أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

والجواب :

١ ـ لا يخفى أن ما ورد في الآيات من الأحكام ليست أحكاما خاصة بنساء النبيّ ، فالقرن في البيوت ، وحرمة التبرّج لغير الزوج وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والطاعة للرسول كلها أحكام عامة لنساء المسلمين ، فالله سبحانه عند ما خاطب نساء النبيّ قصدهنّ مع المسلمات ، فهو سبحانه يريد من خلال هذه التكاليف أن يطهّر الكل ، وإذهاب الرجس عن عموم النساء لا عن زوجات النبيّ خاصة ، وعندئذ لا وجه لتخصيصهنّ بالخطاب دون غيرهن.

٢ ـ يمكن الأخذ بالسياق إذا لم يكن هناك دليل خارجي ينفيه ، ولكن مع وجود الدليل الذي يثبت خلاف السياق فلا يمكن حينئذ جعله حجة في مقابل الأدلة والقرائن الخارجية المثبتة عكسه.

٣ ـ إن وحدة السياق تقتضي الاتحاد في تأنيث الضمائر ، وهذا لم يحصل في الآيات ، بل إن تعدد الخطاب بتأنيث الضمائر ثم تذكيرها ثم تأنيثها ينفي ما ادعاه المخالفون من نزولها في نساء النبيّ ، ولو كنّ المراد بالخطاب في الآية لكان الواجب تأنيث الضمائر في الآية الشريفة.

٤ ـ إن قوله تعالى (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ) يثبت العصمة للمصداق ، وهذه خير قرينة على أن المراد بأهل البيت ليس نساء النبيّ ، لأن أحدا لم يدّع العصمة لنساء النبيّ ، كما أن القرائن التاريخية أشارت صراحة إلى أن المعني بأهل البيت حصرا هم عترة النبيّ خاصة دون أزواجه.

٥ ـ أنه لا صلة لآية التطهير بما قبلها وما بعدها من الآيات ، بدليل أن الآية نزلت وحدها ولم يرد نزولها في ضمن آيات النساء ولو في رواية واحدة ، وقد ذكرنا سابقا أن المؤرخين من الفريقين متفقون على نزولها لوحدها في بيت أم سلمة.

* * * * *

٦٢١

المفردة الثانية : الرجس.

عرّف اللغويون «الرّجس» بالقذارة المادية والمعنوية.

قال صاحب المنجد :

الرّجس : الحركة الخفيفة ـ القذر ـ وسوسة الشيطان ـ العمل القبيح ـ العقاب على العمل القبيح (١).

وقال صاحب القاموس :

«الرّجس بالكسر : القذر ، ويحرّك ، وتفتح الراء وتكسر الجيم ، والمأثم ، وكل ما استقذر من العمل ، والعمل المؤدي إلى العذاب ، والشكل والعقاب والغضب ..» (٢).

وقال ابن فارس :

«الرّجس : القذر ، وقيل : الشيء القذر ، ورجس الشيء يرجس رجاسة ، وكلّ قذر رجس ، ورجل مرجوس ورجس : نجس ، ورجس أي نجس. ويعبر عن الرجس بالحرام والفعل القبيح والعذاب واللعنة والكفر ، والرجس في القرآن : العذاب ومنه قوله تعالى : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) ، ومن الرجس المأثم ، والرجس : الشك.

وقال الزجاج : الرجس في اللغة اسم لكل ما استقذر من عمل فبالغ الله تعالى في ذم هذه الأشياء وسماها رجسا : أي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام.

ورجس الرجل رجسا ، ورجس يرجس : إذا عمل عملا قبيحا. ورجس الشيطان وسوسته»(٣).

__________________

(١) المنجد الأبجدي ص ٤٧٦.

(٢) القاموس المحيط ج ٢ / ٣١٨.

(٣) لسان العرب ج ٦ / ٩٤.

٦٢٢

وقال الراغب الأصفهاني :

«الرّجس : الشيء القذر ، يقال رجل رجس ورجال أرجاس ، قال تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) والرّجس يكون على أربعة أوجه : إما من حيث الطبع ، وإما من جهة العقل ، وإما من جهة الشرع ، وإما من كل ذلك كالميتة ، فإنّ الميتة تعاف طبعا وعقلا وشرعا ، والرّجس من جهة الشرع الخمر والميسر ، وقيل إن ذلك رجس من جهة العقل ..» (١).

وقال الآلوسي في روح المعاني :

«والرّجس في الأصل الشيء القذر ... وقيل الذنب. وقال السدي : الإثم ، وقال الزجاج : الفسق ، وقال ابن زيد : الشيطان ، وقال الحسن : الشرك ، وقيل : الشك ، وقيل : البخل والطمع ، وقيل : الأهواء والبدع ، وقيل : إن الرجس يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسة وعلى النقائص ، والمراد به هنا ما يعم كل ذلك ..» (٢).

