أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

وقد اشترط عمر بن الخطاب أنّه إذا انقسمت الشورى إلى قسمين ، وكان كل ثلاثة في طرف ، فإن الطرف الذي فيه عبد الرحمن بن عوف (صهر عثمان) هو الذي يختار الخليفة ، وهذا ما حصل ، إذ الأكثرية المؤلفة من سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وطلحة اختاروا عثمان بن عفّان.

والسؤال الذي يفرض نفسه :

هل للأمة أن تختار خليفة النبيّ؟

... ليس من الصعب الجواب على هذا السؤال ، فنحن إذا اعتبرنا الإمامة بمعنى الحكم الظاهري على المجتمع الإسلامي ، فإن اختيار الحاكم بالرجوع إلى آراء الناس أمر متداول بين العقلاء ، ومع هذا فإنّ اختيارهم لمن هو دون المستوى المطلوب من العلم والعدالة غير كاف لتبرير زعامة المتقدمين على أمير المؤمنين عليه‌السلام من حيث إنّهم ليسوا بالمستوى المطلوب كي يستلموا إمامة الأمّة.

لكن إذا كانت الإمامة بالمعنى الذي تعتقده الإمامية طبقا لمفهوم القرآن الكريم الذي اعتبر الخليفة أو الإمام بمستوى النبيّ لا يقلّ عنه بشيء ما خلا الوحي التشريعي ، فلا شك حينئذ أنه ليس لأحد الحق في تعيين خليفة النبيّ سوى الله تعالى ورسوله وبأمر من الله تعالى ، ولا خصوصية لانتخاب النبيّ للخليفة سوى ما يأمره الباري به عزوجل.

والخليفة بعد النبيّ يجب أن يتحلّى ـ كما قلنا سابقا ـ بشرطين رئيسيين :

أحدهما : العلم بأصول الديانات السماوية لا سيما القرآن الكريم والسنّة المطهرة.

وثانيهما : العصمة عن الخطايا والآثام ، وغير ذلك مما هو لازم لمن يتصدّى للاضطلاع بمهمات هذا المنصب الجليل.

وتمييز هذه الصفات في شخص ما ، ليست مستطاعة لكلّ أحد إلّا من خلال الله عزوجل ورسوله الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو العالم فيمن توفرت فيه هذه الصفات أو

٥٢١

الشروط المعتبرة ، لا سيّما العصمة منها حيث لا يمكن لأحد أن يتعرّف على هذا المعصوم لكونها أمرا خفيا عن الناس ، يظهره الله على يد من جرت على يديه المعجزة أو الكرامة للتدليل على صحة تعيينه من قبل الله عزّ اسمه.

إنّ الذين عهدوا اختيار الإمام الخليفة إلى الناس ، قد غيّروا في الحقيقة المفهوم القرآني للإمامة ، وإدارة شئون الناس الدنيوية ، وإلّا فإن شروط الإمامة بمعناها الجامع الكامل لا تعرف إلا عن طريق الإلهام الربوبي ، لأنه عزوجل لوحده العالم «استقلالا» بهذه الصفات.

إن مسألة انتخاب الخليفة أشبه بانتخاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لا يمكن أن ينتخبه الناس بالتصويت ، بل الله هو الذي يختاره ويتعرّف عليه الناس عن طريق المعجزة ، لأن الصفات اللازم توفرها في النبيّ لا يعرفها إلّا الله عزّ قدسه.

من هنا يعتقد الإمامية أن النبيّ عيّن الخليفة بأمر من الله تعالى لأمور عدة :

الأول : إنّ الإسلام دين عالمي وخالد لا يقتصر على زمان ولا مكان معينين ، كما أن الإسلام لم يكن بعد قد تجاوز شبه الجزيرة العربية عند شهادة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف يكون عالميا وخالدا ، ولا يترك بعده من يبلّغ الناس أحكام الدين ومباديه.

الثاني : إن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ كل الأحكام الشرعية التي أنزلها الله عزوجل عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفقدان الظروف الموضوعية كي يبلّغها للناس : إما لعدم توفر القابليات لذلك ، وإما لأنّ زمانها لم يأت بعد ، فلا بدّ من حامل لتلك الأحكام لكي يوصلها إلى أهلها.

الثالث : إنّ النبيّ كان يعلم أنه إن لم يعيّن الخليفة ، فسوف تكثر الخلافات والانشقاقات والتأويلات في فهم النصوص مما يؤدي إلى التقاتل والفتنة ، فضلا عن ذلك فإن التنبؤ بالمستقبل المشرق وإعداد المقدمات للاستمرار في إدامة الإسلام كدين تستوعب أحكامه كل مجالات الحياة ، كان من أهم الأمور التي لا بدّ أن يفكّر فيها كل قائد ، فكيف بسيّد القادة والحكماء رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

٥٢٢

وإذا تجاوزنا كل ذلك ، نلاحظ أن النبي كان أحيانا يصدر تعليمات خاصة في كثير من الأمور البسيطة العادية في الحياة اليومية ، فكيف يمكن أن يهمل قضية كقضية الخلافة والإمامة ولا يضع لها منهاجا خاصا؟!

فحياة النبيّ الأكرم زاخرة بالشواهد الحيّة على مدّعى الشيعة ، حيث إنه لم يترك المدينة يوما ما إلّا بعد أن يعيّن من يقوم مقامه فيها ، فكيف يترك الدنيا من غير أن يعيّن أحدا من بعده يخلفه على أمته ، وهو يعلم أن عدم الاستخلاف سيؤدي إلى إراقة الدماء ، وما لا تحمد عقباه؟!!

لا يشك ذو مسكة أن عدم تعيين الخليفة ، ينطوي على أخطار كبيرة على الإسلام اليافع ، وإنّ العقل والمنطق يحكمان بأن أمرا كهذا يستحيل صدوره عن نبيّ الإسلام.

