أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

الوضوح حيث استدعى الأمر أن ينظم الشاعر حسان بن ثابت الذي عاصر النبيّ واصطحبه قصيدة تثبت ما فهمه المسلمون آنذاك من أن الآية نزلت بحقه عليه‌السلام.

قال حسان :

أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي

وكل بطيء في الهدى ومسارع

أيذهب مدحي والمحبين ضائعا

وما المدح في ذات الإله بضائع

فأنت الذي أعطيت إذ أنت راكع

فدتك نفوس القوم يا خير راكع

بخاتمك الميمون يا خير سيّد

ويا خير شارك ثم يا خير بايع

فأنزل فيك الله ولاية

وبيّنها في محكمات الشرائع (١)

شبهات وردود

اعترض على الفهم الإسلامي العام للآية جماعة من المتعصبين النواصب وعلى رأسهم الفخر الرازي في التفسير الكبير ، ونحن هنا نسوق شبهاتهم ثم نردّها على نحورهم.

الشبهة الأولى :

صحيح أن الواو حالية ، لكنّ الركوع محمول على الخشوع والخضوع أي : يعملون ذلك حال الخشوع والإخبات والتواضع الله تعالى إذا صلوا وإذا زكوا (٢). فعلى هذا يكون معنى الآية : أنه ليس أولياؤكم اليهود والنصارى والمنافقين بل أولياؤكم الله ورسوله والمؤمنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم في جميع هذه الأحوال خاضعون لساحة الربوبية بالسمع والطاعة ، وأنهم يؤتون الزكاة وهم فقراء معسرون.

__________________

(١) الغدير ج ٣ / ١٥٦ وكشف الغمة ج ١ / ٤١٢ وفرائد السمطين ج ١ / ١٩٠ والبحار ج ٣٥ / ١٩٧ وشواهد التنزيل ج ١ / ١٨٢ والفصول المائة في حياة أبي الأئمة ج ٢ / ١٥٧ ومنهاج البراعة ج ٢ / ٣٥٠ وروح المعاني للآلوسي ج ٤ / ٢٤٤.

(٢) تفسير الرازي ج ١٢ / ٢٥ وتفسير الكاشف ج ١ / ٦٣٥ وروح المعاني ج ٤ / ٢٤٧.

٥٤١

والجواب :

١ ـ إنّ الركوع وإن كان في اللغة بمعنى مطلق الخشوع والخضوع لكنّه صار في الشرع اسما لركوع الصلاة ، كما أنّ الصلاة كان معناها في اللغة مطلق الدعاء ولكنها صارت في عرف المتشرعة والشرع حقيقة للصلاة ذات الأركان المخصوصة ، فقوله تعالى : (وَهُمْ راكِعُونَ) لا يصح أن يراد به «وهم خاضعون» لأن الحقيقة الشرعية والعرفية مقدمة على الحقيقة اللغوية ، ولم يستعمل في القرآن إلّا في ذلك المعنى كقوله تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) (١) وقوله تعالى (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٢) وغيرهما من الآيات الكثيرة في القرآن المشتملة على لفظ الركوع الذي هو ركوع الصلاة لا الخشوع والتواضع ، بل لا يصار إلى المعنى الثاني ـ أعني الخشوع ـ إلا بقرينة تعيّن ذلك ، فيطلق عليه اسم الركوع تشبيها ومجازا ، لأن فيه ضربا من الانخفاض ، ويدل على ما قلنا نص أهل اللغة عليه ، قال ابن منظور :

ركع ركعا وركوعا : طأطأ رأسه وكل قومة يتلوها الركوع والسجدتان من الصلوات فهي ركعة ، قال الشاعر :

وأفلت حاجب فوت العوالي

على شقّاء تركع في الظّراب

فالراكع : المنحني ، وكلّ شيء ينكب لوجهه فتمسّ ركبته الأرض أو لا تمسها بعد أن يخفض رأسه فهو راكع. وركع الشيخ : انحنى من الكبر (٣).

مضافا إلى دلالة الروايات المتكاثرة من طرق العامة والخاصة على أن الآية نزلت في أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام لمّا تصدّق بخاتمه وهو في ركوع الصلاة.

٢ ـ إنّ تفسير الزكاة بالخضوع والخشوع إخراج لها عن معناها اللغوي الذي

__________________

(١) سورة المرسلات : ٤٨.

(٢) سورة آل عمران : ٤٣.

(٣) لسان العرب ج ٨ / ١٣٣.

٥٤٢

قامت الأدلة الروائية المتواترة على اختصاصها بمولى الثقلين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، والخروج عن مورد النص إلى غيره يعدّ اجتهادا في مقابله وهو الكفر بعينه قال تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (١) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٢).

٣ ـ إن صرف الركوع عن معناه المقرر بعرف الشرع والمتشرعة ، يفكّك الغرض الذي من أجله تعرضت له الآية الكريمة وهو ولاية الله التكوينية والتشريعية ، وولاية رسوله ومن يليه ممن فنى في الذات الإلهية المقدّسة ، فإن هؤلاء هم الأولياء الحقيقيون للمؤمنين ، فالقول بأن الركوع هو الخشوع وأن الراكعين هم الخاشعون يخلّ بوحدة سياق مفردات الآية الدالة على ولاية الله ورسوله التكوينية والتشريعية ، لأن دلالة السياق تدل على أن هذه الولاية ولاية واحدة هي لله سبحانه بالأصالة ولرسوله والذين آمنوا بالتبع وبإذن منه تعالى.