وقال الطباطبائي في ميزانه :

«والرّجس ـ بالكسر فالسكون ـ صفة من الرجاسة وهي القذارة ، والقذارة هيئة في الشيء توجب التجنب والتنفر منها ، وتكون بحسب ظاهر الشيء كرجاسة الخنزير ، قال تعالى : (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) وبحسب باطنه ـ وهو الرجاسة والقذارة المعنوية ـ كالشرك والكفر وأثر العمل السيئ ، قال تعالى (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) ..» (٣).

وقال في موضع آخر :

__________________

(١) مفردات القرآن ص ١٨٨.

(٢) تفسير روح المعاني ج ١٢ / ١٨.

(٣) تفسير الميزان ج ١٦ / ٣١٢.

٦٢٣

«الرّجس الشيء القذر على ما ذكره الراغب في مفرداته ، فالرجاسة بالفتح كالنجاسة ، والقذارة هو الوصف الذي يبتعد ويتنزّه عن الشيء بسببه لتنفر الطبع عنه» (١).

وعليه فيكون الرّجس على قسمين : مادي ومعنوي كما نصصنا عليك أقوال بعض اللغويين ، وقد استعمل القرآن العظيم «الرجس» بكلا معنييه حيث قسّمه إلى :

رجس معنوي : كما هو الحال في الكافر وعابد الوثن ، فالنجاسة الموجودة في الكافر نجاسة باطنية ، وبمجرد أن يعلن إسلامه يطهر باطنه ، وكذلك الأثر السيئ في نفس الإنسان فإنه رجس باطني لأنه من عمل الشيطان ويعبّر عنه بالرجس الباطني ، قال تعالى :

(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (٢).

(كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٣).

(قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) (٤).

ورجس مادي : كما هو الحال في الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير ، قال تعالى :

(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) (٥).

(إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) (٦).

__________________

(١) نفس المصدر ج ٦ / ١٢٠.

(٢) سورة التوبة : ١٢٥.

(٣) سورة الأنعام : ١٢٥.

(٤) سورة الأعراف : ٧١.

(٥) سورة المائدة : ٩٠.

(٦) سورة الأنعام : ١٤٥.

٦٢٤

من هنا فإنّ الرجس لا يختص بالأمور المادية الظاهرية بل يشمل حتى الأمور المعنوية الباطنية من الأعمال ، والأخلاق والسلوك والملكات والعقائد الباطلة ، بل حتى تعلق القلب وتوجه النفس.

فالقرآن الكريم يستخدم الرّجس في الدلالة على القذارة المادية كما يستعملها في الأمور المعنوية أيضا.

وقد وصف القرآن لحم الخنزير بأنه رجس أي قذر يجب التنزه عنه لقوله تعالى «فاجتنبوه» ولكونه من الآثام الظاهرة التي ردع عنها بقوله تعالى : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) (١). ولحم الخنزير من مصاديق ظاهر الإثم والرجاسة المادية ، وكذا وصفه للكفر ومرض القلب حيث عدّهما من مصاديق القذارة الباطنية والرجس.

وعلى هذا الأساس يتضح أن القرآن يستعمل الرّجس في الأمور المادية والمعنوية على حدّ سواء.

كما أن الرّجس في أصل اللغة موضوع للقذارة التي تستنفر منها الطباع والنفوس سواء كانت مادية أم معنوية.

وزبدة المخض :

أن الله سبحانه نفى عنهم عليهم‌السلام مطلق الرّجس بشتى أقسامه ؛ أما الرجس المعنوي من الشك والجهل بالموضوعات والأحكام وكذا النسيان والسهو ، والأثر السيئ ، كل ذلك منفي عنهم لأنه مما تستقبحه النفوس وتتنفر منه ، وهذا يضاد فائدة البعثة والدعوة إلى الله تعالى.

وأما الرّجس المادي كالبول والغائط والمني والدم هو أيضا منفي عنهم بالإرادة التكوينية ، بمعنى أن أثر النجاسة مرتفع عن كل هذه الأمور هذا على فرض

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٢٠.

٦٢٥

أنّهم يشاركون الناس فيها. مضافا إلى اللوازم التي لا تنفك عادة عن البشر كرائحة الإبطين والرجلين والفم ، فإنّ كلّ ذلك منفي عنهم أيضا.

فالعرف والشرع والعقل لا يفرق بين مصاديق الرّجس المادية والمعنوية فالرّجس قذر سواء أكان ماديا أم معنويا ، فلا فرق في الرّجس بين أن يكون دما أو منيا أو خمرا أو ميتة أو لحم خنزير وبين أن يكون جهلا أو نسيانا أو سهوا. فكل ذلك رجس منفي عن آل البيت عليهم‌السلام ، ويستدل على ذلك بالعموم أو الاطلاق في قوله «الرّجس» المحلّى بلام الجنس المفيدة لنفي الطبيعة بعامة مراتبها ، ولا يخرج عن هذا العموم أو الاطلاق إلا بدليل معتبر يخصص أو يقيد به الشيء المذكور(١).

