أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

الخصاصة ، والله ما زلتم مؤثرين إخوانكم من المهاجرين وأنتم أحق الناس ألا يكون هذا الأمر واختلافه على أيديكم ، وأبعد أن لا تحسدوا اخوانكم على خير ساقه الله تعالى إليهم ، وإنما أدعوكم إلى أبي عبيدة أو عمر وكلاهما قد رضيت لكم ولهذا الأمر ، وكلاهما له أهل ، فقال عمر وأبو عبيدة : ما ينبغي لأحد من الناس أن يكون فوقك يا أبا بكر أنت صاحب الغار ثاني اثنين ، وأمرك رسول الله بالصلاة فأنت أحق الناس بهذا الأمر ، فقال الأنصار : والله ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم ، وإنّا لكما وصفت يا أبا بكر والحمد لله ، ولا أحد من خلق الله تعالى أحب إلينا منكم ولا أرضى عندنا ولا أيمن ولكنّا نشفق مما بعد اليوم ونحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منا ولا منكم ، فلو جعلتم اليوم رجلا منا ورجلا منكم بايعنا ورضينا.

ثم ردّ عليهم أبو بكر فقال :

«... أنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم ولا النعمة العظيمة لهم في الإسلام رضيكم الله تعالى أنصارا لدينه ولرسوله ، وجعل إليكم مهاجرته ، فليس بعد المهاجرين الأولين أحد عندنا بمنزلتكم ، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء ، لا نفتات دونكم بمشورة ولا تنقضي دونكم الأمور.

فقام الحبّاب بن المنذر فقال :

يا معشر الأنصار ، املكوا عليكم أيديكم ، فإنما الناس في فيئكم وظلالكم ولن يجير مجير على خلافكم ، ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم ، أنتم أهل العز والثروة وأولو العدد والنجدة ، وإنما ينظر الناس ما تصنعون .. أنتم أهل الإيواء والنصرة ، وإليكم كانت الهجرة ، ولكم في السابقين الأولين مثل ما لهم ، وأنتم أصحاب الدار والإيمان من قبلهم ، والله ما عبدوا الله علانية إلا في بلادكم ، ولا جمعت الصلاة إلا في مساجدكم ، ولا دانت العرب للإسلام إلا بأسيافكم ، فأنتم أعظم الناس نصيبا في هذا الأمر وإن أبى القوم ، فمنا أمير ومنهم أمير.

٤٦١

فقام عمر فقال :

هيهات لا يجتمع سيفان في غمد واحد ، إنه والله لا يرضى العرب أن تؤمركم ونبيها من غيركم ، ولكن العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلا من كانت النبوة فيهم ، وأولو الأمر منهم ، لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين ، من ينازعنا سلطان محمّد وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته إلّا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة فردّ عليه الحباب بن المنذر فقال :

يا معشر الأنصار : املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ، فإن أبوا عليكم ما سألتم فأجلوهم عن بلادكم ، وتولوا هذا الأمر عليهم ، فأنتم والله أولى بهذا الأمر منهم ، فإنه دان لهذا الأمر ما لم يكن يدين له بأسيافنا ، أما والله إن شئتم لنعيدنها جذعة ، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجّب منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ، والله لا يردّ عليّ أحد ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف.

قال عمر بن الخطّاب : فلما كان الحباب هو الذي يجيبني ، لم يكن لي معه كلام لأنه كان بيني وبينه منازعة في حياة رسول الله فنهاني عنه.

ثم قام أبو عبيدة فقال :

يا معشر الأنصار أنتم أول من نصر وآوى ، فلا تكونوا أول من يبدّل ويغيّر (١).

ثم تكلّم بشير بن سعد فقال :

يا معشر الأنصار ، أما والله لئن كنّا أولى الفضيلة في جهاد المشركين ، والسابقة في الدين ، ما أردنا إن شاء الله غير رضا ربنا وطاعة نبينا والكرم لأنفسنا ، وما ينبغي أن نستطيل بذلك على الناس ولا نبتغي به عوضا من الدنيا فإن الله ولي

__________________

(١) الإمامة والسياسة ص ٢٢ ـ ٢٥ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٦ وشرح النهج ج ٣ / ١٧٧.

٤٦٢

النعمة والمنّة علينا بذلك (١).

ولمّا استقر الوضع قليلا ، قام أبو بكر مستغلا الفرصة فقال :

إني ناصح لكم في أحد هذين الرجلين : أبي عبيدة بن الجراح ، أو عمر فبايعوا من شئتم منهما ، فقال عمر : معاذ الله أن يكون ذلك وأنت بين أظهرنا ، أنت أحقنا بهذا الأمر ، وأقدمنا صحبة لرسول الله وأفضل منا في المال وأنت أفضل المهاجرين وثاني اثنين وخليفته على الصلاة ، والصلاة أفضل أركان دين الإسلام فمن ذا ينبغي أن يتقدمك ويتولى هذا الأمر عليك؟ ابسط يدك أبايعك ، فلما ذهبا يبايعانه سبقهما إليه بشير الأنصاري فبايعه ، فناداه الحباب بن المنذر : يا بشير بن سعد عقّك عقاق ما اضطرك إلى ما صنعت؟ حسدت ابن عمك على الإمارة؟ قال: لا والله ، ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا لهم.

فلما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد وهو من سادات الخزرج ، وما دعوا إليه المهاجرين من قريش ، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة ، قال بعضهم لبعض وفيهم أسيد بن حضير : لئن وليتموها سعدا عليكم مرة واحدة لا زالت لهم بذلك عليكم الفضيلة ، ولا جعلوا لكم نصيبا فيها أبدا ، فقوموا فبايعوا أبا بكر ، فقاموا إليه فبايعوه.

فقام الحباب بن المنذر إلى سيفه فأخذه ، فبادروا إليه فأخذوا سيفه منه ، فجعل يضرب بثوبه وجوههم حتى فرغوا من البيعة ، فقال : فعلتموها يا معشر الأنصار أما والله لكأني بأبنائكم على أبواب أبنائهم قد وقفوا يسألونهم بأكفهم ولا يسقون الماء.

