أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

ولم يكتف عمر بحذف فصل من الأذان والإقامة حتى زاد فصلا آخر عليه وهو «الصلاة خير من النوم»! أوليس هذا تشريعا في مقابل تشريع الله تعالى؟!

ومنها : أن عمر أبي أن يورّث أحدا من الأعاجم إلّا من ولد في بلاد العرب.

روى مالك ـ إمام المالكية ـ عن الثقة عنده أنه سمع سعيد بن المسيّب يقول : أبى عمر بن الخطاب أن يورّث أحدا من الأعاجم إلا أحدا ولد في العرب.

قال مالك : وإن جاءت امرأة حامل من أرض العدو فوضعته في أرض العرب فهو ولدها يرثها إن ماتت ، وترثه إن مات ، ميراثها في كتاب الله (١).

قال الأميني عليه الرحمة :

«هذا حكم حدت إليه العصبية المحضة ، وإنّ التوارث بين المسلمين عامة عربا كانوا أو أعاجم أينما ولدوا وحيثما قطنوا من ضروريات دين الإسلام ، وعليه نصوص الكتاب والسنّة ، فعمومات الكتاب لم تخصّص ، وليس من شروط التوارث الولادة في أرض العرب ولا العروبة من شروط الإسلام ، وهذه العصبية إلى أمثالها في موارد لا تحصى هي التي تفكّك عرى الاجتماع ، وتشتت شمل المسلمين ، وإنما المسلمون كأسنان المشط لا تفاضل بينهم إلّا بالتقوى ، والله سبحانه يقول : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (٢) ويقول : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٣) ويقول : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) (٤). وهذا هتاف النبيّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خطبة له يوم الحج الأكبر في ذلك المحتشد الرهيب بقوله :

أيّها الناس ، إنما المؤمنون إخوة ـ فلا ترجعنّ بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ـ أيّها الناس إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من

__________________

(١) الغدير ج ٦ / ١٨٧ نقلا عن الموطأ ج ٢ / ١٢.

(٢) سورة الحجرات : ١٠.

(٣) سورة الحجرات : ١٣.

(٤) سورة فصلت : ٤٤.

٤٤١

تراب ، أكرمكم عند الله أتقاكم ، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى ، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد! قالوا : نعم ، قال : فليبلّغ الشاهد الغائب» (١).

هذه نبذة من بدع عمر بن الخطاب رواها العامة في مصادرهم ، فإن كانوا صادقين بصحتها ، فكيف يجوز حينئذ الاقتداء بمن طعن فيه بهذه المطاعن؟ وإن كانوا كاذبين ، فالذنب لهم ، والوزر عليهم وعلى من يقلّدهم. حيث عرفوا كذبهم فنسبوا الروايات إلى الصحة ، وجعلوها واسطة بينهم وبين الله تعالى.

لكننا نعتقد أن جلّ تلك الروايات الدالة على المطاعن إن لم يكن جميعها تكشف حقيقة عن ماهية الشيخين ومن جاء بعدهما عثمان (٢) ومعاوية ومن لفّ لفهم ودار في فلكهم ، فعلى الاتباع أن يصغوا لصوت الحق ويفتحوا آذان قلوبهم للحقيقة ، قال تعالى :

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣).

بهذا نكون قد انتهينا من إثبات بطلان خلافة المشايخ الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان ، وهنا نرجع إلى المحاورة بين العلوي والملك.

__________________

(١) الغدير في الكتاب والسنّة والأدب ج ٦ / ١٨٧.

(٢) سيأتي لاحقا ذكر مطاعن عثمان بن عفّان.

(٣) سورة الأحقاف : ٣١ ـ ٣٢.

٤٤٢

حيث قال العلوي : إن الشيعة يعتقدون ببطلان خلافة أبي بكر وعمر وعثمان.