فالرّجس في الآية المباركة عام يشمل القسمين : المادي والمعنوي ولا تخصيص ولا تقييد في كون الرجس هو خصوص الرّجس المعنوي دون المادي. وإذا دار الأمر بين العام والخاص أو بين المطلق والمقيد ـ كما هو محرر في علم الأصول ـ قدّم واعتبر العام أو المطلق دون الخاص أو المقيّد حتى يدل دليل على التخصيص وهو غير موجود في المقام.

وأما دعوى من استدل بقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) (٢) على نجاسة ما في باطن المعصوم عليهم‌السلام فغير تامة وذلك :

١ ـ لأن الآية في مورد رفع ما توهمه المشركون من كون النبيّ ملكا لا يأكل الطعام ولا يمشي في الأسواق ، فكانوا يتصورون أن الأنبياء آلهة.

٢ ـ صحيح أن البشر طبيعتهم الداخلية منطوية على وجود قذارة ، لكن هذا لا يمنع المعصوم أن يكون مميّزا عنهم بطبيعة معيّنة طاهرة ، وهذه الطبيعة الطاهرة لا تخرجه عن أصل البشرية ، وإلّا لأخرجت أهل الجنّة عن طبيعتهم البشرية حيث لا يغوّطون ولا يبولون من طريق الآلة المتعارفة ، بل ليس هناك بول أو غائط أو

__________________

(١) لاحظ تعليقتنا على مراجعات شرف الدين ص ١١٦ ط / الأعلمي.

(٢) سورة الكهف : ١١٠.

٦٢٦

مني في الجنّة ، ولو سلّمنا وجوده ـ كما في رواية ـ فإنه يختلف بطبيعته عن البول والغائط في الدنيا ، فقد ورد أنه مسك يخرج من مسامّ الجلد.

فإذا كان أهل الجنة بهذا المستوى من الطهارة ، فكيف بمن خلقت لهم الجنة كما هو صريح الأخبار المتواترة ، منها حديث الكساء؟

٣ ـ من لوازم البشرية أن تصدر من أفواههم الروائح الكريهة ، وينتشر من آباطهم وأرجلهم النّتن إلّا أن ذلك غير موجود في المعصوم كما ورد في مصادر الفريقين ، ومع هذا لم يقل أحد منهم بخروج المعصوم عن بشريته ، فالمعصوم من حيث الصورة بشر لكنه من حيث الجوهر يتميّز بمؤهلات وصفات تجعله في مصافّ الملائكة من حيث الجوهر والماهية بل أرقى من الملائكة ، من هنا أشار الإمام الهادي عليه‌السلام إلى هذه الميزة في الزيارة الجامعة بقوله : «وأجسادكم في الأجساد وأرواحكم في الأرواح ، وأنفسكم في النفوس وآثاركم في الآثار وقبوركم في القبور ..».

فلأجسادكم خصائص تكون بها ممتازة عن غيرها ، من جوهرها وقوتها فهي بحدّ ذاتها معجزة ، ففي حديث مناقب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وكان يشهد كل عضو منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على معجزة نوره ، كان إذا مشى في ليلة ظلماء بدا له نور كأنه قمر» ، قالت عائشة : فقدت إبرة ليلة ، فما كان في منزلي سراج ، فوجدت الإبرة بنور وجهه ، وعن حمزة بن عمر الأسلمي قال : نفرنا مع النبيّ في ليلة مظلمة فأضاءت أصابعه.

إلى أن قال :

ظله : لم يقع ظله على الأرض ، لأن الظل من الظلمة ، وكان إذا وقف في الشمس والقمر والمصباح ، نوره يغلب أنوارها.

قامته : كلما مشى مع أحد كان أطول منه برأس وإن كان طويلا .. إلى أن قال : عيناه ، كان يبصر من ورائه كما يبصر من أمامه ، ويرى من خلفه كما يرى من قدامه. وولد مسرورا أي مقطوع السرّة مختونا.

٦٢٧

وأما جلوسه : فقالت عائشة : قلت يا رسول الله إنك تدخل الخلاء فإذا خرجت دخلت على أثرك ، فما أرى شيئا إلّا أني أجد رائحة المسك ، فقال : «إنّا معاشر الأنبياء تنبت أجسادنا على أرواح الجنّة ، فما يخرج منه شيء إلا ابتلعته الأرض».

وأما فخذه : كان كل دابة ركبها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقيت على سنّها لا تهرم قط.

وأما مشيه : كان إذا مشى على الأرض السهلة لا يبين لقدميه أثر ، وإذا مشى على الصلبة بان أثرها (١).

هذا مضافا إلى المميزات الأخرى التي يتصف بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأن تنام عينه ولا ينام قلبه ، ويرى من خلفه كما يرى من أمامه ، مع أن هذه الأمور خلاف الطبيعة البشرية ، فاتصاف النبيّ والعترة بها لا يخرجهم عن الطبيعة البشرية لكونها مميزات إعجازية أصبغها المولى عزوجل على من فنى في العبودية واستغرق في الصفات الربوبية.

وبالجملة :

فالرّجس كما يطلق على القذارة المعنوية فإنه يصدق أيضا ويصح إطلاقه على القذارة المادية ، من هنا عرّفه اللغويون بهذين الأمرين ، كما أن الرّجس هو نفسه النجس كما تقدم.