فقال أبو بكر : أمنا تخاف يا حباب؟

قال : ليس منك أخاف ، ولكن ممن يجيء بعدك. قال أبو بكر : فإذا كان ذلك كذلك ، فالأمر إليك وإلى أصحابك ، ليس لنا عليك طاعة. قال الحباب :

__________________

(١) نفس المصدر ص ٢٦.

٤٦٣

هيهات يا أبا بكر ، إذا ذهبت أنا وأنت ، جاءنا بعدك من يسومنا الضيم (١). وفي نص آخر قال سعد لعمر : نحن الوزراء وأنتم الأمراء ، فاتفقا (٢).

تنبيه :

إذا لم يكن لأبي بكر طاعة على الحباب وأصحابه فلم يلزمه بالبيعة له ، فلما ذا ألزم الإمام عليا وأصحابه بها حتى اقتحموا داره لأجل أخذ البيعة منه؟!

على كل صاحب ضمير أن ينصف بحكمه عند ما يقرأ تاريخا كهذا.

وهكذا اتفق أكثر الأنصار والمهاجرين ممن حضر السقيفة على بيعة أبي بكر إما طمعا أو خوفا إلا القليل منهم حيث ثبتوا على مواقفهم الباسلة منهم سعد بن عبادة ، فانتصب مجابها للقوم قائلا لهم :

أما والله لو أن لي ما أقدر به على النهوض ، لسمعتم مني في أقطارها زئيرا يخرجك ـ يقصد أبا بكر ـ وأصحابك ، ولألحقنّك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع ، خاملا غير عزيز ، فبايعه الناس جميعا حتى كادوا يطئون سعدا ، فقال سعد : قتلتموني ، فقال عمر : اقتلوه قتله الله ، فقال سعد : احملوني من هذا المكان ، فحملوه فأدخلوه داره وترك أياما ، ثم بعث إليه أبو بكر فقال له : أن أقبل فبايع ، فقد بايع الناس ، وبايع قومك ، فقال : أما والله حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي من نبل ، وأخضب منكم سناني ورمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي ، وأقاتلكم بمن معي من أهلي وعشيرتي ، ولا والله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي ، وأعلم حسابي ، فلما أتى بذلك أبو بكر من قوله ، قال عمر : لا تدعه حتى يبايعك ، فقال لهم بشير بن سعد : إنه قد أبى ولجّ ، وليس يبايعك حتى يقتل (٣) ، وليس بمقتول حتى يقتل ولده معه وأهل بيته

__________________

(١) الإمامة والسياسة ص ٢٦.

(٢) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٤٤٤ حوادث عام ١١ ه‍.

(٣) وبالفعل قتل سعد بن عبادة ، وقاتله عمر بن الخطاب ، فقد روى البلاذري في تاريخه أن ابن الخطّاب أشار إلى خالد بن الوليد ومحمّد بن سلمة الأنصاري بقتل سعد ، فرماه كل واحد بسهم ،

٤٦٤

وعشيرته ، ولن تقتلوهم حتى تقتل الخزرج ، ولن تقتل الخزرج حتى تقتل الأوس ، فلا تفسدوا على أنفسكم أمرا قد استقام لكم ، فاتركوه فليس تركه بضاركم ، وإنما هو رجل واحد ، فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد ، فكان سعد لا يصلّي بصلاتهم ولا يجمع ـ أي ولا يصلّي الجمعة ـ بجمعتهم ، ولا يفيض بإفاضتهم ـ يعني لا يحج معهم ـ ولو يجد عليهم أعوانا لصال بهم ، ولو بايعه أحد على قتالهم لقاتلهم ، فلم يزل كذلك حتى توفي أبو بكر ، ووليّ عمر بن الخطاب ، فخرج إلى الشام ، فمات بها ، ولم يبايع لأحد رحمه‌الله (١).

وفي نصوص أخرى : أقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر وكادوا يطئون سعد بن عبادة ، فقال ناس من أصحاب سعد اتقوا سعدا لا تطؤه فقال عمر : اقتلوه قتله الله ، ثم قام على رأسه ، فقال : لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك ، فأخذ سعد بلحية عمر فقال : والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة ...» (٢).

وهنا بعض الملاحظات لا بدّ من الإشارة إليها :

الملاحظة الأولى : إن خط المعارضة لآل البيت عليهم‌السلام لم يهتم لموت النبيّ الكريم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويبرز ذلك من خلال اجتماعهم في سقيفة بني ساعدة والنبيّ لا يزال مسجى على فراش الموت.

والعاقل يستغرب كيف أنهم تركوا النبيّ الكريم في تلك اللحظات الأليمة في حين كان الأجدر بهم أن يبقوا مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يقومون بتجهيزه وتولية أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصوصا وأن القيام بشئون الميّت أمر اعتاده العقلاء من

__________________

ـ ثم أوقعوا على أوهام الناس أن الجن قتلوه ووضعوا هذا الشعر على لسانهم :

قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة

فرميناه بسهمين فلم يخطئ فؤاده (انتهى)

وقد شهد النبيّ بفضل سعد لمواقفه المشرّفة بنصرة دين الله تعالى ، انظر : أسد الغابة ج ٢ / ٤٤١.

(١) الإمامة والسياسة ص ٢٩ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٩ والكامل في التاريخ ج ٢ / ٣٣٠.

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٩.

٤٦٥

كل دين حتى عبدة الأوثان.

قد يقال :

إن خوف الأنصار من المهاجرين للمنافسة الموجودة (١) بينهم ، أدت إلى اجتماع الأنصار بقيادة سعد بن عبادة ، وقد تبين لهم أن شيوخ المهاجرين قد تكتلوا لصرف الخلافة عن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وأرادوا الاستيلاء عليها في حين إنّ الأنصار قدّموا للدعوة وصاحبها ما لم يقدّمه أي مهاجر آخر غير الإمام عليّ عليه‌السلام.