قال الملك (بتعجّب واستفهام) : ولما ذا؟

قال العلوي :

لأن عثمان جاء إلى الحكم بشورى ستة رجال ، عيّنهم عمر (١) وكل أهل الشورى الستة لم ينتخبوا عثمان ، وإنما انتخبه ثلاثة أو اثنان منهم.

____________________________________

(١) روى مؤرخو العامة :

أن عمر بن الخطاب لمّا طعن ، قيل له : يا أمير المؤمنين لو استخلفت؟ فقال : لو كان أبو عبيدة الجرّاح حيا لاستخلفته وقلت لربي إن سألني : سمعت نبيك يقول : إنه أمين هذه الأمة ، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته ، وقلت لربي إن سألني : سمعت نبيك يقول : «إن سالما شديد الحب لله تعالى» إلى أن قال : عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنهم من أهل الجنّة ، وهم : عليّ عليه‌السلام وعثمان وعبد الرحمن وسعد والزبير بن العوّام وطلحة بن عبيد الله ، فليختاروا منهم رجلا ، فإذا ولوا وليا فأحسنوا مؤازرته وأعينوه.

فخرجوا فقال العبّاس للإمام عليّ عليه‌السلام : لا تدخل معهم ، قال : إني أكره الخلاف ، قال: إذن ترى ما تكره ، فلمّا أصبح عمر دعا عليّا وعثمان وسعدا وعبد الرحمن والزبير فقال لهم :

إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلّا فيكم ، وقد قبض رسول الله وهو عنكم راض ، وإني لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم ولكني أخافكم فيما بينكم فيختلف الناس ، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها فتشاوروا فيها ، ووضع رأسه وقد نزفه الدم.

٤٤٣

فدخلوا فتناجوا حتى ارتفعت أصواتهم ، فقال عبد الله بن عمر : سبحان الله! إن أمير المؤمنين لم يمت بعد ، فسمعه عمر فانتبه وقال : اعرضوا عن هذا ، فإذا متّ فتشاوروا ثلاثة أيام وليصلّ بالناس صهيب ولا يأتين اليوم الرابع إلّا وعليكم أمير منكم ، ويحضر عبد الله بن عمر مشيرا ولا شيء له من الأمر ، وطلحة شريككم في الأمر ، فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم ، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فامضوا أمركم ، ومن لي بطلحة؟ فقال سعد ابن أبي وقاص : أنا لك به ولا يخالف إن شاء الله تعالى ، فقال عمر : أرجو أن لا يخالف إن شاء الله ، وما أظن يلي إلا أحد هذين الرجلين : علي أو عثمان. فإن ولي عثمان فرجل فيه لين ، وإن ولي عليّ ففيه دعابة ، وأحرى به أن يحملهم على طريق الحق ، وإن تولّوا سعدا فأهله هو وإلا فليستعن به الوالي ، فإني لم أعزله عن ضعف ولا خيانة ، ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف فاسمعوا منه وأطيعوا.

وقال لأبي طلحة الأنصاري : يا أبا طلحة ، إنّ الله طالما أعزّ بكم الإسلام فاختر خمسين رجلا من الأنصار فاستحثّ هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم.

وقال لصهيب صلّ بالناس ثلاثة أيام ، وأدخل هؤلاء الرهط بيتا وثم على رءوسهم ، فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف ، وإن اتفق أربعة ، وأبى اثنان فاضرب رءوسهما ، وإن رضي ثلاثة رجلا ، وثلاثة رجلا فحكّموا عبد الله بن عمر ، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع فيه الناس.

فخرجوا فقال «الإمام» عليّ عليه‌السلام لقوم معه من بني هاشم ، وتلقاه عمّه العباس فقال : عدلت عنا! فقال : وما علمك؟ قال : قرن بي عثمان ، وقال : كونوا مع الأكثر ، فإن رضي رجلان رجلا ، ورجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن ، فسعد لا يخالف ابن عمه ، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان

٤٤٤

فيولّيها أحدهما الآخر ، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني (١).

