أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

يرد عليه :

إن قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ..) هي في قوة قوله تعالى (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ..) فتكون الثانية مفسرة للأولى ، وعليه فلا معنى لحصرها بأبي بكر وأصحابه كما يريد الرازي وأمثاله أن يحصروها فيه في حين أن النصوص العامية (١) الكثيرة قد دلت على أن المراد من الآيتين المذكورتين هو أهل اليمن وأهل فارس. هذا مضافا إلى أن النبي قال يوم خيبر في حق الإمام علي عليه‌السلام : لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. وصفة المحبة الموجودة في الآية لا تنطبق إلا على أمير المؤمنين علي عليه‌السلام بحسب تصريح النبي بذلك ، ولو كان أبو بكر محبا لله ولرسوله لكان على النبي أن ينص على ذلك ، فعدم تنصيصه يدل على خلو أبي بكر من صفة المحبة لله ولرسوله ، فكيف تشمله الآية حينئذ كما يدّعي العامة؟!

الشبهة العاشرة :

قال الناصبيّ : إن عليّ بن أبي طالب كان أعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الروافض ، فلو كانت هذه الآية دالة (٢) على إمامته لاحتج بها في محفل من المحافل ، وليس للقوم أن يقولوا أنه تركه للتقية ، فإنهم ينقلون عنه أنه تمسك يوم الشورى بخبر الغدير ، وخبر المباهلة ، وجميع فضائله ومناقبه ولم يتمسك البتة بهذه الآية في إثبات إمامته ، وذلك يوجب القطع بسقوط قول هؤلاء الروافض لعنهم الله (٣).

والجواب :

دعوى الرازي «بأن أمير المؤمنين لم يتمسك بالآية يوم الشورى» ممنوعة ،

__________________

(١) لاحظ تفسير الدر المنثور للسيوطي ج ٢ / ٥١٨.

(٢) آية الولاية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا).

(٣) تفسير الرازي ج ١٢ / ٢٩.

٥٦١

بل قد تمسك بها كما تمسك بغيرها كخبر الغدير والمباهلة وغيرهما.

وقوله : «إن الأمير عليه‌السلام لم يتمسك بالآية يوم الشورى» لا يخلو من أمرين :

ـ إما أنّه أراد به عدم ورود تمسكه بها في أخبارهم.

وإما أنه أراد به عدم ورود خبر على ذلك من طرق الخاصة.

فإن كان الأول فمسلّم إلّا أنه لا يوجب القطع بعدم التمسك ، إذ جلّ المسائل الاعتقادية الحقة لم يرد به رواية منهم ، وهو لا يدل على انتفاء تلك المسائل واقعا.

وإن كان الثاني ففيه منع ، وذلك لورود أخبار كثيرة عند الخاصة (١) تشير إلى أنه عليه‌السلام تمسك بالآية كما تمسك بغيرها من الآيات والأخبار ، ولم يتمسك الأمير عليه‌السلام بالآية في الشورى فحسب بل احتج بها على أبي بكر لمّا ولي الخلافة ، فقد ورد عن ابن بابويه بإسناده عن أبي سعيد الوراق عن أبيه عن الإمام جعفر بن محمد عن أبيه عن جده الإمام علي بن أبي طالب عليه وآله السلام أنه قال :

فأنشدك الله ـ يا أبا بكر ـ أنا المولى لك ولكل مسلم بحديث النبي يوم الغدير أم أنت؟ قال : بل أنت.

قال : فأنشدك بالله ألي الولاية من الله مع رسوله في آية الزكاة بالخاتم أم لك؟ قال : بل لك (٢).

فظهر مما ذكرنا غفلة الناصب اللعين عن أخبار الشيعة أيدهم الله تعالى ، ولا غرو في ذلك فإنه جاهل بما هو أعظم من ذلك ، وليس ذلك من الظالمين ببعيد.

__________________

(١) لاحظ الاحتجاج للطبرسي ج ١ / ١٩٢ وبحار الأنوار ج ٣١ / ٣٢٠ نقلا عن أمالي الشيخ والخصال والإرشاد.

(٢) الاحتجاج ج ١ / ١٦١ وغاية المرام نقلا عن مجالس الشيخ.

٥٦٢

الشبهة الحادية عشرة :

قال الناصبيّ : هب أن الآية دالة على إمامة عليّ لكنّا توافقنا على أنها عند نزولها ما دلت على حصول الإمامة في الحال ، لأن عليا ما كان نافذ التصرف في الأمة حال حياة الرسول ، فلم يبق إلا أن تحمل الآية على أنها تدل على أن عليا سيصير إماما بعد ذلك ، ومتى قالوا ذلك فنحن نقول بموجبه ونحمله على إمامته بعد أبي بكر وعمر وعثمان ، إذ ليس في الآية ما يدل على تعيين الوقت (١).

والجواب :

١ ـ إن ولاية الله تعالى تعني الأولى بالتصرف فعلا لا قوة ، وهذه الولاية الفعلية أعطاها سبحانه وتعالى لرسوله ولوليّه عليّ بن أبي طالب فولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام كانت نافذة وفعلية في عهد رسول الله ويشهد له قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم غدير خم : «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ..» (٢). لقد أشاد الرسول بولاية الإمام عليّ الفعلية في حياته وبعد مماته ، فهذا المعنى كان حاصلا له حال النزول ، لكنه لم يستعملها بشكل مطلق تماما كرسول الله لم يستعمل ولايته التامة على الأمة ، فعدم استعماله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لولايته التامة ليس معناه عدم امتلاكه لها ، وكذا الإمام عليّ عليه‌السلام فما هو لرسول الله هو له عليه‌السلام ، فعدم الاستعمال ليس ملازما لعدم الولاية الفعلية.