هذا الرأي تبنّاه أحد المؤرخين (٢) ، لكنه مردود وذلك :

أولا : إن مؤازرتهم ونصرتهم للرسول لا يشك بها ذو مسكة ويؤجر عليها المخلص والثابت على الإيمان ، لكنّ استبدادهم بالأمر وتسرّعهم في عقد الاجتماع لنصب خليفة منهم ، مما دعا أبو بكر وعمر أن يلتحقا به ، هذا التسرع والاستبداد يعدّ خيانة عند أكثرهم للإسلام وتفريطا بحقوق المسلمين بلا مبرر ، في وقت دهمت الإسلام فاجعة أليمة ، والمسلمون مذهولون بموت نبيّهم ، في حين إنّ أصحاب السقيفة ومنهم بعض قادة الأنصار ـ عدا سعد بن عبادة ، وابنه قيس والمقداد ـ كانوا مشغولين بتنصيب خليفة ، وكأنهم لم يسمعوا تلكم النصوص الباهرة طيلة حياة النبيّ والتي أكّد فيها أن العترة الطاهرة بزعامة مولى الثّقلين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام هي الممثّل الوحيد للإسلام من بعده ، وكأنّ على آذان القوم وقرا وبينهم وبين تلكم النصوص حجاب.

__________________

(١) ويؤيده ما ورد في نصوص متعددة : أن عمر لمّا سمع باجتماع الأنصار والمهاجرين في السقيفة أرسل وراء أبي بكر وقد كان في منزل النبي ، فأرسل إليه أبو بكر أني مشتغل ، فقال : عمر قد حدث أمر لا بد لك من حضوره ، فخرج إليه ، فأعلمه الخبر ، فمضيا مسرعين نحوهم ومعهما أبو عبيدة الجراح ، قال عمر : فأتيناهم وقد كنت زوّرت كلاما أقوله لهم ... انظر : كامل ابن الأثير ج ٢ / ٣٢٨ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٣ و ٤٥٦.

(٢) سيرة الأئمة الاثني عشر ج ١ / ٢٥٩ فصل السقيفة ، السيد هاشم معروف الحسني.

٤٦٦

ثانيا : لو كان الأنصار أصحاب السقيفة يمخّضون النصيحة للإسلام والمسلمين لكان الأجدر بهم أن يلتفوا حول مولاهم الذي بايعوه في غدير خم فيكونوا له عليه‌السلام أنصارا كما كانوا للنبيّ في ساعة العسرة ، وقد كان الأمير عليه‌السلام ينتظر نصرة أربعين من المهاجرين والأنصار حسبما أوصاه رسول الله بأمر من الله بذلك.

الملاحظة الثانية : إنّ المهاجرين ادّعوا بخطبهم أمام الأنصار أنهم أولياء الرسول وعشيرته ، وأن منهم من كان ثاني اثنين في الغار ، ومن نصبه النبيّ ليصلّي عنه ، ومنهم أمين هذه الأمة (١) وفاروقها (٢) ، كل ذلك ليستدروا عواطف الأنصار ليحصلوا بذلك على دعمهم لهم بالبيعة.

والسؤال : لقد ادّعى المهاجرون أنّهم أحقّ بهذا الأمر ـ حسبما تقدّم آنفا عن أبي بكر وأمثاله ـ فهل كانوا حقيقة من عشيرة النبيّ والأولى بسلطانه وميراثه (٣)؟

والجواب :

الواقع يكذّب ذلك ، لأن الرءوس الثلاثة الكبيرة في السقيفة (أبو بكر ـ عمر ـ أبو عبيدة الجرّاح) كانوا من بطون متعددة مستقلة بعضها عن بعض ، فالنبيّ الكريم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من البطن الهاشمي المستقل عن هذه البطون والمتميز عليها ، وقد أشار إلى هذا العباس بن عبد المطلب في معرض رده على أبي بكر فقال : إن رسول الله من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها.

__________________

(١) أرادوا به عبيدة بن الجراح الذي قال عنه النبيّ برواية مفتراة عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لأبعثنّ عليكم أمينا حقّ أمين ، فبعث معهم أبا عبيدة ، انظر : تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٣.

(٢) أي يقصدون عمر بن الخطاب.

(٣) ادعاها أبو بكر في خطبته أمام الأنصار في السقيفة ، لاحظ : تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٧ فصل في ذكر عما جرى بين المهاجرين والأنصار. وكذا ادعاها بشير بن سعد مع أنه أنصاري لكنه قالها تملقا لأبي بكر وحسدا لسعد بن عبادة ، انظر : الإمامة والسياسة فصل مخالفة بشير بن سعد ص ٢٥.

٤٦٧

الملاحظة الثالثة :

إن المهاجرين الثلاثة في السقيفة صوّروا أن كل الأنصار يريدون أن يكون الخليفة منهم ، لكنّ الحقيقة غير هذا وذلك لوجود ثلة مؤمنة من الأنصار ثبتوا على ولائهم لأمير المؤمنين عليّعليه‌السلام وأخلصوا بتشيعهم له أمثال سعد بن عبادة والمقداد والحباب بن المنذر وقيس بن سعد بن عبادة ، فهؤلاء كانوا في السقيفة يقودون جبهة الأنصار المعارضة للخط القبلي ، لذا يروى أن بعض الأنصار قالت : لا نبايع إلّا عليّا (١).

