أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

خَلِيفَةً) (١) ، وقوله : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) (٢).

وفي بقية الموارد جاءت الآيات بصيغة الجمع كما في قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) (٣) ، وقوله : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(٤).

ويراد من خلافة هؤلاء في هذه الآيات الحلول محلّ الغابرين والقيام مقامهم وهو مما تؤكده القرائن الحافة بالآيات إلا أنّ المراد من (الخلافة) في الآيتين اللتين ذكر فيهما اللفظ بصيغة المفرد هو القيام مقام الخالق والجاعل الله عزّ اسمه في الولاية والسلطنة ، وبتعبير آخر : هي «الخلافة الإلهية» وذلك لأن قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ) و (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ ...) لا يقصد منه عزوجل جعلهما خليفتين لمن سبقهما من المخلوقات الأخر التي كانت تعيش قبل ذلك على وجه الأرض كالجنّ والنسناس ، وذلك لأمور :

أولا : لأن داود عليه‌السلام إنما صار خليفة لله تعالى لا لمن تقدّمه من الأنبياء السابقين بقرينة تفريع الذيل بقوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) والشواهد والقرائن الدالة على سلطنة داود على عالم المادة وتسخيرها والمخلوقات له عليه‌السلام مما يعكس خلافة الله سبحانه على الكائنات. مضافا إلى أن خلافة داود عن الأنبياء دون الله عزوجل لم يقم عليها دليل ، فهي منفية بالأصل. وعلى فرض أن خلافة داود هي انعكاس لخلافة الأنبياء فبما أن خلافتهم لازمة عن الخلافة الإلهية ، وخلافة داود لازمة لخلافتهم ، تكون خلافته لازمة للخلافة الإلهية ، إذ لازم اللازم لازم.

ثانيا : إنّ إطلاق لفظ «خليفة» من غير إضافة إلى المخلوق يؤكّد أن الإنسان

__________________

(١) سورة البقرة : ٣٠.

(٢) سورة ص : ٢٦.

(٣) سورة الأنعام : ١٦٥.

(٤) سورة يونس : ١٤.

٥٠١

خليفة لمن جعله كذلك ، وهذا يظهر ما لو قال رئيس الدولة مثلا : «إني جاعل في الدولة خليفة» إذ يكون المفهوم العرفي له كون هذا خليفة لرئيس الدولة نفسه.

ثالثا : إنّ الحوار الذي دار بين الله سبحانه والملائكة لمّا تساءلوا عن معنى جعل خليفة يفسد في الأرض فأجابهم تعالى أنه يعلم ما لا يعلمون ، وصلاحية تعلّم آدم الأسماء دون الملائكة يكشف بوضوح أنّ الخلافة المقصودة هي الخلافة الإلهية لا النيابة عن بعض المخلوقات التي كانت قبل آدم عليه‌السلام.

ـ وأما لفظة «راشدون» جمع «راشد» والمصدر «الرشد» من رشد ـ يرشد ـ رشدا ورشادا فهو راشد ورشيد ، خلاف الغيّ ونقيض الضلال ، يستعمل في الهداية وإصابة الحقّ. وصفة الرشد والرشيد من الصفات الجلالية التي إذا تحلّى بها المرء يعدّ مرضيا عنه عنده سبحانه ؛ والرشيد من أسماء الله عزوجل لأنه أرشد الخلق إلى مصالحهم بأن بعث لهم رسلا وأولياء عليهم‌السلام ، وأنعم عليهم بنعمة العقل.

وقد ذكرت لفظة «رشد» ومشتقاتها كثيرا في القرآن لبيان أهميتها منها قوله تعالى :

(وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) (١).

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) (٢).

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) (٣).

(يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) (٤).

(قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (٥).

__________________

(١) سورة غافر : ٢٩.

(٢) سورة غافر : ٣٨.

(٣) سورة البقرة : ٢٥٦.

(٤) سورة الجن : ٢.

(٥) سورة الكهف : ٦٦.

٥٠٢

(وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) (١).

(فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) (٢).

(وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) (٣).

ـ والفرق بين الرّشد والرّشد أن الرشد بالفتح أخصّ من الرّشد ؛ فإنّ الرّشد بالضم يقال في الأمور الدنيوية والأخروية ، والرّشد بالفتح يقال في الأمور الأخروية.

وأما معنى «خليفة ـ ورشيد» اصطلاحا :

فإنّ «خليفة» مفرد خلفاء مشتقة من المصدر «خلافة» ويقصد بها النيابة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقيام مقامه في تنفيذ أحكام الدين والاقتداء بهداه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك لما تقتضيه كلمة «رشد» من معنى.

وغلّب هذا الاصطلاح «الخلفاء الراشدون» على أشخاص معيّنين هم : أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأبي بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفّان.