٢ ـ لو سلّمنا أن الآية مفيدة لكونه وليا في المستقبل نظرا إلى كون الوليّ بمعنى المتصرف ، إلّا أنّا نمنع كون إمامته عليه‌السلام بعد أبي بكر وعمر وعثمان إذ الآية كما هي مثبتة لإمامتهعليه‌السلام كذلك نافية للإمامة عن غيره ، وعليه فلا يبقى للثلاثة خلافة حتى يتأخر أمير المؤمنين عليعليه‌السلام عنهم أو يتقدم عليهم وهو ظاهر.

__________________

(١) تفسير الرازي ج ١٢ / ٢٩.

(٢) ويشهد له قوله تعالى : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) في آية المباهلة حيث جعل الله سبحانه الإمام عليا نفس رسول الله ، فما ثبت للرسول الأعظم هو بعينه ثابت لأمير المؤمنين علي (ع).

٥٦٣

هذه أهم الشبهات التي أوردها المخالفون على آية الولاية مع الإجابة عليها ونقضها بحمد الله تعالى.

الآية الثانية :

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (١).

تقريب الاستدلال بالآية أنه سبحانه أوجب طاعة أولي الأمر كما أوجب طاعة الرسول ، وهو يقتضي عموم طاعتهم ولم يقيّدها سبحانه بشيء من الأشياء ، ولو أراد التقييد لكان عليه أن يبيّن هذا ، فلمّا لم يكن هناك قيد دل على إرادة الكل ، بحيث تجب طاعتهم في كل ما يأمرون وينهون وتنفذ أقوالهم في كل ما يريدون ، فإذا ثبت ذلك لا بد وأن يكون وليّ الأمر معصوما عن الخطأ ، إذ مع عدم عصمته عن الخطأ لم يؤمن من وقوع الخطأ منه ، وعلى تقدير وقوع الخطأ منه يلزم أن يكون قد أمرنا عزوجل بمتابعته فيلزم منه أمره سبحانه بالقبيح وهو محال ، فثبت أن أمره بمتابعة أولي الأمر وطاعتهم يستلزم العصمة لهم ، وإذا ثبت دلالة الآية على العصمة وعموم الطاعة ثبت أن المراد بأولي الأمر فيها الأئمة من آل البيت عليهم‌السلام ، إذ لا أحد يجب طاعته على ذلك الوجه مع النبيّ إلا هم سلام الله عليهم.

وبعبارة أخرى : إن الله تعالى أوجب على العباد طاعته مطلقا ، وكذا أوجب طاعة رسوله الكريم وطاعة أوليائه الميامين على نحو الإطلاق وهو لا يتم إلّا بعصمة أولي الأمر ، لأن الإطاعة المطلقة المعطوفة على طاعة الله وطاعة رسوله تستوجب وتستلزم عصمة أولي الأمر ، فإن غير المعصوم قد يأمر بمعصية فتحرم طاعته فيها ، فلو وجبت أيضا لاجتمع الضدان : وجوب طاعته وحرمتها.

قد يقال : إنّا نحمل الآية على إيجاب الطاعة له في خصوص الطاعات دون غيرها.

__________________

(١) سورة النساء : ٥٩.

٥٦٤

نقول : لا يصح هذا الحمل المزعوم لكونه منافيا لإطلاق الآية ، ولأنّ هذا الحمل لا يجامع ظاهرها من إفادة تعظيم الرسول وأولي الأمر بمساواتهم لله تعالى في وجوب الطاعة مطلقا ، فحصر وجوب الطاعة في الطاعات خلاف الإطلاق في الآية ، على أن وجوب الطاعة في الطاعات ليس من خواص الرسول وأولي الأمر بل تجب طاعة كل آمر بالمعروف ، فلا بد أن يكون المراد بالآية بيان عصمة الرسول وأولي الأمر وأنهم لا يأمرون ولا ينهون إلا بحق.

ولا إشكال إنّ تكرار الأمر بالطاعة ليس للتأكيد «فإن القصد لو كان متعلقا بالتأكيد كان ترك التكرار أدل عليه وأقرب منه كما لو قيل : أطيعوا الله والرسول فإنه كان يفيد أن إطاعة الرسول عين إطاعة الله سبحانه وأن الإطاعتين واحدة ، وما كل تكرار يفيد التأكيد» (١).

والآية المباركة توحي بوجوب ثلاث طاعات :

الأولى : إطاعته سبحانه فيما أوحاه إلى رسوله في الكتاب الكريم ، وفي كل ما أمر به.

الثانية : إطاعة رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أوحى إليه بالسنّة المطهرة ، وفيما صدر منه من رأي ، سواء المتعلق بالحكومة والقضاء أم في مجال إبداء الرأي في الأمور الشخصية والموضوعات الجزئية حتى تلك التي لا يترتب عليها حكم شرعي ، لشمول أدلة العصمة له فيها.

الثالثة : إطاعة أولي الأمر عليهم‌السلام فيما يبيّنون من الأحكام وفي مجالات الحكومة والقضاء وإبداء الرأي في الأمور كلها كما كان ذلك ثابتا لرسول الله.