الملاحظة الرابعة :

إن الحلف الثلاثي كان قد خطّط للمؤامرة من قبل موت النبيّ ، من هنا تأخر أبو بكر بقدومه من منزله بالسنح حتى شوّش عمر على الحضور بإلقاء شبهته بأن النبيّ لم يمت ومن زعم ذلك فسوف يرجعنّ النبيّ ويقطع له يديه ورجليه ، فقضية الخلافة كانت متواجدة في ذهن عمر بن الخطاب وينتظر مجيء أبي بكر ليبدأ تحركهما في هذا المجال ، والأمر آنذاك كان يقتضي تسكين المسلمين وبث الشبهة في أذهانهم وانشغالهم بذلك ليتسنى لهم جمع الأعوان للانقلاب (٢) على الإمام عليّ وأصحابه ، ولا يعنينا ما رامه ابن أبي الحديد حيث ادعى أن عمر لمّا علم أن رسول الله قد مات خاف من وقوع فتنة في الإمامة وتغلب أقوام عليها ، إما من الأنصار أو من غيرهم ، فاقتضت المصلحة عنده تسكين الناس فأظهر ما أظهر وأوقع تلك الشبهة في قلوبهم حراسة للدين (٣) والدولة إلى أن جاء أبو بكر.

ولمّا اتسقت الأمور لرواد الانقلاب الذين لم يحضروا حتى جنازة النبيّ بل

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٣٢٥.

(٢) كان الانقلابيون ينتظرون قدوم أعداد كبيرة من مرتزقة الأعراب للإطاحة بخلافة أمير المؤمنين علي ، لذا لما جاءوا ورآهم عمر قال : لمّا رأيت قبيلة أسلم تضايقت بهم السكك أيقنت بالنصر ، لاحظ : تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٩ وتاريخ ابن الأثير ج ٢ / ٣٣١.

(٣) شرح النهج ج ٦ / ٢٤٨.

٤٦٨

لم يل أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا أقاربه ، أما اولئك فكانوا منشغلين بمجالدة الناس وقهرهم على البيعة ، لذا قال ابن أبي الحديد : «وعمر هو الذي شيّد بيعة أبي بكر ووقم (١) المخالفين فيها ، فكسر سيف الزبير لمّا جرّده ، ودفع في صدر المقداد ، ووطئ في السقيفة سعد بن عبادة ، وقال : اقتلوا سعدا ، قتل الله سعدا! وحطّم أنف الحباب بن المنذر الذي قال يوم السقيفة : أنا جذيلها المحكّك ، وعذيقها المرجّب ، وتوعّد من لجأ إلى دار فاطمة عليها‌السلام من الهاشميين ، وأخرجهم منها ، ولو لاه لم يثبت لأبي بكر أمر ، ولا قامت له قائمة» (٢).

وعن البراء بن عازب قال :

«لم أزل لبني هاشم محبّا ، فلمّا قبض رسول الله خفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر منهم ، فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول ، مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله ، فكنت أتردد إلى بني هاشم وهم عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحجرة وأتفقّد وجوه قريش ، فإني كذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر ، وإذ قائل يقول :

القوم في سقيفة بن ساعدة ، وإذ قائل آخر يقول : قد بويع أبو بكر ، فلم ألبث ، وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة ، وهم محتجزون بالأزر الصنعانية لا يمرّون بأحد إلّا خبطوه ، وقدّموه فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه ، شاء أو أبى ، فأنكرت عقلي ، وخرجت اشتدّ حتى انتهيت إلى بني هاشم ، والباب مغلق ، فضربت عليهم الباب ضربا عنيفا ، وقلت : قد بايع الناس لأبي بكر بن أبي قحافة ، فقال العبّاس : تربت أيديكم إلى آخر الدهر ، أما إني قد أمرتكم فعصيتموني ، فمكثت أكابد ما في نفسي ، ورأيت في الليل المقداد وسلمان وأبا ذر وعبادة بن الصامت وأبا الهيثم بن التيهان وحذيفة وعمّارا ، وهم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين.

وبلغ ذلك أبا بكر وعمر ، فأرسلا إلى عبيدة وإلى المغيرة بن شعبة ،

__________________

(١) وقم المخالفين : أي أذلهم.

(٢) شرح النهج ج ١ / ١٣٥ فصل نبذة من أخبار عمر بن الخطّاب.

٤٦٩

فسألاهما عن الرأي ، فقال المغيرة : الرأي أن تلقوا العبّاس فتجعلوا له ولولده في هذه الإمرة نصيبا ، ليقطعوا بذلك ناحية الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. فانطلق أبو بكر وعمر وعبيدة والمغيرة ، حتى دخلوا على العبّاس ، وذلك في الليلة الثانية من وفاة رسول الله ، فقام أبو بكر خطيبا فقال :

إن الله ابتعث لكم محمّدا نبيّا ، وللمؤمنين وليّا ، فمنّ الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم ، حتى اختار له ما عنده ، فخلّى على الناس أمورهم ليختاروا لأنفسهم متفقين عير مختلفين ، فاختاروني عليهم واليا ، ولأمورهم راعيا ، فتوليت ذلك وما أخاف بعون الله وتسديده وهنا ولا حيرة ولا جبنا ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ، وما أنفكّ يبلغني عن طاعن يقول بخلاف قول عامة المسلمين ، يتخذكم لجأ فتكونون حصنه المنيع ، وخطبه البديع ، فإمّا دخلتم فيما دخل فيه الناس أو صرفتموهم عمّا مالوا إليه ، فقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا ولمن بعدك من عقبك ، إذ كنت عمّ رسول الله وإن كان المسلمون قد رأوا مكانك من رسول الله ومكان أهلك ، ثم عدلوا بهذا الأمر عنكم وعلى رسلكم بني هاشم ، فإن رسول الله منّا ومنكم.

فاعترض عمر كلامه ، وخرج إلى مذهبه في الخشونة والوعيد وإتيان الأمر من أصعب جهاته ، فقال : أي والله ، إنا لم نأتكم حاجة إليكم ، ولكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم ، فيفاقم الخطب بكم وبهم ، فانظروا لأنفسكم ولعامّتهم ثم سكت.

