حديث الغدير مكذوبا على الرسول محمّد ـ طبقا لمسلكه في الأخذ بالخبر الضعيف ـ فلم التشكيك بسند الحديث؟!! من هنا فإنه يعمل بروايات العامة (٣) في حال عدم وجود داع للكذب ، وهو لا يرى مشكلة في الأخذ بروايات العامة لكونه داعية إلى منهجهم ، ولكنّه في نفس الوقت يعتبر أنّ أحاديث أئمة أهل البيت عليهم‌السلام مشكلة معقدة لوجود الركام الهائل من الكذب في حديثهم عليهم‌السلام ، ويرى أنّ كثرة الكذب

__________________

(١) مجلة المنطلق ، عدد ١١٣ الصادرة عام ١٩٩٥ الصفحة ١٨.

(٢) كتاب النكاح : ج ١ / ٥٨.

(٣) نفس المصدر.

٧٠٥

على أهل البيت عليهم‌السلام تجعلنا نواجه مشكلة السند (١).

ونسأل المشكّك المذكور :

إن كان كثرة الكذب تجعلنا نواجه مشكلة السند ، فبطريق أولى نواجه مشكلة السّند والدلالة في روايات العامة ، لأن الملاك واحد وهو الكذب على آل البيت عليهم‌السلام ، هذا مضافا إلى أنّ خلفاء الجور لا سيّما الذين اغتصبوا الحق من أمير المؤمنين أمثال أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية ، فقد ركّبوا الأسانيد على المتون الروائية ، افتراء على الله ورسوله ، من هنا أمر أئمة أهل البيت عليهم‌السلام بعرض الروايات على كتاب الله فما وافقه يؤخذ به وإلّا فيعرض على أخبار العامة فما وافقها فيضرب به عرض الجدار لوفرة الروايات المكذوبة على آل البيت عليهم‌السلام ، فإذا كان الكذب هو الملاك في حرمة العمل بالروايات بين الفريقين ، فلم نواجه مشكلة السّند في رواياتنا ولا نواجهها في روايات العامة؟!!

إنّ التشكيك بسند حديث الغدير يعني النيل من خلافة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، هذه الخلافة ـ على ما يبدو له ـ تشكّل حاجزا عظيما في تحقيق ما يصبو إليه من الوحدة الثقافية المتعلقة بتفاصيل العقائد ، فها هو يتنازل عن كثير من التفاصيل بغية تأسيس القاعدة الصلبة التي يلتقي عليها الجميع كما أشار إلى ذلك في إحدى مقالاته في مجلة المنطلق العدد (١٣) المتقدّم.

وإذا لم يكف الخبر المتواتر فضل الله سيد المشككين فما ذا يكفيه يا ترى؟ وعلى أي شيء يعتمد في منهجه الاستدلالي ، أعلى المراسيل والمجاهيل أم على الأقيسة والاستحسانات الشخصية؟! ولعلّ الأقيسة هي التي تروي غليله ، فيكون بذلك رادّا على عترة نبيه صلى الله عليهم أجمعين ، والراد عليهم خارج من ولايتهم لما روي في موثقة أبي عبيدة الحذّاء قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : والله إنّ أحبّ أصحابي إليّ أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا ، وإنّ أسوأهم عندي حالا

__________________

(١) مجلة المنطلق عدد ١٣ ص ٢٤ والندوة ج ١ / ٥٠٣.

٧٠٦

وأمقتهم للذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا ويروى عنّا فلم يقبله اشمأز منه وجحده وكفّر من دان به وهو لا يدري لعلّ الحديث من عندنا خرج وإلينا أسند ، فيكون بذلك خارجا عن ولايتنا»(١).

(النقطة الثانية) : في دلالة الحديث.

لا يرتاب الشيعة الإمامية في أن مدلول حديث الغدير حجة قاطعة على أن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام إمام له ما للرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الولاية على الأنفس والأموال وما شابه ذلك ؛ فالحديث يثبت خلافته عليه‌السلام على الأمة الإسلامية بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغدير خم ، عند مرجعه من حجة الوداع : ألست أولى بكم من أنفسكم؟

فلما أذعنوا له بالإقرار قال لهم على النسق من غير فصل في الكلام : فمن كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله. وكلمة «مولى» لغة بمعنى «الأولى بالتصرف» الدال على الإمامة ، حيث يراد بها الأولى بالتصرف والطاعة ، لكنّ المخالفين شكّكوا بالوضع اللغوي لكلمة «مولى» مدعين أن «المولى» في الحديث كلمة مشتركة بين معان أخر ، والقدر الجامع بينها هو أن «المولى» بمعنى الناصر والمحب.

