أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

طالب عبد مناف عليه‌السلام وفاطمة بنت أسد عليها‌السلام ، وهكذا تعدّى الظلم إلى كل ما يمت الإمام عليعليه‌السلام بصلة.

لقد ظلمه المتأخرون أيضا حين شكّكوا بإسلامه ، وأنه أسلم وهو صبي ، ولا اعتبار بإسلام الصبي ، وظلموه حينما نفوا عنه فضيلة جهاده مع النبي ، حتى مبيته على الفراش ليست كرامة بنظر أعدائه ، ولا شدة وطأته في الحروب منقبة بنظر حسّاده ، ولو سلّموا بتلك الفضائل فليست دليلا على إمامته بنظر هؤلاء ، فهل هناك أحد من الصحابة ظلم كما ظلم أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام!!؟

وهو الذي كان يدلّي رأسه في بئر يبثّ همومه فيها لقلة الناصر والمعين ، وهو الذي كان يتمنى وجود حملة لأسراره ، فأيّ ظلم لحق بسيد المؤمنين علي ، وما ذنبه حتى يلحقه هذا الظلم الفظيع؟! كل ذنبه أنه مع الحق والحق معه ، وهو القائل : «ما ترك لي الحق من صديق» فدائما الناس مع الباطل وضد الحق ، وعليّ مع الحق ضد الباطل ، فلا يجاري الناس ولا يسايرهم على حساب الحق وهو القائل : «لأبقرنّ الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته».

وهكذا عاش الإمام مظلوما لا تعرف قيمته ، بقي محزون النفس مكلوم القلب ، يتلقّى في كل مرة من زمانه ألوانا مريعة من الرزايا والخطوب ينظر إلى العدل وهو مظلم ، وإلى الخير وهو مضيّع وإلى البغي قد كثر ، وإلى الجور قد طغى ، ويرى الباطل قد استحكم وأصبح جيشه متمردا عليه يأمره فلا يطيع ويدعوه فلا يستجيب ، فقد خلد إلى الراحة ، وسئم التعب وكره الجهاد في سبيل الله ، وتركت هذه الكوارث أسى مريرا في نفسه فكان يتمنى الرحيل عن الدنيا ليستريح من مشاكلها وشرورها ، وقد انطلق يدعو الله ليعجّل انتقاله إليه بقوله قائلا : «أما والله لوددت أن الله أخرجني من أظهركم وقبضني إلى رحمته منكم».

وقد زاد في أسى الإمام وأحزانه فقده للبقية الصالحة من صحابة الرسول

٤١

ممن عرفوا اتجاهه ودرسوا في مدرسته أمثال عمار بن ياسر والمقداد وأبي ذر وهاشم المرقال وذي الشهادتين وأمثالهم من عيون المؤمنين الذين كان يعتمد عليهم في إقامة الحق ودحض الباطل وإحياء معالم الدين.

وبعد فقده لهم أصبح غريبا في ذلك المجتمع لا ناصر له ولا معين ، من هنا أخذ يبتهل إلى الله تعالى ويتضرّع إليه أن ينقله إلى جواره ، وهكذا أحب الله الإمام عليا عليه‌السلام فاستجاب دعاءه ، فكانت ليلة التاسع عشر من شهر رمضان حيث طلع قرن الشيطان ابن ملجم وضرب الإمام عليا على رأسه الشريف فقدّ جبهته الشريفة التي طالما عفّرها بالخضوع لله بكل ما للخضوع من معنى ، وانتهت الضربة القاسية من اللئيم ابن ملجم إلى دماغ الإمام المقدس الذي ما فكّر إلا في نفع الناس وسعادتهم ورفع الشقاء عنهم ، ولما أحسّ بلذع السيف في رأسه صاح : «فزت ورب الكعبة».

لقد فاز الإمام عليه‌السلام وأي فوز أعظم من فوزه؟ فقد جاءته النهاية المحتومة وهو بين يدي الله يذكره ، في أقدس بيت وهو مسجد الكوفة وفي أعظم شهر وهو شهر الله رمضان.

لقد فاز إمام الحق لأنه أرضى ضميره الحيّ ، فلم يوارب ولم يخادع منذ بداية حياته حتى النهاية ، وقد قتل على غير مال احتجبه ، ولا على دنيا أصابها ولا سنّة في الإسلام غيّرها.

لقد فاز الإمام عليه‌السلام حيث أفاض عليه الخلود لباس البقاء ليكون مظهرا للعدالة ، وعنوانا للحق ، ومثالا للإنسانية الكاملة التي ارتقت سلّم الكمال حتى بلغت نهايته.

لقد فاز الحق والعدل بفوزه ، فأي فوز أعظم من أن يذكر قرينا للحق والعدل ، وتذكر مباديه المقدّسة أعجوبة لقادة الفكر الإنساني يسيرون على ضوئها في حقل الإصلاح.

٤٢

فاز الإمام وفاز من تمسك به في حياته وبعد شهادته ، فهو وإن لم يكن معنا بجسده ، لكنّه معنا بكلماته ووصاياه ونهجه ، ليبقى الإمام علي عندنا مصدر وعي وجهاد وتقوى ، ولنلتزم الإمام عليا فكرا وروحا وقدوة ، ولنكن صورة مصغّرة عنه ولو بنسبة ضئيلة.