وما قيل ـ والقائل هم العامة ـ من أن رسول الله عهد بذلك إلى الأمة ، عليهم أن يبيّنوا أدلتهم من الكتاب والسنّة والعقل ، وأن النبيّ صرّح بذلك علانية ، ولكن ليس ثمة دليل ـ عندهم ـ من هذا القبيل.

أما ما ادعوه من أن النبيّ أوكل الأمر إلى الأمة تنتخب الخليفة ولم يعيّن بنفسه أحدا ، فدونه خرط القتاد ، وذلك :

لأن الإجماع لم يتحقق على خلافة أبي بكر ، لأن معنى الإجماع هو أن يتفق المسلمون على أمر ما ، وحيث إن إجماعا كهذا لم يحصل عند انتخاب أبي بكر ، اللهم إلا ما حصل عند اجتماع عدد من الصحابة في المدينة ، فانتخبوا أبا بكر ، مع أن سائر المسلمين في سائر بلاد الإسلام لم يشاركوا مطلقا في هذا الاجتماع ولا في الإدلاء بآرائهم ، بل كان الكثيرون في المدينة نفسها كالإمام أمير المؤمنين وسيّد الموحدين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وبني هاشم وثلة من الصحابة الأجلّاء أمثال سلمان وأبي ذر وعمّار والمقداد لم يحضروا ذلك الاجتماع الخطير ، بل كانوا ضده ، وعليه ، فإنّ اجتماعا كهذا لا يمكن قبوله.

٥٢٣

ثم إذا كان هذا الأسلوب هو الصحيح الذي يجب اتباعه ، فلما ذا لم يتبعه أبو بكر في انتخاب خليفته؟ ولما ذا عيّن بنفسه خليفته عمر بن الخطاب؟

فإذا جاز لأبي بكر أن يعيّن خليفته ، فلم لا يجوز لرسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفعل ذلك ، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!

الحق أن يقال : يتعين على النبيّ قبل غيره أن ينصب خليفة على الأمة حتى لا يكون عدم التعيين أو التنصيب وصمة عار عليه إلى أبد الآبدين ، حاشاه روحي فداه ثم حاشاه.

وإذا كانت البيعة العامة التي تلي الانتخاب تحل المشكلة ، فإن ذلك وارد أيضا بالنسبة للنبيّ الأكرم وعلى أفضل وجه.

فضلا عن ذلك : إنّ عثمان بن عفّان جاء للخلافة عن طريق الشورى السداسية ، وهذا مخالف لطريقة عمر بن الخطاب الذي جاء نتيجة تعيين الأول له ، فمجيء عثمان خلاف الطريقة المتبعة في التعيين ، وكسرا للسنّة التي أتت به إلى الخلافة ، بمعنى أن عثمان لم يلتزم الإجماع ولا التعيين الفردي ، بل جاء بمجلس الشورى ، فتكون خلافته غير شرعية على مبدأ العامة القائلين : إنّ الخليفة يأتي بمرسوم تعييني أو انتخابي ، وكلاهما لم يتحققا.

هذا مضافا إلى أنه لو كانت الشورى صحيحة ، فلما ذا تقتصر على ستة أشخاص بعينهم ، ويكتفى برأي ثلاثة من ستة؟!

وهل هؤلاء الثلاثة الذين انتخبوا عثمان هم صفوة الصحابة؟

وهل هم أفضل من عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام حتى يكون رأيهم مقدّما على رأيه الذي عبّر عنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بأنه مع الحق والحق معه ، يدور معه حيثما دار»؟

وهل هناك رواية صحيحة دلت على أفضليتهم من أمير المؤمنين علي عليه‌السلام؟

٥٢٤

أسئلة تخطر ببال كل باحث ومحقق يتعامل مع التاريخ الإسلامي بصدق وإخلاص ، وبقاؤها دون جواب يدل على أن تلك الأساليب الملتوية لم تكن هي الطريق الأمثل لنصب الإمام.

ولنفرض أن نبيّ الإسلام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وفرض المحال عادة ليس محالا ـ لم يعيّن أحدا يخلفه من بعده ، ولنفرض أن اختيار الخليفة كان على عاتق الأمة ، فهل يجوز عند الانتخاب أن نتجاوز الأعلم والأتقى والأكثر تمييزا عن الآخرين من جميع الوجوه ، ثم نبحث عن الخليفة الأدون بكثير من الإمام عليّ عليه‌السلام ، بل لا يقاس بالإمام عليه‌السلام أحد من الناس (١).

لقد قام الإجماع بأعلمية الإمام علي عليه‌السلام من غيره من الصحابة ، بل إن الصحابة أنفسهم كانوا يرجعون إليه في حلّ مشاكلهم والصعوبات التي كانت تعترضهم ، ومنهم عمر بن الخطاب الذي صرّح بعبارات شتى (٢) تدل على ذلك ، منها :

لا أبقاني الله لمعضلة ليس فيها أبو الحسن.

ولو لا عليّ لهلك عمر.

فلو فرضنا جدلا : أن انتخاب الخليفة كان موكولا إلى الناس أنفسهم ، فإن أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام كان أليق الموجودين وأجدرهم بالخلافة ، لكن ويا

__________________

(١) ورد في الحديث عن أمير المؤمنين قال : «لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد ، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا ، هم أساس الدين وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة ..» نهج البلاغة : خطبة ٢ ص ٤٢ ، صبحي الصالح.

وقال في الخطبة الشقشقية : «أما والله لقد تقمصها فلان ـ أي أبو بكر ـ وأنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ، ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير».