وهذا التأويل الذي انتهجه العامة مردود بشواهد من اللغة ، ولما في الحديث من قرائن داخلية وخارجية تعيّن المعنى الذي نعتقد به نحن الشيعة الإمامية لأنه الأصل في اللغة ، الذي ترجع إليه المعاني في باقي الأقسام ، فلا يقال في اللغة العربية «هو مولى دين الله» مكان «ناصر دين الله» ولا يصح تبديل قوله تعالى : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) (٢) إلى «من مواليّ إلى الله» أو تبديل قول الحواريين (نحن أنصار الله) إلى «نحن مواليّ الله».

__________________

(١) أصول الكافي ج ٢ / ٢٢٣.

(٢) سورة الصف : ١٤.

٧٠٧

كما لا يصح تبديل «مأواكم النار» في قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١) إلى قوله «ناصركم أو محبكم النار» بل الأولى أن يقال هي «أولى بكم» وقد نص على ذلك ثلة من مفسري العامة (٢) ، وذكره المحققون من أهل اللغة (٣) ، قال أبو عقيل لبيد بن ربيعة العامري :

فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه

مولى المخافة خلفها وأمامها (٤)

يريد أولى المخافة.

وذكر أهل اللغة لكلمة «مولى» أكثر من ثلاثين معنى ، ذكر جلّها ابن منظور (٥) ، لكنّ عشرة منها هي القدر المتيقن لورودها في الأحاديث الشريفة ، ولتمسّك أهل العلم والكلام بها في توجيه حديث الغدير وهذه المعاني هي : «المالك ، والعبد ، والمعتق ، والمعتق ، والصاحب ، والقريب كابن العم ونحوه ، الجار ، الحليف ، الابن ، العمّ ، النّزيل ، الشريك ، ابن الأخت ، الوليّ ، الربّ ، الناصر ، المنعم ، والمنعم عليه ، المحب ، التابع ، الصّهر».

والحق أنه ليس للمولى إلّا معنى واحد هو «الأولى بالتصرف» ، وتختلف هذه الأولوية بحسب الاستعمال في كل مورد من موارده ، والاشتراك معنوي واستعماله أولى من الاشتراك اللفظي المستتبع لألفاظ كثيرة غير معلومة بنص ثابت ، والمنفية بالأصل المحكّم ، وهذا المعنى الواحد ، وهو الأولى بالشيء جامع

__________________

(١) سورة الحديد : ١٥.

(٢) يراجع : تفسير البيضاوي ج ٢ / ٤٦٩ وتفسير الرازي ج ٢٩ / ٢٢٧ حكاه أيضا عن ابن عباس والكلبي وصحيح البخاري ج ٧ / ٢٤٠.

(٣) مثل الفراء يحيى بن زياد الكوفي وأبي عبيدة معمر بن المثنى البصري والزجاج كما حكاه الفخر الرازي في التفسير ج ٢٩ / ٢٢٧.

(٤) لسان العرب ج ١٥ / ٤١٠.

(٥) لسان العرب ج ١٥ / ٤٠٦ ـ ٤١٥.

٧٠٨

لهاتيك المعاني جمعاء ، ومأخوذ في كلّ منها بنوع من العناية ، ولم يطلق لفظ المولى على شيء منها إلّا بمناسبة لهذا المعنى :

(١) «فالمالك» أولى بكلاءة مماليكه وأمرهم ، والتصرف فيهم.

(٢) «والعبد» أولى بالانقياد لمولاه من غيره.

(٣) «والمعتق» بالكسر أولى بالتفضيل على من أعتقه من غيره.

(٤) «والمعتق» بالفتح أولى بأن يعرف جميل من أعتقه عليه ويشكره.

(٥) «والصاحب» أولى بأن يؤدي حقوق الصحبة من غيره.

(٦) «القريب» أولى بأمر القريبين منه ، والدفاع عنهم ، والسعي وراء صالحهم.

(٧) «الجار» أولى بالقيام بحفظ حقوق الجوار كلها من البعداء.

(٨) «الحليف» أولى بالنهوض بحفظ من حالفه ، ودفع عادية الجور عنه.

(٩) «الابن» أولى الناس بالطاعة لأبيه والخضوع له.