وإذا درسنا بإمعان حياة المتقدمين على مولى الموحّدين الإمام علي عليه‌السلام وروحي فداه نجدهم مغتصبين للاصطلاحين اغتصابا عنيفا ؛ فلا مصطلح «خليفة» ينطبق عليهم ، لأنهم ليسوا خلفاء بالمعنى الحقيقي لرسول الله ، نعم ، يصدق عليهم أنهم خلفاء له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمعنى اللغوي أي أنهم خلفاء قاموا من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقهر والعدوان ؛ وليسوا خلفاء بمعنى لهم السلطنة الإلهية والولاية الربانية.

فكلمة «خليفة» كانت تحمل في طياتها خلفيات سياسية ولو أنّها كانت تعني

__________________

(١) سورة الكهف : ٢٤.

(٢) سورة هود : ٩٧.

(٣) سورة هود : ٧٨.

٥٠٣

المفهوم الاصطلاحي الحقيقي لكان سمّي أبو بكر إماما وأميرا للمؤمنين نظرا لتداخل معاني هذه الكلمات في الاعتبار الشرعي والاصطلاحي ، فكلمة إمام وأمير المؤمنين لم تكن متداولة اصطلاحا إلا في شخص الإمام علي عليه‌السلام سواء في زمن الرسول أو بعده كما يشهد له نصوص صدرت من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق الإمام عليه‌السلام.

ولا مصطلح «راشدون» ينطبق عليهم أيضا فهم بعيدون عنه بعد المشرقين وبعد الأرض عن السماء ، ولأنه كما عرفت أن الراشد هو الملهم للخير والصواب ، وهل في سيرة هؤلاء شيء من الصواب سوى الوقوف في وجه الكتاب والعترة؟ ويشهد على ذلك تاريخهم الأسود المليء بالمتناقضات والمفارقات. ولو أردنا أن نجمع القرائن النبوية الدالة إلى معنى «خليفة» لوجدنا أن القوم مخطئون في تسمية هؤلاء بالخلفاء الراشدين.

فمن القرائن على أنّ الخلفاء الراشدين هم أئمة الهدى ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

«اللهم ارحم خلفائي ، اللهم ارحم خلفائي ...» ، قيل : يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي» (١).

فهنا حدّد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصفات التي لا بدّ أن يتحلّى بها خلفاؤه في الخلافة ، والسمات التي يعتبر وجودها في شخصية الخليفة فقال : «يأتون من بعدي يروون حديثي وسنّتي» ، ورواية الحديث والسنّة هي بمعنى القدرة على نشر سنّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرته بين الأمة نشرا يتجلّى فيه مثاله الكامل من أقواله وأفعاله أجمع ؛ ويستفاد من ذلك أنّ هؤلاء الخلفاء سنّتهم واحدة وإلى هدف واحد وهي نشر حديث وسنّة النبيّ لا أحاديث الشّيخين وسيرتهما وعثمان التي كانت في مقابل سنّة وحديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أضف إلى ذلك أنهم منعوا تدوين الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٨ / ٦٥ ، ط / ثم ؛ والفقيه للصدوق ج ٤ / ٣٠٢ ؛ وعيون الأخبار ج ٢ / ٢٣ ؛ ومعاني الأخبار ص ٣٥٦ ، ط / الأعلمي.

٥٠٤

وأول منع لتدوين الحديث كان في آخر حياة النبيّ على فراش الموت لمّا قال لهم : «هلم اكتب لكم كتابا لن تضلوا من بعده أبدا. قال عمر بن الخطاب : إن النبيّ ليهجر» (١).

لذا لمّا منعوه عن الكتابة أجابهم روحي فداه :

«دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه ...».

ثم قال أيضا : أوصيكم بثلاث : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم وسكت عن الثالثة عمدا أو قال الراوي : فنسيتها». ألم يقل ابن الخطاب «حسبنا كتاب الله»؟ (٢).

عندها منع القوم من إحضار الدواة والكتف!

ثم عند ما اعتلى أبو بكر سدة الخلافة نفّث عما في صدره فقال :

«إنكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدّ اختلافا ، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئا ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرّموا حرامه» (٣).

والعجب كل العجب من أبي بكر كيف يأمر الناس بكتاب الله في حين منع إرث الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام من الخمس وفدك لحديث انفرد به عن النبيّ «لا نورّث ما تركناه صدقة» ، وقد احتجت عليه سيدة النساء روحي فدا نعليها : بقوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ).

فرفض أبو بكر ذلك وتمسك بحديث يخالف صريح القرآن ، أضف إلى ذلك

__________________

(١) لاحظ تاريخ ابن الأثير ج ٢ / ٣٢٠ وصحيح البخاري ج ٥ / ١٦١ وفي لفظ الطبري ج ٢ / ٤٤٦ ، ط / الأعلمي «ما شأنه أهجر استفهموه ...» «إن رسول الله يهجر».

(٢) الملل والنحل ج ١ / ٢٢.

(٣) تذكرة الحفّاظ : ترجمة أبي بكر.

٥٠٥

أنه كيف ينهى الناس عن الأخذ بأحاديثه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنها توجب اختلافا فيما بينهم في حين يتمسك بحديث غريب أوجب فتنة عظيمة بين المسلمين إلى يومنا هذا؟!