وأخيرا فيا أيها الدنيا ويا أيها الناس ، ويا أيها التاريخ ، عليّ أمير المؤمنين هو عليّ ، سواء أعرفتموه أم جهلتموه ، هو شهيد المحراب وأبو الشهداء وعظيمهم وقائد الغر المحجلين وحبيب الله ورسوله ، ومهما ادلهمّ الخطب ومدّ الظلم سيقانه على الأفراد والمجتمعات ، فإن حقه عليه‌السلام لن يضيع ، وسيبقى من ينصره ، وسيأتي اليوم الذي يظهر فيه حقه ساطعا لا تزاحمه ظلمة ، فإذا ظلمه المسلمون فإنّ له أنصارا عظماء ، إن أنصاره هم قادة الإنسانية على رأسهم رسول الله محمد ، كما أن له أنصارا لا يعرفون سوى حقّه ولا يتوجّهون إلّا إلى قبلته ، فهم مستغرقون بفضائله وذكره.

فيا سيّدي يا عليّ! أيّها الحبيب والصّديق والأب العطوف الشفوق ، أيها الطائر الملكوتي ، يا من نظرت إلى الفجر الصادق والأفق النيّر من بطن الكعبة حين فتحت عينيك في أحضانها وغرّدت أنغام الحياة مع نسيم الصبح ، وملأت الدنيا حبا وحنينا وشوقا إلى المعبود المطلق.

سيّدي أيها الغريب يا أخا رسول الله محمّد ويا زوج البتول فاطمة يا أنيس اليتامى والمساكين يا معين الضعفاء ، يا من عاشرت شمس هذه الدنيا ثلاثا وستين عاما ، ثم عرّجت بجناحك المدمى ووجهك الصبيح الخضيب بقلب مطمئن ، عرجت من محراب الشهادة لتخترق الأفق المحمّر بدمك الطاهر الزكي ، وبين فجر شروقك المنير وأفق غروبك القاني تركت العالم حيران بين الشوق والحسرة.

٤٣

والسؤال الجدير بالذكر : لما ذا البحث في تاريخنا الماضي؟ وما ذا نستفيد من طرح مباحث الخلافة ، وهل البحث في ذلك سوى مضيعة للعمر وفصم عرى وحدة المسلمين ، لا سيّما أنّ أصحاب ذلك التاريخ مضى زمنهم وتصرّمت أيّامهم ، فما ذا يفيدنا نبش الماضي ، في حين علينا التطلع إلى الحاضر والمستقبل؟!

هذا التساؤل يكرّره كثيرون ممن ينشدون توطيد عرى الوحدة بين المسلمين ، والوقوف جنبا إلى جنب ضد المتآمرين والمنافقين والكافرين.

والجواب :

أولا : نحن الإمامية مع كل صرخة حقّ تلمّ شعث المسلمين وتوحّد كلمتهم ، ولكن ليس ثمة شيء في ديننا إلّا وله علاقة بتاريخنا الماضي ، وما نملكه اليوم إنما هو نتاج الماضي.

ثانيا : إنّ التحدث عن الماضي يعني التحدث عن حق أنزل من أجله الوحي ، فعدم الإفصاح عنه يعني إسدالك الحجب والستائر عليه ، مما يعني تمييعه والإجهاز عليه.

وما السكوت عن الأضاليل والالتجاء إلى سبل التغطية على فضائح التاريخ إلّا خيانة عظمى للحق والحقيقة ، وإغراء للأجيال بقبح الأفعال ، مما يسبّب اختلاط تلكم الفضائح بحقائق الدين فيصير الإسلام ضحية كل رام ، وطعنة لكل طاعن ، وأكلة لكل طاعم.

ثالثا : التحدث عن التاريخ ومنه قصة الخلافة وما جرى بعدها ، يعني التحدث عن شيء أكّدته النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ، فلو كان التحدث عنها أمرا غير مألوف أو قبيحا لكان ما ذكره القرآن والسنّة أمرا غير مألوف أو قبيحا ، وللغى ذكرها فيهما ، والله ورسوله منزهان عن ذكر اللغو.

٤٤

رابعا : لو كان التحدث عن «الخلافة» التي هي من مصاديق تاريخنا ، أمرا مضى زمنه ، فلما ذا ذكر القرآن سنن الغابرين كفرعون وهامان والنمرود؟ ولما أشار القرآن الكريم إلى وجوب السير في الآفاق الأرضية والأنفسية والتاريخية لأخذ العبرة والعظة :

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١).

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (٢).

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (٣).

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (٤).

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) (٥).

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (٦).

إن البحث عن مفهوم الإمامة والخلافة في الإسلام بصدق إرادة وقوة عزم ، يمكن من خلاله أن يكتشف الباحث حقيقة كثير من المفاهيم الضائعة أو المطموسة ، لأن كل مفاهيم الإسلام أو جلّها مرتبط بنظام الإمامة المتمثل بشخص مولى الثقلين سيّدنا عليّ بن أبي طالب روحي فداه بعد النبيّ الأكرم

__________________

(١) سورة يوسف : ١١١.

(٢) سورة النساء : ٢٦.

(٣) سورة آل عمران : ١٣٧.

(٤) سورة الأنعام : ١١.

(٥) سورة الروم : ٤٢.

(٦) سورة النمل : ٦٩.