قال الراغب الأصفهاني :

«النجاسة : القذارة وذلك ضربان :

ضرب يدرك بالحاسّة ، وضرب يدرك بالبصيرة» (٢).

وقال ابن منظور :

__________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب ج ١ / ١٢٣ باختصار وتصرف.

(٢) مفردات ألفاظ القرآن ص ٤٨٣.

٦٢٨

«النّجس والنّجس : القذر من الناس ومن كل شيء قذرته ، وقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) أي أنجاس أخباث وفي الحديث : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا دخل الخلاء قال : اللهم إني أعوذ بك من النّجس الرّجس الخبيث المخبث» (١).

فالرجس نقصان ، تارة يكون النقصان ماديا وأخرى معنويا ، فالنقصان المادي كقبح المنظر وعاهات الجوارح كحول العينين وقطع اليد والعرج والبرص والجذام وغيرها ، ونقصان الطبائع أو نجاسة ما يتأسس منه البدن.

والنقصان المعنوي كخفة في العقل وعدم العلم بالشيء كالجهل بشتى صوره سواء أكان جهلا بالموضوعات الصرفة أم بالتي لها علاقة بالأحكام الشرعية ، وكذا السهو والنسيان والغفلة والتفكر بالذنب وغيرها ، كل ذلك يعدّ رجسا نزههم عنه المولى عزوجل بإرادته التكوينية لكونهم أهلا لذلك لشدة قربهم منه عزوجل وسعة قابلياتهم.

ولا يخفى أن نجاسة الدم والبول والغائط والمنيّ كلها داخلة ومندرجة في «الرّجس المادي» المنفي عنهم صلوات الله عليهم لعموم إذهاب الرجس عنهم حيث لا تقييد له ولا تخصيص.

وتقييد الرجس بالمعنوي دون المادي يعتبر خروجا عن التقسيم القرآني للرّجس الشامل للمادي أيضا بل يعتبر تقييدا أو تخصيصا من دون دليل معتبر ، وعليه يكون بمثابة الاجتهاد في مقابل النص وهو محرّم قطعا.

فالرّجس ذو مراتب متعددة متفاوتة ، مادية ظاهرية ومعنوية باطنية ، يتصف به العمل كما يتصف به المتلبس بذلك العمل ، ويتعلق بالاعتقادات الباطلة كما يتعلق بالأخلاق والسلوك والملكات ، بل حتى بتعلق القلب وتوجه النفس.

وحيث إن ذيل الآية المباركة يشير إلى طهارة أصحابها بقوله تعالى : (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وهذه الطهارة تشمل كل المراتب الثابتة للرجس المنفي عنهم ،

__________________

(١) لسان العرب ج ٦ / ٢٢٦.

٦٢٩

يتوضح لدينا بحكم هذه الضدّية الواقعة بين الرّجس والطهارة نجد عين تلكم المراتب ثابتة للطهارة أيضا ، فهي تتعلق بالأمور المادية الظاهرية ، كما تتصف بها الأمور المعنوية الباطنية.

مثال الطهارة المادية قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) (١). ومن الواضح أن هذه الطهارة المكتسبة من الماء هي تلكم المادية الظاهرية ، وقال تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (٢) وهذه هي المرتبة الظاهرية من الطهارة ، ومثلها قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ) (٣).

ومثال الطهارة المعنوية قوله تعالى : (وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ) (٤) ، وقوله تعالى (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) (٥) وهذه الآية وسابقتها تحملان أيضا على الطهارة المادية كما ورد ذلك في التفسير (٦).

ومن الطهارة المعنوية قوله تعالى : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ* مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ* بِأَيْدِي سَفَرَةٍ)(٧).

وقوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) (٨).

وقوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ) (٩).

__________________

(١) سورة الأنفال : ١١.

(٢) سورة المائدة : ٦.

(٣) سورة البقرة : ٢٢٢.

(٤) سورة آل عمران : ٤٢.

(٥) سورة البقرة : ٢٥.

(٦) يلاحظ تفسير مجمع البيان.

(٧) سورة عبس : ١٣ ـ ١٥.

(٨) سورة المائدة : ٦.

(٩) سورة التوبة : ١٠٣.

٦٣٠

ومثال الطهارة المادية والمعنوية في آن واحد قوله تعالى : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا)(١) (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (٢).

وهكذا فإن هذه الآيات نظير آية التطهير القابلة للطهارتين المادية والمعنوية معا ، وذلك لأن الطهارة المادية في تلكم الآيات قد دلت القرائن عليها ، وكذا الطهارة المعنوية ، أما الطهارة المادية والمعنوية في آن واحد فحيث لا يوجد دليل أو قرينة صارفة للمعنى المادي أو المعنوي من معاني الطهارة بل نجد الطهارة قابلة للتفسيرين المادي والمعنوي ، لأنه ـ وبحسب القاعدة الأصولية ـ لو دار الأمر بين العام والمطلق من جهة وبين الخاص والمقيد من جهة أخرى ، قدّم العام والمطلق ، لأنه الأصل حتى يدل الدليل على التخصيص والتقييد.