(١٠) «العم» أولى بكلاءة ابن أخيه ، والحنان عليه ، وهو القائم مقام والده.

(١١) «النّزيل» أولى بتقدير من آوى إليهم ولجأ إلى ساحتهم ، وأمن في جوارهم.

(١٢) «الشريك» أولى برعاية حقوق الشركة وحفظ صاحبه عن الإضرار.

(١٣) «ابن الأخت» أولى الناس بالخضوع لخاله الذي هو شقيق أمه.

(١٤) «الولي» أولى بأن يراعي مصالح المولّى عليه.

(١٥) «الناصر» أولى بالدفاع عمّن التزم بنصرته.

(١٦) «الربّ» أولى بخلقه من أي قاهر عليهم.

(١٧) «المنعم» بالكسر أولى بالفضل على من أنعم عليه ، وأن يتبع الحسنة بالحسنة.

(١٨) «والمنعم عليه» أولى بشكر منعمه من غيره.

(١٩) «المحب» أولى بالدفاع عمّن أحبّه.

(٢٠) «التابع» أولى بمناصرة متبوعة ممن لا يتبعه.

(٢١) «الصهر» أولى بأن يرعى حقوق من صاهره ، فشدّ بهم أزره ، وقوي أمره.

٧٠٩

إلى غير ذلك من المعاني التي هي أشبه بموارد الاستعمال ، والأولوية مأخوذة فيها بنوع من العناية.

فالمولى في الحديث الشريف بمعنى الأولى أو بمعنى الولي ، وأن ما ذكر للمولى من المعاني المختلفة ، فليس من قبيل المعاني المختلفة حتى يحتاج تفسير المولى بالأولى إلى قرينة معيّنة ، بل من قبيل المصاديق.

فجميع المعاني المتقدمة ترجع إلى معنى الأولى ، لكنّ عناد النواصب دعاهم إلى أن جحد بعضهم أن يكون «الأولى» أحد أقسام المولى ، أو يحصل ذلك في معناه ، واعترف بعضهم أنفة من العناد ، وادعوا أنه مجاز من الأقسام ، وفيما قدمناه من الدليل على أنه الأصل والعماد بيان فضيحة هؤلاء الأوغاد.

على أنه لا فصل بينهم وبين من جحد بقية الأقسام ما عدا «الأولى» أو «الولي» مقتصرا على الأول ، مدعيا فيها الاستعارة والمجاز ، فإنه بهذه الدعوى أقرب إلى الصواب لما شرحناه.

وهناك قرائن حالية (١) ومقالية دالة على أن المراد من «المولى» هو «الأولى بالتصرف أو الوليّ». أما القرائن الحالية : فبيانها أنه لو كان لفظ «مولى» مشتركا بين المعاني التي تلوناها عليك ، إلّا أنه لا يمكن إرادة غيره في المقام ، إما لاستلزامه الكفر ، كما إذا أريد منه الرب ؛ أو الكذب : كما إذا أريد منه العم ، والابن ، وابن الأخت ، ومالك الرق حيث لم يكن أمير المؤمنين مالكا لرق كل من ملك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رقه ، فيكون بذلك مولى من كان مولاه ، وكذا لم يكن الإمام عليّ عليه‌السلام معتقا لكل من أعتقه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الرق ، فيكون لذلك مولاه ، ولا كان عليه‌السلام معتقا من رق ، ولا الرسول كذلك حاشاهما من ذلك. ولم يجز أن يعني من كنت ابن عمّه فعليّ ابن عمّه ، لأن هذا لغو من الكلام مع معرفة جميع

__________________

(١) الفرق بين القرينة الحالية والمقالية ، أن الأولى هي ما احتف بها الكلام الصادر من الرسول من ظروف زمانية ومكانية ، أما الثانية فهي : ما اتصل بالكلام نفسه من الجمل والعبارات.

٧١٠

المسلمين بأن الإمام عليّا عليه‌السلام ابن عمّ الرسول ، وعلمهم يقينا بالاضطرار بأن ابن عمّ الرجل هو ابن عمّ جميع بني عمه على كل حال.

