أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

مع دفعه لما هو المرتكز في عقول المسلمين لإشارة إلى بغضه وحقده على آل البيت عليهم‌السلام.

الوجه الثاني :

وجود بعض النصوص الدالة بظاهرها على شمولية مفهوم أهل البيت لغير الإمام عليّ والصدّيقة الطاهرة وولديهما الإمامين الحسن والحسين عليهم‌السلام ، أمثال ما روي عن واثلة بن الأسقع قال : أتيت منزل عليّ بن أبي طالب أريده ، فقالت فاطمة : ذهب يأتي رسول الله ، فأقبل النبيّ فدخلا البيت ودخلت معهم ، فجلس النبيّ على الفراش ، وجلس عليّ عن يمينه وفاطمة عن يساره والحسن والحسين بين يديه ، ثم أخذ ثوبا فبسط عليهم ثم قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) ثم قال : اللهم هؤلاء أهلي ، اللهم هؤلاء أهلي ، قال واثلة : قلت يا رسول الله أنا من أهلك؟

قال : وأنت من أهلي ، قال : فإنه لمن أرجا ما ارتجي (١).

وفي خبر كلثوم بن زياد عن أبي عمّار عن واثلة بن الأسقع نفس ألفاظ الخبر المتقدم لكن بزيادة : «فو الله إنها لأوثق علمي عندي» (٢).

هذه النصوص وأمثالها (٣) كافية للتدليل على شمول آية التطهير لغير أهل البيت ، فانحصار مفهوم أهل البيت بأهل الكساء الخمسة مخالف لهذه الاطلاقات الروائية.

ويرد على هذا الوجه :

أولا : أن الأخبار المذكورة في ذلك لا يصل مجموعها إلى عشر روايات ،

__________________

(١) شواهد التنزيل ج ٢ / ٤٥ ح ٦٩١ وح ٦٨٦.

(٢) نفس المصدر ج ٢ / ٤٦ ح ٦٩٣.

(٣) كرواية عبد الله بن وهب ورواية عطاء بن يسار أن النبي قال لأم سلمة حين سألته هل هي من أهل البيت؟ فأجابها : بلى إن شاء الله. لاحظ شواهد التنزيل ج ٢ / ٦١ ـ ٦٢ ح ٧١٨ و ٧١٩.

٦٠١

ولا يمكنها مقاومة ما تجاوز المائة وأربعين خبرا فيه الصحيح والموثّق والحسن ، فعلى الرغم من قلة تلك الأخبار فإنها أخبار آحاد ضعيفة الأسانيد لا يصح الاحتجاج بها ، ولا تنهض بمعارضة المتواترات من الأخبار.

ثانيا : إن مفهوم أهل البيت عام له مصاديق متعددة كالزوجة والولد والقرابة إلّا أن القرائن دلت على أنهم صنف خاص وهم من أشار إليهم الرسول محمّد وكان معهم تحت الكساء ، هذا مضافا إلى أن أم سلمة ـ في نصوص متواترة ـ حاولت أن تدخل تحت الكساء ليشملها مصطلح أهل البيت ، لكنّ النبيّ منعها وردها بإرفاق «إنك لست من أهل البيت الذين طهرهم الله تطهيرا» بل أنت من نساء النبي المؤمنات الصالحات اللاتي لم يبلغن درجة العصمة المطلقة.

وبعبارة أخرى : إن الأخبار المتواترة ـ والتي دلت على أن أهل بيته هم من كانوا تحت الكساء ـ مخصصة لعموم أهل البيت ، وعليه فلا يدخل في مفهوم أهل البيت أحد من أزواجه.

فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد المعنى الاصطلاحي لا المعنى اللغوي العام ، لذا قال الآلوسي وهو أحد كبار علماء العامة :

«وأخبار إدخاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا وفاطمة وابنيهما رضي الله تعالى عنهم تحت الكساء ، وقوله عليه الصلاة والسلام : اللهم هؤلاء أهل بيتي ودعائه لهم وعدم إدخال أم سلمة أكثر من أن تحصى ، وهي مخصصة لعموم أهل البيت بأي معنى كان البيت ، فالمراد بهم من شملهم الكساء ولا يدخل فيهم أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

ثالثا : لا يبعد دعوى التبادر من كلمة «أهل» إلى خصوص من كانت له بالشخص وشائج قربى ثابتة غير قابلة للزوال ، والزوجة وإن كانت قريبة من الزوج ، إلا أن وشائجها القريبة قابلة للزوال بالطلاق وشبهه ، ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم قال : قام رسول الله يوما فينا خطيبا بماء يدعى خمّا بين

__________________

(١) تفسير روح المعاني ج ١٢ / ٢١. سورة الأحزاب.

٦٠٢

مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر ثم قال : أما بعد ، ألا أيّها الناس! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ثم قال : «وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي» فقال له حصين : من أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟

قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده وهم آل علي (١).

وفي حديث آخر عن زيد بن أرقم أيضا قال السائل وهو ابن مسروق : من أهل بيته؟ نساؤه؟

قال : لا ، وايم الله! إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده (٢).

وعليه فإن لفظة «الأهل» عند الإطلاق ، يتبادر منها أهل القربى النسبيين ، ولا تطلق في ألسنة العرب على الأزواج إلّا بضرب من التجوّز.

رابعا : إن دعوى نزولها في نساء النبيّ شرف لم تدعه لنفسها واحدة من النساء ، لا سيّما عائشة صاحبة الجمل حيث كان من المناسب أن تدّعيه لنفسها في أيام عصيبة عليها عند ما جاشت الحرب بينها وبين أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، بل صرحت غير واحدة منهنّ بنزولها في النبي والأولياء الأربعة : عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام.

