أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

قال ابن عبّاس : وجبت والله في أعناق القوم ، فقال حسان : ائذن لي يا رسول الله أن أقول في الإمام عليّ أبياتا تسمعهن؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قل على بركة الله ، فقام حسان بن ثابت فقال :

يناديهم يوم الغدير نبيهم

بخم فاسمع بالرسول مناديا

فقال فمن مولاكم ونبيكم

فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت نبينا

ولم تلق منا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا علي فإنني

رضيتك من بعدي إماما هاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه

فكونوا له أتباع صدق مواليا

هناك دعى اللهم وال وليّه

وكن للذي عادى عليّا معاديا

فلما سمع النبيّ أبياته قال : لا تزال يا حسان مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك.

هذا هو حديث الغدير الذي أصفقت عليه الأمة الإسلامية بأسرها إلا من انحرفت سليقته واعوجت فطرته.

وهذا الحديث المبارك بلغ في التواتر درجة لم يبلغها حديث غيره ، مما زاد من اهتمام المسلمين به نظما ونثرا (١).

وهناك بعض الأشاعرة ممن شكّكوا في نزول الآية بأمير المؤمنين عليه‌السلام كالرازي في تفسيره ، حيث ذكر وجوها عشرة في نزول الآية ، ومن جملة الوجوه : أنها في حق الإمام علي عليه‌السلام ، ثم اختار وجها مغايرا فقال :

«العاشر : نزلت في فضل عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» فلقيه عمر فقال : هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن

__________________

(١) راجع الغدير في الكتاب والسنة للعلّامة الأميني ج ١ / ٩ وج ٢ / ٣٩.

٦٦١

ومؤمنة ، وهو قول ابن عبّاس والبراء بن عازب ومحمّد بن علي.

واعلم أن هذه الروايات وإن كثرت إلا أن الأولى حملها على أنه تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى ، وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم ، وذلك لأن ما قبل هذه الآية بكثير وما بعدها بكثير لما كان كلاما مع اليهود والنصارى امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبية عما قبلها وما بعدها» (١).

يرد عليه :

أولا : ما ذكره الرازي من امتناع إلقاء هذه الآية على وجه تكون أجنبية عمّا قبلها وبعدها ، مجرد دعوى لا تستند إلى أية رواية.

فترجيحه لهذا الوجه على غيره من الوجوه العشرة مجرد استحسان منه بملائمة سياق الآيات من غير استناد إلى أية رواية ، «ونحن إذا علمنا أن ترتيب الآيات في الذكر الحكيم غير ترتيبها في النزول نوعا فلا يهمّنا مراعاة السياق تجاه النقل الصحيح ، وتزيد إخباتا إلى ذلك بملاحظة ترتيب نزول السور المخالف لترتيبها في القرآن ، والآيات المكيّة في السور المدنية وبالعكس» (٢).

وحتى لو قلنا بأن ترتيب الآيات كان بإيحاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو توقيفي باتفاق العامة ، مع أننا نعتقد أن الترتيب النوعي لم يكن منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما بفعل من جاء بعده من خلفاء الجور.

وعلى كل حال سواء كان الترتيب توقيفيا أم هو باجتهاد الصحابة فالمعنون واحد وهو عدم حجية السياق.

قال السيوطي :

(الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في

__________________

(١) تفسير الرازي ج ١٢ / ٥٠.

(٢) الغدير ج ١ / ٢٢٦.

٦٦٢

ذلك ، أما الإجماع فنقله غير واحد منهم الزركشي في البرهان وأبو جعفر بن الزبير في مناسباته ..»(١).

ثانيا : إنّ وعد الله تعالى لرسوله بالأمن من مكر اليهود والنصارى جدير أن يكون في أول البعثة لا في أواخر أيامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي كان يهدّد فيها دول العالم وتهابه الأمم ، وقد فتح خيبر واستأصل شأفة بني قريظة والنضير ، وعنت له الوجوه وخضعت له الرقاب طوعا وكرها ، وفيها كانت حجة الوداع التي نزلت فيها آية البلاغ.

هذا بالإضافة إلى أن آية البلاغ ليس فيها ما هو خطر على اليهود والنصارى صراحة ، مع أن هناك آيات نزلت قبلها ، فيها تصريح بنفي الوثنية والشرك وذم المشركين من العرب واليهود والنصارى ولم يهدده الله تعالى في أمر تبليغهم ولا آمنه بالعصمة منهم.

ثالثا : إنّ المتصفح لسورة المائدة يرى أن معظمها يتعرض لحال اليهود والنصارى ، وقد بلّغها النبيّ الأكرم من دون أن يهدده الله تعالى ، مع التأكيد على أن اليهود عند نزول سورة المائدة قد كسرت شوكتهم وخمدت نيرانهم ، وشملتهم السخطة واللعنة فلا معنى لخوف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم في دين الله تعالى ، وقد دخلوا يومئذ في السلم والإسلام وقبلوا هم والنصارى الجزية ، ولا معنى لتقريره تعالى له خوفه منهم واضطرابه في تبليغ أمر الله تعالى إليهم وهو أمر قد بلّغ إليهم ما هو أعظم منه ، وقد وقف النبيّ قبل هذا الموقف فيما هو أهول منه وأوحش.

بهذه الوجوه يتعيّن حمل الخوف الحاصل عند النبيّ من منافقي قومه لا خوفه من اليهود والنصارى كما ادّعى الرازي ، لأنه من الواضح أن النبيّ لا يخشى منافقي قومه في تبليغ شيء جاء به إلّا نصب أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام إماما ، وقد ورد عندنا أنّ جبرائيل عليه‌السلام نزل على النبيّ في حجة الوداع وأمره عن الله تعالى

__________________

(١) الاتقان في علوم القرآن ج ١ / ١٣٢.