ونلاحظ في هذا النص أن هؤلاء الستة الذين اختارهم عمر للشورى من أهل الرضى عند الله ورسوله بدليل قول عمر : إن النبيّ قبض وهو عنهم راض. وفي نفس الوقت نجد نصا آخر يناقض عمر نفسه به حيث ينسب إلى هؤلاء ما يوجب سخط الله عليهم ، فقد نقل لنا ابن أبي الحديد صورة الواقعة ، فقال :

إن عمر لمّا طعنه أبو لؤلؤة ، وعلم أنه ميّت ، استشار فيمن يولّيه الأمر بعده ، فأشير عليه بابنه عبد الله ، فقال : لاها الله إذا! ثم قال : إن رسول الله مات وهو راض عن الستة من قريش : عليّ وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وعبد الرحمن بن عوف ، وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم ، ثم قال : إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني ـ يعني أبا بكر ـ وإن أترك فقد ترك من هو خير مني ـ يعني رسول الله ـ ثم قال : ادعوهم لي ، فدعوهم فدخلوا عليه ، وهو ملقى على فراشه يجود بنفسه.

فنظر إليهم ، فقال : أكلّكم يطمع في الخلافة بعدي! فوجموا ، فقال لهم ثانية ، فأجابه الزبير وقال : وما الذي يبعدنا منها؟ وليتها أنت فقمت بها ولسنا دونك في قريش ولا في السابقة ولا في القرابة.

فقال عمر : أفلا أخبركم عن أنفسكم! قال : قل ، فإنّا لو استعفيناك لم تعفنا ، فقال : أما أنت يا زبير فوعق لقس (٢) ، مؤمن الرضا ، كافر الغضب ، يوما إنسان ، ويوما شيطان ، ولعلها لو أفضت إليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مد من شعير! أفرأيت إن أفضت إليك! فليت شعري ، من يكون للناس يوم تكون شيطانا ، ومن يكون يوم تغضب! وما كان الله ليجمع لك أمر هذه الأمة ، وأنت على هذه الصفة.

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٣ / ٦٦ قصة الشورى ، وتاريخ الطبري ج ٣ / ٢٩٢ حوادث عام ٢٣ ه‍.

(٢) المتغير المزاج.

٤٤٥

ثم أقبل على طلحة ـ وكان له مبغضا منذ قال لأبي بكر يوم وفاته ما قال في عمر ـ فقال له : أقول أم أسكت؟ قال ؛ قل ، فإنك لا تقول من الخير شيئا ، قال : أما إني أعرفك منذ أصيبت إصبعك يوم أحد ، والبأو (١) الذي حدث لك ، ولقد مات رسول الله ساخطا عليك بالكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب.

قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ : الكلمة المذكورة أن طلحة لما أنزلت آية الحجاب ، قال طلحة : ما الذي يغنيه حجابهنّ اليوم! وسيموت غدا ـ أي رسول الله ـ فننكحهنّ. قال أبو عثمان : لو قال لعمر قائل : أنت قلت : إن رسول الله مات وهو راض عن الستة ، فكيف تقول الآن لطلحة أنه مات عليه‌السلام ساخطا عليك للكلمة التي قلتها! لكان قد رماه بمشاقصه ، ولكن من الذي كان يجسر على عمر أن يقول له ما دون هذا ، فكيف هذا؟.

قال : ثم أقبل على سعد بن أبي وقاص فقال : إنما أنت صاحب مقنب (٢) من هذه المقانب ، تقابل به ، صاحب قنص وقوس وأسهم ، وما زهرة (٣) والخلافة وأمور الناس.

ثم أقبل على عبد الرحمن بن عوف فقال : وأما أنت يا عبد الرحمن ، فلو وزن نصف إيمان المسلمين بإيمانك لرجح إيمانك به ، ولكن ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعف كضعفك ، وما زهرة وهذا الأمر!

ثم أقبل على الإمام عليّ عليه‌السلام فقال : لله أنت لو لا دعابة فيك! أما والله لئن وليتهم لتحملنّهم على الحق الواضح والمحجة البيضاء.