ومعنى الطهارة في آية التطهير عام مطلق غير مقيّد ومخصص بالطهارة المادية دون المعنوية أو بالطهارة المعنوية دون المادية. بل كلا التفسيرين وارد وغير مستحيل ، ولا قرينة على التخصيص والتقييد ، فقوله سبحانه (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) أي أنه عزوجل طهركم بالطهارتين المادية والمعنوية.

ولا يخفى على متفقّه عدا عن فقيه أن نجاسة الدم والبول والغائط والمني مخالف للطهارة المادية وكذا المعنوية المرادة بالإرادة التكوينية من قبل الله عزوجل.

وزبدة المخض : أن آية التطهير تدل على الطهارة المطلقة بقسميها المادي والمعنوي من موقعين هما قوله تعالى : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) وقوله تعالى (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وعليه فإن آية التطهير كافية لوحدها بإثبات الطهارة المطلقة للنبيّ والعترة من دون استعانة بالأخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام وإن كانت بالإضافة للآية نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ، ومن هذه الأخبار :

__________________

(١) سورة التوبة : ١٠٨.

(٢) سورة التوبة : ١٠٨.

٦٣١

ما ورد بالمتواتر اللفظي والمعنوي من طرق العامة والخاصة عن النبيّ في حديث سدّ الأبواب إلا باب الإمام عليّ صلوات الله عليه ، فقد روى الحديث نحو ثلاثين رجلا من الصحابة منهم :

زيد بن أرقم وسعد بن أبي وقاص وأبو سعيد الخدري وأم سلمة وأبو رافع وأبو الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري وأبو حازم عن ابن عبّاس والعلاء عن ابن عمر وشعبة بن زيد بن علي عن أخيه الإمام الباقر عن جابر والإمام عليّ بن موسى الرضا عليهما‌السلام (١).

كل هؤلاء رووا عن الرسول الأكرم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه أمر بسدّ الأبواب إلّا باب الإمام عليّ وقال : «لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد إلّا أنا وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ومن كان من أهلي فإنهم مني» (٢).

وفي صحيح الترمذي بسنده عن أبي سعيد قال :

قال رسول الله ؛ يا عليّ لا يحل أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك (٣).

وفي سنن البيهقي بسنده عن أم سلمة قالت :

خرج علينا رسول الله فوجه هذا المسجد فقال : ألا لا يحل هذا المسجد لجنب ولا لحائض إلا لرسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، ألا قد بيّنت لكم الأسماء أن لا تضلوا (٤).

وفي فتح الباري في شرح البخاري بسنده من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأذن لأحد أن يمر في المسجد وهو جنب إلّا لعليّ بن أبي

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب (ع) ج ٢ / ٢١٦.

(٢) أمالي الشيخ الصدوق ص ٢٠١ عيون أخبار الرضا (ع) ص ٢٢١ وبحار الأنوار ج ٣٩ / ٢٠.

(٣) الفضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ٢ / ١٥٦ ، نقلا عن صحيح الترمذي ج ٢ / ٣٠٠.

(٤) الفضائل الخمسة ج ٢ / ١٥٦ ، نقلا عن سنن البيهقي ج ٧ / ٦٥.

٦٣٢

طالب لأن بيته كان في المسجد (١).

وفي مصادرنا أخبار كثيرة بهذا المعنى منها ما رواه الشيخ الصدوق في الأمالي بطرق متعددة أن النبيّ قال :

لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد إلّا أنا وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ومن كان من أهلي فإنهم مني (٢).

وبسنده عن أبي رافع قال : إن رسول الله خطب الناس فقال :

أيّها الناس إن الله عزوجل أمر موسى وهارون أن يبنيا لقومهما بمصر بيوتا وأمرهما أن لا يبيت في مسجدهما جنب ولا يقرب فيه النساء إلا هارون وذريته ، وإن عليّا مني بمنزلة هارون من موسى فلا يحل لأحد أن يقرب النساء في مسجدي ولا يبيت فيه جنب إلّا علي وذريته (٣) فمن ساءه ذلك فههنا ، وضرب بيده نحو الشام.

ومحل الشاهد في هذه الأخبار المرتبطة بتلك الحادثة التاريخية المشهورة هو حرمة الجنابة في مسجد النبيّ ومسجد الحرام في مكة ، بل حرمة المرور بهما إلا لمن استثناهم الرسول وهم عترته الطاهرة حيث أجاز لهم الرسول بأمر من ربّ العزة المرور والجنابة في هذين المسجدين.

ولا يوجد تفسير موضوعي واقعي لهذه الحادثة ولهذه الأخبار ولهذا الترخيص من الله سبحانه إلّا أن نعتقد بطهارتهم العامة حتى المادية منها ، وما الحكم بطهارة جنابتهم إلّا لأن الشيطان بعيد عن ساحتهم ، ولا فائدة أخرى من هذه الحادثة سوى إظهار عظمة أهل البيت عليهم‌السلام وأنهم أناس مطهّرون من النجاسة والخباثة الماديّتين.