(٢) وبقول عمر يندفع ما ذكره ابن أبي الحديد وأمثاله : من أنه يكفي إمامة المفضول دون الفاضل ، فالمسألة بين الإمام علي وعمر لا تدخل في ميزان التفاضل حتى يقدّم عمر على الإمام عليه‌السلام ـ بحسب دعوى ابن أبي الحديد ـ بل تدخل في مقياس العلم والجهل ، وأين هذا من ذاك؟

٥٢٥

للأسف للسياسة الفاحشة أصحابها ، وللدجل فنانوه ومهندسوه ، وسيأتي يوم يعلو فيه صوت الحق ، وتنكّس رايات الضلال ، ويظهر الصبح لذي عينين ، (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (١) (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢).

بما ذكرنا يتبيّن ـ معك أخي القارئ ـ ضرورة تعيين الخليفة بعد النبيّ ، لأن التغافل عنه منقصة في المشرّع الحكيم لا يصح صدوره عنه بحال من الأحوال ، والخليفة المنصوب هو الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، والأدلة على إثبات خلافته أكثر من أن تحصى ، ولكنّنا سنذكر بعضا منها على نحو الاختصار ، تسهيلا على القارئ العزيز وتشريفا بذكر فضائله ومناقبه عليه‌السلام.

والأدلة على إثبات ذلك نوضحه ضمن مقصدين :

المقصد الأول : الأدلة العقلية الدالة على إمامته عليه‌السلام.

المقصد الثاني : الأدلة النقلية الدالة على ذلك.

أما المقصد الأول : فالأدلة على إثبات إمامته عليه‌السلام على ضوء العقل وأحكامه كثيرة منها :

الأول : اللطف الإلهي :

ومفاد هذا الدليل : إن الله تعالى بمقتضى رأفته بالعباد وتلطفه بهم ، يجب عقلا أن يبعث للناس رسولا يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة ، وينذرهم عمّا فيه فسادهم ، ويبشرهم بما فيه صلاحهم. وإنما كان اللطف من الله تعالى واجبا ، فلأن اللطف بالعباد من كماله المطلق وهو اللطيف بعباده الجواد الكريم ، فإذا كان المحلّ قابلا ومستعدا لفيض الجود واللطف ، فإنه تعالى لا بدّ أن يفيض لطفه ، إذ لا بخل في ساحة رحمته ، ولا نقص في جوده وكرمه.

__________________

(١) سورة الأعراف : ٨٩.

(٢) سورة الشعراء : ٢٢٧.

٥٢٦

وليس معنى الوجوب هنا ، أن أحدا يأمره بذلك ـ كما ربما يتصور ـ فيجب أن يطيع ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، بل معنى الوجوب في ذلك هو كمعنى الوجوب في قولك : إنه واجب الوجود «أي اللزوم واستحالة الانفكاك». فكل ما كان له علاقة بما يبعّد الناس عن المعصية ، وما يقرّبهم من الطاعة ، يجب بضرورة العقل أن يوجده لأنه محصّل لغرضه وهو طاعتهم له وانقيادهم له ، ولو لم يوجده لناقض غرضه ، إذ كيف يأمرهم بطاعته ثم لا يحقق لهم الفرص التي تمكّنهم منها.

ووجوب اللطف لا يختص بالأنبياء والمرسلين ، بل يشمل الأوصياء والأولياء المنصوبين والمبعوثين ـ تماما كالأنبياء والرسل ـ من قبل الله تعالى ، لأن مهام هؤلاء كمهام اولئك بمناط واحد ، لا يختلفون عن بعضهم البعض إلّا في تلقي الوحي التشريعي ، وبحسب قاعدة اللطف وجب كون الإمام معصوما ، وغير الإمام علي عليه‌السلام من الثلاثة المتقدمين عليه لم يكن أحد منهم معصوما بالإجماع بين الفريقين ، فيتعين كونه عليه‌السلام هو الخليفة الحق (١).

وبعبارة أخرى : لمّا اقتضى اللطف الإلهي أن يصطفي الله سبحانه الأنبياء لتقريب العباد إلى طاعة الله وإبعادهم عن معصيته ، وللوصول إلى الكمال الذي أراده لهم المولى عزوجل وهو المعرفة ، استدعى هذا اللطف بعينه أن يستمر إلى ما بعد مرحلة الأنبياء ، بأن يجعل للدين أئمة هم أفضل الخلق وأعرفهم وأعلمهم بحقائق الدين ، لكي يوصلوا النفوس التي لم تكتمل بعد إلى الكمال ويبلّغوا الأحكام المشرّعة التي لم تبلّغ للناس لأسباب خاصة ، ويربّوا من لم يتشرف برؤية النبيّ الأكرم والاستفادة منه ، وليس من المعقول أن يهمل الله الأمة ويتركها بدون من يدير شئونها ، في حين إنّ جميع الناس متساوون من حيث الحاجة إلى من يربّيهم ويعلّمهم ، وجميعهم متكافئون بقاعدة اللطف.

فمن البعيد جدا وخلاف الحكمة أن يترك النبيّ أمته بلا راع أو يتركها إلى

__________________

(١) للاستفادة أكثر فليراجع الفوائد البهية ج ١ / ٤١٣ وج ٢ / ٦٠.

٥٢٧

الظروف والصدف ، لأن الإمامة أو الخلافة بنظر الإمامية هي نيابة عن الرسول في المجالات التشريعية والتنفيذية ، وله الولاية المطلقة على العباد بأمر منه تعالى ، فولايته طولية لا عرضية ، لأن الخليفة الإمام هو الرابط بين الناس وبين ربهم في إعطاء الفيوضات الباطنية كما أن النبيّ رابط بين الناس وربهم في إعطاء الفيوضات الظاهرية ، فإذا كان كذلك فكيف يمكن للناس أن يحيطوا بهكذا إنسان حتى يقال إنه يمكن للناس أو أهل الحل والعقد أو الشورى أن يعيّنوا الإمام السفير والحجة تماما كالنبيّ لا فرق بينهما سوى بالوحي التشريعي دون التسديدي حيث يتساويان به.