كما لا يجوز أن يكون قصد معنى «الحليف» لأنه لم يكن الإمام عليه‌السلام حليفا لجميع حلفاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولا معنى لإرادته بلفظ مولى «الجار» لأنه قد كان معروفا عند جميع من عرف منزلة الإمام عليّ عليه‌السلام أنه جار من جاوره النبيّ عليه وآله السلام في الدار ، بحلوله معه في المكان ، ولا إذا افترقا بالأسفار ، ولم يجب أن يكون الإمام عليّ عليه‌السلام جارا لجيران النبيّ عليه وآله السلام ، وكان الخبر عن ذلك كذبا من الأخبار.

وهكذا بقية الأقسام كالمنعم عليه والشريك والصاحب والنزيل والصهر والقريب الخ ، لا يمكن إرادة شيء من هذه المعاني ، لسخافته ، لا سيّما في هذا المحتشد الرهيب ، وفي أثناء المسير ، ورمضاء الهجير ، وقد أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بحبس المتقدم في السير ، ومنع التالي منه ، في محل ليس صالحا للنزول ، غير أن الوحي الإلهي حبسه هناك ، فيكون صلى‌الله‌عليه‌وآله قد عقد هذا المحتفل ، والناس قد أنهكتهم وعثاء السفر ، وحرّ الهجير ، وحراجة الموقف ، حتّى إنّ أحدهم ليضع طرفا من ردائه تحت قدميه ، وطرفا فوق رأسه ، فيرقى هناك منبر الأهداج ، ويعلمهم عن الله تعالى بأنه من كان هوصلى‌الله‌عليه‌وآله مصاحبا أو جارا أو نزيلا عنده ، أو صهرا أو قريبا له ، فعليّ كذلك!!

وأما المنعم ، فلا ملازمة بين أن يكون كل من أنعم عليه رسول الله فالإمام علي منعم عليه.

وأما الناصر والمحب ، فسواء كان كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله إخبارا أو إنشاء ، فاحتمالان ساقطان ، إذ ليسا بأمر مجهول عندهم ، لم يسبقه التبليغ حتى يأمر به في تلك الساعة ، ويحبس له الجماهير ، ويعقد له ذلك المنتدى الرهيب ، في موقف

٧١١

حرج ، لا قرار فيه. كل هذه المعاني لا توجب فائدة جمع الناس لها ، وتقريرهم على الطاعة وتعظيم الشأن.

فلم يبق من المعاني إلّا الوليّ ، والأولى به ، والمراد منه المتصرّف في الأمر ومتوليه ، فيكون مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» الإمامة التي يعبّر عنها بلفظ أولى ، أو ولي ، ويعبّر عنها بصريح فرض الطاعة فإنه أحرى وهذا واضح البرهان ، لأن المتصرّف الذي قيّضه الله سبحانه لأن يتّبع ويكون إماما ، فيهدي البشر إلى سنن النجاة ، فهو أولى من غيره بأنحاء التصرف في المجتمع الإنساني ، فليس هو إلّا نبيّا أو إماما مفترض الطاعة منصوص به من قبله تعالى بأمر إلهي لا يبارحه في أقواله وأفعاله (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١).

وأما القرائن المقالية : فكثيرة تثبت كون المولى بمعنى الأولى بالشيء ، وإثباتنا لهذه القرائن فيما لو سلّمنا أن «المولى» مشترك لفظي ، أما على القول بأنه ليس للمولى إلّا معنى واحد كما قلنا ، فلا حاجة لذكر القرائن إلّا تأكيدا.

القرينة الأولى :

سبق أمر الله تعالى نبيه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقول : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (٢) فإنه لا يصح حمله على الأمر بتبليغ أن الإمام عليّا عليه‌السلام محب أو ناصر لمن أحبّه النبيّ أو نصره ، فإن الذي يليق بهذا التهديد هو أن يكون المبلّغ به أمرا دينيا يلزم الأمة الأخذ به كالإمامة لا مثل الحب والنصرة من الإمام عليّ عليه‌السلام لهم التي لا دخل لها بتكليفهم ، فهل ترى أنّ الله سبحانه ورسوله يريدان تسجيل الأمر على أمير المؤمنين عليّ والأشهاد عليه لئلا يفعل ما ينافي الحب والنصرة أو يريدان توضيح الواضحات والأخبار بالبديهيات ، على أن نصرة الإمام عليّ عليه‌السلام لكلّ مؤمن ومؤمنة موقوفة على إمامته وزعامته العامة ، إذ لا تتم منه وهو رعية ومحكوم لغيره

__________________

(١) سورة النجم : ٣ ـ ٤.

(٢) سورة المائدة : ٦٧.