ولو كانت الولاية المنسوبة إلى الله تعالى في الآية غير المنسوبة إلى الذين آمنوا ، كان الأنسب أن تفرد ولاية أخرى للمؤمنين بالذكر رفعا للالتباس الواقع في فهم مراد الآية عند العامة ، فعدم إفراده ولاية أخرى للمؤمنين بل إنه تعالى عطف ولايتهم على ولايته وولاية رسوله كل ذلك فيه دلالة قطعية أن هؤلاء الأولياء ليسوا أناسا عاديين بل إن طاعتهم طاعة الله كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٣) فطاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطاعة أولي الأمر هي نفس طاعة الله ، فكما أن للأمة الطاعة لرسول الله إطاعة مطلقة ليسوقهم إلى الله تعالى وليحكم فيهم بأمر الله ، ويقضي لهم في جميع شئونهم ، كذا للأمة الانقياد إلى ولايته المطلقة التي ترجع بذاتها إلى ولاية الله سبحانه ، ونعني بذلك أن له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التقدم عليهم

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٦.

(٢) سورة المائدة : ٤٤.

(٣) سورة النساء : ٥٩.

٥٤٣

بالطاعة والولاية ، وكذا الذين آمنوا الذين طاعتهم مطلقة على العباد ، فلا يمكن الفصل بين طاعة أولي الأمر وبين طاعة الله ورسوله لأن الطاعات الثلاث مقترنة فيما بينها ولا يجوز التفكيك بين طاعة وأخرى.

وعلى هذا الأساس فإن وحدة سياق الطاعات والولايات يقتضي أن يكون المؤمنون في آية الولاية هم جماعة مخصوصون مميزون بنزاهتهم وطهارتهم وقداستهم ، وهذه النزاهة والطهارة المطلقة لا يتملكها المؤمنون جميعا بل أفراد معينون ، فصرف الراكعين إلى الخاشعين يعني أنهم صاروا كلهم ـ أي المؤمنين جميعا ـ ممن انتقلت إليهم الولايتان : التشريعية والتكوينية ، وهو خلاف الفرض والوجدان ، كما أن الفصل بين الذين آمنوا الخاشعين ـ كما فعل العامة ـ وبين ولاية الله المطلقة وولاية رسوله كذلك يعتبر فصلا من دليل وهو غير جائز عدا كونه مفقودا.

٤ ـ إنّ التدبر واستيفاء النظر في الآية وما يحفّها من الآيات يعطي خلاف ما ذكروه ـ من أن المراد بالولاية النصرة وأن الراكعين هم المصلون الخاشعون ـ وأول ما يفسد من كلامهم ما ذكروه من أمر وحدة سياق الآيات ، وأن غرض الآيات التعرّض لأمر ولاية النصرة ، وتمييز الحق من غيره ، فإن السورة وإن كان المسلّم نزولها في آخر عهد رسول الله في حجة الوداع ، لكنّ من المسلّم أيضا أن جميع آياتها لم تنزل دفعة واحدة ، ففي خلالها آيات لا شبهة في نزولها قبل ذلك ، ومضامينها تشهد بذلك ، وما ورد فيها من أسباب النزول يؤيده ، فليس مجرد وقوع الآية بعد الآية أو قبل الآية يدل على وحدة السياق ، ولا أن بعض المناسبة بين آية وآية يدل على نزولهما معا دفعة واحدة أو اتحادهما في السياق.

فالآيات الواردة في سورة واحدة أو الآيات المتعاقبة ، ليست دائما ذات مفهوم مترابط ، كما لا تشير دائما إلى معنى واحد ، ولذلك يحصل كثيرا أن تروى لآيتين متعاقبتين حادثتان مختلفتان أو سببان للنزول ، وتكون النتيجة أن ينفصل مسير واتجاه كل آية ـ لصلتها بحادثة خاصة ـ عن مسير الآية التالية لها لاختلاف

٥٤٤

الحادثة التي نزلت بشأنها ، وبما أن آية الولاية بدلالة سبب نزولها جاءت في شأن تصدّق الإمام عليّ عليه‌السلام أثناء الركوع ، والآيات السابقة واللاحقة لها نزلت في أحداث أخرى ، لذلك لا يمكن الاعتماد على مسألة ترابط المفاهيم في الآيات ، ولكن هناك نوع من التناسب بين الآية ـ موضوع البحث ـ والآيات السابقة واللاحقة لها ، لأن الآيات الأخرى تضمنت الحديث عن الولاية بمعنى النصرة والإعانة ، بينما الآية المذكورة تحدثت عن الولاية بمعنى الزعامة والإشراف والتصرف ، وبديهي أن الوليّ والزعيم والمشرف والمتصرف في أمور جماعة معينة ، يكون في نفس الوقت حاميا وناصرا وصديقا ومحبا لجماعته ، أي أن مسألة النصرة والحماية تعتبر من مستلزمات وشئون الولاية المطلقة. فظهر بما تقدم «أن آية الولاية والآية التي بعدها مباشرة لا تشاركان السياق السابق عليهما لو فرض أنه متعرض لحال ولاية النصرة ، ولا يغرّنك قوله تعالى في آخر الآية (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) فإن الغلبة كما تناسب الولاية بمعنى النصرة ، كذلك تناسب ولاية التصرف وكذا ولاية المحبة والمودة ، والغلبة الدينية التي هي آخر بغية أهل الدين تتحصل باتصال المؤمنين بالله ورسوله بأي وسيلة تمت وحصلت» (١).