ومما روي عن سيرتهم بتطويق السنّة النبوية ما ورد عن قرظة بن كعب قال : لمّا سيّرنا عمر بن الخطّاب إلى العراق مشى معنا إلى صرار ثم قال : أتدرون لم شيّعتكم؟

قلنا : أردت أن تشيّعنا وتكرمنا.

قال : إن مع ذلك لحاجة إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدويّ النحل فلا تصدوهم بالأحاديث عن رسول الله وأنا شريككم. قال قرظة : فما حدّثت بعده حديثا عن رسول الله.

وفي نص آخر : قدم قرظة للعراق فقالوا له : حدّثنا ، فقال : نهانا عمر بن الخطاب (١).

وورد عن عبد الرحمن بن عوف قال :

«ما مات ابن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم في الآفاق : عبد الله بن حذيفة ، أبو الدرداء ، أبو ذر ، وعقبة ابن عامر ، فقال : ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟ قالوا : أتنهانا؟ قال : لا ، أقيموا عندي ، لا والله لا تفارقوني ما عشت ، فنحن أعلم ، نأخذ منكم ونردّ عليكم ، فما فارقوه حتى مات (٢).

وروي أيضا : أن ابن الخطّاب عمر ، كان كلّما أرسل حاكما أو واليا إلى قطر أو بلد يوصيه جملة ما يوصيه «جردوا القرآن وأقلّوا الرواية عن محمّد وأنا شريككم» (٣).

__________________

(١) لاحظ : تذكرة الحفّاظ : ترجمة أبي بكر.

(٢) كنز العمال ج ٥ / ٢٣٩ ، ط / أولى ، رقم الحديث ٤٨٦٥.

(٣) تاريخ الطبري ج ٣ / ٢٧٣.

٥٠٦

وذكر صاحب كتاب تقييد العلم عن القاسم بن محمّد : إن عمر بن الخطّاب بلغه أنه قد ظهرت في أيديكم كتب فأحبها إلى الله أعدلها وأقومها ، فلا يبقين أحد عنده كتابا إلّا أتاني به فأرى فيه رأيي ، قال : فظنوا أنه يريد ينظر فيها ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار ، ثم قال : أمنية كأمنية أهل الكتاب.

وقد تبعه على ذلك عثمان ثم معاوية ، وكان الأخير يقول :

«أيّها الناس اتقوا الروايات عن رسول الله إلا ما كان يذكر في زمن عمر» (١).

وأقر عثمان أيضا سيرة الشّيخين فقال :

«لا يحل لأحد يروي حديثا لم يسمع به على عهد أبي بكر ولا عهد عمر» (٢).

وهكذا مضى من سمّوا أنفسهم بخلفاء رسول الله إلى أن وصل الدور إلى الداهية الأعظم معاوية بن أبي سفيان حيث كتب إلى عماله : «أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته ، وكان أشدّ الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة» (٣).

وبسبب نشر فضائل مولانا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام قتل معاوية حجر بن عدي ، وقطع لسان رشيد الهجري وصلبه تماما كما فعل بميثم التّمار.

وهكذا تم إخماد الأنفاس التي أرادت التحدّث بسنّة رسول الله ؛ وقد يتساءل المرء لما ذا فعلوا هذا؟

بات الجواب واضحا عند اللبيب ، حيث إن أصحاب السقيفة قد اغتصبوا حقا

__________________

(١) طبقات ابن سعد ج ٥ / ١٧٣.

(٢) منتخب الكنز بهامش مسند أحمد ج ٤ / ٦٤.

(٣) شرح النهج لابن أبي الحديد ، ط / البابي الحلبي ج ٣ / ١٥.

٥٠٧

جعله الله تعالى لغيرهم ، فمنعوا الناس من كتابة الحديث أو نشره لأن في ذلك توطيدا لحكمهم ، وفصل القادة الحقيقيين عن قاعدتهم الشعبية الموالية حتى ينعم المغتصبون بحلاوة الكرسي فلا أحد يزعجهم بأحاديث تروى عن النبيّ يذم فيها مغتصبي الخلافة.

وزبدة المخض :

إن من كانت هذه صفته فكيف يصح أن يقال إنه خليفة راشد وهو يمنع من التحدث بسنّة المستخلف ونشرها؟!

من أجل ذلك لا يسعنا إلّا أن نصرف دلالة الحديث عمّن زعموا أنفسهم خلفاء لو صح صدوره عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونثبت ذلك بقرائن :

الأولى : إن في سنن الخلفاء «المزعوم أنهم راشدون» ما يخالف سنّة الرسول ، والرسول لا يأمر بعمل يخالف سنته.

الثانية : لو كانوا حقيقة راشدين مهديين لما تعوّذ بعضهم من بعض كما ورد أن عمر قال في خلافة الأول :

«كانت بيعة أبي بكر فلتة ، وقى الله شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه» (١).