٧١٢

في جلّ أيامه ، ولذا لم يقدر على نصر أخص الناس به وهو سيّدة النساء فاطمة روحي فداها عند ما غصب أبو بكر حقها وضربها عمر وكسّر أضلاعها وأسقط جنينها ، مع علم الإمام عليه‌السلام بأنها محقة في دعواها فلا بدّ إما أن يكون كلام رسول الله وقوله : «من كنت مولاه فعلي مولاه» كذبا وحاشاه ، أو بيانا لإمامة عليّ أمير المؤمنين وهو المطلوب.

القرينة الثانية :

إن تفريع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «... فعلي مولاه» بحرف (الفاء) العاطفة التي لا يبتدأ بها الكلام ، يقتضي تفريع هذا على ما جاء في صدر الحديث الذي قرّر فيه الرسول ولاية نفسه بقوله: «من كنت مولاه» الذي يراد به أولويته على الناس وفرض طاعته وإمامته عليهم بلا ريب ، فدل على أنه الأولى دون ما سواه لما ثبت من حكمته عليه وآله السلام وأراد به البيان ، إذ لو لم يرد ذلك وأراد ما عداه لكان مستأنفا لمقال لا تعلق له بالمتقدم ، جاعلا لحرف العطف حرف استيناف ، وهذا لا يقع إلّا من أحد نفسين :

إما جاهل باللغة والكلام.

وإما قاصد إلى التعمية والألغاز.

ورسول الله يجلّ عن الوصفين ، وينزّه عن النقص في الصفات ، وذلك لأن الكلام إنما يلقى بغرض التفهيم والتفاهم بين الناس ، والعارف باللغة إنما يريد ما هو الظاهر منه ، وإلّا لنصب قرينة على إرادته غير الظاهر ، ومع عدم نصبها فالكلام يحمل على ظاهره ، وما هو الأصل فيه ، ودعوى عدم إرادة الظاهر ولو مع عدم نصب القرينة على غير الظاهر ، لا تصدر إلا ممن يجهل بأصل اللغة ، وبأساليب التعبير المتعارفة عند البشر ، أو يكون ذلك أمرا متعمدا يريد المتكلم به الألغاز في كلامه وعدم إيضاحه والتعمية لمعناه ومراده.

والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفصح من نطق بالعربية فيجلّ عن الأول ، كما أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجلّ عن

٧١٣

الثاني ، لأنه ليس من شأنه ، إذ هو المبعوث للإرشاد ، وخاصة في مثل هذا الحديث «من كنت مولاه فعليّ مولاه» الذي ألقاه على جموع تبلغ مائة وعشرين ألفا وفيهم مائة وعشرة صحابي حيث جمعهم في قلب الصحراء القاحلة في غدير خم.

فإذا كان الأصل الحقيقي لكلمة المولى هو «الأولى بالتصرف» ولم ينصب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرينة على إرادة غيره ، بل القرينة الداخلية ـ من داخل الحديث ـ تقتضي إرادة ذلك المعنى الأصلي ، فهو المراد له ، لا غيره ، خاصة أن أيّ واحد من المعاني الأخر المستعمل فيها المولى لا تناسب بوجه مقام كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبتعبير آخر :

إن قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر الحديث «ألست أولى بكم من أنفسكم» تمّ تفريعه على الصدر بقوله : «فمن كنت مولاه فعليّ مولاه» إشارة إلى أن المراد من «المولى» هو الأولى بالتصرف ، ولا وجه للتفكيك بين الصدر والذيل المتفرع عنه.

القرينة الثالثة :

إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أن يبلّغ الشاهد الغائب ، وهذا تأكيد لا يصح أن يصدر منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمجرد بيان النصرة أو المحبة ، أو تحسب أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤكد هذا التأكيد في تبليغ الغائبين أمرا علمه كلّ فرد منهم بالكتاب والسنّة من الموالاة والمحبة والنصرة بين أفراد المسلمين مشفوعا بذلك الاهتمام والحرص على بيانه؟ لا أحسب أن ضئولة الرأي يسفّ بالقارئ إلى هذا المستوى من الفهم. فلا بدّ أن يكون هذا التأكيد على شيء عظيم لم تتح الفرصة لتبليغه على نطاق واسع ، ولا عرفته جماهير المسلمين وما هو إلا إمامة عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام.

