أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

وقال الطبري : هجرته ؛ أي لأبي بكر ـ فاطمة عليها‌السلام فلم تكلّمه في ذلك حتى ماتت فدفنها الإمام عليّ ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر (١).

وأما إصرار العامة على أن الأمير عليه‌السلام بايع ، فالحق يقال : أن البيعة لا أساس لها من الصحة عندي لا اختيارا ولا اضطرارا ، فكيف يبايع وقد قادوه كما يقاد الجمل المخشوش (٢) على حدّ تعبير معاوية بن أبي سفيان عند ما بعث للأمير عليه‌السلام برسالة يعيّره فيها ويؤنبه بالقول : «إنك كنت تقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى تبايع».

فردّ عليه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام :

«وقلت : إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع ، ولعمر الله لقد أردت أن تذمّ فمدحت ، وأن تفضح فافتضحت ، وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا في دينه ، ولا مرتابا بيقينه ، وهذه حجّتي إلى غيرك قصدها ، ولكني أطلقت منها بقدر ما سنح من ذكرها» (٣).

وهل يعدّ القود قسرا بيعة؟ وكيف تنسب إليه البيعة ، وهو يحكي عن نفسه المقدّسة أنه مظلوم باقتيادهم له كما يقاد الجمل المخشوش (٤) إذن فلا الإمام أمير المؤمنين بايع ، ولا السيّدة الصدّيقة الطاهرة رضيت عنهما!

وكيف ترضى عمّن ظلمها حقها واعتدى عليها وأصرّ بعناده على غصب حقها وحق زوجها؟! مع أنّ أبا بكر نفسه اعترف على فراش الموت بأنه ودّ لو أنه لم يكشف بيت فاطمةعليها‌السلام ، فقال :

«والله ما آسى إلا على ثلاثة فعلتهنّ ، ليتني كنت تركتهنّ ، وثلاث تركتهنّ

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٨.

(٢) المخشوش : ما يدخل في عظم أنف البعير من خشب.

(٣) نهج البلاغة : خطبة ٢٨ ص ٣٨٧ شرح الدكتور صبحي الصالح ، وشرح محمد عبده ج ٣ / ٣٦.

(٤) الفوائد البهية في شرح عقائد الإمامية ج ٢ / ٥٩.

٤٨١

ليتني فعلتهن ، وثلاث ليتني سألت رسول الله عنهنّ ، فأما اللاتي فعلتهن وليتني لم أفعلهنّ ، فليتني تركت بيت عليّ (١) وإن كان أعلن علي الحرب ، وليتني يوم سقيفة بن ساعدة كنت ضربت على يد أحد الرجلين أبي عبيدة أو عمر فكان هو الأمير وكنت أنا الوزير ، وليتني حين أتيت بذي الفجاءة السلمي أسيرا أني قتلته ذبيحا أو أطلقته نجيحا ولم أكن أحرقته بالنار ..» (٢).

فكيف رضيت عنه ـ حسبما ادعاه أبو بكر الجوهري ـ وقد أسف وهو على فراش الموت أنه لم يكشف بيتها؟!!

عود على بدء :

قلنا إن الشيخين أرادا قهر أمير المؤمنين بأخذ البيعة منه ولو قسرا ، لكون بيعته لهم تعني لهم الكثير ، فيصفو الجو للمعارضة ، وقهرهم له مسبب عن اغتصابهم لحقه ، فمن الملحوظ دائما أن المغتصب يريد فرض سطوته على الآخرين لإسكاتهم وإخماد أنفاسهم قبل أن يبدءوا بأي حركة ضده ، وهكذا فعل المغتصبون من الصحابة بأمير المؤمنين وعياله وأهل بيته وخيرة أصحابه ، كلّ ذلك من أجل الاستيلاء على صهوة المملكة الإسلامية لتحقيق المجد والشهرة والجاه ، فمن أجل الملك يهون كل شيء عند اولئك الذين ادّعوا الإسلام واستغلوا صحبتهم لرسول الله وابتدعوا ألقابا (٣) لا واقع لها ليضلوا الناس ، وبالفعل تم ما أرادوا فاستخفوا قومهم فأطاعوهم وهذه سنّة الجاهلين الذين يرقصون بكل من ينقر لهم على دف.

وأما المؤمنون الأتقياء ـ وهم نادرون كندرة الكبريت الأحمر في كل زمن ـ

__________________

(١) في نسخة الطبري وشرح النهج لابن أبي الحديد : «ليتني لم أكشف بيت فاطمة».

(٢) تاريخ الخلفاء لابن قتيبة ص ٣٦ مرض أبي بكر واستخلافه عمر ، شرح النهج لابن أبي الحديد مج ٣ / ٢٠٨ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٦١٩.

(٣) كالألقاب التي صبغوها عليهم أمثال : الفاروق والصدّيق وذو النورين وثاني اثنين وسيف الله المسلول وأمين الأمة.