٤٥

وأولاده النجباء من بعده ـ أقصد العترة ـ لأنهم الينبوع الصافي ، وما يرشح من خير وسعادة في مجتمعات المسلمين بل المجتمعات البشرية ما هو إلا ما طفح من خيرهم وعلومهم وأسرارهم ، من هنا قال عمر بن الخطاب بألفاظ متعددة (١) :

١ ـ اللهم لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب.

٢ ـ لا أبقاني الله بأرض ليس فيها أبو الحسن.

٣ ـ لا أبقاني الله بعدك يا علي.

٤ ـ أعوذ بالله من معضلة ، ولا أبو الحسن لها.

٥ ـ أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن.

٦ ـ اللهم لا تنزل بي شديدة إلّا وأبو الحسن إلى جنبي.

٧ ـ لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن.

٨ ـ لو لا علي لهلك عمر.

ألم ينقل الرواة عن سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال :

«أنا مدينة العلم وعليّ بابها (٢)».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا :

«أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي طالب (٣)».

«علي خازن علمي».

ومن منطلق أن أبا الحسن عليه‌السلام حلّال المعضلات العلمية والسياسية

__________________

(١) لاحظ الغدير ج ٣ / ٩٧ عن المناقب والرياض النضرة وتذكرة السبط وطبقات الشافعية والإصابة والصواعق وفيض القدير.

(٢) لاحظ الغدير ج ٦ / ٦١ عن ينابيع المودة وصححه الطبري وابن معين والحاكم والخطيب والسيوطي وأخرجه الحفّاظ وأئمة الحديث ؛ بلغ عددهم ١٤٣ حافظا وراويا.

(٣) مناقب الخوارزمي ص ٤٩ ومقتل الحسين ص ٤٣.

٤٦

والاجتماعية الشائكة ، كيف يمكن لغير اتباعه «أقصد الأشاعرة» أن يرفعوا المغاث ويضعوا المغيث؟!!

فالنظر في التاريخ الغابر ضرورة علمية لا غنى عنها ولا مناص من مزاولتها لأنها وحدها كفيلة بأن تطلعنا على حقيقة ما جرى في الماضي لفهم ما يجري في الحاضر. فالخلافة التي دار النزاع عليها بين الخاصة والعامة ، وسفك من أجلها دماء لها بعدان مهمان :

الأول : البعد الزماني :

المتجلي في كون أصحاب الحق في فترة زمنية معينة قد اغتصب حقهم وأزيحوا قهرا عن مناصبهم التي جعلها تعالى لهم ، هذا البعد وإن كنّا لا نعيد البحث فيه لتصرّم تلك الفترة الزمنية وذهاب أعيانها ، إلّا أننا ما زلنا نطالب أتباع مدرسة الشيخين بالاعتراف بأنّ أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام هو صاحب الحق دون سواه ممن جاءوا إلى الخلافة بمرسوم سياسي لا علاقة له بالتشريع والأخلاق ودساتير العلم والقانون.

الثاني : البعد الديني :

أي أن الإمامة أو الخلافة لها بعد روحي ديني باق أثره إلى يومنا هذا ، ومن واجب المسلمين الأخذ به وهو أن الإمام عليّا عليه‌السلام إمام المسلمين وقائد الغر المحجلين بنص الأدلة الدالة على أنه المنفّذ لأحكام وأوامر الشريعة وبسط نفوذها ، إضافة إلى كونه مرجعا يرجع إليه في حل المشاكل التي تطرأ على المسلمين فيما يتعلق في مجالي العقيدة والسلوك ، أو فيما يستجد من موضوعات يترتب عليها حكم شرعي.

فإذا غضضنا الطرف عن البحث في مسألة الإمامة يعني أننا طرحنا المفهوم العقيدي والسلوكي اللذين لا بدّ أن يتحلى بهما كل مسلم ، ونكون قد فشلنا في

٤٧

أداء الأمانة لأجيالنا الصاعدة ، لذا ترى من التجأ إلى غير عترة محمد يتخبط يمينا وشمالا في الأصول والفروع ، فمن مجسّم إلى قدري وآخر مفوضي.

كل هذا نتيجة ابتعادهم عن طريق العترة الطاهرة التي قرنها النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكتاب الكريم بأمر من رب العالمين قال : «إني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

وكل من لم يعمل بوصايا العترة ـ شاء أم أبى ـ فهو مخالف لوصايا النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآمرة بالرجوع إليهم عليهم‌السلام.

ويعدّ عدم تنفيذ أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيانة للحق والقرآن ، ومعصية توجب أليم العذاب. قال تعالى :

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (١).

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٢).

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(٣).

فعدم إطاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دليل على العصيان لله وللرسول فصرخة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجاهلين الغافلين داعيا لهم إلى التمسك بالكتاب والعترة لدليل ساطع على أن لقيادة العترة الطاهرة بوقت خاص بعدا خالدا إلى يوم القيامة ، لعدم جواز خلو الزمان من إمام يهتدى به ، قال تعالى :

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٤).

__________________

(١) سورة النساء : ٨٠.

(٢) سورة الحشر : ٧.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٦.

(٤) سورة الرعد : ٧.

٤٨

فتاريخنا ليس معصوما حتى يحرم على طالب الحقيقة أن يغور في أعماقه (أقصد بغور أعماقه الكشف عن زيف بعض المنافقين الذين تستروا بصحبتهم لرسول الله وادعائهم الخلافة لأنفسهم) وينقد معاصريه ، الذين شوّهوا صورته وحرّفوا وجهته.