القرينة الرابعة :

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقيب نزول آية الإكمال : «الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعليّ بن أبي طالب» وفي لفظ شيخ الإسلام الحمويني : «الله أكبر على تمام نبوّتي وتمام دين الله بولاية عليّ بعدي». فأي معنى

٧١٤

تراه يكمل به الدين ويتم به النعمة ، ويرضي الرب في عداد الرسالة غير الإمامة التي بها تمام أمرها وكمال نشرها وتوطيد دعائمها؟ ولا ينهض بهذا العبء المقدّس سوى من كان أولى الناس منهم بأنفسهم.

القرينة الخامسة :

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد إبلاغ الولاية : «اللهم أنت شهيد عليهم إني قد بلّغت ونصحت» فالإشهاد على الأمة بالبلاغ والنصح يستدعي أن يكون ما بلّغه النبيّ ذلك اليوم أمرا جديدا لم يكن قد بلّغه من قبل ، مضافا إلى أن بقية معاني «المولى» العامة بين أفراد المسلمين من الحب والنصرة لا تتصور فيها أي حاجة إلى الإشهاد على الأمة في الإمام عليّ خاصة.

القرينة السادسة :

إن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله» أو ما يؤدي معناه دال على ولاية التصرف ، فلو أريد منه غير الأولى بالتصرف ، فما معنى هذا التطويل ، فإنه لا يلتئم ذكر هذا الدعاء إلّا بتنصيب الإمام عليّ مقاما شامخا ، يؤهله لهذا الدعاء.

القرينة السابعة :

نعي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفاته إلى الناس ، حيث قال : «كأنّي دعيت فأجبت» وفي تعبير آخر: «إنه يوشك أن ادعى» وهذا يعطي أن النبيّ قد بقيت مهمة من تبليغه ، يحاذر أن يدركه الأجل قبل الإشادة بها ، وهي تعرب عن كون ما أشاد به في هذا المحتشد ، تبليغ أمر مهم ، يخاف فوته ، وليس هو إلّا الإمامة.

هذا مضافا إلى أنه يعرب بذلك عن أنه سوف يرحل من بين أظهرهم ، فيحصل بعده فراغ هائل ، وأنه يسدّ بتنصيب أمير المؤمنين عليه‌السلام على المسلمين إماما.

٧١٥

القرينة الثامنة :

الأمر بإبلاغ الغائبين ، وقد أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آخر خطبته بأن يبلّغ الشاهد الغائب ، فما معنى هذا التأكيد ، إذا لم يكن هناك مهمة لم تتح الفرص لتبليغها على نطاق واسع ، ولا عرفته جماهير المسلمين ، وما هي إلّا الإمامة.

القرينة التاسعة :

دلالة أقوال الشعراء والبلغاء من أهل اللغة والأدب على أن المراد من المولى هو الأولى بالتصرف أي الإمامة والخلافة ، فها ذاك حسّان بن ثابت (١) استأذن الرسول عليه وآله السلام في يوم الغدير أن يقول شعرا في ذلك المقام ، فأذن له ، فأنشأ يقول :

يناديهم يوم الغدير نبيهم

بخم واسمع بالرسول مناديا

فقال : ومن مولاكم ووليكم

فقالوا ، ولم يبدوا هناك التعاديا

إلهك مولانا وأنت نبينا

فلن تجدن (٢) منا لك اليوم عاصيا

فقال له : قم يا عليّ فإنني

رضيتك من بعدي إماما هاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه

فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللهم وال وليّه

وكن للذي عادى عليّا معاديا

فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تزال يا حسان مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك» (٣).

فلو لا أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد بالمولى الإمامة لما أثنى على حسان بإخباره ذلك

__________________

(١) أبو الوليد حسان بن ثابت بن المنذر الأنصاري من الشعراء المخضرمين ، عاش في الجاهلية ستين سنة ، وفي الإسلام ستين سنة ، ومات في زمن معاوية بن أبي سفيان وعمي في آخر عمره ولم يثبت على ولاية أمير المؤمنين علي عليه‌السلام.

(٢) في نسخة «ولم تلق».

(٣) مناقب أمير المؤمنين للخوارزمي ص ٨١ ومقتل الإمام الحسين للخوارزمي ص ٤٧ وفرائد السمطين ج ١ / ٦١ وتذكرة الخواص ص ٣٣ وكفاية الطالب ص ١٧ والغدير ج ٢ / ٣٥.