٤٨٢

فدائما لا يسمح لهم بأي نشاط ، فهم محاصرون من كل جانب ، لا يلوون على شيء لكثرة الباطل واضمحلال الحق عند أغلب البشر ، كما أن الحق ثقيل على النفوس المريضة ، لكنه مري خفيف على أصحاب القلوب الطاهرة ، لذا قال مولى الثقلين «إن الحق ثقيل مريء ، وإن الباطل خفيف وبي» (١).

فيا عجبا للدهر كيف رفع فيه الوضيع ، ووضع الشريف ، فها هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يضجر من أهل زمانه فيقول :

«فيا عجبا للدهر إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي ولم تكن له كسابقتي» (٢).

وبالجملة : فإن الانقلابيين لم يتوانوا عن ظلم المستضعفين ، لقد فعلوا الأعاجيب ، وتمخض عن ظلمهم (٣) شهادة سيدة نساء العالمين الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام ، بعد أن كسر عمر بن الخطاب ضلعها وأسقط جنينها.

كما أنهم : وطئوا سعدا وكادوا يقتلونه في السقيفة (٤) ، ثم آخر الأمر قتل على أيديهم (٥).

وضربوا الخباب بن المنذر وحطموا أنفه (٦).

ـ لم يمروا بأحد إلا خبطوه (٧).

ـ ضربوا الزبير بن العوام وكسروا سيفه (٨).

__________________

(١) نهج البلاغة / شرح محمّد عبده ج ٤ / ٢٤٤ رقم الحكمة ٣٧٦.

(٢) نهج البلاغة ج ٤ / ١١ شرح محمد عبده.

(٣) سيأتي فصل خاص بمآسي مولاتنا الزهراء عليها‌السلام وما جرى عليها منهم.

(٤) الإمامة والسياسة ص ٢٧ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٩.

(٥) تاريخ البلاذري وإحقاق الحق ج ٢ / ٣٤٦.

(٦) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١ / ١٣٥.

(٧) شرح النهج ج ١ / ١٣٩ و ١٦٨.

(٨) شرح النهج ج ١ / ١٣٥ وج ١٢ / ١٢ والطبري في تاريخه ج ٢ / ٤٤٣ والإمامة والسياسة ص ٢٨.

٤٨٣

ـ توعدوا (١) من لجأ إلى دار الصديقة الطاهرة عليها‌السلام.

ـ هددوا (٢) بإحراق الدار ، وقد أحرق الباب فعلا.

ـ قهروا (٣) مولى الثقلين عليّا عليه‌السلام على الخروج من داره للبيعة قسرا.

ـ نفوا (٤) عن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام الأخوة بينه وبين رسول الله.

والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة :

لما ذا سكت الناس عن أصحاب السقيفة؟

والجواب :

أولا : لما قلناه سابقا أن الناس اضمحل الحق من نفوسهم ، فباتوا لا يفكرون إلا بالباطل وأهله.

ثانيا : أنهم كانوا متفرقين ، فمنهم من هو شانيء للإمام عليّ عليه‌السلام ، ومنهم ـ وهم الأكثرون ـ أعراب وجفاة وطغام أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح وينعقون مع كل ناعق لا يستضيئون بنور العلم ولا يهتدون إلى ركن وثيق ، فهؤلاء مقلدون لا يسألون ولا ينكرون ، ولا يبحثون ، وهم مع أمرائهم وولاتهم ، لو أسقطوا عنهم الصلاة الواجبة لتركوها ، فلذلك امحق النص ، وخفي ودرس ، وقويت كلمة العاقدين لبيعة أبي بكر ، وقوّاها زيادة على ذلك اشتغال الإمام عليّ وبني هاشم برسول الله.

ومنهم ذو الدين وصحة اليقين لكنهم قليلون جدا لم يكتملوا على الأربعين (٥) ، ولو اكتملوا لجاهد بهم أمير المؤمنين عصابة الباطل ودعاته.

__________________

(١) شرح النهج ج ١ / ١٣٥.

(٢) الإمامة والسياسة ص ٣٠ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٣.

(٣) الإمامة والسياسة ص ٣٠.

(٤) الإمامة والسياسة ص ٣٠.

(٥) قال أبو حامد المدائني : أن الإمام عليا عليه‌السلام حمل السيّدة الزهراء ومعها ولداها ، يطلب ـ

٤٨٤

وهؤلاء الأطياب لم يسكتوا مطلقا بل تكلموا واعترضوا ولكنهم لم يشهروا سيفا إلا الزبير منهم ، وذلك لعلة عدم اكتمال العدة ، ولكثرة أعوان أصحاب السقيفة من داخل المدينة وخارجها ، لا سيما «قبيلة أسلم حيث أقبلت بجماعتها حتى تضايق بهم السكك فبايعوا أبا بكر ، فكان عمر يقول ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر» (١).