الثالثة : يفرض بالخلفاء عن الرسول أن يكونوا على نهج واحد بأقوال واحدة ، في حين نرى أن اللاحق يناقض السابق في السيرة والأحكام ، مما يستدعي الجزم بعدم انطباق الحديث على هؤلاء.

فلا مجال إلا للقول بأن الحديث من مبتدعات ساسة ذاك الزمان لإمضاء تصرفاتهم الرعناء ، ولو أبيت ـ أخي القارئ ـ إلا نسبته إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا بدّ وأن يصرف إلى الخلفاء الحقيقيين الذين أمر الكتاب والسّنّة باتباعهم وهم عترة آل محمّد عليه وآله السلام ، وذلك لقرائن هي :

__________________

(١) تقدمت مصادره سابقا.

٥٠٨

* إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشار في عدة مواطن إلى تعيين خلفائه ، وأنهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش».

* وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا : «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان» (١).

وفي الجمع بين الصحاح الستة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش» (٢).

* وفي نصوص أخر خصّص قريش ببني هاشم ، فقد روى القندوزي عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال :

كنت مع أبي عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمعته يقول : بعدي اثنى عشر خليفة ثم أخفى صوته ، فقلت لأبي : ما الذي أخفى صوته؟

قال : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلهم من بني هاشم (٣).

وعن الشعبي عن مسروق ، وكلاهما من علماء العامة قال : كنا عند ابن مسعود ، فقال له رجل : هل حدّثكم نبيكم كم يكون بعده من الخلفاء؟

قال : نعم وما سألني عنها أحد قبلك ، وإنك لأحدث القوم سنا ، سمعته يقول : يكون بعدي عدة نقباء موسى عليه‌السلام ، قال الله عزوجل (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) (٤).

* فحديث نقباء بني إسرائيل دال على انحصار الخلافة في اثني عشر ، وأنهم خلفاء بالنص منه تعالى كعدة نقباء بني إسرائيل لقوله تعالى :

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٤ / ٥١٢ باب مناقب قريش.

(٢) مسند أحمد ج ٥ / ٨٩ ، مستدرك الحاكم ج ٤ / ٥٠١ ، مجمع الزوائد ج ٥ / ١٩٠ ونهج الحق ص ٢٣٠.

(٣) ينابيع المودة ص ٣٠٨ ، ط / قم.

(٤) الغيبة للطوسي ص ٨٩ ، ط / قم.

٥٠٩

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) (١).

وما رواه أحمد بن حنبل عن مسروق قال : كنا جلوسا عند ابن مسعود وهو يقرئنا القرآن ، فقال له رجل ، وساق الحديث كالأول (٢).

إذن كل هذه الأحاديث هي نص صريح على تعيين الخلفاء وأنهم اثنا عشر ، في حين إنّ العامة يقولون : إنهم أربعة ، لذا حتى لا يقعوا في مأزق زادوا على الأربعة بعض ملوك بني أميّة وبني العبّاس ، والجميع يعلم ما لهؤلاء (أعني ملوك بني أمية وبني العبّاس) من شنائع الأفعال ، ومظالم وسفك دماء ، سيرتهم تكذّب الحديث وتقلبه رأسا على عقب فتدبر.

__________________

(١) سورة المائدة : ١٢.

(٢) مسند أحمد ج ١ / ٣٩٨.

٥١٠

قال الملك : ولما ذا هو خليفة؟

قال العلوي : لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عيّنه (١) خليفة من بعده ، حيث إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشار إلى خلافته في مواطن كثيرة جدا ومن جملتها : لمّا جمع الناس في منطقة بين مكة والمدينة يقال لها (غدير خم) ورفع يد عليّ وقال للمسلمين : من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله ، ثم نزل عن المنبر وقال للمسلمين وعددهم يزيد على مائة وعشرين ألف إنسان : سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين ، فجاء المسلمون واحدا بعد واحد وهم يقولون لعليّ : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فجاء أبو بكر وعمر وسلّما على عليّ بإمرة المؤمنين وقال عمر : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة .. الخ ...

____________________________________

(١) قبل أن نستدل على ضرورة تعيين الخليفة ، علينا أن نوضح نقطتين مهمتين :

النقطة الأولى : في بيان الحكمة من وجود الإمام أو الخليفة.

تقريرها :

إن الأدلة التي أوجبت ضرورة بعثة الأنبياء والمرسلين هي بعينها توجب ضرورة الإمام ونصبه بعد النبي ، لأن الموضوعين يشتركان في جانب مهم من المناهج ، فقاعدة اللطف ـ مثلا ـ التي من خلالها أثبت المسلمون الشيعة الإمامية «أيدهم الله عزوجل» ضرورة إرسال الأنبياء من حيث إنّ الله تعالى بمقتضى رأفته بالعباد ولطفه بهم ، يجب عقلا ـ بعد أن فرض عليهم أحكاما وتكاليف ـ أن يوجد لهم من يبعّدهم عن المعصية ويقرّبهم إلى الطاعة ، فإيجاده للأنبياء عليهم‌السلام محصّل

٥١١

لغرضه ، وهو طاعتهم له وانقيادهم له ، ولو لم يوجده لنقض غرضه ، إذ كيف يأمرهم بطاعته ثم لا يحقّق لهم الفرص التي تمكّنهم من العبادة والطاعة.