وفي نصوص قالت أم سلمة : ألست يا رسول الله من أهل البيت؟ قال : أنت

__________________

(١) صحيح مسلم ج ١٥ / ١٤٦ ح ٢٤٠٨.

(٢) صحيح مسلم ج ١٥ / ١٤٧ ح ٣٧ وتفسير روح المعاني ج ١٢ / ٢٠ سورة الأحزاب.

٦٠٣

إلى خير (١) ، وفي بعضها أن النبيّ قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامّتي فأذهب عنهم الرجس ، فقالت أم سلمة : وأنا معهم؟ فقال : أنت زوج النبيّ وأنت على خير (٢).

وبالجملة : لا ريب بأن الآية الكريمة مختصة بالخمسة الأطهار ولا تشمل الأزواج ، كما لا تشمل بقية أقارب النبيّ لاختصاص أخبار النزول بالخمسة الأطهار ، ولكون غيرهم غير مطهرين من الرجس.

ولا يعارض تلك الأخبار ما رواه ابن حجر (٣) «من أن المراد من أهل البيت في الآية جميع بني هاشم ويؤيده الحديث الحسن أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اشتمل على العباس وبنيه بملاءة ثم قال : يا رب هذا عمي وصنو أبي وهؤلاء أهل بيتي فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه فأمّنت أسكفة الباب وحوائط البيت فقال آمين وهي ثلاثا».

وذلك لأن هذا الحديث لا يدل على نزول الآية بالعباس وبنيه وإنما تدل على صدق أهل البيت عليهم فقط ، على أنه ضعيف السند واضح الكذب ، ظاهر التصنع رعاية لملوك العباسيين وإلا فما هذا الاهتمام بالعباس وبنيه حتى تؤمّن أسكفة الباب وحيطان البيت ثلاثا مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبهذا يندفع أيضا ما رواه ابن حجر (٤) من أن النبيّ ضم إلى هؤلاء الأربعة بقية بناته وأقاربه وأزواجه ، وأثر الوضع على هذه الرواية ظاهر ، فإنّا لم نعهد وجود كساء يسع مقدار بني هاشم وأزواج النبي الذين يبلغ عددهم في ذلك الوقت تقريبا مائة نفس صغيرا وكبيرا ، ولو وجد فما حاجة النبي إلى اقتناء مثله ، ولو كان مع الخمسة الأطهار غيرهم لاشتهر وذاع وافتخر به مفتخرهم لأنه مما يتنافس به المتنافسون ، أترى أن حفصة تترك ذكره ،

__________________

(١) شواهد التنزيل ج ٢ / ٦٤ ح ٧٢٤.

(٢) شواهد التنزيل ج ٢ / ٧١ ح ٧٣٧.

(٣) الصواعق المحرقة ص ١٤٤ الفصل الأول : الآيات النازلة في أهل البيت.

(٤) الصواعق المحرقة ص ١٤٤.

٦٠٤

وعائشة ترويه للخمسة وتدع نفسها ، وهل يغفل حسّاد أمير المؤمنين عليه‌السلام عنه ، هذا كله مع الإعراض عمّا في سند الحديث ومعارضته بتلك الأخبار المتواترة (١).

خامسا : إن رواية واثلة بن الأسقع المتقدمة ـ التي نسبته إلى أهل البيت ـ فهي بالإضافة إلى ضعف سندها معارضة برواية أخرى (٢) عن واثلة نفسه الدالة على خروجه من مفهوم أهل البيت النبوي وهي أشهر وأصح مع اعتضادها بالأخبار المتواترة.

الوجه الثالث :

وحدة سياق الآيات المتقدمة والمتأخرة عن آية التطهير ، وهي أهم ما ذكر للاستدلال على شمول آية التطهير لنساء النبيّ ، فالآيات بدأت بخطاب الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمره بتخيير أزواجه بين الدنيا والآخرة (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) (٣).

ثم يتحوّل الخطاب إلى أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وعظهنّ وإرشادهن وبيان اختلافهن عن جميع نساء الأمة وأن الحسنة مضاعفة لهنّ كالسيئة ، وفي ضمن ذلك تأتي آية التطهير كواحدة من الآيات الشارحة لمكانة أمهات المؤمنين.

ودلالة وحدة السياق ـ بنظر العامة ـ كافية لتعيين المراد من أهل البيت في الآية ، وشمولها لنساء النبي على أقل تقدير.

يورد عليه :

١ ـ أن دعوى وحدة السياق لو تمت لما كانت أكثر من كونها اجتهادا في مقابل النص ، فالنصوص التي فسرت أهل البيت بالعترة الطاهرة تفوق حد التواتر بمرات ، كافية لرفع اليد عن كل اجتهاد جاء على خلافها ، على أن وحدة السياق في

__________________

(١) دلائل الصدق ج ٢ / ٧٣.

(٢) شواهد التنزيل ج ٢ / ٤٢ ح ٦٨٩.

(٣) سورة الأحزاب : ٢٨.

٦٠٥

نفسها غير تامة ، لأن من شرائط التمسك بوحدة السياق أن يعلم وحدة الكلام ليكون بعضه قرينة على المراد من البعض الآخر ، ومع احتمال التعدد في الكلام لا مجال للتمسك بها بحال.

وآيات الكتاب العزيز أيضا كذلك ، لا يصح التمسك بها بوحدة السياق ليكون بعضها قرينة على المراد من البعض الآخر ، إلّا بعد إثبات نزولها دفعة واحدة ، وفي مناسبة واحدة.