وما هذه المقالة إلّا من مبتدعات بعض القيّمين على مدرسة الشّيخين حيث سيطروا على وعي الأمّة بإبعاد أقوامهم من اتّباع مدرسة الإمام عليّ عليه‌السلام ، والاطلاع على معتقداتها التي هي معتقدات الإسلام ، ولو تصفّح الباحث «بإنصاف» كتب العامّة فلا يجد إلا التهجم والافتراء على الشيعة وكأنّ في آذانهم وقرا وبيننا وبينهم حجاب. وها هو أحد من عرفوا الحقّ وانصاعوا له يقول :

«أنا السّنّي المنشأ لم أكن أجد في بيئتنا ما يعرّف بالشيعة تعريفا حقيقيا ، وكل مذهب من مذاهب الدنيا تستطيع الإحاطة به في بيئتنا سوى الشيعة ، فإنّ مصادر الوهّابية عليهم أقوى من «جدار برلين» ، نعم قد كنّا نعلم أنّ الشيعة أصحاب طريقة غريبة عن كل البشر وأنّ أشكالهم ربّما لها ـ أيضا ـ بعض الخصوصيات ، وأن يكون تصوّر الناس للشيعة على أنهم أصحاب أذناب البقر كما أشار آل كاشف الغطاء ليس مبالغة منه ، وحال الأمة كذلك ، لقد تعجّب الشّاميّ وهو يسمع أنّ الإمام عليا عليه‌السلام قتل بالمحراب ، فقال : «أو عليّ يصلّي؟!) (١).

وجرى لي مثل ذلك مع أحد علماء الوهّابية في الحجّ حيث قال لي : أنتم الشيعة تصلّون؟!

انظر إلى أمثال هؤلاء كيف أعمت العصبية قلوبهم ونخرت عقولهم ، وما

__________________

(١) لقد شيّعنى الحسين ، للكاتب والصحافي المغربي إدريس الحسيني ، ص ٢٤.

٤٩

هذا إلا نتيجة التغييب والتجهيل المستمرين ؛ وهما وحدهما يولّدان الفرقة والتشرذم.

وأخيرا ، علينا أن ندرك أنّ عرض المسائل الخلافية بين الفريقين لا يوجب فصم عرى الوحدة بين المسلمين ولا وهنهم ، بل العكس هو الصحيح لأنّ ذلك ممّا يوجب تعرّفهم على بعضهم عن كثب مما يزيد في قوّتهم والتعرّف على نقاط الضعف لديهم فيتجنّبونها مما يفضي إلى مواجهة أعدائهم والوقوف سدا منيعا في وجه المخططات التي تحاك ضدّهم.

إضافة إلى أنّ الخوض في مسائل الخلافة ليس أمرا هامشيا ، بل هو ممّا دعا إليه الإسلام الذي حثّ على المجادلة مع أهل الكتاب بالتي هي أحسن فقال :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (١).

فهذا حال المسلمين مع أهل الكتاب ، فبطريق أولى الفرق الإسلامية التي تختلف مع الشيعة في مسألة الخلافة ، فيجب ألّا تقف من الشيعة موقف العداء بل عليها أن تتحلّى بروح المباحثة والانفتاح الفكريّ لا أن تعيش الانغلاق والتقوقع.

لذا ومن منطلق الحوار الهادي ، الذي يؤلّف بين القلوب ويقرّبها إلى المبدأ المتعال كان اجتماع علماء بغداد في العقد الرابع الهجريّ ، فكان حصيلته حصحصة الحق وبلورة الحقيقة من دون حصول ضجّة إعلامية تبعد بالمجتمعين عن الدنوّ والقرب من الله تعالى.

وهنا لا بأس بالتطرق إلى نقطتين هامّتين :

__________________

(١) سورة آل عمران : ٦٤.

٥٠

* الأولى : التعريف بأركان الدولة السلجوقيّة.

* الثانية : هل هذه المحاورة حقيقة خارجية أم نظرية افتراضية؟

أما النقطة الأولى وفيها :

١ ـ ترجمة ملكشاه السّلجوقي.

٢ ـ ترجمة نظام الملك.

٣ ـ ترجمة مقاتل بن عطية.

١ ـ أما ملكشاه السّلجوقي :

فهو أبو الفتح بن السلطان ألب أرسلان محمد بن داود جغري بك بن ميكائيل بن سلجوق (١).

كان والده كريما ، عاقلا ، لا يسمع السّعايات وكان كثير الصدقة والدعاء على ما ذكر ابن الأثير في تاريخه. ولألب أرسلان من الأولاد : ملكشاه وقد صار سلطانا بعد والده ، وإياز ، وتكش ، وبوري برش ، وتتش ، وارسلان أرغو ، وسارة ، وعائشة ، وبنتا أخرى (٢).

وبعد وفاة والده انتقل ملكشاه من بلاد ما وراء النهر إلى بغداد ومعه الوزير نظام الملك الذي كان متولّيا للأمر في عهد ألب ارسلان (٣).

تملّك بلاد ما وراء النهر وسمرقند وبخارى والجزيرة والشام والعراق وخراسان وغيرها ؛ وحمل إليه ملوك الروم الجزية ، وانقضت أيامه على أمن عام وسكون شامل.