الشبهة الثانية :

إنّ المراد من (الَّذِينَ آمَنُوا) في الآية عامة المؤمنين ، واستشهد أصحاب هذه الشبهة بما روي أنّ عبادة بن الصامت لمّا تبرأ من اليهود وقال : أنا بريء إلى الله تعالى من حلف قريظة والنضير ، وأتولّى الله ورسوله ، نزلت هذه الآية على وفق قوله ، وروي أيضا أن عبد الله بن سلام قال : يا رسول الله ، إن قومنا قد هجرونا ، وأقسموا أن لا يجالسونا ، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل ، فنزلت هذه الآية ، فقال : رضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين أولياء ، فعلى هذا تكون الآية عامة في حق كل المؤمنين ، فكل من كان مؤمنا فهو ولي كل المؤمنين (٢).

__________________

(١) تفسير الميزان ج ٦ / ٨.

(٢) تفسير الرازي ج ١٢ / ٣٥ وتفسير ابن كثير ج ٢ / ٦٤.

٥٤٥

والجواب :

١ ـ لقد أشارت النصوص من الفريقين أنّ الآية نزلت في حق أمير المؤمنين عليه‌السلام على الصفة المذكورة ، فبطل ما يروى في خلاف ذلك ، فما ذكر من احتمال إرادة عموم المؤمنين ضعيف لا يعوّل عليه ، ولا يرجع إلى مستند ولا يعارض الأخبار الكثيرة الدالة على نزولها في حق الإمام علي عليه‌السلام.

٢ ـ إن الاستشهاد بخبر عبادة بن الصامت وعبد الله بن سلام على كون المراد من «الذين آمنوا» عامة المؤمنين لا وجه له ، لكون الآية دلت ـ بحسب مورد نزولها كما يدّعون بهذين الرجلين ـ على أن الله تعالى قد عوّضهم من محالفة اليهود ، ولاية الله وولاية رسوله وولاية الذين آمنوا ، وبعبارة أخرى : إن الله جعل لهم بدل هجر قومهم إياهم ولاية من ذكرت الآية المباركة ، سواء أريد بالذين آمنوا العموم أو الخصوص ، فإذا كان هناك ما يدل على الخصوص لم يكن فيه منافاة لهذا الخبر.

والذي يكشف عمّا قلنا : أنه روي أنها لما نزلت خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من البيت ، فقال لبعض أصحابه هل أعطى أحد سائلا شيئا؟ فقالوا : نعم يا رسول الله قد أعطى عليّ بن أبي طالب السائل خاتمه وهو راكع ، فقال النبيّ : الله أكبر قد أنزل الله فيه قرآنا ، ثم تلا الآية إلى آخرها ، وفي ذلك بطلان ما قالوه (١).

وروى عطاء ، عن ابن عبّاس قال : نزلت ـ الآية ـ في علي بن أبي طالب عليه‌السلام (٢)

وروي عن عبد الله بن سلام قال : لما نزلت هذه الآية ، قلت : يا رسول الله أنا رأيت عليّا تصدّق بخاتمه على محتاج وهو راكع ، فنحن نتولاه (٣).

__________________

(١) التبيان في تفسير القرآن للطوسي ج ٣ / ٥٦٤.

(٢) تفسير الرازي ج ١٢ / ٢٦ ، ورواها الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل بعدة طرق ج ١ / ١٦١ ـ ١٨٦.

(٣) تفسير الرازي ج ١٢ / ٢٦.

٥٤٦

وروي عن أبي ذر رضي الله عنه قال :

صليت مع رسول الله يوما صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهم اشهد أني سألت في مسجد الرسول فما أعطاني أحد شيئا ، وعليّ عليه‌السلام كان راكعا ، فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم ، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم بمرأى النبيّ ، فقال : اللهم إن أخي موسى سألك فقال (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) إلى قوله (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) فأنزلت قرآنا ناطقا (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) اللهم وأنا محمّد نبيك وصفيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليّا أشدد به ظهري ، قال أبو ذر : فو الله ما أتم رسول الله هذه الكلمة حتى نزل جبرائيل فقال : يا محمّد اقرأ (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ...) (١).

لقد أجمع الرواة والمؤرخون والأخباريون ـ على حد تعبير الآلوسي ـ على أنها نزلت في علي كرّم الله وجهه (٢) ، فلا يناهض خبر أو خبران ذاك الكم الوفير من الروايات الدالة على أن الآية نزلت في حق أمير المؤمنين عليه‌السلام ، إذ كيف يعارض خبر واحد أخبارا متواترة ، ولو قدّم أحد الخبر الواحد على المتواتر ، فليعلم أنه لا يشم رائحة الفقاهة والاستنباط.

لا يمكن أن يراد ب «الذين آمنوا» في منطوقها جميع المؤمنين ، لأن المخاطبين بقوله تعالى (وليّكم) هم المؤمنون ، فلو أرادهم جميعا لزم أن يكون جميع المؤمنين أولياء أنفسهم ، وبطلانه أوضح من أن يختلف فيه اثنان من أهل اللسان ، وذلك لأنه لو أراد تعالى جميع المؤمنين لكان المعنى واللفظ هكذا (إنما وليّ المؤمنين الله ورسوله والمؤمنون) فيكون من إضافة الشيء إلى نفسه ، وهو مستحيل عند ذوي العقول ، فلا يجوز حمل كتاب الله تعالى عليه إطلاقا.

__________________

(١) تفسير الرازي ج ١٢ / ٢٦.

(٢) تفسير روح المعاني ج ٤ / ٢٤٤ ، وقد أنهى الشيخ الأميني في (الغدير ج ٣ / ١٥٦ ـ ١٦٢) أسماء بعض من أخرج الحديث وأخبت له وبلغ عددهم ٦٦ مفسرا ومؤرخا.