ثم أقبل على عثمان فقال : هيها إليك! كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك ، فحملت بني أمية وبني معيط على رقاب الناس ، وآثرتهم بالفيء ،

__________________

(١) الكبرياء والأنفة.

(٢) أي صاحب خيل.

(٣) زهرة : اسم قبيلة ، كان سعد منها.

٤٤٦

فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب ، فذبحوك على فراشك ذبحا ، والله لئن فعلوا لتفعلنّ ، ولئن فعلت ليفعلنّ ثم أخذ بناصيته فقال : فإذا كان كذلك فاذكر قولي فإنه كائن (١).

ونلاحظ في هذا النص : دعوى عمر أن قريش ستقلّد عثمان هذا الأمر لحبها له وإيثارهم بالفيء ثم تذبحه العرب على فراشه ، وهي ـ أي هذه الدعوى ـ تفرّس بعلم الغيب وأنى لعمر به لو صحت نسبته إليه ، لأن الغيب لله تعالى يطلعه على خاصة أوليائه ، ولم يكن عمر منهم ، وهل الولاية أن يسلب أمير المؤمنين عليا وزوجه الزهراء عليهما‌السلام حقهما ، وقد ورد في حقهما ما ورد من المديح والإطراء؟! ويحتمل أن عمر يعلم نفسية عثمان وإيثاره لأقاربه على غيرهم.

والذي نراه أن عمر كان يظن نفسه أنه يمثّل قبيلة قريش كلها ، من هنا ما اختاره عمر فكأنما اختارته قريش ، فتنصيب عثمان كان بإيحاء من عمر نفسه ، وما عابه عمر على أهل الشورى (عدا أمير المؤمنين حيث نعته عمر بالدعابة) يصلح لأن يكون سببا في حرمة تولية أحد منهم للخلافة ، أما الدعابة المنسوبة لأمير المؤمنين فليست كذلك ، وهل من العيب أن يلاطف المؤمن اخوانه بالإيمان ، وكان ورد عن النبيّ أمثال ذلك ولكنه لم يقل إلّا حقا. هذا مضافا إلى أن نسبة الدعابة إلى أمير المؤمنين غير صحيحة لكونها تعارض المرويات الصحيحة الأخرى الدالة على عكس ذلك ، مع أن رواية الدعابة هي خبر واحد تفرد بنقله عمر بن

__________________

(١) شرح النهج ج ١ / ١٤٤ ـ ١٤٥ ، وقريب منه في نفس المصدر ج ١٢ / ٢٢٧ وص ٣٦٤ وفيها قال : إن فيه ـ أي الإمام علي ـ بطالة وفكاهة. أقول : حاشا لله أن يوصف الإمام عليّ بذلك! وإنما يوصف به أهل الدعابة واللهو ، وكما قال ابن أبي الحديد في شرحه ج ١٢ / ٣٧٨ : إن الإمام عليه‌السلام كان طلق الوجه ، سمح الأخلاق ، وأراد عمر بعبارته تلك أن يكون الإمام عليّ مثله بالفظاظة والخشونة ، لأن كل واحد يستحسن طبع نفسه ، ولا يستحسن طبع من يباينه في الخلق والطبع. وقد اعترض الإمام عليه‌السلام على عمرو بن العاص عند ما وصفه بالدعابة فقال : «عجبا لابن النابغة يزعم لأهل الشام أن فيّ دعابة وأني امرؤ تلعابة أعافس وأمارس ، لقد قال باطلا ونطق آثما ، أما والله إني ليمنعني من اللعب ذكر الموت» نهج البلاغة ، صبحي الصالح ، خطبة ٨٤.