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ج ١٠ / ٧٤.

(٢) نفس المصدر ج ١٠ / ٧٥.

(٣) نفس المصدر ج ١٠ / ٧٦.

٥١

ولد عام ٤٤٧ للهجرة وتوفي عام ٤٨٥ ه‍ بسبب حمّى أصابته من جرّاء أكل لحم صيد ، فافتصد ولم يستوف إخراج الدم ، فثقل مرضه ، وكانت حمّى محرقة ، فتوفي ليلة الجمعة ، النصف من شوال (١).

وكان موته بعد وفاة وزيره نظام الملك بخمسة وثلاثين يوما (٢).

وقيل : إنّه سمّ في خلال ونقل في تابوت فدفن بأصبهان في مدرسة كبيرة له (٣).

ومن سيرته ـ حسب ما ذكر ابن الأثير في الكامل ـ : «أنه أسقط المكوس والمؤن من جميع البلاد ، وعمّر الطرق والقناطر ، والرّبط التي في المفاوز ، وحفر الأنهار الخراب ، وعمّر الجامع ببغداد ، وعمل المصانع بطريق مكة ، وبنى البلد بأصبهان ، وبنى منارة القرون بالسّبيعي بطريق مكة ، وبنى مثلها بما وراء النهر.

واصطاد مرّة صيدا كثيرا ، فأمر بعدّه ، فكان عشرة آلاف رأس فأمر بصدقة عشرة آلاف دينار ، وقال : إني خائف من الله تعالى كيف أزهقت أرواح هذه الحيوانات بغير ضرورة ولا مأكلة ، وفرّق من الثياب والأموال بين أصحابه ما لا يحصى ، وصار بعد ذلك كلّما صاد شيئا تصدّق بعدده دنانير (٤). وهذا يدلّ على أنه كان يحاسب نفسه وقلّما فعل هذا الأمراء والحكّام.

ويروى عن ملكشاه السلجوقي حبّه للعدل ، فقد قال عبد السميع بن داود العباسيّ : شاهدت ملكشاه وقد أتاه رجلان من أرض العراق السّفلى ، من قرية الحدّادية ، يعرفان بابني غزّال ، فلقياه ، فوقف لهما ، فقالا : إنّ مقطعنا الأمير

__________________

(١) نفس المصدر ج ١٠ / ٢١٠.

(٢) نفس المصدر والجزء والصفحة.

(٣) محاورة حول الإمامة للسيد الرضوي ص ١٣.

(٤) الكامل في التاريخ لابن الأثير ج ١٠ / ٢١٣.

٥٢

خمارتكين قد صادرنا بألف وستمائة دينار ، وقد كسر ثنيتيّ أحدنا ، وأراهما السلطان وقد قصدناك لتقتصّ لنا منه ، فإن أخذت بحقّنا كما أوجب الله عليك ، وإلّا فالله يحكم بيننا.

قال : فرأيت السلطان وقد نزل عن دابته وقال : ليمسك كل واحد منكما بطرف كمي ، واسحباني إلى خواجه حسن ، يعني نظام الملك ؛ فامتنعا من ذلك ، واعتذرا فأقسم عليهما إلّا فعلا ، فأخذ كل واحد منهما بكمّ من كمّيه ومشى معهما إلى نظام الملك ، فبلغه الخبر ، فخرج مسرعا ، فلقيه وقبّل الأرض ، وقال : يا سلطان العالم! ما حملك على هذا؟ فقال : كيف يكون حالي غدا عند الله إذا طولبت بحقوق المسلمين ، وقد قلّدتك هذا الأمر لتكفيني مثل هذا الموقف ، فإن نال الرعيّة أذى فأنت المطالب ، فانظر لي ولنفسك.

فقبّل الأرض ، ومشى في خدمته ، وعاد من وقته ، وكتب بعزل الأمير خمارتكين عن إقطاعه ، وردّ المال عليهما ، وأعطاهما مائة دينار من عنده ، وأمرهما بإثبات البيّنة أنّه قلع ثنيتيه ليقلع ثنيتيه عوضهما ، فرضيا وانصرفا (١).

ويروى أنّ ملكشاه هو أوّل من سنّ التقويم الشمسي بمعاونة جماعة من المنجّمين منهم : عمر الخيّام ، وأبو المظفّر الأسفزاري ، وميمون بن النجيب الواسطيّ ، وبقي الرصد دائرا إلى أن مات السلطان سنة خمس وثمانين وأربعمائة فبطل بعد موته (٢).

ويقال أنّ تقويمه لم يلق ترحيبا من الناس لأنّه جعل مبدأ التقويم يوم جلوسه على كرسيّ الحكم معتبرا إياه بداية للسنة الشمسيّة ، معرضا عن التاريخ الهجري ومهملا إيّاه ، وأراد أن يشيع هذا التقويم إلّا أن الناس رفضوا ذلك

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ١٠ / ٢١٢ ـ ٢١٣.

(٢) نفس المصدر ج ١٠ / ٩٨.

٥٣

بسبب تغيير بداية التاريخ الهجري (١).

٢ ـ وأما الوزير نظام الملك : ٤٠٨ ـ ٤٨٥ ه

كنيته أبو علي ، واسمه الحسن بن علي ابن إسحاق (٢) بن العباس الرادكاني الطوسي (٣).