٥٤٧

هذا مضافا إلى أنه يلزم أن يكون من شرط إيمان المؤمنين أجمعين أن يقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، وهم راكعون كما يدل عليه وصفهم في الآية ، وهو معلوم بضرورة الدين بطلانه.

٤ ـ إن جعل المؤمنين في الآية على قسمين : ناصرين ومنصورين ، يلغي حكم الحصر في أداة «إنّما» حيث إن مقتضى الآية بحكم أداة الحصر هو اختصاص الولاية لهؤلاء الثلاثة ، وهو إنّما يتم لو جعل مراد الآية هو «الأولى بالتصرف» ، بخلاف ما لو أريد بها النصرة ، ضرورة عدم اختصاص النصرة بهم بل يعمهم وغيرهم ، من المؤمنين غير الموصوفين بالصفة المذكورة لحصولها منهم ومن غيرهم ، وحينئذ فلا يكون للحصر فائدة ، مع أن أداة الحصر تنفي غير من وصفتهم الآية بإيتاء الزكاة حال كونهم راكعين ، وهذا معنى قولنا : إن الولاية بمعنى النصرة عامة من حيث عدم اختصاصها بالمؤمنين المتصفين بإيتاء الزكاة في حال الركوع ، بينما الآية ـ موضوع البحث ـ تهدف إلى بيان حكم خاص بشخص واحد.

الشبهة الثالثة :

ذكر الرازي أن اللائق بالإمام عليّ عليه‌السلام أن يكون مستغرق القلب بذكر الله حال ما يكون في الصلاة ، والظاهر أنّ من كان كذلك فإنه لا يتفرّغ لاستماع كلام الغير وفهمه (١) ، وأكّد هذا الإيراد أيضا شمس الدين الهروي الحنفي حيث قال : پإنكم (والخطاب للشيعة) تقولون أن علياعليه‌السلام في حال صلاته في غاية ما يكون من الخشوع والخضوع واستغراق جميع حواسه وقواه وتوجهها شطر الحق ، حتى أنكم تبالغون وتقولون كان إذا أريد إخراج السهام والنصول من جسمه الواقعة فيه وقت الحرب ، تركوه إلى وقت صلاته فيخرجونها منه وهو لا يحس بذلك لاستغراق نفسه وتوجهها نحو الحق ، فكيف مع ذلك أحسّ بالسائل حتى أعطاه خاتمه في حال صلاته (٢).

__________________

(١) تفسير الرازي ج ١٢ / ٣٠.

(٢) الأحقاق : ج ٢ / ٤٤١.

٥٤٨

والجواب :

١ ـ قال الشاعر :

يعطي ويمنع لا تلهيه سكرته

عند النديم ولا يلهو عن الكاس

أطاعه سكره حتى تمكّن من

فعل الصحاة فهذا أفضل الناس (١)

وحاصل الجواب :

إن استغراق القلب بالذكر في الصلاة ، إنما ينافي التوجّه إلى الأمور الدنيوية الشاغلة عن الذكر ، وإعطاء الخاتم للفقير المستحق ابتغاء لمرضاته سبحانه والتوجه إلى سؤاله ، لا ينافي الاستغراق بل هو عين الذكر ، وتوجه الأمير عليه‌السلام إلى الفقر لا يلزم منه التفاتة إلى غير الحق ، لأنه فعل فعلا تعود نهايته إلى الحق ، فكان توجهه في الصلاة يعدّ عبادة ضمن عبادة ، وكان استغراقه بالله تعالى والتفاته إلى الفقير كالشارب الذي فعل حال سكرته فعلا موافقا لفعل الصحاة ، ولم يلهه ذلك عن نديمه ولا عن كأسه ، ولا خرج ذلك عن سكرته.

٢ ـ لو كان مطلق التوجه إلى الغير منافيا للاستغراق لم يتصوّر ذلك في حق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنه قد حصل ذلك في حقه.

فقد روى البخاري الجم الغفير من ذلك منها ما عن ابن عبّاس قال :

قام النبيّ يصلي ، فقمت إلى جنبه ، فوضع رسول الله ـ وهو في الصلاة ـ يده اليمنى في رأسي ، وأخذ بأذني اليمنى يفتلها بيده (٢).

ومنها ما ورد عن علقمة عن عبد الله قال : كنّا نسلّم على النبيّ وهو في الصلاة فيردّ علينا(٣).

__________________

(١) إحقاق الحق ج ٢ / ٤١٤.

(٢) صحيح البخاري ج ١ / ٣٦٣ ح ١١٩٨ باب استعانة اليد في الصلاة.

(٣) صحيح البخاري ج ١ / ٣٦٤ ح ١١٩٩ وحديث رقم ١٢١٦.

٥٤٩

وروي عن عائشة قالت : كنت أمدّ رجلي في قبلة النبيّ وهو يصلّي ، فإذا سجد غمزني ، فرفعتها ، فإذا قام مددتها (١).

وعن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله كان يصلّي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله ... فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها (٢).

وعن ابن عبّاس قال : بتّ عند خالتي ، فقام النبيّ يصلّي من الليل فقمت أصلي معه ، فقمت عن يساره ، فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه (٣).

وعن أبي قتادة عن النبيّ قال : إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطوّل فيها ، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشقّ على أمّه (٤).

وعن أبي هريرة أن رسول الله قال : هل ترون قبلتي هاهنا؟ والله ما يخفى عليّ ركوعكم ولا خشوعكم وإني لأراكم وراء ظهري (٥).

هذا وقد استدل أبو حنيفة على عدم جواز رد جواب السلام في الصلاة بأن رسول الله دخل مسجد بني عمرو بن عوف يصلي ودخل معه صهيب ، فدخل معه رجال من الأنصار يسلمون عليه ، فسألت صهيبا كيف كان يصنع إذا سلم عليه؟ قال : يشير بيده.