وبالجملة : «فالرسول له حيثيتان :

الأولى : حيثية التشريع بما يوحيه إليه ربه من غير كتاب ، وهو ما يبيّنه للناس

__________________

(١) تفسير الميزان ج ٢ / ٣٨٨ للعلامة الطباطبائي.

٥٦٥

من تفاصيل ما يشتمل على إجماله الكتاب وما يتعلق ويرتبط بها كما قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (١).

الثانية : ما يراه من صواب الرأي وهو الذي يرتبط بولايته الحكومة والقضاء ، قال تعالى : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) (٢) وهذا هو الرأي الذي كان يحكم به على ظواهر قوانين القضاء بين الناس ، وهو الذي كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحكم به في عزائم الأمور ، وكان الله سبحانه أمره في اتخاذ الرأي بالمشاورة ، فقال (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) (٣) فأشركهم به في المشاورة وو حدّه في العزم.

وبهذا نعرف أن لإطاعة الرسول معنى ، ولإطاعة الله سبحانه معنى آخر ، وإن كان إطاعة الرسول إطاعة لله بالحقيقة لأن الله هو المشرع لوجوب إطاعته كما قال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) (٤).

فعلى الناس أن يطيعوا الرسول فيما يبيّنه بالوحي ، وفيما يراه من الرأي. وأما أولو الأمر فهم وإن لم يكن لهم نصيب من الوحي التشريعي عدا الوحي التسديدي فإنهم يشاركون الرسول فيه بلا إشكال ، مع اشتراكهم معه في مجال الرأي والموضوعات الجزئية ، فلهم افتراض الطاعة نظير ما للرسول في رأيهم وقولهم ، ولذلك لما ذكر وجوب الرد والتسليم عند المشاجرة لم يذكرهم بل خصّ الله والرسول ، فقال : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) «وذلك أن المخاطبين بهذا الردّ هم المؤمنون المخاطبون بقوله في صدر الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) والتنازع إنّما هو تنازعهم بلا ريب ، ولا يجوز أن يفرض تنازعهم مع أولي الأمر مع افتراض طاعتهم بل هذا التنازع هو ما يقع بين المؤمنين أنفسهم ، وليس في أمر الرأي بل من حيث حكم الله في القضية

__________________

(١) سورة النحل : ٤٤.

(٢) سورة النساء : ١٠٥.

(٣) سورة آل عمران : ١٥٩.

(٤) سورة النساء : ٦٤.

٥٦٦

المتنازع فيها بقرينة الآيات التالية الذامة لمن يرجع إلى حكم الطاغوت دون حكم الله ورسوله وهذا الحكم يجب الرجوع فيه إلى أحكام الدين المبيّنة المقرّرة في الكتاب والسنّة ، والكتاب والسنّة حجتان قاطعتان في الأمر لمن يسعه فهم الحكم منهما ، وقول أولي : في أن الكتاب والسنّة يحكمان بكذا أيضا حجة قاطعة فإنّ الآية تقرر افتراض الطاعة من غير أي قيد أو شرط والجميع راجع آخر الأمر إلى الكتاب والسنّة.

من هنا ليس لأولي الأمر عليهم‌السلام إلا ما لله تعالى وما لرسوله من الحكم أعني الكتاب والسنّة ، لذا لم يذكرهم الله سبحانه ثانيا عند ذكر الرد بقوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) فلله تعالى إطاعة واحدة ، وللرسول وأولي الأمر إطاعة واحدة ، ولذلك قال : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).

وهذه الإطاعة المأمور بها في الآية المباركة إطاعة مطلقة غير مشروطة بشرط ولا مقيدة بقيد ، وهو دليل واضح على أن الرسول لا يأمر بشيء ، ولا ينهى عن شيء يخالف حكم الله في الواقعة وإلّا كان فرض طاعته تناقضا منه تعالى وتقدس ، ولا يتم ذلك إلا بعصمة فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا بعينه جار في أولي الأمر عليهم‌السلام» (١).

مضافا إلى ما تقدم فإنّ عصمة الرسول وأولي الأمر في الأحكام لا يعني عدم عصمتهم في مجال إبداء الرأي وتشخيص الموضوعات ، إذ إنّ عصمتهم في هذه الناحية مستفادة من الإطلاق الموجود في صيغة افعل : «أطيعوا» فليست الإطاعة مشروطة في حكم الكتاب والسنّة فحسب بل تتعداها إلى غيرها من المجالات الأخرى.

وبهذا التقرير ظهر ضعف ما ذهب إليه العامة من حمل أولي الأمر على المتخلّفين الثلاثة أو على أمراء السرايا أو على الحكام والعلماء ، ضرورة انتفاء العصمة عنهم جميعا ، مضافا إلى عدم وجوب طاعة الأمراء كالعلماء على نحو

__________________

(١) تفسير الميزان ج ٤ / ٣٨٨ بتصرف ببعض الألفاظ.

٥٦٧

العموم باتفاق الخاصة والعامة ، وإنما طاعة الأمراء واجبة فيما لو كانوا مؤمنين وكانوا مع الحق ، وطاعة العلماء كذلك في الأحكام الشرعية ، على أنّ الأمراء كالعلماء ربّما يختلفون في الآراء ، ففي طاعة بعضهم عصيان بعض ، وإذا أطاع المؤمن بعضهم عصى الآخر لا محالة.