ولد بنوقان إحدى مدن طوس في الواحد والعشرين من ذي القعدة يوم الجمعة سنة ٤٠٨ ه.

كان في بداية حياته فقيرا من أبناء الدهاقين بطوس ، «توفيت أمه وهو رضيع ، فكان أبوه يطوف على المرضعات فيرضعنه حسبة ، حتى شب ، وتعلّم العربيّة ، وسرّ الله فيه يدعوه إلى علو الهمة ، والاشتغال بالعلم ، فتفقه ، وصار فاضلا ، وسمع الحديث الكثير ، ثم اشتغل بالإعمال السلطانية ، ولم يزل الدهر يعلو به ويخفض حضرا وسفرا. وكان يطوف بلاد خراسان ، ووصل إلى غزنة في صحبة بعض المتصرفين ، ثم لزم أبا علي بن شاذان متولّي الأمور ببلخ لداود والد السلطان ألب أرسلان ، فحسنت حاله معه ، وظهرت كفايته ، وأمانته ، وصار معروفا عندهم بذلك ، فلمّا حضرت أبا علي بن شاذان الوفاة أوصى الملك ألب ارسلان به وعرّفه حاله ، فولّاه شغله ، ثم صار وزيرا له إلى أن ولي السلطة بعد عمه طغرلبك ، واستمر على الوزارة لأنه ظهرت منه كفاية عظيمة ، وآراء سديدة قادت (أو فادت) السلطنة إلى ألب ارسلان ، فلمّا توفي ألب ارسلان قام بأمر ابنه ملك شاه.

__________________

(١) لاحظ رسالة العلّامة الراحل السيد محمد حسين الحسيني الطهراني «في بناء الإسلام على الشهور القمرية» ص ٧٧ ، ط / دار المحجة البيضاء.

(٢) الكامل في التاريخ ج ١٠ / ٢٠٤.

(٣) الكنى والألقاب للقمي ج ٣ / ٢٥٧.

٥٤

وقيل إن ابتداء أمره أنه كان يكتب للأمير تاجر ، صاحب بلخ وكان الأمير يصادره في رأس كل سنة ، ويأخذ ما معه ، ويقول له :

ـ قد سمنت يا حسن! ويدفع إليه فرسا ومقرعة ويقول :

ـ هذا يكفيك ؛ فلما طال ذلك عليه أخفى ولديه فخر الملك ، ومؤيد الملك ، وهرب إلى جغري بك داود ، والد ألب أرسلان ، فوقف فرسه في الطريق ، فقال : اللهم إني أسألك فرسا تخلّصني عليه! فسار غير بعيد ، فلقيه تركماني وتحته فرس جواد ، فقال لنظام الملك : انزل عن فرسك ، فنزل عنه ، فأخذه التركماني وأعطاه فرسه ، فركبه وقال له : لا تنسني يا حسن.

قال نظام الملك : فقويت نفسي بذلك ، وعلمت أنه ابتداء سعادة ، فسار نظام الملك إلى مرو ، ودخل على داود ، فلما رآه أخذ بيده ، وسلّمه إلى ولده ألب ارسلان وقال له : هذا حسن الطوسي ، فتسلمه ، واتخذه والدا لا تخالفه.

وكان الأمير تاجر لما سمع بهرب نظام الملك سار في أثره إلى مرو ، فقال لداود : هذا كاتبي ونائبي قد أخذ أموالي ، فقال له داود : حديثك مع محمد ؛ يعني ألب ارسلان ، فكان اسمه محمدا ، فلم يتجاسر تاجر على خطابه ، فتركه وعاد.

وأما أخباره ، فإنه كان عالما ، ديّنا ، جوادا ، عادلا ، حليما ، كثير الصفح عن المذنبين ، طويل الصمت ، كان مجلسه عامرا بالقرّاء ، والفقهاء ، وأئمة المسلمين ، وأهل الخير والصلاح. أمر ببناء المدارس في سائر الأمصار والبلاد ، وأجرى لها الجرايات العظيمة ، وأملى الحديث بالبلادة ببغداد وخراسان وغيرهما ، وكان يقول : إني لست من أهل هذا الشأن ، لما تولّاه ، ولكني أحب أن أجعل نفسي على قطار نقلة حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٥٥

وكان إذا سمع المؤذن أمسك عن كل ما هو فيه وتجنبه ، فإذا فرغ لا يبدأ بشيء قبل الصلاة ، وكان ، إذا غفل المؤذن ودخل الوقت يأمره بالأذان ، وهذا غاية حال المنقطعين إلى العبادة في حفظ الأوقات ، ولزوم الصلوات.

وأسقط المكوس والضرائب ، وأزال لعن الأشعرية من المنابر ، وكان الوزير عميد الملك الكندري قد حسّن للسلطان طغرلبك التقدم بلعن الرافضة ، فأمره بذلك ، فأضاف إليهم الأشعرية ، ولعن الجميع ، فلهذا فارق كثير من الأئمة بلادهم ، مثل إمام الحرمين ، وأبي القاسم القشيري ، وغيرهما ، فلما ولي ألب ارسلان السلطنة أسقط نظام الملك ذلك جميعه ، وأعاد العلماء إلى أوطانهم.