٤٤٧

الخطاب ، كاتفرد برواية «الأجلح» ومعلوم أن الخبر الواحد لا يصلح دليلا على كشف شخصية مولى الثّقلين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

فمع اعتراف عمر بأن الإمام عليا صاحب الفضائل والمناقب (١) فلم لم يرجع له حقا جعله الله تعالى له ، وما قصة الدعابة وما شابهها إلّا هروبا من الاعتراف بحقه عليه‌السلام ، ويشهد لما قلنا (من أن الدعابة ليست سببا أو علة تامة لعدم استلام الأمير عليه‌السلام منصب الخلافة بل وراء الأكمة ما وراءها) ما رواه البلاذري في تاريخه : أن عمر لمّا خرج أهل الشورى من عنده قال :

إن ولّوها الأجلح (٢) سلك بهم الطريق ، فقال عبد الله بن عمر : فما يمنعك منه يا أمير المؤمنين؟

قال عمر : أكره أن أتحمّلها حيا وميّتا (٣).

وقوله الأخير «لا أتحملها» يعدّ عزوفا عن النص إلى واحد من بين ستة ، وهو في الواقع قول متلمّس متخلّص ، «لا يفتات (٤) على الناس في آرائهم ثم نقض هذا بأن نص على ستة من بين العالم كلّه ، ثم رتّب العدد مخصوصا ، يؤول إلى أن اختيار عبد الرحمن هو المقدّم ، وأيّ شيء يكون من التحمّل أكثر من هذا!! وأي فرق بين أن يتحمّلها بأن ينص على واحد بعينه ، وبين أن يفعل من الحصر والترتيب!» (٥).

__________________

(١) ورد عن عمر بألفاظ متعددة قوله : لا أبقاني الله بأرض لست بها يا أبا الحسن. لاحظ شرح النهج ج ١٢ / ٢٦٠ ، وما ورد عن ابن عبّاس عند ما نصح عمر بالإمام عليّ ليكون من بعده ، حيث لا يمنعه من ذلك شيء مع جهاده وسابقته وقرابته وعلمه! فقال عمر : صدقت ، ولكنه امرؤ فيه دعابة. لاحظ شرح النهج ج ١٢ / ٢٢٧ ، وتاريخ الطبري ج ٣ / ٢٩٤.

(٢) الأجلح : الذي في رأسه صلع.

(٣) شرح النهج ج ١٢ / ٣٦٥.

(٤) لا يفتات : لا يستبد.

(٥) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٢ / ٣٦٥ والشافي في الإمامة ج ٤ / ٢٠٥.

٤٤٨

هذا مع التأكيد على أنّ وصف كل واحد من القوم بوصف قبيح يمنع من الإمامة ، ثم جعلها في جملتهم حتى كأن تلك الأوصاف تزول في حال الاجتماع ، مع أن الذي ذكره عمر كان مانعا من الإمامة في كل واحد على الانفراد ، كذا هو مانع مع الاجتماع ، مع أنه وصف الإمام عليا عليه‌السلام بوصف لا يليق به ، ولا ادّعاه عدو قط عليه ، وهو معروف بضده من الركانة والبعد عن المزاج والفكاهة ، وهذا معلوم ضرورة لمن سمع أخباره عليه‌السلام وكيف يظن به ذلك وقد روي عن ابن عبّاس أنه قال : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام إذا أطرق هبنا أن نبتدؤه بالكلام ، وهذا لا يكون إلّا من الوقار ، وما يخالف الدعابة والفكاهة (١).

وبالجملة فإنّ رجحان الأمر كان لصالح عثمان ويشهد له ما قاله أمير المؤمنين في خطبته المباركة المعروفة ب «الشقشقية» :

«حتى إذا مضى لسبيله ، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم ، فيا لله وللشورى! متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر! لكنّي أسففت (٢) إذ أسفّوا ، وطرت إذ طاروا فصغا رجل منهم لضغنه (٣) ، ومال الآخر لصهره ، مع هن وهن».

فالذي صغى لضغنه هو سعد (٤) ، والذي مال لصهره هو عبد الرحمن مال إلى عثمان ، لأن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت تحته ، وأم كلثوم هذه هي أخت عثمان من أمه أروى بنت كريز (٥).