ووجوب اللطف لا يختص بالأنبياء والمرسلين ، بل يشمل الأوصياء والأولياء المنصوبين من قبل الله جلّ وعلا ، لأن مهام هؤلاء كمهام اولئك بمناط واحد لا يختلفون عن بعضهم البعض إلّا في تلقي الوحي التشريعي ، وبحسب قاعدة اللطف وجب كون الإمام أو الخليفة معصوما ، لأن غير المعصوم لا يؤمن عليه من الانحراف أو الزيادة والنقصان في الشريعة فاقتضت حكمته المتعالية أن ينصّب حججا بعد الرسول لكي يوصلوا النفوس إلى الكمال ، ويبلّغوا الأحكام المشرّعة التي لم تبلّغ للناس لعدم وفرة الظروف الموضوعية لبيانها وتبليغها ، ويربّوا الأشخاص الذين لم يحظوا برؤية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاستفادة منه ، فيقودونهم نحو طريق الهداية ، وليس من المعقول أن يهمل الله الأمة ويتركها بلا قائد أو راع لشئونها ، في حين أن جميع الناس متساوون من حيث الحاجة إلى من يربّيهم ويعلّمهم ، وجميعهم متكافئون من حيث شمولهم لقاعدة اللطف الإلهي.

فمن اللازم ـ إذن ـ أن يبعث الله عزّ اسمه من يوجّه النفوس إلى الكمال ، وهو ـ أي المربّي أو القائد ـ من يوضّح معالم الشريعة المقدّسة ببيانه ، ويدفع شبهات الملحدين والمشككين ، ويفسّر ويبيّن معارف الدين وأسراره للنفوس المستعدة ، ويصدّ أعداء الدين ، ويقوّم الاعوجاج بيده ولسانه ، ويرفع النقائص ويملأ الفراغ ، ولمّا كانت هنالك فاصلة زمنية بين نبيين ، ولا وجود لشريعة وقانون بعد خاتم النبيين ، فسوف يكون وجود الإمام بين الشرائع ، وبعد وفاة النبيّ لازما وضروريا ، بوصفه العلة المبقية لأساس الغرض ، ولمّا أخذ الله تعالى على نفسه أن يمنّ على عباده بلطفه الخفي ، ويرعاهم رعاية دقيقة ، ويهديهم ويحسن بهم ، ولا يريد إلّا خيرهم وسعادتهم ، لذا عليه أن لا يترك دين نبيه ناقصا بارتحاله ، وإنما يواصل رعايته للدين من خلال تعيين الإمام الذي يستطيع هو فقط أن يحمل هذه المهمة الثقيلة وهو الأنموذج الأكمل ، والمثل الأعلى لوجود النبيّ في كافة

٥١٢

الخصوصيات ، وهو الذي يقود الناس نحو الكمال ، من هذا المنطلق كان تعيين الوصي فرضا على النبيّ ، لذلك نصّب الإمام عليا عليه‌السلام بأمر من الله تعالى وصيّا على الأمة (١).

وهذا ما يطلق عليه بالمكمليّة أي أن الإمام عليه‌السلام مكمّل للهدف الذي جاء من أجله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومضافا إلى عنصر اللطف وأهميته في مسألة بعث الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام هناك عناصر أخرى مهمة تدخل في تركيبة الشخصية الرسالية للإمام هي كما يلي :

العنصر الأول : قيادة الأمة سياسيا واجتماعيا.

اتفق العقلاء على أن كل جماعة لا يقودها نظام اجتماعي يقف على رأسه قائد قادر ، مدبّر حكيم ، لا تكون قادرة على إدامة حياتها ، لهذا نجد العقلاء منذ القدم حتى الآن يختارون لأنفسهم زعيما وقائدا ، كي تنتظم أحوالهم ، وتستقر أوضاعهم ، وإلا انتشرت الفوضى ، وعمّ الفساد ، وكثر الهرج ، وسفكت الدماء نتيجة عدم وجود رئيس أو قائد يتولى الأمور ، من هنا يتعيّن إيجاد خليفة بعد وفاة النبيّ دفعا للمحاذير المتقدمة ، لكون الخليفة المعصوم أو القائد المعصوم هو الوحيد الذي يمكنه أن يحمي أصالة الدين ، ويحول دون أي اعوجاج وانحراف وفساد ، أمّا غير المعصوم فكغيره تؤثر عليه العوامل النفسية والخارجية ، وتتلاعب به الأهواء والشهوات ، ولا يسلم من هذا إلّا النادر ، وهذا النادر لا يمكنه أن يأخذ بيد المكلفين إلى واقع الدين ، لأن وظيفة الخليفة ليست منحصرة ببيان الأحكام التشريعية فحسب ، وإنما مهمته أوسع من ذلك بحيث تطال جميع مناحي الحياة والدين ، فبيان الحكم الشرعي هو أثر من آثار وظائفه المقرّرة من عنده تعالى.