٦٦٣

بتنصيب الإمام عليّ خليفة ، فخاف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضاق ذرعا مخافة تكذيب أهل الإفك ، وكان خوفه ـ بأبي وأمي ـ في محله فقال لجبرائيل عليه‌السلام : إن قومي لم يقروا لي بالنبوة إلّا بعد أن جاهدت فكيف يقرون لعليّ بالإمامة في كلمة واحدة.

ثم لمّا تم تنصيبه خليفة وسار دحرجوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدباب لينفروا ناقته ويقتلوه ، فعصمه الله سبحانه منهم.

رابعا : ما حشده الرازي من الوجوه العشرة ، وجعل نصّ الغدير عاشرها ، وقصة الأعرابي ثامنها ، وهيبة قريش مع زيادة اليهود والنصارى تاسعها ، لا يعدو كونه مراسيل مقطوعة عن الإسناد غير معلومة القائل ، ولذا عزي جميعها في تفسير نظام الدين النيسابوري إلى القيل ، وجعل ما روي في نص الولاية أول الوجوه ، وأسنده إلى ابن عباس والبراء بن عازب وأبي سعيد الخدري والإمام محمّد بن عليّ عليه‌السلام.

والطبري الذي هو أقدم وأعرف بهذه الشئون أهملها رأسا ، وهو وإن لم يذكر حديث الولاية أيضا لكنّه أفرد له كتابا أخرجه فيه بنيف وسبعين طريقا.

فالوجوه التي ذكرها الرازي غير صالحة للاعتماد عليها ، ولا ناهضة لمجابهة الأحاديث المعتبرة التي رواها أعاظم العلماء كالطبري ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، والرسعني وأبي نعيم وأبي إسحاق الثعلبي والواحدي والسجستاني والحسكاني وغيرهم بأسانيد جمّة.

فما ظنك ـ أخي القارئ ـ بحديث يعتبره هؤلاء الأئمة؟

على أن الظاهر على غير واحد من الوجوه لوائح الافتعال السائد عليها عدم التلاؤم بين سياق الآية وسبب النزول ، فلا يعدو جميعها أن يكون تفسيرا بالرأي ، أو استحسانا من غير حجّة ، أو تكثيرا للأباطيل والأراجيف أمام حديث الولاية ، فتّا في عضده وتخذيلا عن تصديقه ، ويأبى الله إلّا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

خامسا : إن قصة الأعرابي المدّعاة تناقض ما ورد متواترا من أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٦٦٤

كان يحتف به الحرس إلى نزول الآية فمن المستبعد جدا وصول الأعرابي إليه وهو نائم ، والسيف معلّق عنده ، والحرس حول قبّة النبيّ ، على أن لازم هذا : التفريق في نزول الآية ، فإنه ينص على أن النازل بعد قصة الأعرابي هو قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ولا مسانخة بين هذه القصة وصدر الآية ، ومن المستصعب البخوع لما تفرّد به بعض كتّاب العامة في مثل هذا.

وليس من المستحيل أن تكون قصة الأعرابي من ولائد الاتفاق حول نصّ الغدير ونزول الآية ، فحسب السذّج أنها نزلت لأجلها ، وفي الحقيقة لنزولها سبب عظيم هو أمر الولاية الكبرى ، ولم تك هاتيك الحادثة بمهمّة تنزل لأجلها الآيات ، وكم سبقت لها ضرائب وأمثال لم يحتفل بها ، غير أن المقارنة بينها وبين نص الولاية على تقدير صحة الرواية أوقعت البسطاء في الوهم.

كما أن الآية ليست متصلة بما قبلها وما بعدها في سياق واحد ، ولا تتصل بها في سردها ، وإنما هي آية مفردة نزلت وحدها ، ولو كانت متصلة بما قبلها وما بعدها في سياق واحد في أمر أهل الكتاب لكان محصّلها أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشدّ الأمر بتبليغ ما أنزله الله سبحانه في أمر أهل الكتاب ، وتعين بحسب السياق أن المراد بما أنزل إليه من ربه هو ما يأمره بتبليغه في قوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) (١).

وسياق الآية يأباه فإن قوله (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) يدل على أن هذا الحكم المنزل المأمور بتبليغه أمر مهم فيه مخافة الخطر على نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو على دين الله تعالى من حيث نجاح تبليغه ، ولم يكن من شأن اليهود ولا النصارى في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتوجه إليه من ناحيتهم خطر يسوّغ له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يمسك عن التبليغ أو يؤخره إلى حين فيبلغ الأمر إلى حيث يحتاج إلى أن يعده الله بالعصمة منهم إن بلّغ ما أمر به فيهم حتى في أوائل هجرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة وعنده حدة

__________________

(١) سورة المائدة : ٦٨.

٦٦٥

اليهود وشدتهم حتى انتهى إلى وقائع خيبر وغيرها.

وخلاصة الأمر : أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخاف من منافقي قومه أن يكذّبوه في ابن عمه أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام وأن يقلبوا الأمر على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث تنهدم أركان ما بناه من بنيان الدين وتتلاشى أجزاؤه ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتفرس ذلك ويخافهم على دعوته فيؤخر تبليغه إلى حين بعد حين ليجد له ظرفا صالحا وجوا آمنا عسى أن تنجح فيه دعوته ، ولا يخيب مسعاه فأمره الله تعالى بتبليغ عاجل ، وبيّن له أهمية الحكم ، ووعده أن يعصمه من الناس ، ولا يهديهم في كيدهم ، ولا يدعهم يقلّبوا له أمر الدعوة.