فكانت سلطة أبي بكر مدعمة بقوة الحديد والنار ، والمشيّد لها هو عمر بن الخطاب على حدّ تعبير ابن أبي الحديد (٢).

وبشدة بطشه وفظاظته وحرصه على الملك توطد حكم أبي بكر ، ثم رجع عمر نفسه فتعوّذ منها فقال : إن قوما يقولون : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، وإنه لو مات عمر لفعلنا وفعلنا ، أما إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، إلا أن الله وقى شرها ... فإن امرئ بايع امرأ من غير مشورة من المسلمين ، فإنهما بغرّة أن يقتلا» (٣).

حتى أن أبا بكر عبّر عن وصوله للحكم بالفلتة عند ما بايعه قوم من غير مشورة ، فغضب جماعة آخرون منهم أمير الثقلين بل أمير المؤمنين حتى الملائكة ، فقام أبو بكر ، فخطب الناس ، وقال :

«إن بيعتي كانت فلتة وقى الله شرها ، وخشيت الفتنة ، وايم الله ما حرصت عليها يوما قط ، ولا سألتها الله في سر ولا علانية قط» (٤).

يرد عليه :

__________________

ـ يرد عليه النصرة والمعونة ، فأجابه أربعون رجلا ، فبايعوه على الموت ثم أمرهم أن يحلقوا رءوسهم ومعهم سلاحهم ، فأصبح لم يوافه منهم إلا أربعة : الزبير والمقداد وأبو ذر وسلمان ، انظر : شرح النهج ج ١٢ / ١٢.

(١) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٩ وتاريخ ابن الأثير ج ٢ / ٣٣١.

(٢) شرح النهج ج ١ / ١٣٥ ، قال : وعمر هو الذي شيّد بيعة أبي بكر ووقم المخالفين فيها.

(٣) شرح النهج ج ١٢ / ١١ ـ ١٢ وفي لفظ ابن هشام : «فلتة فتمّت» سيرة ابن هشام ج ٤ / ٣٠٨.

(٤) نفس المصدر ج ٣ / ٢٠٥.

٤٨٥

إذا لم يحرص عليها يوما قط ، ولا سألها الله تعالى في سر وعلانية ، فلم لم يسلّمها للأعلم والأشجع والأتقى أعني الإمام عليا الذي بايعه أبو بكر نفسه في غدير خم وقال له : بخ بخ لك يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

وورد حديث «الفلتة» بألفاظ أخر منها : ما رواه بعض المؤرخين :

أن عمر صعد المنبر فذكر آية الرجم وقال : إن الله عزوجل بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب ، وكان فيما أنزل آية الرجم .. وإني خشيت أن يطول بالناس زمان فيقول قائل والله ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، وقد كنا نقول : «لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم» ، ثم أنه بلغني أن قائلا منكم يقول : لو قد مات أمير المؤمنين بايعت فلانا ، فلا يغرّنّ امرأ أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، فقد كانت كذلك غير أن الله وقى شرها (١).

وفي لفظ آخر قال عمر :

«إلا أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ، فأيما رجل بايع رجلا من غير مشورة المسلمين فإنهما تغرّا ـ أي غرّرا بنفسيهما ـ يجب أن يقتلا»(٢).

نعم إن بيعة أبي بكر فلتة من فلتات التاريخ الأسود ، إذ كيف لا تكون فلتة وليس في هذه الأمة من تقطع إليه الأعناق مثل مولى المؤمنين علي بن أبي طالب كيف يقاس الذنب بالرأس والظلمة بالنور؟! يا للعار والفضيحة أن يقاس الإمام علي بأبي بكر وأمثاله ، من هنا عبّر أبو بكر عن حقيقة جوهره فقال :

«أقيلوني فلست بخيركم وعليّ فيكم» (٣).

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٥ ـ ٤٤٦ وتاريخ ابن الأثير ج ٢ / ٣٢٧.

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ٢٤ وشرح التجريد للقوشجي ص ٣٧١ حجري ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص ٦٧ ، والغدير للأميني ج ٧ / ٧٩ وج ٥ / ٣٧٠.

(٣) شرح التجريد للقوشجي ص ٣٧١ ط / حجري ، وشرح النهج ج ١ / ١٣١ دون لفظ «علي».

٤٨٦

ورواه غير واحد بألفاظ متعددة :

ففي لفظ ابن قتيبة الدينوري : «وما أنا إلّا كأحدكم ، فإذا رأيتموني قد استقمت فاتّبعوني ، وإن زغت فقوموني ، واعلموا أن لي شيطانا يعتريني أحيانا ، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني ، لا اوثر في أشعاركم وأبشاركم» (١).

وفي لفظ آخر : «قد أقلتكم في بيعتي هل من كاره؟ هل من مبغض؟ (٢).