وبما أن رسالة الإسلام أكمل الرسالات والشرائع ، وقد بلّغ النبيّ الأعظم كل أحكامها الحقة من أصول وفروع ومعتقدات خلال فترة بعثته عليه‌السلام ثم ارتحل إلى ربه ، والرسالة لمّا تستكمل بعد جميع أهدافها ، لذا كان من الواجب في حكمته تعالى من باب اللطف والكمال المطلق المتصف تعالى بهما أن يوكل لإتمام مسيرة تطبيق الشريعة لأناس مطهرين معصومين عن الخطأ والزلل والهوى نتيجة علمه عزوجل الأزلي بأنهم سيطيعونه ولا يعصونه ، يبيّنون أحكامه تعالى في كل عصر ، وفي كل المجالات ، وبالأخص بعد وفاة النبيّ الأكرم حيث الإسلام لم يكن متمكّنا بعد في النفوس التي تربّت على تقاليد الصحراء الجافة ، بالإضافة إلى تربص المشركين في الجزيرة يكيدون للإسلام وللمسلمين ، وهجمات الروم المتكررة على أرض العرب ، مع تحذير النبيّ لأصحابه من أن يرجعوا بعده كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض ، كل ذلك يستدعي وجود إنسان كامل نقي السريرة ، معصوم مسدّد بالفيض الإلهي ، يحلّ مكان الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أداء الرسالة التي جاءت لتنقذ البشرية من جهل العصبية والحقد والرذيلة ، ولينعم الناس بقطر السماء وخيرات الأرض ، وليس في أصحاب النبيّ محمّد من العصمة والكمال سوى الإمام عليّ وأبنائه المطهرين عليهم‌السلام ، ولا يعني ذلك أن إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام كانت ظرفا استثنائيا آنذاك ، وإنما هو إمام حتى مع وجود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإمامته في حياة النبيّ

٥٢٨

محمّد فعلية إلّا أنه سكت لوجود النبيّ العظيم كما سكت الإمام الحسين بوجود الإمام الحسنعليهما‌السلام لأن ما ينطق به الرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو نفس ما يريد أن ينطق به الإمام عليّعليه‌السلام، وكذلك الحسنان عليهما‌السلام.

ومهام النّبوة عظيمة لا بد من مؤازر لها يكون بمستوى عال من الكمال ، فاقتضت حكمة العقل والشرع إيجاده ، وقد نص عليه الرسول منذ بداية بعثته بدءا بحديث الدار ، وانتهاء بحديث الدواة والكتف وهو على فراش الموت.

الثاني : العصمة :

يجب أن يكون الإمام معصوما ؛ ومن ليس بمعصوم فليس بإمام ، وغير الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام لم يكن معصوما بإجماع المسلمين ، فتعين أن يكون هو الإمام عليه‌السلام بعد رسول الله.

وبعبارة أخرى :

الإمام يجب أن يكون معصوما ، وغير الإمام عليّ لم يكن كذلك ، فتعين أن يكون هو الإمام ؛ فهنا صغرى وكبرى من الشكل الأول ؛ أما الكبرى فحاصلة بالإجماع منّا ومن العامة ، وأما الصغرى فلما سيمر من الأدلة النقلية الدالة على وجوب إطاعته عليه‌السلام إطاعة مطلقة ، فلو لم يكن الإمام معصوما لم يؤمن منه الخطأ ، فإما أن يجب متابعته عند صدوره منه ، وإما أن يجب ردعه عنه وإنكاره منه ، فعلى الأول يلزم أن يكون قد أمرنا الله سبحانه بالقبيح وهو محال ، وعلى الثاني يكون الإنكار له مضادا لوجوب طاعته ، وأيضا فإن الحاجة إلى الإمام تماما كالحاجة إلى الرسول أو النبي ، فكما أن زمنا لم يخل من نبي منذ آدم إلى سيّدنا خاتم الأنبياء محمّد كذلك لن يخلو زمن بعد نبينا من وجود إمام يزيل الشبهات ويفسّر الكتاب ويبيّن ويوضح المتشابهات ، ويأتي بالتكاليف الواقعية ، لا سيّما وأن شريعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناسخة لكل الشرائع ، فلا بد لها أن تعطي لكل حادثة مستجدة حلا لها ، وهذا لا يمكن حصره في فترة زمنية قصيرة ، فيتعين إيجاد أشخاص وأفراد كاملين بمنزلة النبيّ يبيّنون ما خفي على الناس من معرفة دينهم ، يشرحون

٥٢٩

لهم ما عجزوا عن حلّه ، وهذا ما يتكفله المعصوم الذي ينوب عن النبيّ ، فإذا لم يوجد الله تعالى للناس من يبيّن لهم ما خفي عليهم مع حاجتهم إلى ذلك ، لأدّى ذلك إلى إغرائهم بالقبيح وهو مستحيل عليه تعالى.

الثالث : النص :

الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه ، وغير أمير المؤمنين علي عليه‌السلام من المشايخ الثلاثة : أبي بكر وعمر وعثمان ، لم يكونوا متعينين من جهة النص بإجماع المسلمين ، وإنما قلنا بوجوب التنصيص لما عرفت من أن العصمة شرط في الإمام ، والعصمة من الأمور الخفية التي لا يعلمها إلّا الله تعالى ، فمن هنا أخبرنا عزوجل أن المتحلي بالعصمة والكمال هو الإمام علي عليه‌السلام دون غيره ، فثبت بذلك أنه المتعين قطعا.