__________________

(١) نفس المصدر ، نقلا عن فتح الباري ج ٨ / ١٦.

(٢) الأمالي ص ٢٠١ وعيون الأخبار ص ٢٢١.

(٣) علل الشرائع ج ١ / ٢٣٧ حديث ٢ باب ١٥٤ وروى مثله في نفس الباب بطرق متعددة.

٦٣٣

ـ ومن الأدلة على طهارتهم المطلقة ما ورد بالأخبار من طهارة دم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما حجمه بعض الصحابة وشرب دمه ، ومع ذلك لم ينكر رسول الله ذلك العمل ، بل على العكس ذكر قرينة تصرف الذهن لطهارة دمه صلوات الله عليه.

من هذه الأخبار :

١ ـ ما رواه أبو عتاب عبد الله بن بسطام بن سابور الزيّات وأخوه الحسين بن بسطام صاحبا كتاب طب الأئمة عليهم‌السلام عن محمد بن الحسين عن فضالة عن إسماعيل عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام عن أبيه الإمام أبي جعفر الباقر صلوات الله عليهما قال :

ما اشتكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعا قط إلّا كان مفزعه إلى الحجامة.

وقال أبو ظبية : حجمت رسول الله وأعطاني دينارا وشربت دمه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: أشربت؟ قلت : نعم ، قال : وما حملك على ذلك؟ قلت : أتبرك به.

قال : أخذت أمانا من الأوجاع والأسقام والفقر والفاقة ، والله ما تمسّك النار أبدا (١).

٢ ـ ما رواه الشيخ الصدوق بإسناده عن عمرو بن شمر عن جابر عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال :

احتجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حجمه مولى لبني بياضة وأعطاه الأجر ، ولو كان حراما ما أعطاه ، فلما فرغ قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أين الدم؟ قال : شربته يا رسول الله ، فقال : ما كان ينبغي لك أن تفعل وقد جعله الله عزوجل حجابا لك من النار فلا تعد (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٧ / ٣٣ ، نقلا عن طب الأئمة ص ٦٩. ملاحظة : ورد في المتن أبو ظبية وهو خطأ ، والأصح «أبو طيبة» بالطاء بحسب ما ورد في التراجم ، لاحظ الكنى والألقاب ج ١ / ١١٤ وأسد الغابة ج ٦ / ١٨٠ وبحار الأنوار ج ٢٢ / ٢٥١.

(٢) بحار الأنوار ج ١٦ / ٤٠٩ والفقيه ج ٣ / ١١٨ والتهذيب ج ٦ / ٣٠٨ ح ١٠١٠ والكافي ج ٥ / ١١٨ والاستبصار ج ٣ / ٨٨ وملاذ الأخيار ج ١٠ / ٣٢٨ ح ١٣١.

٦٣٤

٣ ـ ما رواه ابن شهرآشوب المازندراني قال :

واحتجم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرة فدفع الدم الخارج منه إلى ابي سعيد الخدريّ وقال : غيّبه ، فذهب فشاربه ، فقال : ما ذا صنعت به؟ قال : شربته ، قال : أولم أقل لك غيّبه؟ فقال : قد غيبته في وعاء حريز ، فقال : إياك وأن تعود لمثل هذا ، ثم اعلم أن الله قد حرّم على النار لحمك ودمك لمّا اختلط بدمي ولحمي ، واستهزأ به أربعون نفرا من المنافقين ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما إن الله يعذّبهم بالدم ، فلحقهم الرعاف الدائم ، وسيلان الدماء من أضراسهم ، فكان طعامهم يختلط بدمائهم ، فبقوا كذلك أربعين صباحا ، ثم هلكوا (١).

ومثله ما روي في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام (٢)

وخلاصة الأمر :

أن دلالة هذه الأخبار على طهارة دم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واضحة الدلالة حيث حكمت بطهارة دمه تخصيصا له عن نجاسة دم الإنسان وحرمة شربه بضرورة الكتاب والسنّة الشريفة والإجماع ، قال تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ) (٣).

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) (٤).

(إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) (٥).

وحرمة شرب الدم من الواضحات في الفقه التشريعي الإسلامي بحيث لا يخفى على أمثال أبي سعيد الخدري وأبي طيبة (٦) الحجّام ، هذا مضافا إلى وجود

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٦ / ٤٠٩ ، نقلا عن مناقب آل أبي طالب.

(٢) بحار الأنوار ج ١٧ / ٢٧٠ ، نقلا عن التفسير المذكور.

(٣) سورة البقرة : ١٧٣.

(٤) سورة المائدة : ٣.

(٥) سورة الأنعام : ١٤٥.

(٦) المشهور عن أبي طيبة أن مهنته كانت الحجامة ، فمن البعيد جدا دعوى جهله بحرمة شرب الدم.