فتكلم العبّاس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :

إن الله ابتعث محمدا نبيّا كما وصفت ووليّا للمؤمنين ، فمنّ الله به على أمته حتى اختار له ما عنده ، فخلّى الناس على أمرهم ليختاروا لأنفسهم مصيبين للحق مائلين عن زيغ الهوى ، فإن كنت برسول الله طلبت فحقنا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين فنحن منهم ، ما تقدّمنا في أمركم فرطا ، ولا حللنا وسطا ، ولا نزحنا شحطا ، فإن كان هذا الأمر يجب لك بالمؤمنين فما وجب إذ كنا كارهين ، وما أبعد

٤٧٠

قولك : إنهم طعنوا من قولك إنهم مالوا إليك ، وأما ما بذلت لنا ، فإن يكن حقك أعطيتناه فأمسكه عليك ، وإن يكن حق المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه ، وإن يكن حقّنا لم نرض لك ببعضه دون بعض ، وما أقول هذا أروم صرفك عمّا دخلت فيه ، ولكن للحجة نصيبها من البيان ، وأما قولك : إن رسول الله منا ومنكم ، فإن رسول الله من شجرة نحن أغصانها ، وأنتم جيرانها ، وأما قولك يا عمر : إنك تخاف الناس علينا ، فهذا الذي قدمتموه أوّل ذلك ، وبالله المستعان»(١).

وهنا نبدي بعض الملاحظات التالية :

الملاحظة الأولى : إن أقطاب السقيفة أرادوا استمالة العبّاس بن عبد المطلب لشيئين :

الأول : ظنهم أنه يريد الزعامة ، لذا قالوا له : نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا ، إذ كنت عمّ رسول الله.

الثاني : ليكون خصما (٢) بذلك على أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وقد عبّر عن هذين الأمرين المغيرة عند ما استشاره الشيخان.

ويا ليت القوم أعطوا أمير المؤمنين والصدّيقة الزهراء عليهما‌السلام نصيبا من الأمر لصلتهما الوثيقة برسول الله كما فعلوا مع العبّاس لكونه عمّ رسول الله.

إذن أراد القوم رشوة العبّاس لاستمالته إليهم لكنه رفض لأن معارضته لهم من أجل اغتصاب الحق ، وهيهات أن يداهن العبّاس عليه وقد كان عمر يستمطر السماء به فتمطر.

__________________

(١) شرح النهج ج ١ / ١٦٧ ـ ١٦٩.

(٢) يظهر من نص : أن الإمام عليّا عند ما ألقى الحجة على أبي بكر ، أقرّ أبو بكر بأحقية الإمام منه ، واتفقا أن يكون الموعد بينهما المسجد ، ولكنّ المغيرة بن شعبة تلاعب بفكر أبي بكر وقال له : الرأي يا أبا بكر أن تلقوا العباس فتجعلوا له في هذه الأمرة نصيبا وتكون لكما الحجة على علي إذا كان العباس معكم ، لاحظ : الإمامة والسياسة ص ٣٢.

٤٧١

الملاحظة الثانية : ادّعاء أبي بكر أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك الأمر للمسلمين ليختاروا لأنفسهم وقد اختاروا أبا بكر عليهم واليا ، وهو ادعاء كاذب لا يمت إلى الحقيقة بصلة ، إذ لم يدع رسول الله الأمر شورى بين المسلمين بل نصّب عليهم بأمر من الله يوم غدير خم الإمام عليا عليه‌السلام خليفة وقيّما ووليا ، وقد هنأ الشيخان الإمام عليا بولايته على كل مؤمن ومؤمنة ، هذا مضافا إلى أن أبا بكر وعمر نفسيهما لم يذهبا من الدنيا حتى خلّفا على هذه الأمة من ينوب عنهما في أمور الرعية ، بل إن أبا بكر ذكر ذلك في خطبته تلك مخاطبا العبّاس : «فاختاروني عليهم واليا ولأمورهم راعيا» فإذا ثبت الانتخاب للأدنى ليصلح الرعية ، ثبت بطريق أولى للأشرف أعني النبيّ بأمر من الله تعالى ، فما هذه الغميزة بحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

الملاحظة الثالثة : أظهر أقطاب السقيفة امتعاضهم من أن يكون البيت الهاشمي الحصن المنيع لكل مستضعف يلجأ إليه ، وهذا الأمر له دلالاته عند الشيخين لكونه لا يتناسب وأسس الحكومة البكرية الجديدة ، التي تتعاطى مع الأحداث بالعنف والقسوة لبسط نفوذها وهيبتها.

الملاحظة الرابعة : ادعاء أبي بكر أن المسلمين عدلوا عن آل هاشم إلى آل تيم وعدي كما أن رسول الله من بني هاشم ومنهم ، في حين إنّ رسول الله من شجرة طيبة تختلف بجوهرها عن باقي الشجر ، وكما عبّر العبّاس : إن رسول الله من شجرة نحن أغصانها ، وأنتم جيرانها.

هذا مضافا إلى أن المسلمين لم يعدلوا عن آل هاشم وإنما عدّلوا بالسيف والقهر إلى منطق السقيفة ، هذا إذا أحسنّا الظن بهم ، وإلّا أين كان المسلمون عند ما «احتاجت إليهم بضعة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنصرتها ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به» (١).

__________________

(١) لاحظ : الإمامة والسياسة ص ٢٩ فصل إباية الإمام علي عن البيعة لأبي بكر.

٤٧٢

فمنطق أصحاب السقيفة لا يعرف سوى القوة لفرض آرائه على الناس ، فما قرّره الشيخان في مؤتمر السقيفة يجب أن ينفّذ حتى لو كان فاقدا للشرعية من حيث ترتبه على موقف مخالف وهو التخلف عن جيش أسامة ، بالإضافة إلى معارضته من قبل أعداد كبيرة من أجلّة الصحابة.