ومن الواضح أن نظم الآيات في القرآن الكريم لم يكن على أساس من التسلسل الزمني ، فربّ آية مدنية وضعت بين آيات مكية ، وبالعكس ، فضلا عن إثبات أن الآيات المتسلسلة كان نزولها دفعة واحدة.

وعلى هذا الأساس فوقوع آية التطهير ضمن ما نزل في نساء النبي ، لا يدل على نزولها مع تلك الآيات ، ليتمسّك بوحدة السياق في تعيين المراد منها ، ومن العسير جدا إثبات وحدة النزول لهذه الآيات الكريمة ، ومن ضمنها آية التطهير ، بل النصوص المتقدمة المتواترة مضمونا ، لتعدد رواتها في جميع الطبقات ، كافية لنفي هذا الاحتمال ، وهي صريحة بنزولها ـ أي آية التطهير ـ مستقلة عن ما سبقها ولحقها من الآيات.

٢ ـ إن تذكير الضمائر الواردة في الآيات المرتبطة بالنساء مؤنثة ، سواء منها ما جاء قبل آية التطهير كقوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ ... وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ ... يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ ... إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ... وَقُلْنَ ... وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ ... وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ) ثم تأتي آية التطهير بالضمائر المذكرة (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وتأتي بعدها الآية المباركة (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً).

هذا مضافا إلى اختلاف لحن الخطاب فيها عن المقطع المرتبط ب (أهل البيت) فإن المقاطع الأولى تصرح بأن بلوغ نساء النبيّ لمرتبة الأجر المضاعف أو

٦٠٦

نيل العقوبة كذلك منوط بهنّ وبإرادتهنّ الخاصة ، كقوله تعالى (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا .. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ .. مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ ..) وهكذا البواقي ، وهذا بخلاف المقطع المرتبط بأهل البيت فإنه يحكي تعلق الإرادة الإلهية ، لا إرادتهم بإذهاب الرجس وتطهيرهم تطهيرا عظيما.

وكيف يمكن لإرادة الله تعالى المحتومة أن تتعلق بنزاهة أزواج النبيّ وطهارتهنّ من الخبائث والأرجاس ، والآيات السابقة يلوح منها احتمال انصرافهنّ إلى الدنيا ، وسقوطهنّ في حبائلها وزينتها؟! ومن الواضح عدم انسجامه مع الإرادة الحتمية بالطهارة.

كل هذا يقرّب ما قلنا من أن آية التطهير منفردة في النزول والموضوع ، بل لو ثبت نزولها مع الآيات الأخرى فإنها تختلف عنها في شأن النزول ، إذ إن وحدة السياق تقتضي الاتحاد في نوع الضمائر ، ومقتضى التسلسل الطبيعي أن تكون الآية هكذا : إنما يريد الله ليذهب عنكنّ الرجس أهل البيت ويطهركن تطهيرا ، لا «عنكم» ولا «تطهيركم».

٣ ـ إن أكثر الروايات دلت على أن آية التطهير نزلت في بيت أم سلمة ، حيث نزلت منفردة كما توحي به مختلف الأجواء التي رسمتها رواياتها لما أحاط بها جمع أهل البيت وإدخالهم في الكساء ومنعها من مشاركتهم في الدخول ، إلى ما هنالك.

وعليه لا نسلّم بنزول الآية بنساء النبي ولا أنها مرتبطة بما قبلها وما بعدها من الآيات ، بل هي آية مستقلة لا ربط لها بأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما وقعت في ثنايا الآيات المربوطة بآيات الأزواج لمصلحة كان صاحب الشريعة أعرف بها ، هذا بناء على الرأي القائل أن ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنما كان بوحي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث كان يقول : ضعوا آية كذا في موضع كذا (١).

__________________

(١) لاحظ الاتقان للسيوطي ج ١ / ١٧٦.

٦٠٧

وأما بناء على الرأي الآخر القائل بأن الآيات بهذا الترتيب الموجود بين أيدينا لم يكن بأمر النبي وإنما حصل عند التأليف بعد وفاة الرسول الأكرم فالأمر واضح حينئذ لا يحتاج إلى تعمق في الاستدلال حيث إنّ يد الدّس هي الأساس في وضع آية التطهير ضمن آيات الأزواج لصرف دلالة الآية عن مغزاها الحقيقي.

وآية التطهير الموضوعة ضمن آيات الأزواج هي تماما كآية الإكمال الموضوعة ضمن آيتي (١) تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وحلية هذه الأمور عند الاضطرار.

ولو سلّمنا بالرأي الأول فلا بدّ من توجيه الأمر إلى ما يناسب وضع الآية ضمن آيات الأزواج ، لذا ذكرت وجوه لذلك منها :

١ ـ أن يكون اختلاف آية التطهير مع ما قبلها على طريق الالتفات من الأزواج إلى النبي وأهل بيته ، بمعنى أن تأديب الأزواج وترغيبهنّ إلى الصلاح والسداد يكون أبلغ وآكد من حيث انتسابهنّ إلى أهل بيت الطهارة والعصمة ، وأن هذا النوع من الانتساب لا يضفي على الإنسان أي تمييز أو كرامة ما لم يقترن بالتقوى والإحسان كما قال تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ) وهذه التكاليف الموجّهة إليهن وإن كانت مشتركة بين جميع المكلفين إلّا أنها مؤكّدة بالنسبة إليهنّ ، فيجب عليهن أن يبالغن في امتثال أحكام الله تعالى ، ويحتطن في دين الله أكثر من سائر النساء ، لأنهنّ في بيت أذهب الله الرجس عن أهله وطهرهم تطهيرا ، لأن من اللائق أن يكون المنسوب إلى المعصوم عفيفا صالحا كما قال تعالى (وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) (٢).