فالإنسان العادي المعرّض للخطأ غير قادر على حمل الرسالة العظيمة التي حملها الأنبياء والمرسلون ، بدليل ما نراه بأم أعيننا من انحراف قادة العالم عن جادة

__________________

(١) لاحظ : الفوائد البهية ج ٢ / ٦١.

٥١٣

الصواب ، ولا أحد بقادر على أن يقوّم اعوجاجهم نظرا لما يتصورون في أنفسهم من أنهم قادة يحرّم الاعتراض عليهم والوقوف بوجههم.

العنصر الثاني : ضرورة إتمام الحجة.

إنّ وجود الإمام لا يقتصر على إرشاد الناس إلى واقع التشريع ، وإنارة القلوب المستعدة للهداية والسير في طريق التكامل ، بل يعتبر إتماما للحجة على الذين ينحرفون عمدا عن الطريق السويّ ، وذلك كي لا يكون العقاب النازل بهم بدون سبب ، ولكي لا يعترض أحد منهم أنهم لو أخذ بأيديهم مرشد إلهي ليقودهم إلى طريق الرشاد ، لما ساروا في طريق الانحراف ، أي أن وجود الإمام يقطع الطريق على كل عذر وحجة ، بواسطة بيان الأدلة الكافية والتوعية اللازمة لغير الواعين ، وتطمين الواعين وتقوية إرادتهم.

العنصر الثالث : الإمام باب الفيض الإلهي.

إنّ القيادة في الإسلام تماما كالرأس من الجسد وكالقلب من سائر الأعضاء ، فالقلب إذ ينبض يرسل الدم إلى جميع العروق ، ويغذّي جميع خلايا الجسد ، كذا الإمام (١) من حيث اعتباره إنسانا كاملا يكون سبب نزول الفيض الإلهي على الأفراد ، كل فرد ينهل منه بحسب سيره ومقدار ارتباطه بالنبيّ أو الإمام ، فمثلما كان القلب ضروريا لحياة الإنسان ، كذلك كان وجود واسطة نزول الفيض الإلهي ضروريا في جسد عالم البشرية.

النقطة الثانية : في بيان المواصفات المعتبرة في الخليفة.

اعلم أن الإمامة كالنبوة من المناصب العالية والمقامات الرفيعة لكونها سلطنة إلهية لا ينالها إلّا من كانت جميع قواه الشهوية والغضبية مقهورة له لغلبة عقله ، ولكونها خلافة عن النبوة تقوم مقامها ، لزم كون الإمام أيضا متصفا بالصفات

__________________

(١) لاحظ المحاورة التي جرت بين هشام بن الحكم أحد تلامذة الإمام الصادق (ع) مع عمرو بن عبيد قاضي البصرة. الاحتجاج ج ٢ / ١٢٥ ، ط / قم.

٥١٤

المعتبرة في النبيّ عدا الوحي التشريعي ، بل ينبغي الالتفات إلى أن مقام الإمامة أرفع حتى من مقام النّبوة والرسالة ، فهي من أعظم المناصب الإلهية ، والمراد من الإمامة هنا ليس الخلافة أو الوصاية إذ كيف تكون أعظم من النبوة والرسالة وهي فرع الرسالة ، وإنما يراد منها الإمامة المطلقة التي يعبّر عنها بالولاية المطلقة ، وهي التي عبّرت عنها النصوص أنها أفضل الأعمال والعبادات ، منها :

(١) ما ورد عن أبي حمزة ، عن مولانا أبي جعفر عليه‌السلام قال :

بني الإسلام على خمس : على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية (١).

(٢) وما ورد عن فضيل بن يسار ، عن مولانا أبي جعفر عليه‌السلام قال :

بني الإسلام على خمس : على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية ، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه ـ يعني الولاية (٢) ـ.

(٣) وعن العرزمي عن أبيه عن مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام قال :

أثافي (٣) الإسلام ثلاثة :

الصلاة والزكاة والولاية ، لا تصح واحدة منهنّ إلا بصاحبتيها (٤).

(٤) وعن زرارة عن مولانا أبي جعفر عليه‌السلام قال :

بني الإسلام على خمسة أشياء :

على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية ، قال زرارة : فقلت : وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال : الولاية أفضل ، لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهنّ ،

__________________

(١) أصول الكافي ج ٢ / ١٨ ح ١ وفي خبر الفضيل قال الإمام عليه‌السلام : ولم يناد بشيء ما نودي بالولاية يوم الغدير ، حديث ٨.

(٢) نفس المصدر ح ٣.

(٣) الأثافي : جمع اثفية ، وهي أحجار توضع عليها القدر وأقلها ثلاثة.

(٤) أصول الكافي ج ٢ / ١٨ ح ٤.