وقد ذكر فخر المشكّكين الرازي خمسة وجوه في معنى «أولي الأمر» :

١ ـ أنهم الخلفاء الراشدون.

٢ ـ الأمراء والحكام.

٣ ـ العلماء بالأحكام والشرائع.

٤ ـ الإجماع.

٥ ـ ما نقل عن الروافض ـ حسب تعبير فخر النّواصب الرازي ـ أنهم الأئمة المعصومون(١).

وكل هذه الوجوه باطلة سوى الخامس لكون أئمة آل البيت عليهم‌السلام هم القدر المتيقن من أولي الأمر لثبوت أدلة العصمة لهم بالآية ونظائرها ، وللأحاديث المتواترة على ذلك ، وهذه الوجوه هي في الواقع شبهات قامت الأدلة على بطلانها.

الوجه الأول :

تقريره : أن أولي الأمر في الآية هم الخلفاء الراشدون (٢) وهم الذين شغلوا منصب الخلافة بعد رسول الله لكونهم حكاما على الأمة يرعون مصالحها ، فلا بدّ أن تكون أوامرهم نافذة على الخلق.

__________________

(١) تفسير الرازي ج ١٠ / ١٤٤.

(٢) تفسير الرازي ج ١٠ / ١٤٤.

٥٦٨

والجواب :

١ ـ إن مدلول الآية دال على عصمة أولي الأمر ، ولا عصمة في هؤلاء المزعومين سوى الإمام عليّ عليه‌السلام حيث ثبتت عصمته بآية التطهير وبوجوب الإطاعة المطلقة في هذه الآية طبقا للأحاديث النبوية الشريفة الدالة على ذلك كحديث الثّقلين وحديث عليّ مع الحق والحق مع عليّ يدور معه حيثما دار إلى غير ذلك من النصوص القطعية المثبتة ذلك.

٢ ـ إن تخصيص أولي الأمر بالخلفاء يعتبر تقييدا من دون دليل يدل عليه ، هذا مضافا إلى أن مؤداه يقتضي نسبة العصمة للمتقدمين على مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في حين قامت الأدلة القطعية والإجماع على بطلان ذلك.

الوجه الثاني :

إن المراد ب «أولي الأمر» هو الأمراء والحكام في كل زمان ، وإن نزلت الآية بخالد بن الوليد حيث نصبه النبيّ أميرا على بعض السرايا ، وكان معه عمار بن ياسر ، فساروا قبل القوم الذين يريدون ، فلما بلغوا قريبا منهم عرسوا وأتاهم النذير فأخبرهم فأصبحوا وقد هربوا غير رجل أمر أهله فجمعوا متاعهم ، ثم أقبل يمشي حتى أتى عسكر خالد فسأل عن عمار بن ياسر فأتاه ، فقال : يا أبا اليقظان إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمّدا عبده ورسوله ، وإن قومي لمّا سمعوا بكم هربوا وإني بقيت فهل إسلامي نافعي غدا وإلا هربت؟ قال عمار : بل هو ينفعك فأقم فأقام ، فلمّا أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدا غير الرجل فأخذه وأخذ ماله ، فبلغ عمارا الخبر ، فأتى الخبر ، فقال : خلّ عن الرجل فإنه قد أسلم وإنه في أمان مني ، فقال خالد : وفيم أنت تجير؟ فاستبا وارتفعا إلى النبيّ فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجير الثانية على أمير ، فاستبا عند رسول الله فقال خالد : أتترك هذا العبد الأجدع يسبني ، فقال رسول الله : يا خالد لا تسبّ عمارا فإنّ من سبّ عمارا يسبه الله ومن يبغض عمارا يبغضه الله ، ومن يلعن عمارا يلعنه الله ، فغضب عمار فقام

٥٦٩

فتبعه خالد فأخذ بثوبه فاعتذر إليه فرضي عنه فأنزل الله عزوجل قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (١).

وبالجملة : فإن الآية ـ بنظر أصحاب هذا الرأي ـ نزلت بالأمراء والحكام ، وعلى المسلمين أن يطيعوهم في كل حال ، ورووا في ذلك أخبارا منها :

عن أنس أن رسول الله قال : اسمعوا وأطيعوا ، وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة(٢).

وعنه أيضا قال : أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا حبشيا مجدوع الأطراف(٣).

وعنه أيضا : من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصبر ، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية (٤).

يورد عليه :

١ ـ إنّ كل ما أوردناه على الوجه الأول ، يجري على هذا الوجه أيضا.

٢ ـ إن هذا التفسير لا يتناسب مع مفهوم الآية وروح الإسلام ، إذ لا يمكن أن تقترن طاعة الأمراء والحكام والحكومات ـ مهما كانت طبائعهم ـ من دون قيد أو شرط بإطاعة الله والرسول ، لأنّ الله تعالى لا يأمر بإطاعة السهو والغلط ، والأمراء والحكام ليسوا مأمونين من ذلك ، فقبيح أن يأمر سبحانه بإطاعتهم.

قد يقال :

إن طاعة هؤلاء مشروطة بعدم عصيانهم ومخالفتهم لقوانين الشريعة ، فلا بأس حينئذ أن تأمر الآية بإطاعتهم ما داموا في طاعة الله تعالى.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ١ / ٤٤٥ وأسباب النزول للواحدي ص ١٣٥.