وفي لفظ ثالث : عند ما خرج من دار مولاتنا الزهراء عليها‌السلام قال : «يبيت كل رجل منكم معانقا حليلته ، مسرورا بأهله ، وتركتموني وما أنا فيه ، لا حاجة لي في بيعتكم ، أقيلوني بيعتي ، قالوا : يا خليفة رسول الله ، إن هذا الأمر لا يستقيم وأنت أعلمنا بذلك ، أنه إن كان هذا لم يقم لله دين ، فقال : والله لو لا ذلك وما أخافه من رخاوة هذه العروة ما بت ليلة ولي في عنق مسلم بيعة» (٣).

وبلفظ رابع : «أيّها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني» (٤).

وبلفظ خامس : «ألا وإنما أنا بشر ، ولست بخير من أحدكم ، فراعوني ، فإذا رأيتموني استقمت فاتبعوني ، وإذا رأيتموني زغت فقوموني ، واعلموا أن لي شيطانا يعتريني ، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني» (٥).

وفي لفظ آخر : «أما بعد فإني قد ولّيت أمركم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني» (٦).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ص ٣٤.

(٢) الإمامة والسياسة ص ٣٣.

(٣) الإمامة والسياسة ص ٣١.

(٤) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٣٣٢ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٠ وسيرة ابن هشام ج ٤ / ٣١١.

(٥) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٧١.

(٦) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٦٩ ـ ٧١.

٤٨٧

وفي لفظ سادس : «إني وليت هذا الأمر وأنا له كاره ، والله لوددت أنّ بعضكم كفانيه»(١).

ونحن نسأل :

كيف كان أبو بكر يكره أمرا جعله الله له ـ بحسب زعمه وصاحبه عمر ـ ثم يودّ أن يكفيه غيره ، وقد حالوا بين النبيّ وبين أمله بالوصية بالإمام عليّ وهو على فراش الموت؟! وكيف لا يرجو تلك الإمارة التي من أجلها ارتكبوا عظائم الأمور؟! وكيف كان يرى للناس في إقالته اختيارا ، ولرده لمشيئة الله به وعهده لنبيه مساغا وقد رووا عن النبيّ أنه قال : يأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر (٢)؟!!

وكيف يكل أمر الأمة إلى مشيئتها وقد ردّت مشيئة النبيّ في ذلك؟ ووقع في السماوات ما وقع يوم أعرب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أمنيته.

وكيف يستقيل منها أبو بكر في أول حياته ثم يعقدها لعمر بعد وفاته على حدّ قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : «... أرى تراثي نهبا حتى مضى الأول لسبيله ، فأدلى إلى فلان بعده ـ أي إلى عمر بن الخطّاب ـ.

شتان ما يومي على كورها

ويوم حيّان أخي جابر

فيا عجبا! بينا هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته! لشدّ ما تشطّرا ضرعيها! فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسّها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصّعبة ، إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحّم ، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس ، وتلوّن واعتراض ، فصبرت على طول المدة ، وشدة المحنة حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم ، فيا لله وللشّورى ..» (٣).

__________________

(١) صفوة الصفوة لابن الجوزي ج ١ / ٩٩.

(٢) سيرة ابن هشام ج ٤ / ٣٠٣ فصل تمريض الرسول في بيت عائشة.

(٣) الخطبة الشقشقية : نهج البلاغة ج ١ / ٢٥ محمد عبده ، وشرح النهج لابن أبي الحديد ج ١ / ١٢٦.

٤٨٨

فأنت ـ أخي القارئ ـ أرشدك الله «إذا تأملت قول أمير المؤمنين في خطبته الشقشقية بقوله : «فيا عجبا ...» وجدته عجبا وعرفت منه المغزى الذي كان من الرجل في القول ، وبان خلاف الباطن منه للظاهر ، وتيقّنت الحيلة التي أوقعها ، والتلبيس وعثرت به على الضلال وقلة الدين» (١).

إن مقالة أبي بكر تلك ، دلالة واضحة على جهله وشيطنته «إن لي شيطانا يعتريني» ، وحري بأن ترعاه أمته ورعيّته ، فتعينه وتسدّده وتقوّمه عند الخطل والزيغ؟ ولعل تلك الشدّة في إباءة الله وملائكته والمؤمنين خلافة أي أحد إلّا أبا بكر كانت مكذوبة على الله وعلى رسوله والمؤمنين ، أو كانت صحيحة غير أنها مقيّدة بإرادة أبي بكر نفسه ومشيئته؟ لاها الله كانت مكذوبة ليس إلّا.

والخلاصة : إن مقالة أبي بكر تلك «أقيلوني فلست بخيركم وعليّ فيكم» فيها إشارة أيضا إلى تحريض المسلمين على قتل أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، بمعنى أن استقالته الأمر بقتل الإمام عليّعليه‌السلام أي ما دام عليّ فيكم موجودا فأنا لست بخيركم فاقتلوه حتى أكون خليفة بلا منازع (٢).