وإنما يتصور تقليب أمر الدعوة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإبطال عمله بعد انتشار الدعوة الإسلامية لا من جانب المشركين ووثنية العرب وغيرهم كأن تكون الآية نازلة في مكة قبل الهجرة ، وتكون مخافة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الناس من جهة افترائهم عليه واتهامهم إياه في أمره كما حكاه الله سبحانه في آيات مكيّة من قولهم (مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) (الدخان : ١٤) وقولهم (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (الطور : ٣٠) وقولهم (ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (الذاريات : ٥٢) وقولهم (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) (الإسراء : ٤٧) وقولهم (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) (المدثر : ٢٤) وقولهم (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الفرقان : ٥) وقولهم (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) (النحل : ١٠٣) وقولهم (امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) (ص : ٦) إلى غير ذلك من أقاويلهم فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فهذه كلها ليست مما يوجب وهن قاعدة الدين ، وإنما تدل ـ إذا دلت ـ على اضطراب القوم في أمرهم ، وعدم استقامتهم فيه ، على أن هذه الافتراءات والمرامي لا تختص بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى يضطرب عند تفرّسها ويخاف وقوعها فسائر الأنبياء والرسل يشاركونه في الابتلاء بهذه البلايا والمحن ، ومواجهة هذه المكاره من جملة أممهم كما حكاه الله تعالى عن نوح ومن بعده من الأنبياء المذكورين في القرآن.

٦٦٦

بل إن كان شيء ـ ولا بدّ ـ فإنما يتصور بعد الهجرة واستقرار أمر الدين في المجتمع الإسلامي ، والمسلمين كالمعجون الخليط من صلحاء مؤمنين وقوم منافقين أولي قوة لا يستهان بأمرهم ، وآخرين في قلوبهم مرض وهم سمّاعون ـ كما نص عليه الكتاب العزيز ـ وهؤلاء كانوا يعاملون مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في عين أنهم آمنوا به واقعا أو ظاهرا ـ معاملة الملوك ومع دين الله معاملة القوانين الوضعية القومية كما يشعر بذلك طوائف من آيات الكتاب العزيز كآيات قصة أحد من سورة آل عمران ، والآيات ١٠٥ ـ ١٢٦ من سورة النساء.

فكان من الممكن أن يكون تبليغ بعض الأحكام مما يوقع في الوهم انتفاع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتشريعه وإجرائه يستوجب أن يقع في قلوبهم أنه ملك في صورة النبوة وقانون ملكي في هيئة الدين.

وهذه شبهة لو كانت وقعت هي أو ما يماثلها في قلوبهم ألقت إلى الدين من الفساد والضيعة ما لا يدفعه أي قوة دافعة ، ولا يصلحه أي تدبير مصلح ، فليس هذا الحكم النازل المأمور بتبليغه إلا حكما فيه توهم انتفاع للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واختصاص له بمزية من المزايا الحيوية لا يشاركه فيها غيره من سائر المسلمين ، نظير ما في قصة زيد وتعدد الأزواج والاختصاص بخمس الغنائم ونظائر ذلك.

فقد ظهر من جميع ما تقدم أن الآية تكشف عن حكم نازل فيه شوب انتفاع للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واختصاصه بمزية حيوية مطلوبة لغيره أيضا يوجب تبليغه والعمل به حرمان الناس عنه ، فكان النبيّ يخاف إظهاره فأمره الله بتبليغه وشدّد فيه ، ووعده بالعصمة من الناس وعدم هدايتهم في كيدهم إن كادوا فيه.

وهذا يؤيد ما وردت به النصوص من طرق الفريقين أن الآية نزلت في أمر ولاية الإمام عليّعليه‌السلام ، وأن الله أمر بتبليغها ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخاف أن يتهموه في ابن عمه ، ويؤخر تبليغها وقتا إلى وقت حتى نزلت الآية فبلّغها بغدير خم وقال فيه : من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه.

٦٦٧

إشكالات وردود

فقد أشكل بعض العامة بإشكالات تحريفا منهم للمعنى الحقيقي للآية المباركة انتصارا لأنفسهم لا للحق ، ودحضا لخلافة آل بيت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها :

الإشكال الأول :

لا شك أن الله تعالى أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإظهار التبليغ ، وآمنه تعالى من مكر الماكرين لعلمه عزوجل أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان خائفا على نفسه من أن يقتلوه فيبطل بذلك أثر الدعوة وينقطع دابرها ، فكان يعوقه إلى حين ليس فيه هذه المفسدة.

والجواب :

١ ـ أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يملك من أمره شيئا حتى يمكن له أن يخاف على نفسه لكونه عبدا مأمورا من قبل الله عزوجل ، لذا قال له (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) (١).

مضافا إلى أن الله سبحانه لا يعجزه إذا ما قتلوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحيي دعوته بأي وسيلة من الوسائل شاء ، وبأي سبب أراد.

٢ ـ إن الآية الكريمة وإن كان ظاهرها التهديد ، لكنه لبيان أهمية الحكم المنزل ، وأنه بحيث لو لم يصل إلى الناس ولم يراع حقه ، كان كمن لم يراع حق شيء من أجزاء الدين ، فقوله (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ) جملة شرطية سيقت لبيان أهمية الشرط وجودا وعدما لترتب الجزاء الأهم عليه وجودا وعدما ، وليست شرطية مسوقة على طبع الشرطيات الدائرة عندنا ، فإنّا نستعمل «إن» الشرطية طبعا فيما نجهل تحقق الجزاء للجهل بتحقق الشرط ، وحاشا ساحة النبي من أن يقدّر القرآن في حقه احتمال أن يصل الحكم النازل عليه من ربه وأن لا يبلّغه للآخرين ، وقد قال الله تعالى بحقه (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) فالجملة الشرطية في الآية المباركة (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ) إنما تفيد التهديد بظاهرها ، وتفيد إعلامه عليه

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٢٨.