(٢) تفسير ابن كثير ج ١ / ٤٤٥.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) نفس المصدر.

٥٧٠

وبتعبير آخر : «إن الله فرض طاعتهم على المؤمنين فإن أمروا بما يخالف الكتاب والسنّة فلا يجوز ذلك منهم ولا ينفذ حكمهم لقول رسول الله «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» وقد روى هذا المعنى الفريقان وبه يقيّد إطلاق الآية ، وأما الخطأ والغلط فإن علم به ردّ إلى الحق وهو حكم الكتاب والسنّة ، وإن احتمل خطأه نفذ فيه حكمه كما فيما علم عدم خطأه ، ولا بأس بوجوب القبول وافتراض الطاعة فيما يخالف الواقع هذا النوع لأن مصلحة حفظ الوحدة في الأمة وبقاء السؤدد والأبهة تتدارك بها هذه المخالفة ، ويعود إلى مثل ما تقرر في أصول الفقه من حجية الطرق الظاهرية مع بقاء الأحكام الواقعية على حالها ، وعند مخالفة مؤداها للواقع تتدارك المفسدة اللازمة بمصلحة الطريق» (١).

والجواب :

١ ـ من الممكن تقييد إطلاق الآية في صورة الفسق بما ذكر من قول النبيّ : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» وكما في قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) (٢) وكذا من الممكن بل الواقع أن يجعل شرعا نظير هذه الحجية الظاهرية المذكورة كفرض طاعة أمراء السرايا الذين كان ينصّبهم رسول الله ، وكذا الحكام الذين يولّيهم على البلاد كمكة واليمن أو يخلفهم بالمدينة إذا خرج إلى غزاة ، وكحجية قول الفقيه على مقلده ، ولكنه لا يوجب تقييد الآية ، فكون مسألة من المسائل صحيحة ـ في نفسه ـ أمرا على حدا ، وكونها مدلولا عليها بظاهر آية قرآنية أمرا آخر.

٢ ـ الآية المباركة دالة على وجوب إطاعة أولي الأمر ، بحيث لم تقيد مفهوم الإطاعة ، ولم تشترط فيه شرطا ، فيبقى الإطلاق منعقدا في الظهور بموجب مقدمات الحكمة أو الوضع ، هذا مضافا إلى أنه ليس في الآيات القرآنية الأخرى ما

__________________

(١) تفسير الميزان ج ٤ / ٣٩٠.

(٢) سورة الأعراف : ٢٨.

٥٧١

يقيّد الآية المباركة في مدلولها ، حتى يعود معنى قوله (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) إلى مثل قولنا : وأطيعوا أولي الأمر منكم فيما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا بخطئهم فإن أمروكم بمعصية فلا طاعة عليكم ، وإن علمتم خطأهم فقوّموهم بالرد إلى الكتاب والسنّة ، مع أنه سبحانه أبان ما هو أوضح من هذا القيد فيما هو دون هذه الطاعة المفترضة كقوله تعالى في الوالدين : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) (١) فما باله لم يظهر شيئا من هذه القيود في آية تشتمل على أس أساس الدين ، وإليها تنتهي عامة أعراق السعادة الإنسانية؟ على أن الآية جمع فيها بين الرسول وأولي الأمر ، وذكر لهما معا طاعة واحدة فقال : (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ولا يجوز على الرسول أن يأمر بمعصية أو يغلط في حكم ، فلو جاز شيء من ذلك على أولي الأمر لم يسع إلّا أن يذكر القيد الوارد عليهم ، فلا مناص من أخذ الآية مطلقة من غير أي تقييد ، ولازمه اعتبار العصمة في جانب أولي الأمر كما اعتبر في جانب رسول الله من غير فرق.

الوجه الثالث :

إن المراد من «أولي الأمر منكم» هم العلماء العدول العارفون بمحتويات الكتاب والسنة معرفة كاملة ، واستدل أصحاب هذا الرأي بعموم اللفظ الوارد في «أولي».

قال ابن كثير : والظاهر ـ والله أعلم ـ أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء(٢).

والجواب :

١ ـ ما أشكلناه على الوجه الثاني ، يجري بعينه هنا.

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٨.

(٢) تفسير القرآن العظيم ج ١ / ٤٤٥.

٥٧٢

٢ ـ إن قوله تعالى (وَأُولِي الْأَمْرِ) معناه : أطيعوا من له الأمر ، وهذا ليس مختصا بالعلماء وحدهم بل يشمل كل من له الأمر ، فتخصيص الإطاعة حينئذ بالعلماء دون غيرهم يعتبر ترجيحا من دون مرجح أو دليل.

٣ ـ كما لا يجوز تخصيص طاعة الله وطاعة الرسول في شيء دون شيء ، كذا لا يجوز تخصيص طاعة أولي الأمر في حال الصواب دون غيره ما لم ينصب قرينة على ذلك وهي مفقودة في الآية بحكم الالتحام بين طاعة الرسول وأولي الأمر ، وهذا الالتحام دليل على عصمة أولي الأمر الذين يختلفون عن العلماء بعصمتهم وطهارتهم.