٧١٦

ولأنكره عليه ، وردّه عنه لو أراد النبيّ غيره من أقسام المولى ، فحيث إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يستنكر على حسان فيما اعتقده بإمامة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام دل ذلك على موافقته له ، لأنه محال مع نصب الله تعالى نبيه للبيان أن يشهد بصحة الباطل ، وهو على الضلال أن يمدح على الغلط من الاعتقاد.

وفي شهادته عليه وآله السلام بصدق حسان فيما حكاه ، ونظمه الكلام بمدحه عليه ، ودعائه له بالتأييد من أجله على ما بيّناه ، دليل على صحة ما ذكرناه ، وشاهد على أن المولى عبارة في اللغة عن «الإمام» لفهم حسان وبقية المسلمين ذلك.

ومن ذلك ما تطابقت به الأخبار ، ونقله رواة السير والآثار ، ودوّنه حملة العربية والأشعار ، من قول قيس بن سعد بن عبادة سيّد نقباء رسول الله من الأنصار ، ومعه راية أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهو بين يديه بصفين في قصيدته اللامية التي أولها :

قلت لما بغى العدو علينا

حسبنا ربنا ونعم الوكيل

حسبنا ربنا الذي فتح البصرة

بالأمس والحديث طويل

حتى انتهى إلى قوله :

وعليّ إمامنا وإمام لسوانا

أتى به التنزيل

يوم قال النبيّ : من كنت مولاه

فهذا مولاه خطب جليل

إن ما قاله النبيّ على الأمة

حتم ما فيه قال وقيل (١)

قال الشيخ المفيد (٣٣٦ ـ ٤١٣ ه‍) :

في هذا الشعر دليلان على الإمامة :

أحدهما : أن المولى يتضمن الإمامة عند أهل اللسان ، للاتفاق على فصاحة قيس ، وأنه لا يجوز عليه أن يعبّر عن معنى ما لا يقع عليه من اللفظ عند أهل

__________________

(١) رسالة في أقسام المولى المطبوعة في أواخر كتاب الإفصاح للشيخ المفيد.

٧١٧

الفصاحة لا سيّما في النظم الذي يعتمد صاحبه فيه الفصاحة والبيان.

والثاني : إقرار أمير المؤمنين عليه‌السلام قيسا وترك نكيره ، وهو ينشد بحضرته ، ويشهد بالإمامة له ، ويحتج به على الأعداء ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام ممن لا يقر على باطل ولا يمسك عن الإنكار ، لا سيّما مع ارتفاع التقية عنه ، وتمكّنه من الإنكار.

ومن ذلك احتجاج أمير المؤمنين عليه‌السلام لنفسه بذلك في جوابه لمعاوية عن كتابه إليه من الشام ، وقد رام الافتخار بأن أباه كان سيّدا في الجاهلية وأنه صار ملكا في الإسلام وأنه كاتب الوحي وخال المؤمنين فقال عليه‌السلام : «أعليّ يفتخر ابن آكلة الأكباد» ثم قال لعبيد الله بن أبي رافع اكتب :

محمّد النبي أخي وصنوي

وحمزة سيّد الشهداء عمّي

وجعفر الذي يمسي ويضحي

يطير مع الملائكة ابن أمي

وبنت محمّد سكني وعرسي

فخالط لحمها بدمي ولحمي

وسبطا أحمد ولداي منها

فأيكم له سهم كسهمي

سبقتكم إلى الإسلام طرا

صغيرا ما بلغت أوان حلمي

وصليت الصلاة وكنت طفلا

مقرا بالنبي في بطن أمي

وأوجب لي ولايته عليكم

رسول الله يوم غدير خم

فويل ثم ويل ثم ويل

لمن يلقى الإله غدا بظلمي

أنا الرجل الذي لا تنكروه

ليوم كريهة أو يوم سلم

فلما وصل الكتاب إلى معاوية قال : «أخفوا هذا الكتاب لا يقرأه أهل الشام فيميلوا إلى ابن أبي طالب عليه‌السلام (١).

فأوجب الحجة على خصمه بالإمامة على الجماعة ، فقال النبيّ فيه يوم الغدير ما قال ، وهذا الشعر منقول عنه ومشهور بين الناس. ومما يدل على ما

__________________

(١) المصدر السابق ص ٣٧.