٦٦٨

وآله السلام وإعلام غيره ما لهذا الحكم من الأهمية وأن الرسول معذور في تبليغه (١).

وبعبارة أخرى : إن خوفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما كان من أجل علمه بأنهم سيطعنون في مقالته بأنه حابى ابن عمه ، والطعن سبب لإنكار الولاية ، والإنكار سبب للخروج عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمروق من الدين ، وقد طمأنه الله سبحانه من كل ذلك ، فصدع بما أمر به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وما أفاده العلّامة الطباطبائي «من أنّ خوف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أن يتهموه بما يفسد به الدعوة فسادا لا تنجح معه أبدا كان اجتهادا جائزا مأذونا فيه» (٢) ليس صحيحا لما فيه من نسبة الجهل بمقام تشخيص الموضوع المترتب عليه حكم كلي ، أو من جهة الجهل في مجال إبداء الرأي ، وقد قامت الأدلة القطعية على بطلانه ولا سيّما آية التطهير.

الإشكال الثاني :

إن آية البلاغ نزلت في أول البعثة حسبما نقل العلّامة الطباطبائي (٣) نقلا عن بعض المفسرين ، وعليه فلا دلالة في الآية على ما ادعاه المسلمون الشيعة من أنها نزلت في شأن إمامة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام.

والجواب :

١ ـ إن القول بكونها ـ أي آية البلاغ ـ نزلت أول البعثة قول شاذ لا يعوّل عليه في مقابل الرأي المجمع عليه بين الفريقين لا سيّما عند المحققين منهم من كونها نزلت بعد الهجرة ، وبالضبط في السنة العاشرة منها في حجة الوداع.

٢ ـ على القول بنزولها أو البعثة لا معنى حينئذ لقوله تعالى (وَاللهُ يَعْصِمُكَ

__________________

(١) تفسير الميزان ج ٦ / ٤٩ بتصرف بسيط.

(٢) تفسير الميزان ج ٦ / ٤٤.

(٣) تفسير الميزان ج ٦ / ٤٤.

٦٦٩

مِنَ النَّاسِ) إلّا أن يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يماطل في إنجاز التبليغ خوفا من الناس على نفسه أن يقتلوه فيحرم الحياة أو أن يقتلوه ويذهب التبليغ باطلا لا أثر له ، فإن ذلك كله لا سبيل إلى احتماله لأن الآية بسياقها لا تصلح أن يكون نزولها في بدء البعثة للزوم اللغوية من حيث عدم تبليغه لكل الأحكام في أول البعثة لفقدان المبررات الموضوعية لذلك ، ولأن كلمة «أنزل» فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر جوازا تقديره هو ـ الله ـ والتقدير : بلّغ جميع ما أنزله الله إليك.

كما أن إعراب قوله «.. بلّغت» هو : فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير المخاطب ، والتاء : ضمير متصل مبني على الفتح في محل رفع فاعل.

فالكلمتان «أنزل ـ وبلّغت» تفيدان الماضوية بمعنى أن هناك أحكاما قد نزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والحكم اللاحق أهم من الأحكام السابقة ، فإذا لم يبلّغ الحكم اللاحق كأنه ما بلّغ الأحكام السابقة ، وأين هذا من الدعوى القائلة بأنّ آية التطهير نزلت في بدء البعثة؟

مضافا إلى أن آيات أول البعثة خالية من التهديد كما في قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (سورة العلق : ١) إلى آخر السورة ، وقوله (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ) (سورة المدثر : ١ ـ ٢).

الإشكال الثالث :

أن المراد بما أنزل إليه من ربه هو أصل الدين أو مجموعه ، والمعنى : يا أيّها الرسول بلّغ الدين وإن لم تبلّغ الدين فما بلّغت الدين ، وقد خرج هذا على قانون قوله :

أنا أبو النجم وشعري شعري (١)

__________________

(١) تفسير الرازي ج ١٢ / ٤٩.

٦٧٠

والجواب

١ ـ إنّ قياس الآية المباركة على قول أبي النجم فاسد ، لأن هذه الصناعة الكلامية إنما تصح في موارد العام والخاص والمطلق والمقيد ونظائر ذلك ، وليس المقام هنا من موارد العام والخاص وشبههما حتى يدّعى أنهما ـ الآية والشعر ـ من باب ومورد واحد.

٢ ـ إنّ قوله تعالى (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) لا يجري فيه مثل هذه العناية «فإن الرسالة التي هي مجموع الدين أو أصله على تقدير نزول الآية في أول البعثة أمر واحد غير مختلف ولا متغير حتى يصح أن يقال : إن لم تبلّغ هذه الرسالة فما بلّغت تلك الرسالة ، أو لم تبلّغ أصل الرسالة فإن المفروض أنه أصل الرسالة التي هي مجموع المعارف الدينية» (١).

٣ ـ القول بأنّ آية التبليغ آمرة بتبليغ كلّ الدين مخالف للضرورة والوجدان ، وذلك لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بلّغ الدين تدريجا ، حتى لم يترك شيئا إلّا بلّغه ، فتبليغ كل الدين ، إنما كان بالقرآن كله لا بآية التبليغ.

وهم ودفع :

قد يتوهم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر في الآية المذكورة بتبليغ الدين كله تدريجا ، فيندفع ما ذهب إليه الشيعة الإمامية من أن خلافة الإمام عليّ عليه‌السلام هي مورد نزول الآية الكريمة.