هذا مضافا إلى عدم وجوب طاعة العلماء والأمراء على نحو العموم باتفاق الجميع ، فطاعة الأمراء واجبة فيما لو أمروا بالحق ، وطاعة العلماء كذلك في الأحكام الشرعية ، على أن العلماء كالأمراء ربما يختلفون في الآراء ، ففي طاعة بعضهم عصيان بعض ، وإذا أطاع المؤمن بعض العلماء عصى الآخر لا محالة لاختلافهم في الآراء ، فمن البعيد جدا أن تقصد الآية إطاعة العلماء من حيث عدم اتصافهم بملكة العصمة ، لما في الأمر بإطاعتهم مفسدة عظيمة من حيث كثرة اختلافهم في الآراء والأحكام.

٤ ـ لو فرضنا وجوب إطاعة العلماء في الأحكام التي يستفيدونها من الكتاب والسنّة ، لكن لا تكون إطاعتهم شيئا غير إطاعة الله وإطاعة النبيّ ، فلا حاجة إلى ذكرها بصورة مستقلة ، مما يعني أن أولي الأمر غير العلماء المعرّضين للخطأ في الأحكام والآراء ، فأولوا الأمر معصومون تجب طاعتهم في كل الأحوال والأزمان بخلاف العلماء فإن إطاعتهم واجبة في حال دون حال ، فحصر الآية في العلماء خلاف إطلاق الإطاعة في كل الأحوال.

ويجدر بنا هنا التأكيد على أن أولي الأمر هم علماء واقعيون ، فلو دار الأمر بين الأخذ منهم وممن يأخذون الأحكام بالظنون والأصول العملية الظاهرية فلا شك أن العقل والشرع يأمران بالأخذ من الواقعيين لا الظاهريين ، والواقعيون هم

٥٧٣

المعصومون ولا أحد معصوم سوى أهل البيت عليهم‌السلام ، فتأمل.

الوجه الرابع :

إن المراد من «أولي الأمر» هو الإجماع ويعبّر عن المجمعين بأهل الحل والعقد. وممن قال بهذا فخر المشكّكين الرازي في تفسيره حيث أثبت دلالة الآية على وجوب عصمة أولي الأمر ثم ادّعى العصمة للإجماع ، فقال :

«والدليل على ذلك ـ أي أن إجماع الأمة حجة ـ أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصوما عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهى عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد ، وأنه محال ، فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ ، فثبت قطعا أن أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بدّ وأن يكون معصوما ، ثم نقول : ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعض الأمة ، لا جائز أن يكون بعض الأمة ، لأنّا بيّنا أن الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعا ، وإيجاب طاعتهم قطعا مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول إليهم والاستفادة منهم ، ونحن نعلم بالضرورة إنّا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم ، عاجزون عن الوصول إليهم ، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم ، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن المعصوم الذي أمر الله المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمة ، ولا طائفة من طوائفهم ، ولمّا بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله «وأولي الأمر» أهل الحل والعقد من الأمة ، وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة» (١).

__________________

(١) تفسير الرازي ج ١٠ / ١٤٤.

٥٧٤

وعليه فإن مجموع الأمة أو مجموع ممثليها ـ بنظر الرازي وأمثاله ـ لا يمكن أن يتطرق إليه خطأ مما يستتبع القول أن هذه الأمة معصومة ، فتكون النتيجة أن إطاعتها واجبة تماما كإطاعة الله تعالى ورسوله.

يورد عليه :

أولا : إن إجماع جميع الأمة لا يمكن انعقاده إلى يوم القيامة سواء كان الإجماع كل أفراد الأمة أم كان بعض أفرادها كأهل الحل والعقد ، فكيف يحمل الآية على غير الممكن ، وذلك لأن أمة رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كل من تابعه إلى يوم القيامة ، وكل موجود في عصره فإنه بعض الأمة ، هذا مضافا إلى أنه لم يقم دليل على عصمة أهل الحل العقد وكذا عصمة جميع الأمة ، فلا يمكن حمل العصمة على الأمة.

إشكال وحل :

كيف ينفي المسلمون الإمامية عصمة الإجماع وقد قال النبيّ : «لا تجتمع أمتي على الخطأ» «ولا تجتمع أمتي على الضلالة»؟

والجواب :

١ ـ إن الخبر المزبور غير تام سندا ودلالة ، أما من حيث السند فلكونه من المراسيل الضعاف ، وأما من حيث الدلالة فلأن الأمة افترقت على ثلاث وسبعين فرقة ، واحدة ناجية والبقية في النار ، فكيف يدخلون النار وهم مجتمعون مع الحق ضد الباطل ، وهل تمس النار من كان محقا؟!!

هذا مضافا إلى مصادمة الحديث المذكور مع واقع المسلمين وتناحرهم ومع النصوص المتواترة الدالة على أن أمته سيصيبها مثل ما أصاب الأمم المتقدمة حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة (١). وما ورد بالمتواتر بين الفريقين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) لاحظ جامع الأصول لابن الأثير وصحيح الترمذي.

٥٧٥

قال : ليردن عليّ الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا دفعوا اختلجوا دوني ، فأقولنّ : أي ربّ أصحابي فليقالنّ : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.

٢ ـ لو سلّمنا صحة الخبر وجب حمل الأمة فيه على خصوص الإمامية من حيث ثبوت الملازمة بين إجماع علمائها وقول المعصوم عليه‌السلام لكونها الفرقة الناجية.