٧١٨

ذكرناه قول الأخطل «أبو مالك غياث بن غوث من بني تغلب» وهو رجل نصراني لا يتميز إلى فرقة من فرق الإسلام ولا يتّهم بالعصبية للشيعة ، ولا يطعن عليه في العلم باللسان ، في قصيدته يمدح فيها عبد الملك بن مروان عدو أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام فيقول له :

فما وجدت فيها قريش لأمرها

اعف وأوفى من أبيك وأمجدا

فأورى بزنديه ولو كان غيره

غداة اختلاف الناس يورى لا صلدا

فأصبحت مولاها من الناس كلّهم

وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا

فمدحه بالإمامة ورئاسة الجماعة ، واقتصر في العبارة على ذلك ، وأنه أولى به من الناس كافة على لفظة «مولى» لإفادتها في اللغة ومعرفة أهلها بأنها عبارة منه ، ودالة على معناه ، وهذا بيّن لا خفاء فيه على منصف ، ولا ارتياب فيه.

وهكذا الكميت بن زيد الأسدي رحمه‌الله تعالى (٦٠ ـ ١٢٦ ه‍) وهو من أعرف الناس بلغات العرب وأشعارها ، يقول في قصيدته العينية :

نفى عن عينك الأرق الهجوعا

وهمّ يمتري منها الدموعا

دخيل في الفؤاد يهيج سقما

وحزنا كان من جذل منوعا

وتوكاف الدموع على اكتئاب

أحلّ الدهر موجعه الضلوعا

ترقرق أسحما دررا وسكبا

يشبّه سحّها غربا هموعا

لفقدان الخضارم من قريش

وخير الشافعين معا شفيعا

لدى الرحمن يصدع بالمثاني

وكان له أبو حسن قريعا

حطوطا في مسرّته ومولى

إلى مرضاة خالقه سريعا

وأصفاه النبيّ على اختيار

بما أعيى الرّفوض له المذيعا

ويوم الدّوح دوح غدير خمّ

أبان له الولاية لو أطيعا

ولكنّ الرجال تبايعوها

فلم أر مثلها خطرا مبيعا

فلم أبلغ بها لعنا ولكن

أساء بذاك أوّلهم صنيعا

فصار بذاك أقربهم لعدل

إلى جور وأحفظهم مضيعا

٧١٩

أضاعوا أمير قائدهم فضلّوا

وأقومهم لدى الحدثان ريعا

تناسوا حقّه وبغوا عليه

بلا ترة وكان لهم قريعا

فقل لبني أميّة حيث حلّوا

وإن خفت المهنّد والقطيعا

: ألا أفّ لدهر كنت فيه

هدانا طائعا لكم مطيعا

أجاع الله من أشبعتموه

وأشبع من بجوركم أجيعا

ويلعن فذّ أمّته جهارا

إذا ساس البريّة والخليعا

بمرضيّ السياسة هاشميّ

يكون حيّا لأمّته ربيعا

وليثا في المشاهد غير نكس

لتقويم البريّة مستطيعا

يقيم أمورها ويذبّ عنها

ويترك جدبها أبدا مريعا (١)

فلو لا أن لفظة «مولى» تفيد الإمامة ، لما جاز من الكميت ـ وهو من أهل المعرفة باللغة وأعرف الناس بلغات العرب وأشعارها ـ أن يحكم لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بالإمامة بها ، ولا أن يحتجّ بذلك في شعره الذي هو الطريق إلى العلم بمقداره في المعرفة باللسان ، ويجعله في نظمه بحيث يحتج به على المخالف والمؤالف ، فكيف يجوز أن تلحقه التهمة في الجهل بالعربية عند الخاصة والعامة من الناس ، وكيف يجوز أن يعرف بالعصبية في هذا الباب ، فإنه حمل لفظا عربيا غير محتمل عند أهله على الوجوه كلها والأسباب ، ولم يوجد أحد من نظرائه فعل مثل ذلك لعصبية ولا عناد ، ولئن جاز هذا عليه مع ما هو عليه من المعرفة والفصاحة ليجوزن على جرير والفرزدق والأخطل بل على لبيد وزهير وامرئ القيس حتى لا يصحّ الاستشهاد بشيء من أشعارهم على غريب القرآن ، ولا على لغة ، ولا على إعراب ، وهذا قول من صار إليه ظهر جهله عند العقلاء.

وها هو الشاعر الكبير السيّد الحميري عليه الرحمة (المتوفى عام ١٧٣ ه‍) يقول في قصيدته المذهّبة ذات ١١٢ بيتا :

__________________

(١) الغدير في الكتاب والسنة ج ٢ / ١٨٠.

٧٢٠