وعليه فإن الله أمرهنّ ونهاهنّ وأدبهنّ إكراما لأهل البيت ، وتنزيها لهم عن أن تنالهم بسببهنّ وصمة ، وصونا لهم عن أن يلحقهم من أجلهنّ عيب ، ورفعا لهم عن

__________________

(١) لاحظ الآيات في سورة المائدة.

(٢) سورة النور : ٢٦.

٦٠٨

أن يتصل بهم أهل المعاصي ، ولذا استهلّ سبحانه الآيات بقوله (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) ضرورة أن هذا التمييز إنما هو للاتصال بالنبيّ وآله لا لذواتهنّ ، فهنّ في محل وأهل البيت في محل آخر ، فليست الآية الكريمة إلا كقول القائل : يا زوجة فلان لست كأزواج سائر الناس فتعففي وتستري وأطيعي الله تعالى ، إنّما زوجك من بيت أطهار يريد الله حفظهم من الأدناس وصونهم من النقائص (١).

٢ ـ إن الانتقال من خطاب النساء إلى أهل البيت مما اقتضته فصاحة القرآن الذي جرى على عرف عادة الفصحاء حيث يذهبون من خطاب إلى غيره ثم يعودون إليه ، وهكذا جرى القرآن على عادتهم فكان خطابه للنساء ثم لآل البيت ثم رجع بالخطاب إلى نساء النبيّ (٢).

فكأنّ موقع آية التطهير للتدليل على أن أسرة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منقسمة إلى قسمين :

قسم يراد منه الامتثال المؤكّد لأحكام الله تعالى ، والتأدب بالأخلاق والفضائل والمزايا الحميدة وما إلى ذلك ، لا لأجل ذواتهم ، بل لاتصالهم وانتسابهم بمن هو مثل رسول الله المنزّه عن كل وصمة أو عيب ، وهؤلاء هم الذين سمّاهم القرآن الكريم بنساء النبي ولم يضف حتّى بيوتهنّ إلى الرسول الأكرم بل أضافه إليهنّ بقوله (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَ) ولم يكن في جميع هذه الآيات المباركة أيّ تدليل على الاصطفاء أو التمييز أو الكرامة الخاصة على الله تعالى.

وقسم آخر من أسرة الرسول الكريم اصطفاهم الله تعالى وأراد لهم ـ بإرادته المحتومة ـ الطهارة من كل رجس ، والعصمة بأسمى معانيها ، وهؤلاء هم الذين ورد التعبير عنهم ب (أهل البيت) من دون وصف للبيت ولا إضافة ، كأنما هذا البيت

__________________

(١) دلائل الصدق ج ٢ / ٧٢ وإحقاق الحق ج ٢ / ٥٧٠.

(٢) مجمع البيان ج ٨ / ١٢٠.

٦٠٩

هو البيت الواحد في هذا العالم المستحق لهذه الصفة ، فإذا قيل (البيت) فقد عرّف وحدّد كما قيل عن الكعبة (بيت الله) فسميت بالبيت والبيت الحرام.

وأهل هذا البيت الجليل هم الخمسة الذين ضمهم الكساء وعلى رأسهم صاحب البيت محمّد رسول الله.

ومن هنا فقد جاءت آية التطهير بمثابة الجملة الاعتراضية ، لتبيّن الفوارق بين القسمين من أسرة النبيّ لئلا يتوهم أحد أن جميع أفراد الأسرة على نسيج واحد وشاكلة واحدة ، فلم يتوجه خطاب الوعد والوعيد والتحذير من السقوط في مهاوي الدنيا وما إلى ذلك إليهم جميعا ، بل لقسم واحد منهم وهو (نساء النبيّ) ، وأما القسم الآخر فقد اصطفاهم الله تعالى وأكرمهم بإذهابه الرجس عنهم وتطهيرهم تطهيرا.

والحق أن يقال : إن هذه التأويلات وإن كانت حقا لا نزيغ عنه إلا أنها ليست إلا مجرد دفاع عن وحدة السياق الذي نقطع بعدم حجيته ـ كما قطع بذلك من تأوّل هذه التأويلات ـ ما دامت الآية الشريفة تتناول عصمة جماعة معينين سواء اخترنا الوجه الأول والثاني أم لا ، وهؤلاء الذين تقصدهم الآية هم أهل الكساء الذي حرص النبيّ الأعظم على عدم مشاركة الغير لهم فيها واتخاذه الاحتياطات بإدخالهم تحت الكساء ليقطع بها الطريق على كل مدّع ومتقول ، ثم تأكيده هذا المعنى خلال تسعة أشهر في كل يوم خمس مرات يقف فيها على باب أمير المؤمنين عليّ والصدّيقة الشهيدة فاطمة البتول عليهما‌السلام ، كل ذلك مما يوجب القطع بأن للآية شأنا يتجاوز المناحي العاطفية ، وهو مما يتنزه عنه مقام النبوة لأمر يتصل بصميم التشريع من إثبات العصمة لهم ، وما يلازم ذلك من لزوم الرجوع إليهم والتأثر والتأسي بهم في أخذ الأحكام. هذا مضافا إلى أنه لا يحسن العدول بعد التصريح بالاسم في قوله تعالى (قُلْ لِأَزْواجِكَ) و (يا نِساءَ النَّبِيِّ) إلى الإبهام الموجب لعظيم أهل البيت ، على أن تذكير الضمير يمنع من دخولهنّ فيه.

٦١٠

وأما النقطة الثانية :

والبحث فيها ضمن المفردات التالية :

١ ـ الإرادة.

٢ ـ الرجس.

٣ ـ أهل البيت.

٤ ـ التطهير.