ثانيا : إما يراد من «الذين آمنوا» في الآية المجتهدون خاصة ، أو المقلدون خاصة ، أو الأعم الشامل للجميع ، ولا يمكن إرادة واحد من الأولين لما فيه من التخصيص الذي هو خلاف الأصل ، مضافا إلى استلزامه اختصاص وجوب طاعة الله ورسوله بإحدى الطائفتين ، وإلى استلزامه حجيّة إجماع العوام على تقدير إرادة الثاني. لأن المخاطبين بقوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) هم المخاطبون الأولون ، ومفهومه عدم وجوب الردّ إلى الله والرسول حين الاتفاق فيلزم حجية إجماع العوام حينئذ ولا يقول به الخصم ، وإذا لم يمكن إرادة أحد الأولين تعيّن إرادة الثالث أي جميع المؤمنين الشاملين للمجتهدين والمقلدين ، وعليه فلا بدّ وأن يكون أولو الأمر غير المجتهدين ، لئلا يلزم اتحاد المطيع والمطاع ، مع أن ظاهر اللفظ أيضا المغايرة ، فتعين أن المراد بأولي الأمر الأئمة المعصومون وبطل ما توهمه الناصب الجحود من حمله على أهل الحل والعقد.

ثالثا : ليس هناك أي دليل على عصمة مجموع الأمة من دون وجود إمام معصوم بينهم ، ودعوى عصمة المجموع منافية للناموس العام ، لأن إدراك الكل هو إدراك الأبعاض ، وإذا جاز الخطأ على كلّ واحد فردا فردا جاز الخطأ على الكل كمجموع ، إضافة إلى ذلك فكم من منتدى إسلامي بعد رحلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اجتمع فيه أهل الحل والعقد من المسلمين على ما اجتمعوا عليه ثم سلكوا طريقا يهديهم إليهم رأيهم فلم يزدهم إلّا ضلالا ، ولم يزد إسعادهم المسلمين إلّا شقاء ، ولم يمكث الاجتماع الديني بعد النبي دون أن عاد إلى امبراطورية ظالمة حاطمة! فليبحث الناقد في الفتن منذ قبض رسول الله وما استتبعه من دماء مسفوكة وأعراض مهتوكة وأموال منهوبة ، وأحكام عطلت ، وحدود أبطلت! ثم ليبحث في منشأها

٥٧٦

ومحتواها وأصولها وأعراقها هل تنتهي الأسباب العاملة فيها إلّا ما رآه أهل الحل والعقد من الأمة ثم حملوا ما رأوه على أكتاف الناس؟ فلا مناص من القول بأن أهل الحل والعقد على حدّ سائر الناس يصيبون ويخطئون ، فإذا كانوا كذلك فكيف يمكن القول أنهم معصومون؟!!

رابعا : مع أن المنصرف من «أولي الأمر» من له الزعامة ، أن ظاهر الآية إفادة عصمة كل واحد منهم لا مجموعهم ، لأن ظاهرها إيجاب طاعة كل واحد منهم ، مع أن العمل بمقتضى الإجماع ليس من باب الطاعة لهم كمجمعين بل من باب أنهم يكشفون عن رأي المعصوم ، فالطاعة حينئذ له وليس لهم ، وبما أن الرازي وجماعته لا يؤمنون بوجود معصوم بعد وفاة النبي سوى ما ادعاه من عصمة الإجماع ، فكيف يكون المجمعون حينئذ معصومين لأنه إذا جاز الخطأ على كل واحد واحد جاز على الكل.

وعلى هذا الأساس تواجه هذه التفاسير إشكالات ومآخذ تقدمت معنا ، ويبقى التفسير الخامس سليما من جميع الاعتراضات السابقة لموافقة هذا التفسير (أي أن أولي الأمر هم المعصومون) لوجوب الإطاعة لله ولرسوله ، لأن مقام العصمة يحفظ الإمام من كل معصية ويصونه عن كل خطأ ، وبهذا يكون أمره مثل أمر الرسول واجب الإطاعة من دون قيد أو شرط ، فإطاعة الإمام هي نفس إطاعة الرسول من دون تكرار لفظ «أطيعوا» ، لأن العطف بالواو يقتضي الجمع والمشاركة في الحكم ، ومعنى هذا أن أمرهم هو أمره ، ولا شك أن هذه المرتبة السامية لا تكون إلّا لمن اتصف بما يؤهله لها ، ولا شيء يؤهله لذلك إلّا العصمة عن الخطأ والسهو والمعصية ، فهي وحدها التي تجعل طاعته وطاعة الرسول سواء.

والعصمة منحة إلهية يختص الله بها من ارتضى من عباده ، ولا يرتضي إلا من كان أهلا لذلك ، ونقصد بالعصمة الطهارة الذاتية لا الاكتسابية بحيث تكون مع المعصوم منذ ولادته إلى وفاته لا تفارقه أبدا ، وعليه ينحصر الطريق إلى معرفة العصمة بالوحي فقط ، وقد ثبت النص كتابا وسنة على عصمة أهل البيت عليهم‌السلام ،

٥٧٧

من ذلك قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١).

ومن ذلك قول الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع عليا فقد أطاعني ، ومن عصى عليا فقد عصاني».

رواه الحاكم في المستدرك وقال : هذا حديث صحيح ، وصححه أيضا الذهبي في تلخيص المستدرك.

كما أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : عليّ مني وأنا من عليّ. والحق مع عليّ وعليّ مع الحق يدور معه حيثما دار.