وكان نظام الملك إذا دخل عليه العلّامة أبي القاسم القشيري ، والعلّامة أبي المعالي الجويني ، يقوم لهما ، ويجلس في مسنده ، كما هو ، وإذا دخل أبو علي الفارمذي يقوم إليه ، ويجلسه في مكانه ، ويجلس هو بين يديه. فقيل له في ذلك ، فقال : إن هذين وأمثالهما إذا دخلوا عليّ يقولون لي : أنت كذا وكذا ، يثنون علي بما ليس فيّ ، فيزيدني كلامهم عجبا وتيها ، وهذا الشيخ يذكر لي عيوب نفسي ، وما أنا فيه من الظلم ، فتنكسر نفسي لذلك ، وأرجع عن كثير مما أنا فيه.

وقال نظام الملك : كنت أتمنى أن يكون لي قرية خالصة ، ومسجد أتفرّد فيه لعبادة ربي ، ثم بعد ذلك تمنيت أن يكون لي قطعة أرض أتقوت بريعها ، ومسجد أعبد الله فيه ، وأما الآن فأنا أتمنى أن يكون لي رغيف كل يوم ، ومسجد أعبد الله فيه.

وقيل : كان ليلة يأكل الطعام ، وبجانبه أخوه أبو القاسم ، وبالجانب الآخر عميد خراسان ، وإلى جانب العميد إنسان فقير ، مقطوع اليد ، فنظر نظام

٥٦

الملك ، فرأى العميد يتجنب الأكل مع المقطوع ، فأمره بالانتقال إلى الجانب الآخر ، وقرّب المقطوع إليه (١) فأكل معه.

وكانت عادته أن يحضر الفقراء طعامه ، ويقرّبهم إليه ، ويدنيهم. وأخباره مشهورة كثيرة ، قد جمعت لها المجاميع السائرة في البلاد» (٢).

ومن مآثره أنه بنى المدارس والربط والمساجد في البلاد ، وهو أول من أنشأ المدارس فاقتدى به الناس ، كما أنه المؤسس للمدرسة النظامية في بغداد عام ٤٥٧ ه‍ وقد استلم الغزالي (٣) سدة التدريس فيها ، حيث كانت تربطه بنظام الملك علاقات حميمة ، من هنا عند ما توفي نظام الملك ، سافر الغزالي إلى نيسابور حيث درّس في مدرسة فخر الملك ابن نظام الملك في نيسابور.

ويحكى من حسن أخلاقه أنه كان بينه وبين تاج الملك أبي الغنائم شحناء ومنافسة كما جرت العادة بمثله بين الرؤساء ، فقال أبو الغنائم لابن الهبارية وكان من الملازمين لخدمة نظام الملك ، إن هجوت نظام الملك فلك عندي كذا وأجزل له الوعد ، فقال :

كيف أهجو شخصا لا أرى في بيتي شيئا إلّا من نعمته ، فقال : لا بد من هذا. وأنشأ هذه الأبيات :

لا غرو إن ملك

ابن إسحاق وساعده القدر

وصفت له الدنيا

وخص أبو الغنائم بالكدر

والدهر كالدولاب

ليس يدور إلّا بالبقر

فبلغت الأبيات نظام الملك فقال : هو يشير إلى المثل السائر على ألسنة الناس وهو قولهم أهل طوس بقر.

__________________

(١) في نسخة «المقطوع اليد».

(٢) الكامل في التاريخ ج ١٠ / ٢٠٧ ـ ٢١٠.

(٣) المنقذ من الضلال للغزالي ص ٢٢.

٥٧

وكان نظام الملك من طوس وأغضى عنه ولم يقابله على ذلك بل زاد في إفضاله عليه فكانت هذه معدودة من مكارم أخلاق نظام الملك وسعة حلمه ، ويناسب (١) أن يقال في حقه على حد تعبير العلّامة عباس القمي (قدّس سره) :

عشق المكارم فهو مشتغل بها

والمكرمات قليلة العشاق

وأقام سوقا للثناء ولم تكن

سوق الثناء تعد في الأسواق

بث الصنائع في البلاد فأصبحت

يجبى إليه محامد الآفاق

وقال الأستاذ عبد الحليم الجندي :

كان نظام الملك وزيرا عظيما ينشر العلم وينشئ المدارس ، ويعمل للوحدة ويحاول أن يجمع علماء الفرق ، فدخل عبد السلام بن محمّد القزويني شيخ المعتزلة وعنده أبو محمد التميمي ، ورجل آخر أشعري فقال له :

أيّها الصدر لقد اجتمع عندك رءوس أهل النار أنا معتزلي ، وذلك أشعري ، وهذا مشبّه وبعضنا يكفّر بعضا (٢).

وزبدة المخض :

أن نظام الملك رجل له خدمات جليلة على الفقراء والمساكين ، هذا مضافا إلى أن طبيعته ونفسيته كانت إلى السلم أميل منها إلى الحرب ، يعرف هذا من خلال مشاورة الملك له بشأن الشيعة وتدبير الأمور لا سيما في عهد ألب أرسلان وما قدّم من تضحيات في سبيل تدعيم الوحدة بين المسلمين ، ونصرة الحق ، فلله دره وعلى الله أجره ، ويكفيك أنه دفع ضريبة ذلك حيث قتله جماعة من النواصب أو الحاقدين نصبوا للحق العداوة والبغضاء.

فقد روى ابن الأثير قصة مقتله فقال :

__________________

(١) الكنى والألقاب ج ٣ / ٢٥٨.