وهو مندفع :

بأنّ ذلك يستدعي أن تكون آية البلاغ أول آية نزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يقل به أحد ، فيكون هذا التوهم ضروري البطلان. هذا مضافا إلى أن الأمر بالتبليغ بعد أن بلّغ الدين يعتبر تحصيلا حاصلا يقبح صدوره من الله تعالى للزوم اللغوية لقوله

__________________

(١) تفسير الميزان ج ٦ / ٤٥.

٦٧١

تعالى (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) من حيث كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بلّغ الرسالة قبل نزول الآية الكريمة ، وللتبادر من أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قصّر في تبليغ كل الأحكام وهو منفّر من قبول الدعوة ، ولاستلزامه التقصير في أداء أحكامها ، وقد نزّهه الله عزوجل عن كل ذلك.

الإشكال الرابع :

إنّ توسط آية البلاغ بين الآيات المتعلقة باليهود والنصارى دليل على أن موردها غير ما اعتقده الشيعة الإمامية.

والجواب :

١ ـ أن الإشكال المذكور مبني على وحدة السياق وقد ذكرنا بطلانه.

٢ ـ أن توسطها بين الآيات الحاكية عن مكر اليهود والنصارى لإشارة إلى أن المنافقين بمنزلة اليهود والنصارى ومن سنخهم في الضلال والكفر بل أشدّ كفرا منهم ، لذا حكم بارتدادهم في أخبار الحوض.

وزبدة المخض :

أن الآية الشريفة ، وإن وقعت في سياق آيات تتحدث عن أهل الكتاب إلّا أنّ مورد نزولها هو تنصيب أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام خليفة على المسلمين ، ويشهد لهذا ما قلنا سابقا ، ولأن قوله تعالى (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) يدلّ على أهمية الحكم المنزل الذي أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبليغه ، ويدل على أنّ في التبليغ مخافة الخطر على نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو على دين الله سبحانه ، ومن البديهي أن الخطر المذكور لم يتوجّه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل الكتاب حتى يستدعي وعد الله بالعصمة منهم ، بل المعلوم من سيرة النبيّ أنه قد بلّغ ما أمر به لأهل الكتاب ، حتى في أوائل هجرته إلى المدينة حيث كان اليهود في أحسن حالاتهم من البطش والقوة ، هذا مضافا إلى أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بلّغ ما هو أشدّ من ذلك ، وهو تبليغ التوحيد ونفي الوثنية إلى كفّار قريش ومشركي العرب ، وهم أغلظ جانبا ، وأشد بطشا ، وأسفك للدماء من

٦٧٢

اليهود وسائر أهل الكتاب ، هذا مع أن اليهود حين نزول سورة المائدة قد كسرت شوكتهم وخمدت نيرانهم ، فلا معنى لخوف رسول الله منهم في دين الله ، كما لا معنى حينئذ لتقريره تعالى لنبيه خوفه منهم ، ولا لاضطراب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تبليغ أمر الله إليهم ، وعليه فلا ينبغي الشك في أن الآية لا تشارك الآيات السابقة عليها واللاحقة لها في سياقها ، بل هي آية مفردة نزلت في تبليغ أمر الخلافة ، وهي ظاهرة في أن هناك أمرا هاما قد أمر الله نبيه بتبليغه إلى الناس ، وكان النبيّ يخافهم لأنه ثقيل على أنفسهم ، فكان يؤخر تبليغه إلى حين بعد حين ليجد له ظرفا صالحا وجوا آمنا عسى أن تنجح فيه دعوته ، ولا يخيب مسعاه ، فأمره الله تعالى بتبليغ عاجل ، وبيّن له أهمية الحكم ، ووعده أن يعصمه من الناس ، ولا يهديهم في كيدهم ، ولا يدعهم يقلبوا له أمر الدعوة ، بل هدّده سبحانه على الترك بقوله (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ).

فلا يكون المراد من الأمر المهم الذي أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبليغه إلا ولاية مولى الثّقلين أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخشى إذا نصّ على خلافة ابن عمه أن يتّهم بالمحاباة والتحيّز له ، كما وقع هذا الاتهام من الحارث بن النعمان الفهري ، ويخاف النبيّ أن يتخذ المنافقون من هذا النص مادة للدعاية ضده والتشكيك في نبوته وعصمته.

ومن البديهي أنّ مثل هذه الدعاية يتقبلها البسطاء والسذج من المؤمنين فضلا عن غيرهم كالمنافقين الذين هم أشدّ خلق الله فتكا بالإسلام والمسلمين ، والتاريخ الإسلامي حافل بمكرهم ، والآيات القرآنية ناطقة بحيلهم ومؤامراتهم ، وكان تفرس النبيّ بمكرهم في محله ، حيث سجّل لنا التاريخ ما جرى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العداء المستحكم من قبل الفهري المعادي للإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حيث مزّقه الحقد حينما بلغه حديث الغدير وتعيين النبيّ بأمر من الله تعالى للإمام عليّ عليه‌السلام خليفة بعده ، فأتى رسول الله لكي ينتقد على هذه الخطوة المباركة ، وقال عند وصوله إلى النبيّ : يا محمّد أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلا الله فقبلنا ،

٦٧٣

وأمرتنا أن نشهد أنك رسول الله فقبلنا ، وأمرتنا بالصلاة والزكاة والصوم والحج فقبلنا ، ثم لم ترض حتى أخذت بعضد ابن عمك وفضّلته علينا ، فقلت : من كنت مولاه ، فعليّ مولاه فهذا شيء منك أم من الله؟

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والذي لا إله إلا هو ، إنّ هذا لمن الله عزوجل» فولّى الفهري إلى راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما يقوله محمّد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله عزوجل بحجر سقط على رأسه فخرج من دبره فقتله فأنزل الله عزوجل هذه الآية : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) وقد روى علماء العامة القصة بتفاصيلها (١).