إلى ما هنالك من عشرات الأحاديث الصحيحة والموثقة والمعتبرة رواها العامة في كتبهم وصحاحهم ، ومروية بأسانيدهم ، وقد جمعها علماء الشيعة في مؤلفات خاصة قديما وحديثا فلتراجع.

هذا وقد أشكل فخر المشكّكين الرازي على إرادة أئمتنا الأطهار من أولي الأمر بوجوه منها :

الوجه الأول : إن طاعتهم ـ أي الأئمة المعصومين ـ مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول إليهم ، فلو أوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا تكليف ما لا يطاق ، ولو وجب علينا طاعتهم إذا صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم صار هذا الإيجاب مشروطا ، وظاهر قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) يقتضي الإطلاق ، وأيضا ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال ، وذلك لأنه تعالى أمر بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر في لفظة واحدة وهو قوله (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ، واللفظة الواحدة لا يجوز أن تكون مطلقة ومشروطة ، فلما كانت هذه اللفظة مطلقة في حق الرسول وجب أن تكون مطلقة في حق أولي الأمر (٢).

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣.

(٢) تفسير الرازي ج ١٠ / ١٤٦.

٥٧٨

وبعبارة موجزة :

إن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم فإنها من دون معرفتهم تكليف بما لا يطاق ، وإذا كان مشروطة فالآية تدفعه لأنها مطلقة ، كما أننا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم وعاجزون عن الوصول إليه ، لذا فإن المعصوم الذي أمر الله بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمة وإنما أهل الحل والعقد (١).

وفيه :

١ ـ أنّ الإشكال منقلب على المستشكل ، فإن الطاعة مشروطة بالمعرفة مطلقا ، وإنما الفرق أن أهل الحل والعقد يعرف مصداقهم على قوله من عند أنفسنا من غير حاجة إلى بيان من الله ورسوله ، والإمام المعصوم يحتاج معرفته إلى معرّف يعرّفه ، ولا فرق بين الشرط والشرط في منافاته الآية.

وبتعبير آخر :

كما أن طاعة الإمام المعصوم موقوفة على معرفته وعلى قدرة الوصول إليه ، واستفادة الأحكام منه ، فكذلك طاعة أهل الحل والعقد موقوفة على معرفتهم وعلى قدرة الوصول إليهم واستفادة الأحكام منهم ، وكما أننا عاجزون في زماننا هذا عن الوصول إلى جناب الإمامعليه‌السلام وعن استفادة الدين والعلم منه ، فكذلك عاجزون عن الوصول إلى أهل الحل والعقد وعن استفادة الاطلاع على آرائهم ، وإن كان عجزنا في الأول مستندا إلى غيبته عليه‌السلام وعجّل الله فرجه الشريف ، وفي الثاني إلى كثرتهم وانتشارهم في شرق الأرض وغربها.

هذا مضافا إلى أن توقف طاعة أولي الأمر على معرفتهم واستفادة الأحكام منهم لا يوجب كون وجوبها مشروطا بذلك ، وإنما هي من مقدمات الوجود ، وبالجملة فإن إطاعة أولي الأمر واجب مطلقا ، والواجب المطلق تحصيل مقدماته على عهدة المكلّف ، فيجب تحصيل العلم برأيهم حتى يطيعهم المكلّف ، وعجزنا

__________________

(١) نفس المصدر ج ١٠ / ١٤٤.

٥٧٩

في هذا الزمان عن الوصول إلى حضرة ولي الأمر عليه‌السلام ، وعن العلم برأيه إنما هو مستند إلى أنفسنا ، لأننا نحن السبب في استتاره فكل ما يفوتنا من الانتفاع به وبتصرفه وبما معه من الأحكام يكون من قبلنا وجهتنا ، ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به ، وأدّى إلينا الحق الذي عنده وتمكّنّا من طاعته وامتثال أوامره ، وما ذكره الناصب لا ينطبق على زمان حضور أئمة أهل البيت عليهم‌السلام حيث لم يكن مانع يومئذ عن حمل أولي الأمر عليهم ، وإنما المانع الذي توهمه الناصب هو العجز عن الوصول إلى ولي الأمر وهو مختص بزمان الغيبة الكبرى ، فدليله أخص من مدعاه.

الوجه الثاني : أنه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر ، وأولو الأمر جمع وعندهم لا يكون في الزمان إلّا إمام واحد ، وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر (١).

وفيه :

أولا : أن دعوى الرازي بأنه لا يكون في الزمان إلّا إمام واحد ممنوعة ، وذلك بتعدده في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بعده من الأئمة عليهم‌السلام لوجود أولادهم المعصومين معهم.

ثانيا : أنّ الجمع باعتبار تعددهم وإن تعددت الأزمنة ، ولا دلالة في الآية على أن طاعتهم جميعا لا بدّ وأن تكون في زمان واحد ، لإمكان حصولها تدريجا كلّما وجد واحد منهم.

ثالثا : أن حمل الجمع على الفرد وإن كان خلاف الظاهر إلّا أنه مع قيام المقتضي عليه ، لا ضير فيه ، بل اللازم حينئذ المصير إليه ، والمقتضي في المقام موجود ، وهو أن وليّ الأمر لا بد وأن يكون معصوما ، وقد انحصرت العصمة في آل البيت عليهم‌السلام لقيام الأدلة على ذلك ومنها الآية المباركة ، وبطل ما توهمه الناصب.

__________________

(١) تفسير الرازي ج ١٠ / ١٤٦.

٥٨٠