ولو كان استماع كلام الغير مطلقا منافيا للاستغراق كيف يستمع السلام ويشير بيده ويحمل طفل إمامة بنت زينب ، ويغمز رجل عائشة إلخ .. هذا مضافا إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بقتل الأسودين في الصلاة : الحيّة والعقرب وكذا في حال الإحرام وغيره (٦).

__________________

(١) نفس المصدر ص ٣٦٧ ح ١٢٠٩ باب ما يجوز من العمل في الصلاة وحديث رقم ٥١٣.

(٢) صحيح البخاري ج ١ / ١٦٣ ح ٥١٦ باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة.

(٣) صحيح البخاري ج ١ / ٢١٣ ح ٦٩٩ و ٦٩٨ وح ٧٢٦ وح ٧٢٨.

(٤) نفس المصدر ح ٧٠٧ وح ٧٠٨ وح ٧٠٩ وح ٧١٠.

(٥) نفس المصدر ح ٧٤١ وح ٧٤٢.

(٦) صحيح مسلم ج ١٤ / ١٩٢ كتاب قتل الحيات وغيرها.

٥٥٠

٣ ـ أنه عليه‌السلام لما كان بكلّيته متوجها إلى الله تعالى ، مقبلا إليه معرضا عما سواه خالصا في العبادة ، نبهه الله سبحانه بالإلهام والإلقاء في الروع في هذه العطية الكريمة ، وذلك لعموم إفضاله جلّ شأنه على عباده فكيف بالمؤمن السائل في بيته أعني المسجد النبوي.

فلا غرو أن يلقي في قلب وليه إعانة المسكين المفتاق ، فالتصدّق طاعة في طاعة ، ومن الضروري التأكيد على أن الذوبان في التوجه إلى الله تعالى ليس معناه أن يفقد الإنسان الإحساس بنفسه ، ولا أن يكون بدون إرادة ، بل الإنسان بإرادته يصرف عن نفسه التفكير في أي شيء لا صلة له بالله تعالى.

الشبهة الرابعة :

أن دفع الخاتم في الصلاة للفقير عمل كثير ، واللائق بحال عليّ عليه‌السلام أن لا يفعل ذلك(١).

جوابها :

١ ـ إننا لا نسلّم كون خلع الخاتم عملا كثيرا لأن الخاتم كان مرجا (٢) في خنصرهعليه‌السلام ، فلم يتكلّف خلعه كثير عمل تفسد بمثله صلاته.

٢ ـ لا يفسد ـ عند فقهاء الإمامية ـ الصلاة إلّا العمل الكثير الماحي لصورة الصلاة ، ومن هنا خلع الخاتم غير ماح لصورتها بل هو أهون من قتل الحية والعقرب وهو في الصلاة ، وقد اتفق على ذلك كل فرق المسلمين.

الشبهة الخامسة :

وهذه الشبهة أيضا للرازي قال : إن المشهور أنه عليه‌السلام كان فقيرا ولم يكن له مال تجب الزكاة فيه ..» (٣).

__________________

(١) تفسير الرازي ج ١٢ / ٣١.

(٢) المرج : سهل الخلع.

(٣) تفسير الرازي ج ١٢ / ٣١.

٥٥١

فكأنّ الرازي حمل الزكاة على الصدقة الواجبة المعروفة عند المتشرعة ، وإطلاقها بنظره ـ على الصدقة المندوبة خلاف الظاهر.

والجواب :

١ ـ يشهد التاريخ على أنه عليه‌السلام كان يمتلك المال الوفير الذي حصل عليه من كدّ يمينه وعرق جبينه فتصدّق به في سبيل الله تعالى ، وقد نقل لنا رواة التاريخ بأسانيد صحيحة أنه عليه‌السلام أعتق وحرّر الف رقبة من الرقيق ، كان قد اشتراهم من ماله الخاص الذي كان حصيلة كدّه ومعاناته ، مضافا إلى أنه عليه‌السلام كان يحصل على حصته من غنائم الحرب ، هذا بالغض عن أن تحصيل المال سهل عليه عبر الكرامة إذ من البعيد جدا أن يبخل المولى عزوجل على عبده الإمام عليّ بن أبي طالب الذي انقطع إلى الذات الأحدية انقطاعا تاما.

وعلى كل حال فإنّ ما امتلكه عليه‌السلام من المال البسيط الذي ادخره لحاجات نفسه لا زكاة فيه ، وعليه فلا يمنع العقل والشرع بأن يمتلك الإمام علي عليه‌السلام خاتما لا سيّما وأن تزيين الكف بالخاتم من سنن الأنبياء والمرسلين وهل يترك أمير المؤمنين هذا الشيء المرغوب فيه عند سيّد المرسلين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ كلا وألف كلا ، فلا مانع إذن أن يتصدّق الأمير عليه‌السلام بخاتمه أسوة بغيره من الأنبياء والأولياء والمؤمنين حتى الفقراء منهم حيث لا يبخلون على أنفسهم بخاتم يلبسونه التماس الثواب والبركة.

٢ ـ إن الزكاة المصطلحة في عرف المتشرعة إنما هي اصطلاح مستحدث ، والقرآن الكريم قد استعملها بمعناها اللغوي العام جريا على ما يقتضيه عرف المحاورة عند أهل اللغة وغيرهم.

فالزكاة ـ كما صرّح اللغويون ـ بمعنى الصدقة ، لأن الزكاة وإن اشتهرت في الشرع بأنها الصدقة الواجبة ، لكنها تطلق على المستحبة أيضا بكثرة ، وقد ورد في القرآن العظيم ما يوضّح هذا المعنى قبل أن تشرّع الزكاة المصطلحة عندنا ، فقال

٥٥٢

تعالى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) (١).

(وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) (٢).

ولا شك في أن المراد بالزكاة هنا الإنفاق لوجه الله تعالى ، وهو الزكاة المستحبة ، وأكثر ما وردت بهذا المعنى في السور المكية ، لأن وجوب الزكاة كان قد شرّع بعد هجرة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة كما أشارت إليه الآيات التالية :

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٣).

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (٤).

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (٥).

وإطلاق الزكاة على الصدقة الواجبة في الآيات المدنية لا يلغي استعمالها في الصدقات المندوبة لكون آية الولاية مدنية ، وذلك لصحة إطلاقها على الزكاة المندوبة تماما كصحة إطلاقها على الواجبة ، وكونه فقيرا لا مال له حتى يجب فيه الزكاة ، لا ينافي إعطاء الزكاة تطوعا ، قال شاعر العقيدة الفرزدق رضي الله عنه وأرضاه :

لا يقبض العسر بسطا من أكفهم

سيّان ذلك إن أثروا وإن عدموا

كلتا يديه غياث عمّ نفعهما

يستو كفان ولا يعروهما العدم ..

__________________

(١) سورة مريم : ٣١ وهي مكيّة.

(٢) سورة الأنبياء : ٧٣ وهي مكية.

(٣) سورة النور : ٥٦ وهي مدنية.

(٤) سورة البقرة : ١٧٧ وهي مدنية.

(٥) سورة النساء : ٧٧ مدنية.

٥٥٣

تنبيه :

لا يخفى أنّ فقره عليه‌السلام لم يكن من عجزه وعدم تمكّنه من جمع المال بل إنما هو من كثرة جوده وسخائه ، وكفى بذلك أنه كانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام ونحوه ومع هذا لم يخلّف ميراثا ولا درهما ولا دينارا ، وشاهد صدق على هذا قصة تصدّقه بالخاتم عليه‌السلام.

الشبهة السادسة :

إن تعجّل الإمام عليه‌السلام في إخراج الزكاة الواجبة في الصلاة يتنافى تحديده مع الصلاة ، وهذا لا يصح في حقه ، فيستتبع ذلك الطعن في أصل قضية التصدق في الصلاة.

والجواب :

إن العرف هو الذي يحدّد مفهوم الإسراع الواجب في أداء الزكاة ، ولا يتنافى هذا التحديد مع الصلاة ، أي لا فرق في الإخراج سواء أكان وقت الأداء خارج وقت الصلاة أم أثنائها.

وبعبارة أخرى : إن الشرع لم يقيّد لدفع الزكاة زمنا محددا بعينه ، بل أطلقه سواء كان أداء الدفع أثناء الصلاة أم خارجها ، فالإطلاق في أداء الدفع يعني أن العرف هو الذي يحدّد مفهوم الإسراع الواجب في أداء الزكاة.

كل هذا مبني على أن الزكاة في الآية بمعنى الصدقة الواجبة ، وقد عرفت عدم انطباقها عليها ، وذلك لأن عدم وجوب الزكاة عليه لم يكن من أجل عدم تملّكه للنصاب ، بل لأن المانع من تعلق الوجوب هو أنه عليه‌السلام لم يكن حريصا على جمع المال حتى يحول عليه الحول ، فكان الجود والسخاء أو الزهد يمنع من الادخار ، ولأن اللازم على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيّغ بالفقير فقره.

٥٥٤

أما على مبنى أن الزكاة بمعنى الصدقة المستحبة ـ وهو الصواب ـ فلا مجال لهذا الإشكال قطعا فتأمل.

الشبهة السابعة :

إن تفسير المسلمين الشيعة للآية موضوع البحث لا يتناسب أو لا يتلاءم مع الآيات الواردة قبل وبعد هذه الآية ، لأن تلك الآيات جاءت فيها كلمة «الولاية» بمعنى الصداقة أو المحبة والنصرة ، فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) (١) لا يراد منه ولاية التصرف في الأرواح والأموال لأن بطلان هذا كالمعلوم بالضرورة ، بل المراد لا تتخذوا اليهود والنصارى أحبابا وأنصارا فلا تخالطوهم ولا تعاضدوهم ثم لمّا بالغ في النهي عن ذلك قال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ..) والظاهر ـ كما يدّعي الرازي ـ أن الولاية المأمور بها هاهنا هي المنهى عنها فيما قبل ، ولما كانت الولاية المنهي عنها فيما قبل هي الولاية بمعنى النصرة كانت الولاية المأمور بها هي الولاية بمعنى النصرة ، ولا يمكن أن يكون بمعنى الإمام ، لأن ذلك يكون إلقاء الكلام الأجنبي فيما بين كلامين مسوقين لغرض واحد ، وذلك يكون في غاية الركاكة والسقوط ، ويجب تنزيه كلام الله تعالى عنه (٢).

والجواب :

١ ـ ما استدل به الرازي على كون الآية بمعنى النصرة لوحدة سياق الآية السابقة واللاحقة على آية الولاية ، وأنه لو لا ذلك للزم إلقاء الكلام الأجنبي بين كلامين مسوقين لغرض واحد ، هذا الكلام دونه خرط القتاد ، وذلك بمنع الملازمة المذكورة ، إذ إنّ الآيات القرآنية بسبب نزولها بصورة تدريجية ، وبحسب الوقائع المختلفة تكون دائما ذات صلة بالأحداث التي نزلت الآيات في شأنها ، أي أن

__________________

(١) سورة المائدة : ٥١.