شبهة وحل :

مفاد الشبهة : أن الآية أجنبية عن خلافة عليّ بن أبي طالب ، وأن الشيعة تجعل القرآن كتابا حزبيا لهم ، فيجعلون آية التبليغ خاصة بالولاية ، مع أنها عامة آمرة بتبليغ كل الدين (٢).

والجواب :

١ ـ ذكرنا سابقا أن جمهور العامة وافق الإمامية على نزول الآية في غدير خم بحق أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه أفضل التحية والسلام ، فدعوى أنها أجنبية عن خلافته عليه‌السلام مصادرة على المطلوب وهي باطلة لوجود القرائن المقالية والمقامية الدالة على خلاف ما ذكر صاحب الشبهة.

٢ ـ لو كانت آية التبليغ أجنبية عن مسألة الخلافة ، لكانت آية الشورى أجنبية عنها بطريق أولى ، لأنها ليست في مقام تشريع الخلافة بإجماع المسلمين ، بل آية

__________________

(١) تذكرة الخواص لابن الجوزي الحنفي ص ٣٧ والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٤١ والسيرة الحلبية ج ٣ / ٣٠٢ وفرائد السمطين للشافعي ج ١ / ٨٢ وتفسير القرطبي في تفسير الآية وتفسير غريب القرآن للحافظ الهروي في تفسير الآية في سورة المعارج.

(٢) «مسألة الإمامة» ص ٢٦٤ محسن عبد الناظر.

٦٧٤

الشورى ناظرة إلى مدح التشاور في الأمور العامة ، كما يؤكد على ذلك ما قيل في سبب نزول الآية ، من أن الأنصار كانوا قبل قدوم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة إذا أرادوا أمرا تشاوروا فيه ، ثم عملوا عليه فمدحهم الله تعالى به.

وعليه فإن كلام العامة يرتدّ عليهم ، حيث جعلوا آية الشورى خاصة بالخلافة ، فجعلوا القرآن كتابا حزبيا لهم ، مع أن آية الشورى لا ترتبط بمسألة الخلافة.

وعليه فإن الآية المباركة ليست أجنبية عن الخلافة بل هي أجنبية عمّا قبلها وبعدها من الآيات المتعلقة بمكر اليهود والنصارى ، ومن المعلوم أنه لم تكن لليهود والنصارى شوكة يخشى منها النبي أن يبلّغ ما أنزل إليه ، فالمناسب أن النبي خاف منافقي قومه ، ومن الواضح أنه لا يخشاهم من تبليغ شيء جاء به إلّا نصب الإمام عليّ عليه‌السلام إماما عداوة وحسدا له ، وقد ورد عندنا أن جبرائيل عليه‌السلام نزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع بأن ينصب الإمام عليا خليفة له فضاق رسول الله به ذرعا مخافة تكذيب أهل الإفك ، وقال لجبرائيل إن قومي لم يقروا لي بالنبوة إلا بعد أن جاهدتهم فكيف يقرون لعليّ بالإمامة في كلمة واحدة وعزم على نصبه بالمدينة ، فلما وصل إلى غدير خم نزل عليه قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ولما سار بعد نصبه ووصل العقبة دحرجوا له الدباب لينفروا ناقته ويقتلوه فينقضوا فعله ، فعصمه الله سبحانه منهم ، ثم أراد أن يؤكد عليه النص في كتاب لا يضلون بعده فنسبوه إلى الهجر وأراد تسييرهم بجيش أسامة فعصوه ، أفبعد هذا يقال : إن الآية أجنبية عن مقام خلافة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام؟!

ويجدر بنا هنا أن نبحث في حديث الغدير في نقاط ثلاث :

النقطة الأولى : سند الحديث وتواتره.

حديث الغدر من الأحاديث المتواترة المشهورة منذ عصر النبيّ إلى زماننا

٦٧٥

هذا ، وقد رواه الخاصة والعامة ، وشهد كثيرون منهم بصحته ، «حتى أن الحافظ أبو سعيد مسعود بن ناصر بن أبي زيد السجستاني المتوفى ٤٧٧ ه‍ وضع كتابا أسماه (الدراية في حديث الولاية) جمع فيه طرق حديث الغدير ، ورواه عن مائة وعشرين صحابيا» (١).

ومن ذا الذي يسعه إنكار صحته ، وقد تصافقت الأمة على قبوله والبخوع له ، وأي متعنّد يمكنه رد تواتره اللفظي في الجملة والمعنوي في تفاصيله ، وقد شهد به القريب والبعيد ، ورواه القاصي والداني ، وأثبته أكثر المؤلفين في الحديث والتاريخ والتفسير والكلام ، وأفرده بالتأليف آخرون ، فلن تجد له إلّا رنّة تصكّ المسامع منذ هتف به داعي الرشاد حتى عصرنا ، وسيبقى ذكره مخلّدا ما تعاقب الليل والنهار ، فليس من يجابهه بالإنكار إلّا كمن يتعامى عن الشمس الضاحية ، وإنما راقنا البحث عمّا قيل في ذلك إصحارا بحقيقة راهنة ، ألا وهي إصفاق علماء الفريقين على صحة الحديث وتواتره ، ليعلم القارئ أنّ من يحيد عن تلكم الخطة شاذ عن الطريقة المثلى ، خارج تجاه ما اجتمعت عليه الأمة ، وهو يقول : إن الأمة لا تجتمع على خطأ وسنذكر هنا ثلة من محققي العامة ممن بخعوا لفضله وصحة سنده ومضمونه ، معتمدين على ما رواه المؤرخ الجليل العلّامة الحجة الأميني (قدس‌سره) (٢) ، فمن هؤلاء :

(١) الحافظ أبو عيسى الترمذي المتوفى ٢٧٩ ه‍ ، قال في صحيحه ج ٢ / ٢٩٨ بعد ذكر الحديث : هذا حديث حسن صحيح.