الرابع :

أن سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقتضي التنصيص ، لأنه أشفق بالأمة من الوالد بولده ، ولهذا لم يقصّر في إرشاد أمور جزئية مثل ما يتعلق بدخول المسجد والخروج منه ، بل بيّن أحكام الدخول إلى الحمام وكيفية الاغتسال والاستنجاء وقص الشارب واللحية والأظافر إلى غير ذلك مما تحتاجه الأمة حتى أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة ، ومع ذلك كيف يهمل أمرهم فيما هو من أهم الواجبات وأعظم المهمات ، ولا ينص على من يتولى أمرهم بعده؟!

ومضافا إلى كل ذلك ، فإن النبيّ لم يفارق المدينة قط إلّا وخلّف فيها من ينوب عنه ، ولا أرسل جيشا إلّا وأمر عليه كما تقتضيه الإدارة والسياسة ، فكيف يمكن أن يتركهم في غيبته الدائمة معرضا للفتن ، وغرضا لسهام الخلاف على قرب عهدهم بالكفر ، وتوقع الانقلاب منهم ووجود من مردوا على النفاق ، وتربص الكفار بهم الدوائر كما نطقت به آيات الكتاب العزيز ، وكيف لم يطالبه المسلمون على كثرتهم بنصب إمام لهم مع طول مرضه وإعلامه مرارا لهم بموته؟ فلمّا لم يقع

٥٣٠

الطلب منهم مع ضرورة حاجتهم إلى إمام علم أنه قد أغناهم بالبيان الذي علمه الشاهد والغائب ، وما هو إلّا نص الغدير ونحوه ، فيكون أمير المؤمنين عليّ هو الإمام ، ولا يمكن أن يكون تشريع جواز ترك الاستخلاف سببا لترك النبيّ النص كما زعموا ، لأنّ من فوائد التشريع اتباع الناس للنبيّ المشرّع في فعله ، وبالضرورة لم يتفق عند أحد من الملوك أو الخلفاء ـ الذين تعاقبوا زورا على سدة الخلافة الإسلامية ـ أن ترك النص على من بعده عملا بالسنّة.

هذا مضافا إلى أن الله تعالى قد أكمل دينه وأتم نعمته في غدير خم بقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (١).

ومن المعلوم أن الإمامة من تمام الدين ، فمن زعم أن الله تعالى لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب الله ، ومن ردّ كتاب الله فهو كافر ، ولو ذهب النبيّ ولم يعيّن خليفة لدل على أن الدين لم يكتمل ، وأن النعمة لم تتم ، وذلك بسبب حصول الخلاف والشّقاق بين المسلمين من جراء السقيفة وتعنت أصحابها وقمعهم للمخالفين لها.

الخامس : كون الإمام أفضل الرعية.

أي يجب أن يكون الخليفة أو الإمام أفضل الرعيّة علما وعملا ، وغير أمير المؤمنين عليه‌السلام من الثلاثة لم يكونوا كذلك ، فتعيّن كونه عليه‌السلام هو الإمام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أما أن الإمام لا بدّ أن يكون أفضل فلأنه لو لم يكن أفضل لا يخلو إما أن يكون مساويا أو مفضولا ، فأما المساوي فيستحيل تقديمه لأنه يفضي إلى الترجيح بلا مرجح ، وأما المفضول فترجيحه على الفاضل يبطله العقل لحكمه بقبح تعظيم المفضول وإهانة الفاضل ، ورفع مرتبة المفضول ، وخفض مرتبة الفاضل ، وهو بديهي عند العوام فضلا عن الخواص.

__________________

(١) سورة المائدة : ٣.

٥٣١

وخالف الأشاعرة ذلك ، فأجازوا تقديم المفضول على الفاضل تأسيسا لخلافة أئمتهم الذين سنّوا لهم هذا الاختيار مع الاعتقاد ضمنا أن الإمام عليا عليه‌السلام أفضل الجميع.

وقد خالفوا في ذلك مقتضى العقل ونص الكتاب ، فإن العقل يقبّح تعظيم المفضول وإهانة الفاضل كما قلنا سابقا ، فلينظر الإنسان إلى عقله هل يحكم بتقديم المبتدي في الفقه على مثل ابن عبّاس وأمثاله؟! وقد نص على إنكاره القرآن أيضا فقال تعالى :

(أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(١).

(هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢).

وغير الإمام عليّ عليه‌السلام أدنى بدرجات منه بل لا يقاس به روحي فداه أحد من الخلق على الإطلاق سوى نظيره وحبيبه رسول الله محمّد والصدّيقة فاطمة عليهما‌السلام ، أما أن أحدا لم يكن أفضل منه فبتسليم أعيان العامة على ذلك منهم ابن أبي الحديد حيث قال :

«وأما نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون من تفضيله عليه‌السلام ، وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الأفضل ، وهل المراد به الأكثر ثوابا أو الأجمع لمزايا الفضل والخلال الحميدة ، وبيّنا أنه عليه‌السلام أفضل على التفسيرين معا ، وليس هذا الكتاب موضوعا لذكر الحجاج في ذلك أو في غيره من المباحث الكلامية لنذكره ، ولهذا موضع هو أملك به» (٣).

__________________

(١) سورة يونس : ٣٥.

(٢) سورة الزمر : ٩.

(٣) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١ / ١٦. تنبيه : صحيح أن شارح النهج يقول بأفضلية الأمير عليه‌السلام على الثلاثة المتقدمين عليه ، لكنه لم يعتقد بوجود نص على الأمير عليه‌السلام كما يلوح ـ

٥٣٢

وكثرة الثواب والخصال الحميدة مستجمعة فيه صلوات الله عليه ، أما كثرة الثواب فلظهور أنه مترتب على العبادة ، وبكثرتها وقلتها تتفاوت كمية الثواب والجزاء زيادة ونقصانا ، كما أن سيرته عليه‌السلام تشهد على أنه أعبد الكل ، فيكون أكثر مثوبة ، ولو لم يكن له من العبادات إلّا ضربته يوم الخندق التي قال فيها رسول الله : «إنها أفضل من عبادة الثقلين» لكفى في إثبات هذا المرام فضلا عن سائر عباداته التي لا يضبطها الدفاتر والصحف ولا تحصيها الزبر والطوامير.