أما المفردة الأولى:

وقبل توضيح تقسيمات الإرادة نقول في بيان تعريفها :

إن الإرادة اصطلاحا صفة نفسانية في نفس الداعي ، وهي من مقولة الكيف النفساني القائمة بالأنفس.

وبعبارة : هي الشوق النفساني. وهذا المعنى للإرادة يستحيل في حقه تعالى لأنه يتنزه عن الكيفيات النفسانية وعن العوارض الجسمانية لأنه كما قلنا هي من الكيفيات القائمة بالنفس والعارضة عليها مما يستلزم قيام عرض في عرض ، وعليه فالإرادة حالة في نفس تعرض عليها ، وهذا المعنى للإرادة مستحيل في حقه تعالى ، لاستلزامه الحدوث للذات الإلهية المقدّسة مما يعني الفقر والحاجة إلى غيره وهو خلف كونه غنيا مطلقا وبسيطا لا يطرأ عليه الحدوث والتركيب ، هذا مضافا إلى أنه تعالى مريد أي عالم بما في الفعل من المصلحة الداعية إلى الإيجاد.

فإرادة الله تعالى في إيجاد الممكنات هي الداعي ، ومرادنا بالداعي هو العلم بالأصلح ، خلافا للأشاعرة حيث ذهبوا إلى أنها مغايرة للعلم والقدرة وسائر الصفات. والإرادة ليست أمرا آخر سوى الداعي ، ولو كانت كذلك للزم التسلسل أو تعدد القدماء.

فإن هذا الأمر إن كان قديما لزم تعدد القدماء ، وإن كان حادثا احتاج إلى تخصيص وجوده إلى أمر آخر فيلزم منه التسلسل الباطل بالضرورة ، وعليه فإن

٦١١

الإرادة في الآية الشريفة هي الداعي الذي هو العلم بالأصلح ، وهو عين ذاته المقدّسة وهو المرجح ، بمعنى أن المرجح هو العلم بالأصلح الذي هو عين ذاته ، والمراد بالأصلح ما هو الأصلح بالمخلوقات ، فلا يلزم استكماله تعالى بأمر زائد على ذاته. وأما تعريفها لغة : فهي المشية والرغبة يقال : أراد الشيء : أحبّه وعني به ورغب فيه. فعصمتهم عليهم‌السلام التي هي متعلق إرادته تعالى ، لكونها مما هو الأصلح لهم ولغيرهم ، ليحصل الوثوق بأقوالهم وأفعالهم ، بهذا تكون العصمة لطفا يقرّب العباد من الطاعة ويبعّدهم عن المعصية ، فالعلم بالأصلح كاشف عن خلوه من وجود المفسدة ، وعليه تكون إرادته تعالى علة تامة لحصول مراده عزوجل.

أما تقسيمات الإرادة فهي على قسمين :

تكوينيّة وأخرى تشريعيّة.

فالأولى : عبارة عن العلم المتعلق بالفعل الإلهي من جميع جهات وجوده. أو بعبارة : هي أن تتعلق إرادته «عزّ اسمه» على إيجاد شيء وتكوينه في صحيفة الوجود ، وهي لا تتخلف عن مراده ، وربما يعبّر عنها بالأمر التكويني ، فمتعلق الإرادة ـ وهو إذهاب الرجس ـ هو فعله تعالى ، وبهذا فإن إرادته لإيجاد الشيء وتحققه وتجسده لا تنفك عن مراده ، ولا أمره التكويني عن متعلقه ، لأنه القادر والخالق لكل شيء قال تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١) فمراده لا يتخلف عن أمره ، بل يستحيل أن ينفك عنه.

والثانية : عبارة عن إرادة الشارع المقدّس المتعلقة بالفعل التشريعي بلحاظ وجوده من حيث التشريع.

أو بعبارة هي إرادته سبحانه تشريع الأحكام وتقنينها في المجتمع حتى يقوم المكلّف مختارا بواجبه.

فمتعلق الإرادة هنا هو التشريع والتقنين ، وأما قيام المكلّف فهو من غايات

__________________

(١) سورة يس : ٨٢.

٦١٢

التكليف ، ولأجل ذلك ربما تترتب عليه الغاية ، وربما تنفك عنه ولا يوجب الانفكاك خللا في إرادته سبحانه لأنه ما أراد إلّا التشريع وقد تحقق ، كما أنه ما أراد قيام المكلّف بواجبه إلا مختارا ، فقيامه بواجبه أو عدم قيامه من شعب اختياره.

ولا تقتصر الإرادتان على المبدأ الأول ـ أعني الخالق العظيم ـ بل تشملان المخلوق مع ضميمة الاختيار إلى التشريعية ، «فإرادة الإنسان التي تتعلق بفعل نفسه نسبة حقيقة تكوينية ، تؤثر في الأعضاء الانبعاث إلى الفعل ، ويستحيل معها تخلّفها عن المطاوعة إلا لمانع.

وأما الإرادة التي تتعلق منّا بفعل الغير كما إذا أمرنا بشيء أو نهينا عن شيء ، فإنها إرادة بحسب الوضع والاعتبار ، لا تتعلق بفعل الغير تكوينا ، فإن إرادة كل شخص إنما تتعلق بفعل نفسه من طريق الأعضاء والعضلات.

من هنا كانت إرادة الفعل أو الترك من الغير لا تؤثر في الفعل بالإيجاد والإعدام ، بل تتوقف على الإرادة التكوينية من الغير بفعل نفسه حتى يوجد أو يترك عن اختيار فاعله لا عن اختيار آمره وناهيه» (١). وهذا التقسيم الثنائي للإرادة حاصر لهما عن غيرهما بحيث لا يوجد قسم ثالث لهما ، فالقسمة حاصرة فيهما.