٥١٥

قلت : ثم الذي يلي ذلك في الفضل؟ فقال : الصلاة ، إن رسول الله قال : عمود دينكم الصلاة ، قال قلت : ثم الذي يليها في الفضل؟ قال : الزكاة لأنه قرنها بها وبدأ بالصلاة قبلها ، وقال رسول الله : الزكاة تذهب الذنوب ، قلت : والذي يليها في الفضل؟ قال : الحج ، قال الله عزوجل: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (١) .. ثم قال زرارة : قلت فما ذا يتبعه؟ قال : الصوم.

ثم قال ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن ، الطاعة للإمام بعد معرفته ، إن الله عزوجل يقول : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً)(٢).

أما لو أن رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحجّ جميع دهره ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على الله عزوجل حق في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان ، ثم قال : اولئك المحسن منهم يدخله الله الجنّة بفضل رحمته (٣).

وعن عبد الحميد بن أبي العلاء الأزدي قال :

سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إن الله عزوجل فرض على خلقه خمسا ، فرخّص في أربع ولم يرخّص في واحدة (٤).

ولا يتوهم أحد أن مقام الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام فوق مقام نبينا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاشا وكلا ، بل النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مضافا إلى تسنّمه مقام النبوة والرسالة ، كان

__________________

(١) سورة آل عمران : ٩٧.

(٢) سورة النساء : ٨٠.

(٣) أصول الكافي ج ٢ / ١٩ ح ٥.

(٤) أصول الكافي ج ٢ / ٢٢ ح ١٢. ووجه الرخصة في الأربع سقوط الصلاة عن الحائض والنفساء وعن فاقد الطهورين ، والزكاة عمّن لم يبلغ ماله النصاب ، والحج عمّن لم يستطع ، والصوم عن الذين يطيقونه ، هامش أصول الكافي.

٥١٦

إماما أيضا نصا لقوله تعالى (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (١).

ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم غدير خم : «ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى ، قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه» فالآية والحديث ظاهران في إمامته المطلقة عليه وآله التحية والسلام.

وبعبارة أخرى : أن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة مناصب إلهية :

النبوة ، والرسالة ، والإمامة المطلقة.

فأئمة آل البيت الاثني عشر عليهم‌السلام كانوا أصحاب منصب الإمامة وحده من قبل الله تعالى دون النبوة والرسالة التشريعية.

ويشهد لهذا التفصيل ما جرى لإبراهيم خليل الرحمن ، حيث نال عهد الإمامة بعد أن كان نبيا مرسلا لقوله تعالى :

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٢).

وإبراهيم خليل الرحمن عليه‌السلام ، بعد أن طوى مرحلة النبوة والرسالة ، واجتاز بنجاح كل ما امتحنه الله تعالى به ، ومنها ذبح ابنه اسماعيل الذي رزق به النبيّ إبراهيم بعد أن كان نبيا مرسلا ، فارتقى ابراهيم عليه‌السلام إلى المرحلة الرفيعة ، مرحلة الإمامة الظاهرية والباطنية والمادية والمعنوية في قيادة الأمة.

وادّعى مشهور مفسري العامة ، بل كاد يكون إجماعا ، أن المراد بالإمامة في الآية هي النبوة ، وهو في غاية السقوط ، لأنه عزوجل إنما جعله إماما بعد ما كان نبيا ورسولا ، بشهادة أنه طلب هذا المقام لذريته ، وإنما صار ذا ذريّة بعد ما كبر وهرم ، قال تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٦.

(٢) سورة البقرة : ١٢٤.

٥١٧

إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) (١).

ويؤيده ما ورد في (الكافي) بسنده عن زيد الشحّام قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول: إن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا ، وإنّ الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا ، وإنّ الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا ، وإنّ الله اتخذه خليلا قبل أن يجعله إماما ، فلمّا جمع له الأشياء قال : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) قال : فمن عظمها في عين إبراهيم قال : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) قال : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال : لا يكون السفيه إمام التقي (٢).

وما ثبت لإبراهيم الخليل عليه‌السلام ثبت بطريق أولى لرسول الله محمّد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث كان له مضافا إلى مقام النبوة والرسالة ، مقام القيادة والإمامة المطلقة على الخلق أجمعين ، وقد بلغ هذه المرحلة عدد من الأنبياء كموسى وعيسى وداود وسليمان عليهم‌السلام.

والشروط التي يجب أن يتحلّى بها الإمام ، لا بدّ أن تتناسب مع الواجبات والمسئوليات الملقاة على عاتقه للقيام بها ، وكلما كان المنصب أرفع ومسئولياته أصعب ، كانت الشروط والصفات اللازم توفّرها في المنتخب لذلك المقام أهم وأثقل ، فمثلا يشترط الإسلام فيمن يتسنّم منصب القضاء ، وحتى الشاهد وإمام الجماعة لا بدّ أن يكون عادلا ، فإذا كان من يريد أن يدلي بشهادة ما ، أو أن يقرأ الحمد والسورة يجب أن يكون عادلا ، فما بالك بالشروط اللازمة لبلوغ مقام الإمامة الخطير الرفيع؟!