وأما الخصال الحميدة والفضائل النفسانية وسائر جهات الفضل فكثيرة جمة يعجز الجن والإنس عن إحصائها ، إذ كل نفس من أنفاسه الطاهرة معجزة وفضيلة ، كانت من الله وإلى الله تعالى ، ومن كان كله لله فكيف يمكن إحصاء فضائله؟!

من هنا أشار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذا الأمر بقوله كما روى الخطيب الخوارزمي : «لو أن الرياض أقلام والبحر مداد والجن حسّاب والإنس كتّاب ما أحصوا فضائل علي بن أبي طالبعليه‌السلام».

السادس : الوصية عند العقلاء.

اتفق العقلاء من كل دين حتى عند عبدة الأوثان أن يوصوا بحفظ أمور دينهم ودنياهم بعد مماتهم ، وهذه الوصية مما اقتضتها أحكام الفطرة والعقل والشرع.

أما كونها من أحكام الفطرة فلأن البشر مجبولون بالفطرة على أن يشرفوا على أعمالهم بأنفسهم ، ووفقا لما ترتئيه عقولهم وأهواؤهم ، فلا يحب الإنسان أن يشاركه غيره في قراره وما تهواه نفسه ، فهو لا يريد أن يفلت زمام أموره من يده فتكون بيد شخص آخر غريب عنه ، وهذه الرغبة لا تنتهي عند ساعة الاحتضار بل تمتد إلى ما شاء الله من عمر الزمن ما دام الإنسان يشاهد آثاره شاخصة بعد الموت ، لذا نراه يوصي إلى غيره لينجز له أعماله التي عجز عن تحقيقها في حياته

__________________

ـ ذلك من كلامه في شرح الخطبة الشقشقية عند قوله : أرى تراثي نهبا ، وهذا توهم فاسد صدر من ناصب عنيد ، وقد أجاد أستاذه النقيب أبو جعفر حينما قال له : أبيت إلا ميلا إلى المعتزلة. لاحظ شرح النهج ج ١٢ / ٢٤٨.

٥٣٣

أو حالت الظروف في عدم تحقّقها أو لديمومة استمرارها لأهميتها ، وهذه الغريزة الفطرية ملحوظة حتى عند الحيوانات ، إذ أن أكثرها عند ما يشعر بقرب موته ، ويرى علامات الموت ، فإنه يشيد لأفراخه بيتا محكما ، وعشا رصينا بعيدا عن كل خطر ، فهذا حال الحيوان فكيف بالإنسان الحريص على تحقيق أمانيه ومراميه ، فهل يعقل أن يذهب النبيّ من عالم الناسوت ويترك أمته تتلاعب بها الأهواء وتتقاذفها الشهوات وسطوات الجبارين والظالمين المستبدين يغيّرون دينه ويبدّلون أحكامه وينهبون تراثه؟!

هذا بحسب الفطرة ، وأما بحسب العقل ، فلا شك أن العقل يفرض سيطرته على الإنسان من خلال ما يفكّر به الإنسان نفسه من ضرورة الاهتمام بأموره وتنظيمها وعدم إهمالها ، ويدرك أن عليه تعيين وصي له بعده لحفظها وحراستها لتنظيم آثاره والإفادة منها ويوصي بالمحافظة عليها لكي يتسنى له الإفادة منها بعد موته بنفس المقدار الذي كان يطمع أن يفيد منها في حياته ؛ والعقلاء في العالم ينظرون إلى الشخص الذي يموت بلا وصية تاركا وراءه زوجة وذرّية ومحل تجاري أو مزرعة أو أمر متعلّق بالحكومة أو بالمسائل العلمية ، أو أمثال ذلك بدون تدبير ، ينظرون إلى مثل هذا الشخص نظرة امتهان وازدراء ، ويرونه إنسانا ناقصا ويذمّونه على ترك الوصية على عكس ما لو أوصى وعيّن له وصيا كفوءا خبيرا بصيرا مدبرا يدير شئونه ويتولى أمر ذرّيّته من أولاده الصغار وغيرهم ، فإنهم يثنون عليه ويمجّدونه وينظرون إلى عمله بوصفه عملا إنسانيا.

وأما حكم الشرع الذي شرّع على أساس حكم الفطرة وحكم العقل والوصية في ضوئه حكم ممدوح ومستحسن في جميع الشرائع والأديان. وقد جاءت الوصية في الشريعة الإسلامية المقدّسة التي هي أكمل الشرائع وأتمّها بحدود ومواصفات معيّنة واضحة لا غبار عليها (١) : قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ

__________________

(١) الفوائد البهية ج ٢ / ٦٣.

٥٣٤

تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١).

السابع :

الإمامة سلطنة إلهية وليست رئاسة عامة كما يدّعي العامة ، إذ الرئاسة العامة بعض لوازم تلك السلطنة ، وهذه تستلزم أن يكون صاحبها على مقدار كبير من المعرفة بالله وبما جاء به الأنبياء والمرسلون وأن يكون متحليا بأوصاف الزهد والشجاعة والإيمان والعبادة ، ومن الواضح اتفاق الأمة على أن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام هو الوحيد من بين الصحابة وجميع الأمة بل الخلق كان مستجمعا لهذه الصفات على الوجه الأكمل ، فتعيّن كونه عليه‌السلام الإمام والخليفة بعد رحيل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

هذه بعض الأدلة العقلية الدالة على أحقية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بالخلافة دون غيره ممن تقدّم عليه من المشايخ ومن تأخر عنه من ملوك بني أمية وبني العبّاس.