هذا مضافا إلى أن مقالته تلك تشير أيضا إلى عدم استحقاقه الخلافة ، بيان ذلك : أنه كان صادقا في كلامه فلا يصلح للخليفة أن يعتريه إبليس فيلبّس على المسلمين دينهم ، وإن كان كاذبا لم يصلح أيضا لها لاشتراط العصمة في الإمامة.

شبهة وحل :

وجه الشّبهة :

إن أبا بكر إنما قال «أقيلوني فلست بخيركم» ليثوّر ما في نفوس الناس من بيعته ، ويخبر ما عندهم من ولايته ، فيعلم مريدهم وكارههم ومحبهم ومبغضهم ، فلما رأى النفوس إليه ساكنة ، والقلوب لبيعته مذعنة ، استمر على إمارته ، وحكم

__________________

(١) الفصول المختارة للشيخ المفيد ص ٢٤٧.

(٢) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة / للميرزا حبيب الله الخوئي ج ٣ / ٥٧.

٤٨٩

حكم [ظ : بحكم] الخلفاء في رعيته ، ولم يكن منكرا منه أن يعهد إلى من استصلحه لخلافته ، وقد جرى مثل ذلك للإمام عليّ عليه‌السلام فإنه قال للناس بعد قتل عثمان : دعوني والتمسوا غيري ، فأنا لكم وزيرا خير مني لكم أميرا. وقال لهم : اتركوني ، فأنا كأحدكم بل أنا أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم. فأبوا عليه وبايعوه ، فكرهها أولا ، ثم عهد بها إلى الإمام الحسن عليه‌السلام عند موته(١).

والجواب :

إن الفرق بين الموضعين ظاهر ، لأن الإمام عليّا عليه‌السلام لم يقل : إني لا أصلح ، ولكنه كره الفتنة ، وأبو بكر قال كلاما معناه : إني لا أصلح لها ، لقوله : «لست بخيركم» ومن نفى عن نفسه صلاحيته للإمامة ، لا يجوز أن يعهد بها إلى غيره.

ووصايته بها إلى الإمام الحسن عليهما‌السلام لا بدّ منها لأمرين :

الأول : لكونها خلافة عن الله تعالى ورسوله نصا لا انتخابا.

الثاني : ليس هناك من هو أفضل من الإمام الحسن حتى يعهدها إليه.

قد يقال :

قلتم إن الإمام عليا عليه‌السلام لم يجد أفضل من الإمام الحسن عليه‌السلام كي يعهد بالخلافة إليه ـ عدا عن كونها نصا لا اختيار فيه ـ فما باله عليه‌السلام قد خيّركم بعد موت عثمان أن يولوها من شاءوا؟

نقول :

إنه عليه‌السلام عرف منهم أنهم لن يختاروا غيره لشدة مظلوميتهم من عثمان ومن سبقه وعمالهم ، فأراد أن يظهروا له ما بطن في نفوسهم ، ولو كانوا غير صادقين

__________________

(١) شرح النهج / ابن أبي الحديد ج ١ / ١٣١ ، وشرح محمّد عبده ص ١٨٢ ج ١ خطبة ٨٨ ، وشرح صبحي الصالح خطبة ٩٢ ص ١٣٦.

٤٩٠

لكان قوله عليه‌السلام حجة عليهم إلى أبد الدهر.

فمن خلال هذه كله : يتبيّن ويتوضّح للقارىء العزيز أن خلافة أبي بكر باطلة من أساسها كغيرها ممن لحقها ، لأن خلافته شيّدت على الظلم والعدوان ومعصية الرسول ، وخلافة الثاني استندت إلى وصية أبي بكر له بذلك ، وخلافة الثالث استندت إلى شورى ستة خطط لها عمر كي يكون عثمان الخليفة بلا منازع ، فثبت أن خلافة هؤلاء الثلاثة باطلة من أساسها كما أفاد العلوي في المحاورة.

٤٩١

قال الملك (موجّها الكلام إلى الوزير) : وهل صحيح ما يقوله العلويّ من كلام أبي بكر وعمر؟

قال الوزير : نعم هكذا ذكر المؤرخون (١).

قال الملك : فلما ذا نحن نحترم هؤلاء الثلاثة؟

قال الوزير : اتباعا للسلف الصالح (٢).

____________________________________

(١) تقدم ذكر المصادر التاريخية والأدلة على بطلان خلافة الثلاثة ، ومن أراد المزيد فعليه بمراجعة الفوائد البهية ، الجزء الثاني.