والإمام يجب أن يتوفر فيه شرطان :

الأول : العلم ويتفرّع منه الفضائل والكمالات النفسانية القابلة للإظهار.

الثاني : العصمة المطلقة عن الخطأ والإثم والجهل.

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٣٩.

(٢) أصول الكافي : ج ١ / ١٧٥.

٥١٨

أما شرط العلم ؛ فلأن الإمام كالنبيّ هو الملجأ العلمي للناس ، فلا بدّ أن يكون عارفا بجميع أصول الدين وفروعه ، وبظاهر القرآن وباطنه ، وبسنّة النبيّ ، وبكل شيء له علاقة مباشرة بالإسلام أو غير مباشرة بحيث يشمل علمه كل شيء بإذن الله تعالى.

إنّ الذين يرتبكون (١) إذا ما واجهوا مشكلة معقّدة ، أو أنهم يرجعون إلى الآخرين يطلبون منهم الحلول «لأن ما عندهم من علم يقصر عن الإجابة على أسئلة المجتمع المسلم» ليس لهم أن يتحمّلوا مسئولية إمامة الأمّة وقيادتها .. فالإمام يجب أن يكون أعلم الناس وأوعاهم لدين الله ، وأن يملأ الفراغ الذي يتركه النبيّ لكي يستمر الإسلام بمسيره الصحيح الخالي من كل انحراف في مسيرته.

وأما شرط العصمة ؛ فلا بدّ أيضا أن يكون الإمام معصوما أي مصونا من كل خطأ وإثم ، وإلّا فإنه غير قادر على أن يكون قائدا فذا فريدا ، وقدوة وأسوة للناس يعتمدونه ويتبعونه.

لا بدّ للإمام من أن يستحوذ على قلوب الناس ، فيأتمرون بأمره دون اعتراض .. فمن كان ملوّثا بالإثم لا يمكن أبدا أن يبلغ هذا المبلغ في القلوب ، ولا أن يكون موضع ثقة الناس واطمئنانهم.

ومن كان في أعماله اليومية عرضة للأخطاء والهفوات ، كيف يمكن أن يوثق به في إدارة أعمال المجتمع ، ويطمأنّ إلى آرائه وتنفيذها بدون أي اعتراض؟ إذن ، لا بدّ من أن يكون النبيّ معصوما وكذا خليفته مثله يجب أن يتحلّى بصفة العصمة لئلّا يقع في المعاصي فيغرّر غيره بالوقوع فيها ، وهو خلاف اللطف الإلهي من بعثه وإرساله ليقرّب الناس إلى الطاعة ويبعّدهم عن المعصية.

كما يجب على الإمام أن يكون متحرّرا من قيود النفس الأمّارة والثروة والجاه لكي لا يستطيع أحد إغراءه والتأثير عليه بحيث يحمله على الاستسلام والمساومة.

__________________

(١) الارتباك : الاضطراب والاختلاط.

٥١٩

هذا مضافا إلى اشتراط الجاذبية الأخلاقية لما في دماثة الأخلاق من تأثير على الدعوة ، وقد أشار القرآن الكريم إلى أنّ الفظاظة إحدى عوامل الهدم في الدعوة بقوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (١).

إنّ الخشونة وسوء الخلق مما يثير النفور والتباعد عند الناس ، بحيث يعتبر من العيوب الكبيرة في النبيّ أو الإمام .. لذلك فإنّ الأنبياء والأئمة منزّهون عن هذا العيب.

هذه أهم المواصفات في الإمام وهناك مواصفات أخرى يجب توفّرها فيه كأن يكون أعدل وأفقه وأورع وأحكم وأشجع وأسخى الناس ، إلخ ... (٢).

عود على بدء :

بعد أن انتهينا من هاتين النقطتين ، أعني الحكمة من وجود الإمام والشروط المعتبرة فيه ، تبقى نقطة هامة مفادها :

من المسئول عن تعيين الإمام؟

يعتقد العامة أنّ النبيّ توفّى دون أن ينصّب خليفة بعده ، ويعتقدون أيضا أنّ هذه المهمة تقع على عاتق المسلمين أنفسهم ، فهم أنفسهم عليهم أن يختاروا قائدهم بطريق إجماع المسلمين أو ما يعبّر عنه بالشورى باعتباره ـ أي الإجماع ـ أحد الأدلة الشرعية لانتخاب الإمام ، ويؤكدون مقالتهم هذه بأنّ الانتخاب بواسطة الإجماع أو الشورى الجماعية قد حصل فعلا حيث اختاروا أبا بكر خليفة على الأمة بإجماع الأمة ، ثم اختار الخليفة الأول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، والثاني عيّن الثالث عثمان عبر طريق الشورى السداسية المؤلفة من ستة أشخاص يختارون أحدهم هم : الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وعثمان وعبد الرحمن بن عوف ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص.

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٥٩.

(٢) أصول الكافي ، باب صفات الإمام عليه‌السلام.

٥٢٠