فيروي المؤرخون أن بني هاشم لما انعقدت البيعة بالقهر لأبي بكر اجتمعت حول الإمام عليّ عليه‌السلام ومعهم الزبير بن العوام وكانت أمه صفية بنت عبد المطلب ، وإنما كان يعد نفسه من بني هاشم ، وكان الإمام عليّ عليه‌السلام يقول : ما زال الزبير منا حتى نشأ بنوه ، فصرفوه عنا (١) ، واجتمعت بنو أمية على عثمان ، واجتمعت بنو زهرة إلى سعد وعبد الرحمن بن عوف ، فكانوا في المسجد الشريف مجتمعين فلمّا أقبل عليهم أبو بكر وأبو عبيدة وقد بايع الناس أبا بكر ، فقام عثمان ومن معه من بني أمية فبايعوه ، وقام بنو زهرة فبايعوا ، وأمّا الإمام عليّ عليه‌السلام والعبّاس بن عبد المطلب ومن معهما من خيرة أصحابهما وبني هاشم فانصرفوا إلى رحالهم ومعهم الزبير بن العوام ، فذهب إليهم في عصابة فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن أسلم ، فقالوا : انطلقوا فبايعوا أبا بكر ، فأبوا ، فخرج الزبير بن العوام بالسيف ، فقال عمر : عليكم بالرحيل فخذوه فوثب عليه سلمة بن أسلم فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار (٢).

وما جرى على الزبير من بطش عمر كان في منزل الإمام علي عليه‌السلام عند ما همّوا بإحراقه ، ففي نصّ عن مروان بن عثمان قال :

لما بايع الناس أبا بكر ، دخل الإمام علي عليه‌السلام والزبير والمقداد بيت الصدّيقة فاطمةعليها‌السلام وأبو أن يخرجوا فقال عمر بن الخطاب : اضرموا عليهم

__________________

(١) وفي لفظ آخر قال عليه‌السلام : «ما زال الزبير رجلا منّا أهل البيت حتى شبّ عبد الله» ، لذا لمّا ظفر به يوم الجمل صفح عنه وقال : «اذهب فلا أرينّك» ، لم يزده على ذلك. انظر : شرح النهج ج ١ / ٢٧ باب لمع يسيرة من فضائل الإمام عليّ عليه‌السلام.

(٢) الإمامة والسياسة / الدينوري ص ٢٨.

٤٧٣

البيت نارا ، فخرج الزبير ومعه سيف ، فقال أبو بكر عليكم بالكلب فقصدوا نحوه فزلّت قدمه وسقط على الأرض ووقع السيف من يده ، فقال أبو بكر : اضربوا به الحجر (١).

إشارة :

لا أدري كيف يحقّ لصحابيّ أن يسبّ صحابيا مثله ، ولا يحقّ لغيره أن يشتم صحابيا أو يلعنه لمجرد منكر صدر منه؟! لقد روى مؤرخو العامة أن عمر نعت سعد بن عبادة بالنفاق ، كما نعت عثمان عمارا بشيء أنزّه لساني عن ذكره. انظر تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٩ وأنساب الأشراف ج ٥ / ٥٤.

وروى ابن قتيبة أيضا تفاصيل اقتحامهم دار الإمام علي عليه‌السلام فقال : وإنّ أبا بكر تفقّد قوما تخلّفوا عن بيعته عند عليّ كرّم الله وجهه ، فبعث إليهم عمر ، فجاء فناداهم وهم في دار عليّ ، فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب وقال : والذي نفس عمر بيده ، لتخرجنّ أو لأحرقنّها على من فيها ، قيل له : يا أبا حفص ، إن فيها فاطمة؟ فقال : وإن ، فخرجوا فبايعوا إلا عليا فإنه زعم أنه قال : حلفت أن لا أخرج ولا أضع ثوبي على عاتقي حتى أجمع القرآن ، فوقفت فاطمة رضي الله عنها على بابها ، فقالت : لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم ، تركتم رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم جنازة بين أيدينا ، وقطعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا ، ولم تردوا لنا حقا. فأتى عمر أبا بكر ، فقال له : ألا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة؟ فقال أبو بكر لقنفذ وهو مولى له : اذهب فادع لي عليا ، قال : فذهب إلى علي ، فقال له : ما حاجتك؟ فقال : يدعوك خليفة رسول الله ، فقال علي : لسريع ما كذّبتم على رسول الله. فرجع فأبلغ الرسالة ، قال : فبكى أبو بكر طويلا ، فقال عمر الثانية : لا تمهل هذا المتخلّف عنك بالبيعة ، فقال أبو بكر لقنفذ : عد إليه فقل له : خليفة رسول الله يدعوك لتبايع ، فجاءه قنفذ ، فأدى ما أمر به ، فرفع عليّ صوته

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢٨ / ٢٣١.

٤٧٤

فقال : سبحان الله! لقد ادّعى ما ليس له ، فرجع قنفذ ، فأبلغ الرسالة فبكى أبو بكر طويلا ، ثم قام عمر ، فمشى معه جماعة ، حتى أتوا باب فاطمة ، فدقّوا الباب ، فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها : يا أبت يا رسول الله ، ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة ، فلما سمع القوم صوتها وبكاءها ، انصرفوا باكين وكادت قلوبهم تنصدع ، وأكبادهم تنفطر ، وبقي عمر ومعه قوم فأخرجوا عليا ، فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع ، فقال : إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا : إذا والله والذي لا إله إلا هو نضرب عنقك ، فقال : إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله ، قال عمر : أما عبد الله فنعم ، وأما أخو رسوله فلا ، وأبو بكر ساكت لا يتكلم ، فقال له عمر : ألا تأمر فيه بأمرك؟ فقال : لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه ، فلحق علي بقبر رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم يصيح ويبكي وينادي : يا ابن أم إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ، فقال عمر لأبي بكر : انطلق بنا إلى فاطمة فإنّا قد اغضبناها ، فانطلقا جميعا ، فاستأذنا على فاطمة ، فمل تأذن لهما ، فأتيا عليا فكلماه ، فأدخلهما عليها ، فلما قعدا عندها ، حوّلت وجهها إلى الحائط ، فسلما عليها ، فلم تردّ عليهما‌السلام ، فتكلم أبو بكر فقال : يا حبيبة رسول الله! والله إنّ قرابة رسول الله أحبّ إليّ من قرابتي ، وإنك لأحبّ إليّ من عائشة ابنتي ، ولوددت يوم مات أبوك متّ ، ولا أبقى بعده ، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله ، إلا أني سمعت أباك رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم يقول : «لا نورّث ما تركناه صدقة» ، فقالت : أرأيتكما إن حدّثتكما حديثا عن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم تعرفانه وتفعلان به؟ قالا : نعم ، فقالت : نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول : رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبّني ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟» ، قالا : نعم سمعناه من رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ، قالت : فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبيّ لأشكونّكما إليه ، فقال أبو بكر : أنا