(٢) المراد من «السلف» هم الصحابة والتابعون وتابعو التابعين ، وهؤلاء كانوا قبل الخمسمائة الهجرية ، وينقل عنهم العامة أن لهم رؤية في الأسماء والصفات تمثّل ـ بنظرهم ـ العقيدة الصحيحة الواجب الالتزام بها واتّباعها.

وفي مقابل مصطلح «السلف» هناك مصطلح يطلق عليه ب «الخلف» ، وهم من كانوا بعد الخمسمائة للهجرة ، وقيل بعد القرون الثلاثة ، ولهؤلاء مذهب خاص أيضا في الأسماء والصفات ، فهم يؤولونها بما ينفي التشبيه والتجسيم بما يتناسب وقواعدهم الفكرية المرتكزة على الأقيسة والاستحسانات التي لم يقم الدليل على اعتبارها.

وقد تبنّى ابن تيمية وتبعه على ذلك الوهابيون في وقتنا الحاضر مذهب السلف ، وكل ما عند الوهابية هو من عند ابن تيمية.

قال الغزالي :

اعلم أن الحق الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر هو مذهب السلف : أعني مذهب الصحابة والتابعين ... وحقيقة مذهب السلف وهو الحق عندنا أن كل

٤٩٢

من بلغه حديث من الأحاديث من عوام الخلق يجب عليه سبعة أمور : التقديس والتصديق ثم الاعتراف بالعجز ثم السكوت ثم الإمساك ثم الكف ثم التسليم لأهل المعرفة.

أما التقديس فأعني به تنزيه الرب سبحانه عن الجسمية وتوابعها.

وأما التصديق فهو الإيمان بما قاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن ما ذكره حق وهو فيما قال صادق وأنه حق على الوجه الذي قاله وأراده.

وأما الاعتراف بالعجز فهو أن يقر بأن مراده ليست على قدر طاقته وأن ذلك ليس من شأنه وحرفته.

وأما السكوت فإنه لا يسأل عن معناه ولا يخوض فيه ويعلم أن سؤاله عنه بدعة ، وأنه في خوضه فيه مخاطر بدينه وأنه يوشك أن يكفر لو خاض فيه من حيث لا يشعر.

وأما الإمساك فأن لا يتصرف في تلك الألفاظ بالتصريف والتبديل بلغة أخرى والزيادة والنقصان منه والجمع والتفريق بل لا ينطق إلا بذلك اللفظ وعلى ذلك الوجه من الإيراد والإعراب والتصريف.

وأما الكف ، فإنه يكف باطنه عن البحث عنه والتفكير فيه.

وأما التسليم لأهله فأن لا يعتقد أن ذلك إن خفي عليه لعجزه فقد خفي على رسول الله أو على الأنبياء أو على الصدّيقين والأولياء.

فهذه سبع وظائف اعتقد كافة السلف وجوبها على العوام لا ينبغي أن يظن بالسلف الخلاف في شيء منها (١).

أما تفسيره للتقديس فغير معتمد عند السلف لأن مرادهم من التقديس هو تقديس كلمات السلف ، وليس تنزيه الرب عن الجسمية ، وذلك لوقوعهم في مغبّة

__________________

(١) عقائد السنة لصالح الورداني ص ٤٢ نقلا عن إلجام العوام عن علم الكلام للغزالي.

٤٩٣

الشرك لإلصاقهم الجسمية ولوازمها بالخالق العظيم. ويشهد لما قلنا ما ورد عن القرطبي ، قال : كان السلف الأول لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك ، بل نطقوا والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة ، وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته ، وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته. قال مالك : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة (١).

ومذهب مالك ـ وهو من أئمة السلف وأصحاب الحديث ـ معروف في التجسيم ، «وأهل الحديث لا يرجعون إلى القياس الجليّ والخفي ما وجدوا خبرا أو أثرا ، فكل اهتمامهم بتحصيل الأحاديث ونقل الأخبار وبناء الأحكام على النصوص» (٢).

وفي مقابل أصحاب الحديث توجد فرقة تسمى بأصحاب الرأي ، «وسموا بذلك لأن أكثر عنايتهم بتحصيل وجه القياس ، والمعنى المستنبط من الأحكام ، وبناء الحوادث عليها وربما يقدّمون القياس الجلي على آحاد الأخبار. ومن دعاة الرأي أبو حنيفة قال : علمنا هذا رأي ، أحسن ما قدرنا عليه ، فمن قدر على غير ذلك فله ما رأى ، ولنا ما رأينا» (٣).

فمالك بن أنس وأحمد بن حنبل وسفيان الثوري وداود الأصفهاني وغيرهم من أهل الحديث لم يتعرضوا للتأويل ، بل توقفوا فيه ، وقالوا لسنا مكلفين بمعرفة تفسير الآيات المتشابهات ـ التي ظاهرها التشبيه ـ وتأويلها ، بل التكليف عندهم قد ورد بالاعتقاد بأنه لا شريك له وليس كمثله شيء (٤).