(٢) الإمام جعفر الصادق (ع) ص ٣٥٥ ، طبع القاهرة عام ١٣٩٧ ه‍.

٥٨

«في هذه السنة ، عاشر رمضان ، قتل نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الوزير بالقرب من نهاوند ، وكان هو والسلطان في أصبهان ، وقد عاد إلى بغداد ، فلمّا كان بهذا المكان ، بعد أن فرغ من إفطاره ، وخرج في محفّته إلى خيمة حرمه ، أتاه صبيّ ديلمي من الباطنية ، في صورة مستميح أو مستغيث ، فضربه بسكين كانت معه ، فقضى عليه وهرب ، فعثر بطنب خيمة ، فأدركوه فقتلوه ، وركب السلطان إلى خيمة ، فسكن عسكره وأصحابه (١).

ثم ذكر ابن الأثير سبب مقتله وأن الذي دبّر قتله هو ملكشاه نفسه فقال :

وكان سبب قتله أن عثمان بن جمال الملك بن نظام الملك كان قد ولّاه جدّه نظام الملك رئاسة مرو ، وأرسل السلطان إليها شحنة يقال له قودن ، وهو من أكبر مماليكه ، ومن أعظم الأمراء في دولته ، فجرى بينه وبين عثمان منازعة في شيء ، فحملت عثمان حداثة سنّة ، وتمكّنه ، وطمعه بجده ، على أن قبض عليه ، وأخرق به ، ثم أطلقه ، فقصد السلطان مستغيثا شاكيا ، فأرسل السلطان إلى نظام الملك برسالة مع تاج الدولة ومجد الملك البلاسانيّ وغيرهما من أرباب دولته يقول له : إن كنت شريكي في الملك ، ويدك مع يدي في السلطنة ، فلذلك حكم ، وإن كنت نائبي ، وبحكمي ، فيجب أن تلزم حدّ التبعيّة والنيابة ، وهؤلاء أولادك قد استولى كل واحد منهم على كورة عظيمة ، وولي ولاية كبيرة ولم يقنعهم ذلك ، حتى تجاوزوا أمر السياسة وطمعوا إلى أن فعلوا كذا وكذا ؛ وأطال القول ، وأرسل معهم الأمير يلبرد ، وكان من خواصّه وثقاته ، وقال له: تعرّفني ما يقول ، فربما كتم هؤلاء شيئا.

فحضروا عند نظام الملك وأوردوا عليه الرسالة ، فقال لهم : قولوا للسلطان إن كنت ما علمت أني شريكك في الملك فاعلم ، فإنك ما نلت هذا

__________________

(١) الكامل في التاريخ لابن الأثير ج ١٠ / ٢٠٤.

٥٩

الأمر إلا بتدبيري ورأيي ، أما يذكر حين قتل أبوه فقمت بتدبير أمره ، وقمعت الخوارج عليه من أهله ، وغيرهم ، منهم : فلان وفلان ، وذكر جماعة من خرج عليه ، وهو ذلك الوقت يتمسّك بي ويلزمني ، ولا يخالفني فلمّا قدت الأمور إليه ، وجمعت الكلمة عليه ، وفتحت له الأمصار القريبة والبعيدة وأطاعه القاصي والداني ، أقبل يتجنّى لي الذنوب ، ويسمع فيّ السّعايات؟ قولوا له عنّي : إنّ ثبات تلك القلنسوة معذوق بهذه الدواة ، وإنّ اتفاقهما رباط كلّ رغيبة [رعيته] وسبب كل غنيمة ، ومتى أطبقت هذه زالت تلك ، فإن عزم على تغيير فليتزوّد للاحتياط قبل وقوعه ، وليأخذ الحذر من الحادث أمام طروقه ؛ وأطال فيما هذا سبيله ، ثم قال لهم : قولوا للسلطان عنّي مهما أردتم ، فقد أهمّني ما لحقني من توبيخه وفتّ من عضدي.

فلما خرجوا من عنده اتّفقوا على كتمان ما جرى من السلطان وأن يقولوا له ما مضمونه العبودية والتنصّل ، ومضوا إلى منازلهم ، وكان الليل قد انتصف ، ومضى «يلبرد» إلى السلطان فأعلمه ما جرى ، وبكّر الجماعة إلى السلطان ، وهو ينتظرهم ، فقالوا له من الاعتذار والعبوديّة ما كانوا اتّفقوا عليه ، فقال لهم السلطان : إنه لم يقل هذا ، وإنما قال كيت وكيت ؛ فأشاروا حينئذ بكتمان ذلك رعاية لحقّ نظام الملك ، وسابقته ، فوقع التدبير عليه ، حتى تمّ عليه من القتل ما تم. ومات السلطان بعده بخمسة وثلاثين يوما ، وانحلّت الدولة ، ووقع السيف ، وكان قول نظام الملك شبه الكرامة له ، وأكثر الشعراء مراثيه. فمن جيّد ما قيل فيه قول شبل الدولة مقاتل بن عطيّة :

كان الوزير نظام الملك لؤلؤة

يتيمة صاغها الرحمن من شرف

عزّت فلم تعرف الأيام قيمتها

فردّها ، غيرة منه ، إلى الصّدف

ورأى بعضهم نظام الملك بعد قتله في المنام ، فسأله عن حاله ، فقال :

٦٠