(٢) تفسير الرازي ج ١٢ / ٢٨.

٥٥٥

الآيات الواردة في سورة واحدة أو الآيات المتعاقبة ، ليست دائما ذات مفهوم مترابط ، كما لا تشير دائما إلى معنى واحد ، ولذلك يحصل كثيرا أن تروى لآيتين متعاقبتين حادثتان مختلفتان أو سببان للنزول ، وتكون النتيجة أن ينفصل مسير واتجاه كل آية لصلتها بحادثة خاصة عن مسير الآية التالية لها لاختلاف الحادثة التي نزلت بشأنها ، وبما أن آية الولاية بدلالة سبب نزولها جاءت في شأن تصدق أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام أثناء الركوع ، أما الآيات السابقة واللاحقة لها فقد نزلت في أحداث أخرى ، لذلك لا يمكن الاعتماد هنا كثيرا على مسألة ترابط المفاهيم في الآيات ولكن هناك نوع من التناسب بين الآية ـ موضوع البحث ـ والآيات السابقة واللاحقة لها ، لأن الآيات الأخرى تضمنت الحديث عن الولاية بمعنى النصرة والإعانة ، بينما آية الولاية تحدثت عن الولاية بمعنى الزعامة والإشراف والتصرف ، وبديهي أن الولي والزعيم والمشرف والمتصرف في أمور جماعة معينة ، يكون في نفس الوقت حاميا وناصرا وصديقا ومحبا لجماعته ، أي أن مسألة النصرة والحماية تعتبر من مستلزمات وشئون الولاية المطلقة.

وبعبارة أخرى :

إن الولاية بمعنى النصرة شأن من شئون الولاية المطلقة ، فحيث نهى سبحانه عن اتخاذ الكفار أولياء أي أنصارا أثبت الولاية المطلقة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين الموصوفين ، ومن المعلوم أن الولاية المطلقة أي التصرف في أمور المؤمنين على وجه الإطلاق شاملة للتصرف بالنصرة ، فعلى ذلك يكون في الآية دلالة على كون الله ورسوله والمؤمنين الموصوفين ناصرين لسائر المؤمنين على وجه الكمال ، ولا تكون النصرة إلا بقيام الناصر بأمور المنصور ، وهذا هو معنى ولاية التصرف ، وبذا يلتئم أجزاء الكلام على أحسن اتساق وانتظام.

٢ ـ منع الملازمة الأجنبية الموجبة للركاكة ، إذ المجانبة بينها ليست بأزيد من المجانبة بين الشرط والجزاء في قوله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا

٥٥٦

ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) (١).

فعلى تقدير تسليم الركاكة فيكون ذلك اعتراضا على خليفتهم عثمان الذي جمع القرآن بهذه الصورة ، فحرّف الكلم عن مواضعه ولم يرتّب الآيات كما هو حقها.

٣ ـ إن توافق الآيات وجريانها على نسق واحد ، وكان مقتضيا لحمل الولي هاهنا على الناصر وموجبا لظهوره فيه ، إلا أنه إذا امتنع حمله عليه بمقتضى كلمة الحصر والجملة الوصفية الظاهرتين في المعنى الآخر ، فلا بدّ من رفع اليد عن ذلك الظهور ، وبعبارة أخرى ظهور التناسق ـ لو سلّمنا جدلا بحجيته ـ يوجب حمله على الناصر إلّا أنه معارض بظهور الحصر والوصف في المعنى الآخر إن لم يكونا نصّين فيه ، والثاني أقوى من الأول فيجب المصير إليه.

الشبهة الثامنة :

قال الرازي : أنه تعالى ذكر المؤمنين الموصوفين في هذه الآية بصيغة الجمع ، وحمل ألفاظ الجمع وإن جاز على الواحد على سبيل التعظيم لكنه مجاز لا حقيقة ، والأصل حمل الكلام على الحقيقة (٢).

والجواب :

١ ـ إن الأصل في الاستعمال وإن كان هو الحقيقة ، إذ استخدام صيغة الجمع للدلالة على الواحد يعتبر خلافا للظاهر ولا يجوز بدون قرينة ، إلّا أنه هنا قد قامت القرائن القطعية من أخبار الفريقين على إرادة المعنى المجازي ، فلا بدّ من حمل اللفظ عليه أسوة بغيره من المجازات القرآنية والأحاديث النبوية فأي ضير لو استعمل اللفظ في المعنى المجازي؟!

٢ ـ إن الفخر الرازي نفسه فسّر قوله تعالى (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ

__________________

(١) سورة النساء : ٣.

(٢) تفسير الرازي ج ١٢ / ٢٨.

٥٥٧

وَالسَّعَةِ) بأبي بكر فقال : إن المراد من أولي الفضل أبو بكر وكنّى عنه بلفظ الجمع ، والواحد إذا كني عنه بلفظ الجمع دلّ على علو شأنه كقوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) و (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) فانظر إلى الشخص الذي كنّاه الله سبحانه مع جلاله بصيغة الجمع كيف يكون علو شأنه (١).

فحمل الجمع على التعظيم بأبي بكر ليس بأولى وأوجب من حمله على مولى الثّقلين أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، بل لا يقاس الأوّل بالثاني أبدا.

٣ ـ التعبير بصيغة الجمع عن شخص واحد في القرآن الكريم إمّا أن يكون بسبب أهمية موقع هذا الشخص وعظمة دوره الفعّال فكأنه أمة في رجل ، وإمّا ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه ، ولينبّه على أن سجيّة المؤمنين لا بدّ أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان وتفقد الفقراء حتى إن لزمهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة لم يؤخروه إلى الفراغ منها.