وأما المقصد الثاني : وهو الأدلة النقلية الدالة على أحقيته بالخلافة ، فهي على قسمين :

القسم الأول : الآيات القرآنية.

القسم الثاني : الأحاديث النبوية الشريفة.

أما القسم الأول : فالآيات المجيدة كثيرة جدا نذكر بعضا منها :

الآية الأولى :

قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٢).

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨٠ ـ ١٨١.

(٢) سورة المائدة : ٥٥.

٥٣٥

اتفق المفسرون (١) قاطبة على أنها نزلت في بيان وأحقية فضل الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حيث تصدّق بخاتمه على فقير وهو راكع ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للفقير :

من أعطاك هذا الخاتم؟ (وسؤاله لا من جهل وإنما تجاهل لإبراز الفضل).

قال الفقير : ذاك الراكع ، فأنزل الله تعالى (إِنَّما وَلِيُّكُمُ ...).

وأخرج السيوطي اثني عشر حديثا بطرق متعددة تدل على أن الآية المباركة نزلت في الإمام عليّ عليه‌السلام ، منها ما أخرجه عن ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال :

أتى عبد الله بن سلام ورهط معه من أهل الكتاب نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الظهر ، فقالوا : يا رسول الله ، إن بيوتنا قاصية لا نجد من يجالسنا ويخالطنا دون هذا المسجد ، وإن قومنا لمّا رأونا قد صدقنا الله ورسوله وتركنا دينهم أظهروا العداوة وأقسموا أن لا يخالطونا ولا يؤاكلونا ، فشق ذلك علينا ، فبينا هم يشكون ذلك إلى رسول الله إذ نزلت هذه الآية على رسول الله (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ...) ونودي بالصلاة صلاة الظهر ، وخرج رسول الله فقال : أعطاك أحد شيئا؟

قال : نعم ، قال : من؟

قال : ذاك الرجل القائم ، قال : على أي حال أعطاكه؟

قال : وهو راكع ، قال : وذلك عليّ بن أبي طالب ؛ فكبّر رسول الله عند ذلك وهو يقول (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ).

وتقريب الاستدلال بالآية المباركة :

__________________

(١) لاحظ : المناقب لابن المغازلي ص ٣١١ رقم ٣٥٤ وتفسير الدر المنثور للسيوطي ج ٢ / ٥١٩ وشواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ج ١ / ١٦١ وتفسير ابن كثير ج ٢ / ٦٤ وتفسير الكشاف ج ١ / ٦٣٥ وإحقاق الحق ج ٢ / ٣٩٩ والمراجعات ص ٢٥٢.

٥٣٦

أن لفظ «الولي» قد جاء في اللغة تارة بمعنى المعين والناصر كقوله تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (١).

وأخرى بمعنى المتصرف بالأمر الشامل للأموال والأنفس والأحق به والأولى بذلك ، ولا يناسب مع وجود أداة الحصر استعمال لفظ «الولي» بغير الأولى بالتصرف لا سيّما في قولهم «السلطان وليّ من لا ولي له ، ووليّ الدم أولى به ، وأيّما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل» إذ حمل الولاية في الآية على المعنى الأول غير صحيح ، لكونها بذلك المعنى عامة لجميع المؤمنين كما يشهد بذلك الآية السابقة ، فلا بد أن يكون المراد به المعنى الثاني كي يستقيم الحصر المستفاد من كلمة «إنّما».

وبعبارة أخرى :

إن الحصر في الآية لا يراد منه سوى الأولى بالتصرف وإلا فلا يصح الحصر إذ المحبة والنصرة لا اختصاص لهما بقوم دون قوم ، هذا مضافا إلى وحدة السياق فإن المراد من الولي في الله ورسوله هو الأولى بالتصرف ، وهكذا في الذين آمنوا ، كما أن خارجية القضية تشهد بكون المراد منها هو ما وقعت من الإمام عليّ عليه‌السلام بمحضر الصحابة.

فإذا ثبت أن المراد به الأولى بالتصرف فالمراد به أمير المؤمنين عليه‌السلام لا غير ، وذلك للإجماع المركّب الدال على أن الآية محصورة بشخص واحد نزلت بحقه وهو الإمام عليّ عليه‌السلام ؛ لدلالة الأخبار المتواترة من العامة والخاصة على نزوله فيه عليه‌السلام.

ولو قيل إن الولي مشترك معنوي موضوع للقائم بالأمر أي الذي له سلطان على المولى عليه ولو في الجملة ، لأجبنا بنعم فيكون مشتقا من الولاية بمعنى السلطان ، ومنه ولي المرأة والصبي والرعية أي القائم بأمورهم ، وله سلطان عليهم

__________________

(١) سورة التوبة : ٧١.

٥٣٧

في الجملة ، ومنه أيضا الولي بمعنى الصديق والمحب فإن للصديق ولاية وسلطانا في الجملة على صديقه ، وقياما بأموره ، وكذا الناصر بالنسبة إلى المنصور ، والحليف بالنسبة إلى حليفه ، والجار بالنسبة إلى جاره ، إلى غير ذلك من معاني لفظ الولي.

فحينئذ يكون معنى الآية إنما القائم بأموركم هو الله ورسوله وأمير المؤمنين ، ولا شك أن ولاية الله تعالى عامة في ذاتها بقرينة الحكمة ، وكذا ولاية النبيّ والوصي فيكون الإمام عليّعليه‌السلام هو القائم بأمور المسلمين والسلطان عليهم والإمام لهم.

ولو سلّم تعدد المعاني واشتراك الولي بينها معنى فلا ريب أنّ المناسب لإنزال الآية في مقام التصديق أن يكون المراد بالولي هو القائم بالأمور لا الناصر ، إذ أي عاقل يتصور أن إسراع الله سبحانه بذكر فضيلة التصدق واهتمامه ببيانها بهذا البيان العجيب لا يفيد إلّا مجرد بيان أمر ضروري هو نصرة الإمام عليّ للمؤمنين.