__________________

(١) الشافي ج ٤ / ٢٠٤.

(٢) أي دخلت في الأمر الدنيء احتجاجا عليهم.

(٣) الضغن : الحقد. وانظر الخطبة الشقشقية في نهج البلاغة خطبة ٣ ج ١ / ٤٨ شرح صبحي الصالح.

(٤) قال القطب الراوندي : إن المصغي لضغنه هو سعد بن أبي وقاص ، ووافقه ابن أبي الحديد وذلك لأن أم سعد هي حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس ، والضغينة التي عنده على الإمام علي عليه‌السلام من قبل أخوال سعد الذين قتل صناديدهم ، ولم يعرف أن الإمام عليه‌السلام قتل أحدا من بني زهرة لينسب الضغن إليه ، شرح النهج ج ١ / ١٤٧.

(٥) شرح النهج ج ١ / ١٤٧.

٤٤٩

قال ابن أبي الحديد :

إن عمر دعا أبا طلحة الأنصاري وقال له : انظر يا أبا طلحة ، إذا عدتم من حفرتي ، فكن في خمسين رجلا من الأنصار حاملي سيوفكم ، فخذ هؤلاء النفر بإمضاء الأمر وتعجيله ، واجمعهم في بيت ، وقف بأصحابك على باب البيت ليتشاوروا ويختاروا واحدا منهم ، فإن اتفق خمسة وأبى واحد فاضرب عنقه ، وإن اتفق أربعة وأبى اثنان فاضرب أعناقهما ، وإن اتفق ثلاثة وخالف ثلاثة ، فانظر الثلاثة التي فيها عبد الرحمن ، فارجع إلى ما قد اتفقت عليه ، فإن أصرّت الثلاثة الأخرى على خلافها فاضرب أعناقهم ، وإن مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا على أمر فاضرب أعناق الستة ، ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم.

فلما دفن عمر ، جمعهم أبو طلحة ، ووقف على باب البيت بالسيف في خمسين من الأنصار ، حاملي سيوفهم ، ثم تكلّم القوم وتنازعوا ، فأول ما عمل طلحة أنه أشهدهم على نفسه أنه قد وهب حقه من الشورى لعثمان ، وذلك لعلمه أن الناس لا يعدلون به عليا وعثمان ، وأن الخلافة لا تخلص له وهذان موجودان ، فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب علي عليه‌السلام بهبة أمر لا انتفاع له به ، ولا تمكّن له منه.

فقال الزبير في معارضته : وأنا أشهدكم على نفسي أني قد وهبت حقي من الشورى لعليّ ، وإنما فعل ذلك لأنه لما رأى عليّا قد ضعف وانخذل بهبة طلحة حقّه لعثمان ، دخلته حميّة النسب ، لأنه ابن عمة أمير المؤمنين عليه‌السلام وهي صفية بنت عبد المطلب ، وأبو طالب خاله ، وإنما مال طلحة إلى عثمان لانحرافه عن الإمام عليّ عليه‌السلام باعتبار أنه تيمي ، وابن عم أبي بكر ، وقد كان حصل في نفوس بني هاشم من بني تيم حنق شديد لأجل الخلافة ، وكذلك صار في صدور تيم على بني هاشم ، وهذا أمر مركوز في طبيعة البشر ، وخصوصا طينة العرب وطباعها ، والتجربة إلى الآن تحقق ذلك ، فبقي من الستة أربعة.