٦٣٥

قرائن في هذه الأخبار تفيد طهارة دمه وحلية شربه لكنّ النهي فيها يحمل على التنزيه دفعا لمحذور الغلو وما شابه ذلك ، وإلا لو كان الشرب حراما لما كان أمانا من الأوجاع والأسقام والنار كما هو مفاد هذه الأخبار ، فكونه أمانا يدل بالدلالة الالتزامية على أنه طاهر وجائز الشرب للتشافي أو التبرك ، لا سيّما وأن الأخبار وردت في أنه عزوجل لم يجعل دواء في محرّم الشرب ، فإذا كان دم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دواء وشفاء من كل سقم فهو حينئذ غير محرّم الشرب ، كما أنه غير نجس قطعا لحرمة تناول النجس حتى لو كان ماء فتأمل.

من هذه الأخبار الدالة على عدم وجود دواء في حرام ما رواه ثقة الإسلام الشيخ الكليني (رضي الله عنه) عن الثقة الجليل الشيخ علي بن إبراهيم القمي (رضي الله عنه) عن أبيه الثقة إبراهيم بن هاشم القمي عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة قال :

كتبت إلى الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام أسأله عن الرجل يبعث له الدواء من ريح البواسير فيشربه بقدر اسكرجة من نبيذ صلب ، ليس يريد به اللذة وإنما يريد به الدواء؟

فقال صلوات الله عليه :

لا ولا جرعة ، ثم قال : إن الله عزوجل لم يجعل في شيء مما حرّم شفاء ولا دواء (١).

ومنها ما ورد عن معاوية بن عمّار قال : سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام عن دواء عجن بالخمر نكتحل منها؟

فقال الإمام أبو عبد الله عليه‌السلام : ما جعل الله عزوجل فيما حرّم شفاء (٢).

وعليه : فلا دواء فيما حرّم الله عزوجل تناوله كالدم مثلا ، هذا مضافا إلى أن

__________________

(١) فروع الكافي ج ٦ / ٤١٣ ح ٢ وبحار الأنوار ج ٥٩ / ٨٦ ح ١٠ وفيه «ينعت له الدواء».

(٢) فروع الكافي ج ٦ / ٤١٤ ح ٦ وبحار الأنوار ج ٥٩ / ٩٠.

٦٣٦

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقر كون دمه شفاء من الأوجاع والأسقام ، فلا يحرم شربه حينئذ لكونه دواء بشهادة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

إشكال :

مفاده : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى أبا سعيد الخدري ومولى بني بياضة عن معاودة شرب الدم ، ونهيه وتوبيخه حينئذ يحملان على عدم رضاه بهذا العمل فيكون الشرب حراما.

والجواب :

إن قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ما كان ينبغي أن تفعله» «وإياك أن تعود لمثل هذا» لا دلالة فيهما على الحرمة لوجود قرائن في ذيل هذه الأخبار مثل قوله «إنه أمان من الأوجاع والأسقام والفقر والفاقة» «وأن شاربه لا تمسّه النار» فإن تعابير كهذه تصرف النهي عن الحرمة المولوية إلى النهي الإرشادي لمصلحة لا نحيط بكنهها علما ، وقد تكون لدفع فتنة المنافقين المنكرين لطهارة رسول الله واستهزائهم به.

إذن دم المعصوم وكل ما يتعلق به طاهر مطهّر ، ويستدل على ذلك تأكيدا لما سبق :

أن أم أيمن إحدى موالي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شربت بوله ولم ينهها عن ذلك بل أقرّ لها عملها وقال لها : «إذن لا تلج النار بطنك» (١).

وقد استدل إمام الشافعية برواية أم أيمن على طهارة بول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والغريب العجيب أن الشيخ المحقّق محمّد حسن النجفي صاحب الجواهر (قدس‌سره) يرى نجاسة بول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حين لم يذكر الدليل على مدّعاه ، وبغض النظر عن رواية أم أيمن فإن آية التطهير كافية في إثبات مطلوبنا.

ومن الأدلة على طهارة المعصوم عليه‌السلام

__________________

(١) جواهر الكلام ج ٥ / ٢٧٣ ، نقلا عن شرح الشفا للخفاجي ج ١ / ٣٦٢.

٦٣٧

ما ورد من أن جسد الرسول طاهر حين الموت : فقد روى شيخ الطائفة الطوسي (قدس‌سره) بسنده عن الشيخ محمد بن الحسن الصفّار رضي الله عنه عن محمد بن عيسى عن القاسم بن الصيقل قال : كتبت إليه : جعلت فداك هل اغتسل أمير المؤمنين عليه‌السلام حين غسّل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند موته؟

فأجابه :

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طاهر مطهّر ولكنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام فعل وجرت به السنّة (١).

وفي الحديث عدة دلالات :

الأولى : كونه يشير إلى طهارة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالطهارة العامة المطلقة (طاهر مطهر) من كل رجس مادي ومعنوي ، فلا تخصيص في الحديث الشريف ولا تقييد.