__________________

(١) عقائد السنة ص ٢١ نقلا عن جامع أحكام القرآن للقرطبي ، وفي نسخة الملل والنحل ج ١ / ٩٣ ، قال مالك : «.. والكيفية مجهولة والإيمان به واجب».

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ٢٠٦ أصناف المجتهدين.

(٣) الملل والنحل ج ١ / ٢٠٧.

(٤) نفس المصدر ج ١ / ٩٢ ـ ٩٣ بتصرف بالألفاظ وص ١٠٤.

٤٩٤

وقد حاول بعض المتأخرين من العامة الدفاع عن الخط السلفي ، منهم ابن خلدون فقال : «أما السلف فغلبوا أدلة التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها وعلموا استحالة التشبيه وقضوا بأن الآيات من كلام الله فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل .. لجواز أن تكون ابتلاء فيجب الوقف والإذعان له» (١).

لكنّ ضعفه ظاهر ، إذ كيف يغلّبوا أدلة التنزيه ثم يتوقفون في الآيات المتشابهة التي ظاهرها التجسيم ولا يؤولونها؟!! لأن من شروط التنويه تأويل كل خبر يخالف بظاهره تنزيه الباري عزوجل.

وبالجملة : فإن السلف سواء كانوا صحابة أم تابعين لا حصانة عليهم ضد أي نقد ولو كان بنّاء ، لأن أحقّ أن يتبع لا السلف.

وإضافة «الصالح» إلى السلف يعتبر تمويها وتزويرا للحقائق والمسلّمات الدينية والتاريخية. وأول من أصبغها على الصحابة هو عمر بن الخطاب يوم السقيفة ثم تبعه أصحاب مدرسته لا سيّما في عصر الدولة الأموية حيث إنّ أكثر الأحاديث في فضائل الصحابة افتعلت أيام الأمويين تقرّبا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون أنوف بني هاشم ، وقد صفّت هذه الأحاديث بأسلوب يجعل من كل صحابي قدوة صالحة لأهل الأرض ، وتصبّ اللعنات على كل من سبّ أحدا منهم أو اتهمه بسوء.

وأشار محمّد عبده إلى ما صنعه معاوية لنفسه بأن وضع قوما من الصحابة والتابعين على رواية أخبار قبيحة على الإمام عليّ عليه‌السلام تقضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله فاختلفوا على ما أرضاه ، منهم أبو هريرة (٢).

__________________

(١) عقائد السنة ص ٤٢ نقلا عن مقدمة ابن خلدون.

(٢) مقدمة محمد عبده على رسالة التوحيد ص ٧ وشيخ المضيرة ص ٣٠١ محمود أبو ريّة.

٤٩٥

ويقول أحمد أمين في كتابه «ضحى الإسلام» :

«ويسوقنا هذا إلى أن نذكر هنا أن الأمويين فعلا قد وضعوا أو وضعت لهم أحاديث تخدم سياستهم من نواحي متعددة» (١).

وقد بذل معاوية للصحابي سمرة بن جندب خمسمائة ألف درهم ليروي له عن النبيّ أن آية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) نزلت في الإمام عليّ بن أبي طالب ؛ وأن قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) نزلت في عبد الرحمن بن ملجم لأنه قتل عليّا عليه‌السلام (٢).

وبالمناسبة نقول : إذا كان كل الصحابة عدولا صالحين ـ حسبما يعتقده الأشاعرة ـ فيفترض أن يكون آل محمد صحابة صالحين فيؤخذ منهم ويعتقد بهم وبما يروون ، وأن يكف الأمويون ومن حذا حذوهم عن الانتقاص منهم والإساءة إليهم.

وإذا كان الصحابة من السلف الصالح ، فآل محمد خيرة السلف الصالح ، فلم يؤخذ من الأباعد ويترك الأقارب؟!!

ولا عبرة بالسلف «الذي يسمونه صالحا» إذا لم يتوفر فيه ثلاثة عناصر مهمّة :

الأول : الإيمان بالله وبكل ما جاء به النبيّ الكريم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثاني : الصدق والأمانة والنزاهة.

الثالث : أن يكون ما جاء به السلف موافقا للأسس والموازين العقيدية والتشريعية الموافقة للكتاب الكريم وسنة نبيّه وآله الطاهرين.

فكل سلف يخالف ما جاء به الكتاب وقرينه آل البيت ، لا يعتد به بل دونه

__________________

(١) ضحى الإسلام ج ٢ / ١٢٣.

(٢) آراء العلماء في التقية والصحابة ص ٥٨ السيّد مرتضى الرضوي.

٤٩٦

خرط القتاد ، لأن الله أمرنا باتّباعهم والكون معهم قال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (١).

وقال الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«إني قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي : الثّقلين ، وأحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» (٢).