وهنا يحق للقارىء أن يتساءل ما هو نوع الإرادة في الآية الشريفة هل هي تكوينية كما نقول نحن المسلمون الشيعة أو أنها تشريعية كما يقول العامة؟ وما الدليل على كل واحدة من الإرادتين عند الفريقين؟.

أقول : إن الإرادة هي تكوينية ، والقرائن على ذلك ما يلي :

١ ـ لو كانت الإرادة تشريعية لما اختصت بطائفة من الناس دون أخرى ، لأن الإرادة الإلهية تعلقت بإذهاب الرجس عن أهل البيت وهم طائفة خاصة من الناس. فلو كانت تشريعية لما اختصوا بها دون سائر البشر ، لأن الهدف من إرسال الرسل

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ / ١٥١ تعليقة رقم ١.

٦١٣

وإنزال الكتب هو إبلاغ تشريعات المولى ودساتيره للناس كافة ليسيروا بها نحو الكمال المطلق ، وليس الهدف من ذلك وصول جماعة دون أخرى ، لذا نرى الخطابات العمومية في القرآن الكريم كغسل الأعضاء للصلاة والصوم إلى غير ذلك هي لكل المكلّفين تعلّل تشريع المولى العام دون اختصاصها بجماعة معينين ، وهذا بخلاف آية التطهير فإنها خصصت إرادة التطهير بجمع خاص تجمعهم كلمة «أهل البيت» وخصهم بالخطاب بقوله (عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) أي لا غيركم.

٢ ـ أن أداة الحصر في الآية (إنّما) تفيد حصر التطهير بجماعة خاصة ، ولو كانت الإرادة في الآية تشريعية لما كان للحصر أي معنى ، لأن الإرادة التشريعية غير محصورة بأناس مخصوصين ، فحصرها في الآية بجماعة خاصة خلاف الحكمة من التشريع ، وخلاف الحصر أيضا ، إذ من الواضح أن الغاية من تشريع الأحكام إذهاب الرجس عن جميع المكلفين لا عن خصوص أهل البيت ، كما لا خصوصية لأهل البيت في تشريع الأحكام لهم ، وليست لهم أحكام مستقلة عن أحكام بقية المكلفين ، والغاية من تشريع الأحكام إذهاب الرجس عن الجميع ، لا عن خصوص أهل البيت.

هذا مضافا إلى وجود تضارب في الآية لو قلنا بأن الإرادة فيها تشريعية وذلك كأنه يقول هكذا :

إني أردت تشريعا إذهاب الرجس عن كل الناس ، وأريد هنا في آية التطهير إذهابه عن بعض الناس.

ففي الوقت الذي يريد من كل الناس إذهاب الرجس عنهم ، هو في نفس الوقت يريد إذهابه عن بعضهم ، وهذا عين التضارب والتهافت يتنزّه عنه الحكيم المتعال جلّ وعلا.

٣ ـ إن حمل الإرادة على التشريعية يتنافى مع اهتمام النبيّ الأكرم بأهل البيت وتطبيق الآية عليهم بالخصوص كما مر بالروايات سابقا.

٦١٤

٤ ـ إن الآية في مقام المدح والثناء والتعظيم لجماعة معينين يشتركون مع غيرهم في الأحكام ، وهذا المديح والتعظيم لا يتناسب مع كون الإرادة تشريعية ، مضافا إلى أن الآية في صدد إبراز فضلهم على عامة المكلفين وأنهم مميزون بإذهاب الرجس وتوكيد التطهير ، وهذا الإبراز لا يشمل جميع المكلفين ، وإنما يختص بجماعة معينين أرادهم الله سبحانه أن يكونوا تكوينا مطهّرين.

وبعبارة أخرى : أن الآية ليست بصدد الإنشاء والطلب كما يحاول مدعو الإرادة التشريعية إثباته ، بل هي إخبار عن أمر خارجي وهذا لا ينسجم إلّا مع الإرادة التكوينية ؛ ولو كانت بصدد الإنشاء والطلب لجماعة معينين مع كونهم مشتركين مع غيرهم بإذهاب الرجس لاستلزم ذلك التضارب والتهافت في كلام الحكيم كما قلنا آنفا.

فحمل الآية على الإرادة التشريعية يبعدها عن كونها منقبة للمخاطبين بها من أهل البيت ، لأنها تكون إنشاء وطلبا للتطهير وإذهاب الرجس من المخاطبين بها ، وهذا خلاف ما أجمع عليه المفسرون في فهم الآية المباركة من أنها بصدد الإخبار عن منقبة وفضيلة لأهل البيت.

إشكالان وجوابان :

الإشكال الأول :

قد يقال إن الله عزوجل مدح أهل البيت عليهم‌السلام في آية الوفاء بالنذر من سورة الدهر لأنهم أخلصوا النية والعمل ، فيكون كذلك هنا في آية التطهير حيث إنهم وصلوا إلى مرتبة جليلة بالنية والعمل فمدحهم وأثنى عليهم ، فتكون الإرادة حينئذ تشريعية ويثبت المطلوب.

والجواب :

أن الله سبحانه مدحهم هناك لمقام العمل ، ولأنهم وفوا بالنذر ، أما هنا فليس

٦١٥

المقام مقام عمل وإنما هو مقام مدح وثناء وإبراز فضيلة نتيجة علمه عزوجل بأنهم لن يعصوه أبدا.