٤ ـ لا يخفى ما في حسن التعبير بلفظ الجمع من اشتماله على التعظيم كما ورد في كثير من آي القرآن ما يدل على تعظيم الذات الإلهية بضمير الجمع.

هذا مع التأكيد على أن كتب الأدب العربي ذخرت بجمل تم التعبير فيها عن المفرد بصيغة الجمع لما يحويه اللفظ من معاني متعددة تضفي عليه سحر البيان وقوة الحجة ، والقرآن الكريم استعمل نفس الأسلوب كما في آية المباهلة ، حيث وردت كلمة «نساءنا» بصيغة الجمع مع أن الروايات التي ذكرت سبب نزولها أكدت أن المراد من هذه الكلمة هي الصدّيقة الطاهرة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين الزهراء فاطمة عليها‌السلام وحدها ، وكذلك في كلمة «أنفسنا» في نفس الآية وهي صيغة جمع ، في حين لم يحضر من الرجال في واقعة المباهلة مع الرسول غير الإمام عليّ عليه‌السلام وكذلك ما ورد في سورة آل عمران / ١٧٢ قوله تعالى (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً ..).

__________________

(١) تفسير الرازي ج ٢٣ / ١٨٧ سورة النور : ٢٢.

٥٥٨

وقد ذكر المفسرون أن الآية نزلت بنعيم بن مسعود في واقعة أحد ، فعبرت عن الواحد بالجمع.

وكذا قوله تعالى في نفس السورة آية ٥٢ (... يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) فنزلت في عبد الله بن أبي ، فهو القائل (يقولون ..) وكذا غيرها (١) من الآيات التي جاءت بصيغة الجمع بينما موارد نزولها هو شخص واحد.

الشبهة التاسعة :

قال الناصبيّ (٢) : إنّا قد بيّنا بالبرهان البيّن أن الآية المتقدمة وهي قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) (٣) من أقوى الدلائل على صحة إمامة أبي بكر ، فلو دلت هذه الآية على صحة إمامة عليّ لزم التناقض بين الآيتين ، وذلك باطل ، فوجب القطع بأنّ هذه الآية لا دلالة فيها على أن عليّا هو الإمام بعد الرسول (٤).

يرد عليه :

١ ـ ما ذكره الناصبيّ تضحك منه الثكلى لأن ما ادعاه خلاف ما اتفقت عليه الأمة ، أما الخاصة فلأنهم اتفقوا على أن الآية ٥٤ من سورة المائدة إنما هي إشارة إلى ظهور دولة الإمام المهدي عليه‌السلام وعجّل الله تعالى فرجه الشريف المتمثلة بشخصه المبارك المقدّس ، وعليه قد دلت الأخبار المتضافرة من طرقنا وطرق العامة كما رواها في غاية المرام ، كما أن المراد بالمرتدين هم الناكثون والقاسطون والمارقون ، وبقوم يحبهم ويحبونه هم أمير المؤمنين عليه‌السلام وأصحابه كما في أخبار أخر.

وأما العامة فلاتفاقهم على أن خلافة أبي بكر كانت مستندة إلى البيعة لا إلى

__________________

(١) سورة الممتحنة : ١ والمنافقون : ٨ والبقرة : ٢١٥ و ٢٧٤.

(٢) أي فخر الدين الرازي في تفسيره.

(٣) سورة المائدة : ٥٤.

(٤) تفسير الرازي ج ١٢ / ٢٨.

٥٥٩

النص ، هذا مضافا إلى أنه لو كانت الآية المذكورة دالة على صحة خلافة أبي بكر فلم لم يستدل بها يوم السقيفة؟!

٢ ـ إن ما ادّعاه الناصبيّ خلاف ما رواه العامة من أن المراد بالآية هم قوم أبي موسى الأشعري اليمني لكونه من اليمن ، أما دعوى أن المراد منها أبو بكر فلم يرو بهذا الصدد سوى خبر واحد لا يقاوم الأخبار المتظافرة عندهم والتي دلت على أن المراد بالقوم هم أهل اليمن ، وقيل إن المراد بالآية الذين جاهدوا يوم القادسية ، وقيل هم الفرس.

قال الناصبي الآلوسي :

«والمراد بهؤلاء القوم في المشهور أهل اليمن ، فقد أخرج ابن أبي شيبة في مسنده ، والطبراني والحاكم وصحّحه من حديث عياض بن عمر الأشعري أنّ النبيّ صلى الله عليه [وآله] لمّا نزلت أشار إلى أبي موسى الأشعري ـ وهو من صميم اليمن ـ وقال : هم قوم هذا ، وعن الحسن وقتادة والضحّاك أنهم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردّة ، وعن السدي أنهم الأنصار ، وقيل : هم الذين جاهدوا يوم القادسية ألفان من النقع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أفناء الناس ، وقد حارب هناك سعد بن أبي وقاص رستم الشقي صاحب جيش يزدجر ، وقال الإمامية : هم عليّ كرّم الله تعالى وجهه وشيعته يوم وقعة الجمل وصفين ، وعنهم أنهم المهدي ومن يتبعه ، ولا سند لهم في ذلك إلا مروياتهم الكاذبة ، وقيل : هم الفرس لأنه صلى الله عليه [وآله] سئل عنهم فضرب يده على عاتق سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه ، وقال : هذا وذووه ، وتعقبه العراقي قائلا : لم أقف على خبر فيه ، وهو هنا وهم ، وإنما ورد ذلك في قوله تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) كما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة فمن ذكره هنا فقد وهم» (١).

__________________

(١) تفسير روح المعاني ج ٤ / ٢٣٩.

٥٦٠