قال ابن حجر الهيثمي :

«حثّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الاقتداء والتمسك بهم ـ أي آل محمد ـ والتعلّم منهم وقال الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت ... ثم الذين وقع الحثّ عليهم منهم إنما هم العارفون بكتاب الله وسنّة رسوله إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض ، ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم» وتميّزوا بذلك عن بقية العلماء لأن الله أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، وشرّفهم بالكرامات الباهرة والمزايا المتكاثرة ، وقد مر بعضها ، وسيأتي الخبر الذي في قريش : وتعلموا منهم فإنهم أعلم منكم. فإذا ثبت هذا العموم لقريش فأهل البيت أولى منهم بذلك ، لأنهم امتازوا عنهم بخصوصيات لا يشاركهم فيها بقية قريش ، وفي أحاديث الحثّ على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة كما أن الكتاب العزيز كذلك ، ولهذا كانوا أمانا لأهل الأرض كما يأتي ويشهد لذلك الخبر : في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي .. ثم أحق من يتمسك به منهم إمامهم وعالمهم عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه لما قدمناه من مزيد علمه ودقائق مستنبطاته ...» (٣).

__________________

(١) سورة التوبة : ١١٩.

(٢) مسند أحمد ج ٥ / ١٨١ ، ج ٤ / ٣٦٦ وصحيح مسلم في كتاب الفضائل.

(٣) الصواعق المحرقة ص ١٥١.

٤٩٧

لا يسعني إلا أن أنحني تواضعا لكل صرخة حق ارتفعت دفاعا عن آل البيت عليهم‌السلام ، ونحن إذ نتواضع لكلمة ابن حجر الرائعة ، إنما نتواضع للحق المتمثّل بآل محمّد ، فما سطره يراعه هنا فاق ما نفثه من سموم بمواضع من كتابه ، فما ضره لو بقي على ذاك اليراع الذي طاب بطيب العترة المطهّرة؟!!

٤٩٨

قال العلويّ للملك :

أيّها الملك قل للوزير ، هل الحقّ أحقّ أن يتّبع أم السلف؟

أليس تقليد السلف ضد الحق مشمولا لقوله تعالى : (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٢]؟!

قال الملك ـ موجّها الخطاب إلى العلوي ـ :

إذا لم يكن هؤلاء الثلاثة خلفاء لرسول الله فمن هو خليفة رسول الله؟

قال العلويّ : خليفة رسول الله هو الإمام عليّ بن أبي طالب (١).

____________________________________

(١) من هم الخلفاء الراشدون؟

روى العامة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» (١).

ولمعرفة مغزى الحديث وصحّة انطباقه على بعض الصحابة علينا أن نحلّل مفرداته فنقول :

ـ ما معنى عبارة «الخلفاء الراشدين» لغة واصطلاحا؟.

أما لغة : فإنّ «خلفاء» جمع خليفة ، والمصدر «خلافة» وهي بمعنى النيابة ، وخليفة الرجل من يقوم مقامه أو الذي يستخلف ممّن قبله ..

وفي الدعاء «اللهم أنت الخليفة في السفر» والمعنى : أنت الذي أرجوه

__________________

(١) لاحظ لسان العرب / ابن منظور ج ٣ / ١٧٥ ، ط / دار صادر وسنن ابن ماجه ج ١ / ١٦ ، ط / دار الكتب.

٤٩٩

وأعتمد عليه في غيبتي عن أهلي أن تلمّ شعثهم وتقوّم أودهم وتداوي سقمهم وتحفظ عليهم دينهم ....

ومن «الخلافة» عدة اشتقاقات منها : خلف ـ استخلف ـ خالفة ... وجميعها ذكر في القرآن كقوله تعالى :

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ) (١).

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) (٢).

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) (٣).

(فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) (٤).

والخالف : الفاسد في الدين ؛ والخالفة : القاعدة من النساء في الدار.

(وفي حديث عن ابن عبّاس أنّ أعرابيا سأل أبا بكر فقال له : أنت خليفة رسول الله؟ قال : لا ، قال : فما أنت؟ قال : أنا الخالفة بعده.

قال ابن الأثير : الخالفة : الذي لا غناء ولا خير فيه ، وإنما قال ذلك تواضعا وهضما لنفسه) (٥).

والعجب من ابن الأثير كيف يعد قول أبي بكر تواضعا! وهل من التواضع أن يصف المرء نفسه بالحمق أو يشبّه نفسه بالنساء القاعدات في بيوتهنّ وهو في مقام الخلافة.

وورد في القرآن لفظ (خليفة) مرّتين كما في قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٦٩.

(٢) سورة الأنعام : ١٣٣.

(٣) سورة التوبة : ٨٧.

(٤) سورة التوبة : ٨٣.

(٥) لسان العرب ج ٩ / ٨٩ ، مادة «خلف».

٥٠٠