الإشكال الثاني :

إن القول بالإرادة التكوينية يجرّنا إلى الالتزام بالجبر وسلب الإرادة عن أهل البيت فيما يصدر عنهم من أفعال ما دامت الإرادة التكوينية هي المتحكّمة في جميع تصرفاتهم ، ونتيجة ذلك حتما حرمانهم من الثواب ، لأنه وليد إرادة العبد ، كما تقتضيه نظرية التحسين والتقبيح العقليين ، وهذا ما لا يمكن أن يلتزم به مدعو الإمامة لأهل البيت عليهم‌السلام.

والجواب :

١ ـ إن ما يذهب إليه الشيعة الإمامية هو مسلك الأمر بين الأمرين أي لا جبر ولا تفويض ، بمعنى أن جميع أفعال العبيد وإن كانت مخلوقة لله عزوجل ومرادة له بالإرادة التكوينية لامتناع جعل الشريك له في الخلق ، إلا أن خلقه لأفعالهم إنما هو بتوسط إرادتهم الخاصة غالبا وفي طولها ، لأن الله تعالى هو من أعطى القدرة للعبد الذي من خلال ما أعطاه الله من القدرة يطيع ويعصي ، وبذلك صححوا نسبة الأفعال للعبيد ونسبتها لله فهي مخلوقة لله عزوجل حقيقة لكونه واهب القدرة ، وهي صادرة عن إرادة العبيد حقيقة أيضا لكونها صادرة عنهم باختيارهم ، وبذلك صححوا الثواب والعقاب ، وذهبوا إلى الحل الوسط الذي أخذوه من أقوال أئمتهم عليهم‌السلام : لا جبر ولا تفويض وإنّما هو أمر بين أمرين.

وبهذا سلموا من مخالفة الوجدان في نفي الإرادة وسلبها عنهم كما هو مفاد مذهب القائلين بالجبر ، كما سلموا من شبهة المفوّضة في عزل الله عن خلقه ، وتفويض الخلق لعبيده استقلالا عن الله عزّ اسمه ، كما هو مذهب المفوّضة.

وبناء على هذا النظرية يكون مفاد الآية أن الله عزوجل لمّا علم أن إرادتهم تجري دائما على وفق ما شرعه لهم من أحكام ، بحكم ما زوّدوا به من إمكانات

٦١٦

ذاتية ، ومواهب مكتسبة من الله تعالى نتيجة حبهم له وفنائهم في الله تعالى ، بحيث صار الإسلام بل التوحيد المطلق متجسّدا في سلوكهم ، ثم بحكم ما كانت لديهم من القدرات على أعمال إرادتهم وفق أحكامه التي استوعبوها علما وخبرة ، فقد صح له الإخبار عن ذاته المقدّسة بأنه لا يريد لهم بإرادته التكوينية إلّا إذهاب الرجس عنهم ، لأنه لا يفيض الوجود إلّا على هذا النوع من أفعالهم ما داموا هم لا يريدون لأنفسهم إلّا إذهاب الرجس والتطهير عنهم.

وبهذا يتضح معنى الاصطفاء والاختيار من قبله لبعض عبيده في أن يحملوا ثقل النهوض برسالته المقدّسة كما هو الشأن في الأولياء والأنبياء وأوصيائهم ، على أن الإشكال لو تمّ فهو جار في الأنبياء جميعا ، وثبوت العصمة لهم ـ ولو نسبيا ـ موضع اتفاق الجميع ، فما يجاب به هناك يجاب به هنا من دون فرق.

وبالجملة فإن تخصيص تعلق الإرادة بجمع خاص على الوجه الوارد في الآية ، يمنع من تفسير الإرادة بالإرادة التشريعية التي عمّت الأمة جميعا ، فعند ما شرّع الله سبحانه دساتيره إلى الناس لم يستثن أحدا منهم لأن الحكمة من التشريع إنما هي التطهير وإتمام النعمة كما في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ) (سورة المائدة : ٦) ثم علّله بقوله (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١).

فالتشريع يعمّ أهل البيت عليهم‌السلام كغيرهم من المكلّفين لكن إرادته هنا تكوينية مختصة بهم.

٢ ـ إنّ تعلق إرادته عزوجل تكوينا بهم بإذهاب الرجس عن أهل البيت عليهم‌السلام لا يعني أنهم صاروا مجبرين على فعل الطاعة والابتعاد عن المعصية مما يعني انتفاء صفة المدح والثناء عليهم ، بل إن تعلق إرادته بإذهاب الرجس عنهم

__________________

(١) سورة المائدة : ٦.

٦١٧

مرتبط باختيارهم فعل الطاعة وترك المعصية ، فهم قادرون على فعل المعصية ولكنهم لا يفعلونها لعلمهم بعواقب المعاصي وآثارها السلبية ولأن ترك المعصية محبوب لدى المولى سبحانه.

قد يقال : كيف حصلوا على هذا العلم؟

والجواب : إن حصولهم عليه موهوبي من عند علّام الغيوب لعلمه سبحانه أنهم لن يعصوه في الدنيا ، فالمسألة مرتبطة بعلم الله الأزلي الذي لا يمكن أن يحده شيء على الإطلاق.

فسبق الإرادة التكوينية على أفعال العباد لا يستلزم سلب الاختيار عنهم ، لأن إرادته سبحانه إنما تتعلق بتوسط إرادة العبيد واختيارهم ، فهم إذا أرادوا لأنفسهم شيئا فالله سبحانه يريد ذلك الشيء لهم تكوينا.