٤٧٥

عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة ، ثم انتحب أبو بكر يبكي ، حتى كادت نفسه أن تزهق ، وهي تقول : والله لأدعونّ الله عليك في كلّ صلاة أصليها ،. ثم خرج باكيا فاجتمع إليه الناس ، فقال لهم : يبيت كل رجل منكم معانقا حليلته مسرورا بأهله ، وتركتموني وما أنا فيه ، لا حاجة لي في بيعتكم! أقيلوني بيعتي ، قالوا : يا خليفة رسول الله ، إنّ هذا الأمر لا يستقيم وأنت أعلمنا بذلك ، إنه إن كان هذا لم يقم لله دين ، فقال : والله لو لا ذلك وما أخافه من رخاوة هذه العروة ما بت ليلة ولي في عنق مسلم بيعة ، بعد ما سمعت ورأيت من فاطمة (١).

ثم ذكر ابن قتيبة كغيره من مؤرخي العامة أن الإمام عليا عليه‌السلام بايع أبا بكر بعد شهادة الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها أفضل التحية والسلام بعد خمسة وسبعين ليلة (٢) من وفاة أبيها النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وعند الواقدي والطبري وابن الأثير بعد ستة (٣) أشهر.

لكنّ هذا الأمر غير صحيح لأن معنى البيعة : الاعتراف بشرعية المغتصبين لحقه المبارك ، كما أنه لا يمكنه التنازل عنه لكونه غير قابل للنقل والانتقال لأنه من مختصات الإمامة ، وعهد من الله لا يهبه لمن عهد منه المعصية يوما في حياته.

ويشهد لذلك ما ورد من النصوص الصادرة عن أئمة آل البيت عليهم‌السلام مضافا إلى أن القرائن الخارجية تشير إلى أنه لم يبايع ، منها :

قول أبي بكر لعمر : «لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه» (٤).

وهل عدم بيعة أمير المؤمنين للقوم سببه السيدة المطهّرة ، أراد الإمام عليه‌السلام

__________________

(١) الإمامة والسياسة ص ٣٠.

(٢) الإمامة والسياسة / الدينوري ص ٣.

(٣) هامش الإمامة والسياسة ص ٣١ والطبري ج ٢ / ٤٤٨ والكامل في التاريخ ج ٢ / ٣٣١ وشرح النهج مج ٣ / ٢٠٤ ، هذا بالإضافة إلى أن الراوي لخبر الستة أشهر هو الزهري عن عائشة وهما غير ثقتين عندنا.

(٤) الإمامة والسياسة ص ٣١.

٤٧٦

أن يسايرها ، أم أنها مسألة مبدئية لا يساوم أو يهادن عليها الإمام عليه‌السلام؟!

إن عدم امتثال أمير المؤمنين للبيعة ـ كما قلنا ـ ليست مسألة شخصية يمكن أن يتنازل عنها الإمام علي عليه‌السلام للقوم ، إنها مسألة الخلافة الربانية التي وهبها الباري له ، فلا يحق له أن يحبي الآخرين بها.

ومنها : أن الإمام عليّا عليه‌السلام جابه الشيخين في مسجد النبيّ وأمام حشد من المسلمين الخانعين ، بعد أن اقتادوه إلى أبي بكر ليبايع قهرا ، فقال :

«أنا عبد الله وأخو رسوله ، فقيل له : بايع أبا بكر ، فقال : أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي ، وتأخذونه منا أهل البيت غصبا؟

ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم (١) لمّا كان محمّد منكم ، فأعطوكم المقادة ، وسلموا إليكم الإمارة ، وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار نحن أولى برسول الله حيا وميّتا فأنصفونا إن كنتم تؤمنون وإلّا فبئوا بالظلم وأنتم تعلمون.

فقال له عمر : إنك لست متروكا حتى تبايع ، فقال له الإمام عليّ : احلب حلبا لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا. ثم قال :

والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه.

فقال له أبو بكر : فإن لم تبايع فلا أكرهك ، فقال أبو عبيدة بن الجراح لعليّ كرم الله وجهه : يا بن عمّ إنّك حديث السن (٢) وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك

__________________

(١) لقد قالها الشيخان في خطبتيهما أمام بعض الأنصار والمهاجرين في السقيفة ، لاحظ : تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٧ ، والإمامة والسياسة ص ٢٥ وتاريخ ابن الأثير ج ٢ / ٣٣٠.

(٢) قد قال الشيخان نفس مقالة أبي عبيدة ، حينما أمرهما النبيّ بالالتحاق بجيش أسامة فقالا : يستعمل هذا الغلام على جلّة المهاجرين والأنصار! فغضب الرسول لما سمع ذلك وخرج عاصبا رأسه ، فصعد المنبر وقال : ما مقالة بلغتني عن بعضكم تأمير أسامة ، لئن طعنتم في تأميري ـ

٤٧٧

مثل تجربتهم ، ومعرفتهم بالأمور ، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك ، وأشد احتمالا واضطلاعا به ، فسلّم لأبي بكر هذا الأمر ، فإنك إن تعش ويطل بك بقاء ، فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق ، في فضلك ودينك ، وعلمك وفهمك ، وسابقتك ونسبك وصهرك ، فقال عليّ كرّم الله وجهه :

الله الله يا معشر المهاجرين ، لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب عن داره وقعر بيته ، إلى دوركم وقعور بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه ، فو الله يا معشر المهاجرين ، لنحن أحق الناس به ، لأنّا أهل البيت ، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرعية ، المدافع عنهم الأمور السيئة ، القاسم بينهم بالسوية ، والله إنه لفينا ، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله ، فتزدادوا من الحق بعدا.