ولو سلّم أنّ المراد الناصر ، فحصر الناصر بالله ورسوله والإمام عليّ عليه‌السلام لا يصحّ إلا بلحاظ إحدى جهتين :

الأولى : إنّ نصرتهم للمؤمنين مشتملة على القيام والتصرف بأمورهم ، وحينئذ يرجع إلى المعنى المطلوب.

الثانية : أن تكون نصرة غيرهم للمؤمنين كلا نصرة بالنسبة إلى نصرتهم ، وحينئذ يتم المطلوب أيضا ، إذ إنّ لوازم الإمامة النصرة الكاملة للمؤمنين ، لا سيّما وقد حكم الله عزوجل بأنها في قرن نصرته ونصرة رسوله.

فعلى هذا الأساس فإن نصرة الله تعالى لعباده المؤمنين بأن أخرجهم من الظلمات إلى النور بإرسال الأنبياء والرسل والأولياء ليبيّنوا لهم ما ينفعهم وما يضرهم فبذا يكونوا قد نصروهم بهدايتهم التشريعية والتكوينية لهم ، فنصرة النبيّ لهم بأن ينصّب عليهم خليفة لا أن يتركهم هملا بلا راع يتناحرون ويتقاتلون من

٥٣٨

أجل تنصيب الخليفة ، كما أن نصرة الولي لهم إنما تكون ببسط معارفه وأحكامه وإنفاذ أمره والأخذ منه لا أن يحبسوه في داره يحصون عليه أنفاسه ، بل يعتدون عليه وزوجه فيضربونها ويجهضونها ويكسرون ضلعها ، ويأخذونه مكبّلا بحمائل سيفه ليبايع ، فأي نصرة حينئذ منه للمؤمنين وهو بهذه الحال؟! وهل من النصرة أن يكون عليه‌السلام منكسر البال والخاصر يصيح ويبكي يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني؟!!

أم أن النصرة تستدعي أن يكون ذا أنصار يجاهدون بين يديه ، يذبّون عنه الضيم ويدفعون عنه الأذى ، ويبسطون أفكاره وأحكامه ومعارفه!!

وبالجملة : قد دلت الآية الكريمة على انحصار الولاية بالله وبرسوله وأمير المؤمنين بأي معنى فسرت به الآية ، وأن ولايتهم من سنخ واحد ، فلا بدّ أن يكون أمير المؤمنين ممتازا على الناس جميعا بما لا يحيط به وصف الواصفين ، فلا يليق إلا أن يكون إماما لهم ونائبا عن الله تعالى عليهم جميعا ، لأن معنى نصرة الله ونصرة رسوله ونصرة أوليائه إنما هو التدخل في خصوصيات العباد والقيمومة على تصرفاتهم وشئون حياتهم ، وليس هناك معنى غير هذا المعنى للنصرة ، فلتذهب تأويلات العامة العمياء أدراج الرياح أمام نصرة الله ورسوله لوليه الأعظم عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

ويشهد لإرادة الإمامة من هذه الآية :

إن الله تعالى نفى أن يكون لنا وليّ غير الله وغير رسوله والذين آمنوا بلفظة «إنّما» ولو كان المراد به الموالاة في الدين لما خص بها المذكورين ، لأن الموالاة في الدين عامة في المؤمنين كلهم ، قال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (١) ويشهد لما قلنا : أنّ لفظة «إنما» تفيد التخصيص ، لأن القائل إذا قال : إنما لك عندي درهم ، فهم منه نفي ما زاد عليه ، وقام مقام قوله : ليس لك عندي

__________________

(١) سورة التوبة : ٧١.

٥٣٩

إلّا درهم. ولذلك يقولون : «إنمّا النحاة ، المدققون البصريون» ويريدون نفي التدقيق عن غيرهم ، ومثله قولهم : «إنما السخاء سخاء حاتم» يريدون نفي السخاء عن غيره ، قال الأعشى :

ولست بالأكثر منهم حصى

وإنّما العزة للكاثر

أراد نفي العزة عمّن ليس بكاثر ، ويدل أيضا على أن الولاية في الآية خاصة بأمير المؤمنينعليه‌السلام أنه قال : «وليكم» فخاطب به جميع المؤمنين ودخل فيه النبيّ وغيره ، ثم قال : «ورسوله» فأخرج النبيّ من جملتهم لكونهم مضافين إلى ولايته ، فلما قال : «والذين آمنوا» وجب أيضا أن يكون الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية وإلّا أدى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه ، وأدى إلى أن يكون كل واحد منهم وليّ نفسه ، وذلك محال (١).

فإذا ثبت أن المراد بها في الآية هو ولاية التصرف ، فيثبت أن أمير المؤمنين هو المخصوص بها وذلك لأمور :

الأول : أن كل من قال : إن معنى الولي في الآية معنى الأولى بالتصرف قال إن الإمام عليّا هو المخصوص به ، ومن خالف في اختصاص الآية يجعلها عامة في المؤمنين وقد تقدم بطلانه.

الثاني : إن الفريقين (الخاصة والعامة) رووا أن الآية نزلت فيه عليه‌السلام خاصة.

الثالث : إن الله وصف الذين آمنوا بصفات ليست حاصلة إلّا فيه ، لأنه قال (وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) فبيّن أن المعنى بالآية هو الذي أتى الزكاة في حال الركوع ، وأجمعت الأمة على أنه لم يؤت الزكاة في حال الركوع غير أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وبما أن الآية واضحة الدلالة في ولاية أمير المؤمنين ، لذا كانت بدرجة من

__________________

(١) تفسير التبيان ج ٣ / ٥٦١ والفوائد البهية ج ٢ / ٢٠٤.

٥٤٠