ومعنى إرادته التكوينية بإذهاب الرجس هو أن الله تعالى عصمهم عن الذنوب والخطايا والغفلة والسهو والنسيان وكل ما ينفر عن قبول الدعوة ، والعصمة كما هو معلوم عبارة عن علم يقيني حباه الله تعالى لمن علم منه الطاعة والامتثال ، وهي بهذا المعنى لا تسلب صاحبها عن الاختيار ، بل يبقى قادرا على الفعل أو الترك ، ويختار الطاعة على المعصية بإرادته واختياره ، ومثال على ذلك :

قدرة الله تعالى على كل مقدور ومنه قدرته على فعل القبائح كقدرته على فعل الحسن ، غير أنه لا يصدر منه القبيح قط في زمن من الأزمان لأن «الصارف عن فعل القبيح موجود والداعي مفقود ، وكلّما وجد الصارف وانتفى الداعي امتنع الفعل» (١).

ولأجل أنه عزوجل لا يفعل القبيح نرى عمومية قدرته لكل شيء ، ومع هذا فإنه عزوجل لا يصدر منه القبيح ، إذ لو لم يقدر على القبيح لما صح قولنا : إنه على كل شيء قدير.

__________________

(١) انظر كتابنا : الفوائد البهية ج ١ / ٣١٠.

٦١٨

وكذا الإنسان العاقل الذي لا يمس بيده الأسلاك الكهربائية ، ولا يلقي بنفسه من شاهق لعلمه بأن في ذلك هلاكه وموته ، فهو قادر على فعل ذلك إلا أنه لا يفعل لعلمه بالهلاك ، فعلمه لم يسلبه الاختبار بل صانه من الوقوع في الهلاك ، ونظيره المعصوم المصون من القبائح فهو يعصم نفسه طيلة حياته من أي قبيح وإن كان قادرا على الإتيان بها.

ويتحصل مما ذكرنا :

أن الإرادة التشريعية هي التي يتوسط فيها بين المريد وتحقق الإرادة في الخارج إرادة موجود وشخص آخر.

فعند ما تطلب من ابنك أن يأتيك بماء ، فلكي يتحقق وجود الماء أمامك لا بدّ أن توجد إرادة متوسطة بين إرادتك وبين تناولك للماء ، وهذه هي الإرادة التشريعية.

أما الإرادة التكوينية فهي التي لا يتخلل بين إرادة المريد وبين تحقق المراد في الخارج إرادة موجود آخر ، فلو أردت شيئا تطلبه من يدك ، فإن اليد تتحرك مباشرة للإتيان به ، من دون أن يحتاج تحقق المراد خارجا إلى توسط إرادة أخرى.

ومن أهم خصائص الإرادة التشريعية أنها قابلة للتخلّف بعكس الإرادة التكوينية فإن المراد لا يمكن أن يتخلّف عن الإرادة ، فهل يتخلف البصر إن أردت من الباصرة أن تبصر؟ كلا ، لا يتخلّف لأن الإرادة هنا إرادة تكوينية.

ـ والآية الشريفة لو كانت تثبت الإرادة التشريعية لأفادت الإنشاء والطلب من كل الناس أن يتطهروا وأن يتنزّهوا عن كل رجس ، وما دامت الآية تتحدث عن أهل البيت فسيكون المراد منها وفق الإرادة التشريعية أنّ الله يطلب من أهل البيت أن يكونوا معصومين لا أنه عزوجل يخبر عن عصمتهم ، أما لو حملنا الإرادة في الآية على التكوينية فهي إخبار عن أن أهل البيت معصومون.

وهكذا نكون أمام خيارين في الآية ، فهي إن حملت على التشريع فلا شك

٦١٩

أنّها إنشاء وطلب للعصمة من أهل البيت ، وإذا حملت على التكوين فهي إخبار عن كونهم معصومين. ولا يمكن الحمل على الإرادة التشريعية ، لأنها تنص على قوله (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ) و «إنّما» تفيد الحصر والقصر ، والمعنى أن الله طلب من أهل البيت فقط أن يكونوا كذلك ، وإذا كانت الإرادة التشريعية فلا معنى لأن يكون طلب الطهارة والتنزّه عن الرجس مختصا بأهل البيت محصورا بهم دون غيرهم.

وصرف مصداق أهل البيت في الآية إلى غير عترة النبيّ كنسائه أو قرابته العامة أو الخاصة فإن ذلك لا يحل المشكلة ، إذ ستبقى الإرادة التشريعية غير منسجمة مع هذا الحصر الموجود في الآية ، فالله سبحانه أنزل الشريعة لا لكي يتطهر أهل البيت وحدهم ويتنزّهوا عن الرجس دون سواهم ، وإنما لكي يتطهر المسلمون جميعا ، ويتنزّه كل من بلغه هذا الدين.

ولو حملنا الإرادة على التشريع فسيكون هذا الحصر في غير محله ، ولا يلائم الآية المباركة أساسا ، وبذلك لا يمكن أن تكون الإرادة في الآية تشريعية ، ومن ثمّ فهي ليست إنشائية ، وإنّما هي إرادة تكوينية ، وعلى هذا الأساس فهي إخبار عن أن أهل البيت متصفون بالعصمة.

رأي الأشاعرة في الإرادة :

ولو تفحصنا كتب الأشاعرة واستنطقناها عن الدليل على الإرادة التشريعية في الآية المباركة لحصلنا على جواب واحد لا غير وهو وحدة السياق ، حيث إنّ الله سبحانه جعل تلك الأوامر قبل آية التطهير من قوله تعالى (يا نِساءَ النَّبِيِّ ... وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ... وَلا تَبَرَّجْنَ .. وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ) وسائل لإذهاب الرجس ، يأخذ بها الناس ويحققونها في حياتهم العملية ، فيكون خطابه تعالى لنساء النبيّ بهذه الأوامر لكي يذهب عنهنّ الرجس ، ويطهرهنّ تطهيرا ، فاتصال الآية بما قبلها وما بعدها دليل على وحدة السياق ، وبالتالي نزول الآية في نساء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٦٢٠