فقال بشير بن سعد الأنصاري : لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا عليّ قبل بيعتها لأبي بكر ، ما اختلف عليك اثنان ، قال : وخرج عليّ كرّم الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول الله على دابة ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به ، فيقول عليّ كرّم الله وجهه : أفكنت أدع رسول الله في بيته لم أدفنه ، وأخرج أنازع الناس سلطانه؟!

فقالت فاطمة عليها‌السلام : ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له ، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم (١).

وروى الشهرستاني عن النّظام المعتزلي أن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها ، وكان يصيح : احرقوا دارها بمن فيها ، وما كان

__________________

ـ في أسامة ، فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله ، وايم الله إن كان لخليقا بالإمارة ، وأن ابنه من بعده لخليق بها ، وأنهما لمن أحبّ الناس إليّ فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم ، انظر : شرح النهج ج ١ / ١٢٥.

(١) تاريخ الخلفاء المسمى بالإمامة والسياسة لابن قتيبة ص ٢٨ ـ ٣٠.

٤٧٨

الدار غير عليّ وفاطمة والحسن والحسين (١).

وعن ابن حميد عن جرير عن مغيرة عن زياد بن كليب قال :

أتى عمر بن الخطاب منزل عليّ وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال : والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة ، فخرج عليه الزبير مصلتا بالسيف ، فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه (٢).

وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز بسند معنعن إلى أبي الأسود قال :

غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر بغير مشورة ، وغضب عليّ والزبير فدخلا بيت فاطمة ، معهما السلاح ، فجاء عمر في عصابة ، فيهم أسيد بن حضير ، وسلمة بن سلامة بن قريش وهما من بني عبد الأشهل ، فاقتحما الدار ، فصاحت فاطمة وناشدتهما الله ، فأخذوا سيفيهما ، فضربوا بهما الحجر حتى كسروهما ، فأخرجهما عمر يسوقهما ، حتى بايعا (٣).

وعن أبي بكر أحمد قال : جاء عمر إلى بيت فاطمة في رجال من الأنصار ونفر قليل من المهاجرين ، فقال : والذي نفسي بيده لتخرجنّ إلى البيعة أو لأحرقنّ البيت عليكم ، فخرج إليه الزبير مصلتا بالسيف ، فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري ورجل آخر ، فندر السيد من يده ، فضرب به عمر الحجر فكسره ، ثم أخرجهم بتلابيبهم يساقون سوقا عنيفا ، حتى بايعوا أبا بكر (٤).

وعنه أيضا قال :

أخبرني أبو بكر الباهلي ، عن إسماعيل بن مجالد ، عن الشعبي قال : قال أبو بكر : يا عمر ، أين خالد بن الوليد؟ قال : هو هذا ، فقال : انطلقا إليهما ـ يعني عليا

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ٥٧.

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٣.

(٣) شرح النهج مج ٣ / ٢٠٥ فصل خبر السيّدة فاطمة مع أبي بكر وعمر.

(٤) شرح النهج ج ٣ / ٢٠٦.

٤٧٩

والزبير ـ فأتياني بهما ، فانطلقا ، فدخل عمر ووقف خالد على الباب من خارج ، فقال عمر للزبير ، ما هذا السيف؟ قال : أعددته لأبايع عليا ، قال : وكان في البيت ناس كثير ، منهم المقداد بن الأسود وجمهور الهاشميين (١) ، فاخترط عمر السيف فضرب به صخرة في البيت فكسره ، ثم أخذ بيد الزبير ، فأقامه ثم دفعه فأخرجه ، وقال : يا خالد ، دونك هذا ، فأمسكه خالد ، وكان خارج البيت مع خالد جمع كثير من الناس ، أرسلهم أبو بكر ردءا لهما ، ثم دخل عمر فقال لعليّ : قم فبايع ، فتلكأ واحتبس ، فأخذه بيده ، وقال : قم ، فأبى أن يقوم ، فحمله ودفعه كما دفع الزبير ، ثم أمسكهما خالد ، وساقهما عمر ومن معه سوقا عنيفا ، واجتمع الناس ينظرون ، وامتلأت شوارع المدينة بالرجال ، ورأت فاطمة ما صنع عمر ، فصرخت وولولت ، واجتمع معها نساء كثير من الهاشميات وغيرهنّ ، فخرجت إلى باب حجرتها ، ونادت : يا أبا بكر ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله! والله لا أكلّم عمر حتى ألقى الله ، قال : فلما بايع عليّ والزبير ، وهدأت تلك الفورة ، مشى إليها أبو بكر بعد ذلك فشفع لعمر ، وطلب إليها فرضيت عنه (٢).

تنبيه :

ما أشار إليه ابن أبي الحديد نقلا عن أبي بكر الجوهري «من أن الإمام عليا عليه‌السلام بايع في آخر المطاف ، ثم لما هدأت الفورة توسّط لعمر عند الزهراء عليها‌السلام فرضيت عنه» كذب صريح لأن كل النصوص من الطرفين تشير إلى أنها عليها‌السلام ماتت وهي واجدة (٣) على أبي بكر وعمر ، بل قالت لأبي بكر «والله لأدعونّ الله عليك في كل صلاة أصليها» (٤).

__________________

(١) ليس صحيحا أن دار الإمام علي عليه‌السلام كان مليئا بجمهور الهاشميين ، ولو كان معه أربعون منهم لكان خرج على القوم.

(٢) شرح النهج ج ٣ / ٢٠٦.

(٣) الإمامة والسياسة ص ٣١ وشرح النهج ج ٣ / ٢٠٧.

(٤) الإمامة والسياسة ص ٣١.

٤٨٠