(٢) الحافظ أبو جعفر الطحاوي المتوفى ٢٧٩ ه‍ قال في «مشكل الآثار» ج ٢ / ٣٠٨ قال أبو جعفر : «... فهذا الحديث صحيح الإسناد ، ولا طعن لأحد في رواته ، وفيه : أن ذلك القول كان من رسول الله لعليّ بغدير خم في رجوعه من حجّه إلى المدينة لا في خروجه لحجه من المدينة.

__________________

(١) الغدير ج ١ / ١٥٥.

(٢) الغدير ج ١ / ٢٩٤ ـ ٣١٣.

٦٧٦

(٣) الفقيه أبو عبد الله المحامليّ البغداديّ المتوفى ٣٣٠ ه‍ صحّحه في أماليه.

(٤) أبو عبد الله الحاكم المتوفى ٤٠٥ ه‍ رواه بعدة طرق وصحّحها في المستدرك.

(٥) أبو محمّد أحمد بن محمّد العاصميّ ، قال في «زين الفتى» قال النبيّ : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، وهذا حديث تلقّته الأمة بالقبول ، وهو موافق بالأصول ، ثم رواه بطرق شتى.

(٦) الحافظ ابن عبد البر القرطبي المتوفى ٤٦٣ ه‍ قال في الاستيعاب ج ٢ / ٣٧٣ بعد ذكر حديث المواخاة وحديثي الراية والغدير : هذه كلها آثار ثابتة.

(٧) الفقيه أبو الحسن ابن المغازلي الشافعي المتوفى ٤٨٣ ه‍ قال في كتابه «المناقب» بعد روايته الحديث عن شيخه أبي القاسم الفضل بن محمد الأصبهاني ، قال أبو القاسم : هذا حديث صحيح عن رسول الله وقد رواه نحو مائة نفس منهم العشرة المبشّرة ، وهو حديث ثابت لا أعرف له علّة ، تفرّد عليّ بهذه الفضيلة لم يشركه فيها أحد.

(٨) أبو حامد الغزالي المتوفى ٥٠٥ ه‍ قال في «سر العالمين» ص ٩ : أسفرت الحجّة وجهها وأجمع الجماهير على متن الحديث من خطبته في يوم غدير خم باتفاق الجميع وهو يقول : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، فقال عمر : بخ بخ ...

(٩) الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي المتوفى ٥٩٧ ه‍ قال في «المناقب» : اتفق علماء السير على أن قصة الغدير كانت بعد رجوع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حجة الوداع في الثامن عشر من ذي الحجة وكان معه من الصحابة ومن الأعراب وممّن يسكن حوالي مكة والمدينة مائة وعشرون ألفا وهم الذين شهدوا معه حجة الوداع وسمعوا منه هذه المقالة ، وقد أكثر الشعراء في ذلك في تلك الحكاية.

(١٠) أبو المظفر سبط ابن الجوزي المتوفى ٦٥٤ ه‍ قال في تذكرته ص ٨ بعد ذكره الحديث مع صدره وذيله وتهنئة عمر بعدة طرق ؛ وكلّ هذه الروايات خرّجها

٦٧٧

أحمد بن حنبل في الفضائل بزيادات ، فإن قيل : فهذه الرواية التي فيها قول عمر : أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. ضعيفة ، فالجواب : إنّ هذه الرواية صحيحة ، وإنما الضعيف حديث رواه أبو بكر أحمد بن ثابت الخطيب عن عبد الله بن علي بن بشر عن علي بن عمر الدارقطني عن أبي نصر حبشون بن موسى بن أيوب الخلال يرفعه إلى أبي هريرة وقال في آخره : لمّا قال النبيّ : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، نزل قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ..) الآية ، قالوا : وقد انفرد بهذا الحديث حبشون ونحن نقول : نحن ما استدللنا بحديث حبشون بل بالحديث الذي رواه أحمد في الفضائل عن البراء بن عازب وإسناده صحيح ، إلى أن قال : اتفق علماء السير على أن قصة الغدير كانت بعد رجوع النبيّ من حجة الوداع في الثامن عشر من ذي الحجة ، جمع الصحابة وكانوا مائة وعشرين ألفا وقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه .. الحديث ، نصّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك بصريح العبارة دون التلويح والإشارة.

(١١) ابن أبي الحديد المعتزلي المتوفى ٦٥٥ ه‍ عدّه في شرح نهج البلاغة ج ٢ / ٤٤٩ من الأخبار العامة الشائعة من فضائل أمير المؤمنين.

(١٢) الحافظ أبو عبد الله الكنجي الشافعي المتوفى ٦٥٨ ه‍ قال في «كفاية الطالب» ص ١٥ بعد ذكر الحديث من طرق أحمد ، أقول : هكذا أخرجه في مسنده وناهيك به راويا بسند واحد وكيف وقد جمع طرقه هذا الإمام ، وقال بعد روايته من طرق الحافظ أبي عيسى الترمذي في جامعه ، وجمع الدارقطني الحافظ طرقه في جزء ، وجمع الحافظ ابن عقدة الكوفي كتابا مفردا فيه ، وروى أهل السير والتواريخ قصة غدير خم ، وذكره محدّث الشام في كتابه بطرق شتى عن غير واحد من الصحابة والتابعين ، أخبرني بذلك عاليا المشايخ ، وروى بإسناده ص ١٧ عن المحاملي ، ثم قال : قلت : هذا حديث مشهور حسن روته الثقات ، وانضمام هذه الأسانيد بعضها إلى بعض حجة في صحة النقل.