الثانية : لم يكن غسل المس واجبا على أمير المؤمنين عليه‌السلام وذلك لطهارة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثالثة : إن مسألة طهارة كل ما يتعلق بالمعصوم عليه‌السلام ليست جديدة على الساحة الدينية بل كانت مثارة في عصر أئمتنا عليهم‌السلام وكان جوابهم إيجابيا وهو الطهارة المطلقة.

وعليه فقد أفتى عامة فقهاء الإمامية بطهارة جثة المعصوم عليه‌السلام وإني لأعجب ممن أفتى بنجاسة بول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم في نفس الوقت أفتى بطهارة جثته عند الموت ، فها هو صاحب الجواهر (قدس‌سره) يفتي بطهارة جثة النبيّ اعتمادا على الحديث المتقدم من أنه صلوات الله عليه وآله (طاهر مطهر) قال عليه الرحمة :

«وكيف كان فينبغي استثناء المعصوم عليه‌السلام والشهيد ـ أي استثناؤهما من وجوب غسلهما ومن مسهما ـ للأصل المقرر بوجوه ، ولما ورد في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه

__________________

(١) تهذيب الأحكام ج ١ / ١٤٩ ح ٢٨١ ووسائل الشيعة ج ٢ / ٩٢٨ ح ٧.

٦٣٨

طاهر مطهر ، كالزهراء البتول عليها‌السلام ، ويتم في غيرهما من المعصومين بعدم القول بالفصل ، وبالقطع بالاشتراك في علة ذلك ، ولظهور ما دل على سقوط الغسل للشهيد بعدم نجاسته بهذا الموت إكراما وتعظيما له من الله تعالى شأنه ، بل لم يجعله عزوجل موتا ، فقال عزّ من قائل : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١).

ثم قال : والمكاتبة الأولى ـ أي رواية الحسن بن عبيد المتقدمة ـ مشعرة بانتفاء غسل المس لانتفاء النجاسة في خصوص موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحوه ..» (٢).

ليت شعري كيف يمكن الحكم بطهارة جثة المعصوم والشهيد ولا يمكن الحكم بطهارة دم وبول الرسول على فرض (٣) وجود بول وغائط للمعصوم؟! وإذا كان الحكم بطهارة جثة من ذكر تعبدا لورود الأدلة فليكن الحكم بطهارة دمه وبوله وما شابههما كذلك لورود المطلقات كآية التطهير وبعض الأخبار منها الخبر المتقدم وغيره.

إذن فالمعصوم عليه‌السلام لا ينجس بالموت كباقي الناس فلا يجب الغسل على من مسه بعد موته ، بل يمكن القول بعدم وجوب غسل الميت عليه صلوات الله عليه وآله.

نعم كل من غسله أو اغتسل من مسه إنما كان من أجل تركيز الأحكام الشرعية في أذهان العامة.

ومن الأخبار الدالة على الطهارة :

ما ورد من أن الصدّيقة الطاهرة لا تحيض ، فعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّما سمّيت

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٦٩.

(٢) جواهر الكلام ج ٥ / ٣٠٧ وص ٣١٠.

(٣) لا تستغرب ـ أخي القارئ ـ هذه الفرضية ، فإنّ أهل الجنّة لا بول لهم ولا غائط حسبما جاء في الأخبار المتضافرة.

٦٣٩

فاطمة «البتول» لأنها تبتلت من الحيض والنفاس (١).

وبتعبير آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إن ابنتي فاطمة حوراء لم تحض ولم تطمث (٢).

ولا يخفى أن الحيض أحد أنواع النجاسة المادية التي نزّه الباري سبحانه وتعالى عنها الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام فهي طاهرة مطهّرة بالطهارة المطلقة لفقدان المخصّص والمقيد ، وكذا النبيّ الأكرم من باب أولى وبقية المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.

إشكال :

قد يقال : إن نفي الحيض عن الصدّيقة الطاهرة ليس ملازما لطهارتها العامة المطلقة ، فكيف ادعيتم طهارتها من كل شيء؟

والجواب :

إن قيد «لا تحيض» في الحديث الشريف قيد مثال لا حصر ، فعدم حيضها هو أحد أبرز مصاديق طهارتها عليها‌السلام من كل رجس ، المنفي عنها ـ أي الرّجس ـ بآية التطهير.

ومن الأخبار الدالة على الطهارة أيضا قوله عليه‌السلام في زيارة الإمام الحسين عليه‌السلام :

(أشهد أنك كنت نورا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها) (٣).

وقد رويت هذه الزيارة المقدّسة بأسانيد معتبرة وصحيحة وفوق حدّ

__________________

(١) ينابيع المودة ص ٢٦٠ وإحقاق الحق ج ١٠ / ٢٥.

(٢) ذخائر العقبى ص ٢٦ وتاريخ بغداد ج ١٢ / ٣٣١ وكنز العمال ج ١٢ / ١٠٩.

(٣) بحار الأنوار ج ٩٨ / ٣٣٢ ، نقلا عن التهذيب ومصباح الزائر والإقبال ومزار الشهيد والمفيد وكامل الزيارات ص ٤٠٣.

٦٤٠