(١٣) الشيخ أبو المكارم علاء الدين السمناني المتوفى ٧٣٦ ه‍ قال في

٦٧٨

«العروة الوثقى» قال رسول الله لعليّ عليه‌السلام وسلام الملائكة الكرام : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ولكن لا نبيّ بعدي ، وقال في غدير خم بعد حجة الوداع على ملأ من المهاجرين والأنصار آخذا بكتفه : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وهذا حديث متفق على صحته ، فصار سيد الأولياء وكان قلبه على قلب محمّد عليه التحية والسلام ، وإلى هذا السر أشار صاحب غار النبيّ أبو بكر حين بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى عليّ لاستحضاره قال : يا أبا عبيدة أنت أمين هذه الأمة أبعثك إلى من هو في مرتبة من فقدناه بالأمس ينبغي أن تتكلم عنده بحسن الأدب.

(١٤) شمس الدين الذهبي الشافعي المتوفى ٧٤٨ ه‍ ، وقد أفرد كتابا في حديث الغدير ، وذكره بطرق شتى في تلخيص المستدرك وصحّح غير واحد منها.

(١٥) الحافظ عماد الدين ابن كثير الشافعي الدمشقي المتوفى ٧٧٤ ه‍ روى في تاريخه ج ٥ / ٢٠٩ عن سنن الحافظ النسائي عن محمد بن المثنى عن يحيى بن حمّاد عن أبي عوانة عن الأعمش «سليمان» عن حبيب بن ثابت عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم بلفظه المذكور بطريق النسائي ص ٣٠ ثم قال : تفرّد به النسائي من هذا الوجه ، قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي : وهذا حديث صحيح ، وروى حديث المناشدة في الرحبة وقال : هذا إسناد جيد ، ورواه بطرق أحمد عن زيد وقال : هذا إسناد جيد رجاله ثقات على شرط السنن ، وقد صحّح الترمذي بهذا السند حديثا في الريث ، ورواه بطريق ابن جرير الطبري عن سعد بن أبي وقاص وقال : قال شيخنا الذهبي : وهذا حديث حسن غريب (١) ، ورواه بطريق آخر عن جابر بن عبد الله وقال : قال شيخنا الذهبي : هذا حديث حسن.

ورواه بطرق أخرى ثم قال : قال الذهبي : وصدر الحديث متواتر أتيقن أن رسول الله قاله ، وأما : اللهم وال من والاه ، فزيادة قوية الإسناد.

__________________

(١) قال العلّامة الأميني في حاشية الغدير : لا أعرف للحديث غرابة إلا كونه في فضل أمير المؤمنين علي عليه‌السلام.

٦٧٩

(١٦) الحافظ نور الدين الهيثمي المتوفى ٨٠٧ ه‍ روى في مجمع الزوائد ٩ / ١٠٤ حديث الركبان المذكور من طريق أحمد والطبراني فقال رجال أحمد ثقات. وروى حديث المناشدة من طريق أحمد عن أبي الطفيل وقال : رجاله رجال الصحيح إلّا فطر وهو ثقة. ورواه من طريق أحمد الآخر عن سعيد بن وهب وقال : رجاله رجال الصحيح ، ورواه من طريق البزّار عن سعيد وزيد ثم قال : رجاله رجال الصحيح إلا فطر وهو ثقة ، ورواه من طريق أبي يعلى عن عبد الرحمن بن أبي يعلى ووثّق رجاله ، ورواه من طريق أحمد عن زياد بن أبي زياد ووثق رجاله ، ورواه عن حبشي بن جنادة من طريق الطبراني ووثق رجاله ، ورواه بطرق وأسانيد أخرى وصحّحها ووثق رجالها.

(١٧) شمس الدين الجزريّ الشافعيّ المتوفى ٨٣٣ ه‍ روى حديث الغدير بثمانين طريقا ، وأفرد في إثبات تواتره رسالته «أسنى المطالب» المطبوعة ، وقال بعد ذكر مناشدة أمير المؤمنين يوم الرحبة : هذا حديث حسن من هذا الوجه صحيح من وجوه كثيرة تواتر عن أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه ، وهو متواتر أيضا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رواه الجمّ الغفير عن الجم الغفير ، ولا عبرة بمن حاول تضعيفه ممن لا اطلاع له في هذا العلم ، فقد ورد مرفوعا عن أبي بكر ... وعمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، والعباس بن عبد المطلب ، وزيد بن أرقم ، والبراء بن عازب ، وبريدة بن الحصيب ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله ، وعبد الله بن عباس وحبشي بن جنادة ، وعبد الله بن مسعود ، وعمران بن حصين ، وعبد الله بن عمر ، وعمّار بن ياسر ، وأبي ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وأسعد بن زرارة ، وخزيمة بن ثابت ، وأبي أيوب الأنصاري وسهل بن حنيف ، وحذيفة بن اليمان ، وسمرة بن جندب ، وزيد بن ثابت ، وأنس بن مالك ، وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم ، وصحّ عن جماعة منهم ممن يحصل القطع بخبرهم ، وثبت أيضا أن هذا القول كان منهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم غدير خم كما

٦٨٠