٤٥٠

فقال سعد بن أبي وقّاص : وأنا قد وهبت حقّي من الشورى لابن عمي عبد الرحمن وذلك لأنهما من بني زهرة ، ولعلم سعد أن الأمر لا يتم له ، فلما لم يبق إلا الثلاثة ، قال عبد الرحمن لعليّ وعثمان : أيكما يخرج نفسه من الخلافة ، ويكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين؟ فلم يتكلم منهما أحد ، فقال عبد الرحمن : اشهدكم أنني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدهما ، فأمسكا. فبدأ بالإمام عليّ عليه‌السلام ، وقال له : أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله ، وسيرة الشيخين : أبي بكر وعمر ، فقال : بل على كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيي ، فعدل عنه إلى عثمان ، فعرض ذلك عليه ، فقال : نعم ، فعاد إلى عليّ عليه‌السلام ، فأعاد قوله ، فعل ذلك عبد الرحمن ثلاثا ، فلما رأى أن عليّا غير راجع عمّا قاله ، وأنّ عثمان ينعم له بالإجابة ، صفق على يد عثمان ، وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فيقال : إن عليّا عليه‌السلام قال له : والله ما فعلتها إلّا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه ، دق الله بينكما عطر منشم (١).

قيل : ففسد بعد ذلك بين عثمان وعبد الرحمن ، فلم يكلّم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمن.

هذه الشورى السداسية التي أمر بها عمر بن الخطاب وهو يعلم يقينا أن القوم سينصرفون فيها إلى عثمان دون الإمام علي عليه‌السلام بتخطيط من مبتكرها عمر ، وقد تم ذلك ، وأبعد الإمام عليّ عليه‌السلام عنها إلى أن آل الأمر إلى مقتل عثمان ، فبايع المسلمون الإمام عليا عليه‌السلام لأن لا سبيل لهم إلى ذلك سواه.

__________________

(١) شرح النهج ج ١ / ١٤٥ ـ ١٤٦ وقريب منه ما رواه الطبري في تاريخه ج ٣ / ٢٩٣ ، ومعنى «عطر منشم» مثال يضرب على كل خصمين ، ومنشم اسم امرأة عطّارة كانت تبيع الطيب لخزاعة وجرهم ، كانت بعض القبائل إذا تعطرت بعطرها تكثر القتلى في الأعداء ، فلذا يقولون : أشأم من عطر منشم.

٤٥١

فشرعية خلافة عثمان مستندة إلى عمر ، وعمر جاء إلى الحكم بوصية أبي بكر (١).

____________________________________

(١) ذكر المؤرخون عامة تحت فصل «أبو بكر يعهد بالخلافة إلى عمر» أن أبا بكر لمّا نزل به الموت ، دعا عبد الرحمن بن عوف فقال : أخبرني عن عمر ، فقال : إنه أفضل من رأيك فيه [الظاهر أنه تصحيف : «أفضل من رأيت»] إلّا أنّ فيه غلظة.

فقال أبو بكر : ذلك لأنه يراني رقيقا ، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه ، وقد رمّقته فكنت إذا غضبت على رجل أراني الرضا عنه ، وإذا لنت له أراني الشدة عليه ، ودعا عثمان بن عفان ، وقال له : أخبرني عن عمر ، فقال : سريرته خير من علانيته ، وليس فينا مثله ، فقال أبو بكر لهما :

لا تذكرا مما قلت لكما شيئا ، ولو تركته ما عدوت عثمان ، والخيرة له أن لا يلي من أموركم شيئا ، ولوددت أني كنت من أموركم خلوا وكنت فيمن مضى من سلفكم.

ودخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر ، فقال : استخلفت على الناس عمر وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه ، وكيف به إذا خلا بهم وأنت لاق ربك نسائلك عن رعيتك! فقال أبو بكر : اجلسوني ، فأجلسوه ، فقال : أبا لله تخوّفني! إذا لقيت ربي فسألني قلت : استخلفت على أهلك خير أهلك.

ثم إن أبا بكر أحضر عثمان بن عفان خاليا ليكتب عهد عمر ، فقال له : اكتب ؛ بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين ، أما بعد. ثم أغمي عليه ، فكتب عثمان : أما بعد فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطّاب ولم آلكم خيرا ، ثم أفاق أبو بكر فقال : اقرأ عليّ ، فقرأ عليه ، فكبّر أبو بكر وقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي؟ قال : نعم ، قال : جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله.

٤٥٢

فلما كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس ، فجمعهم وأرسل الكتاب مع مولى له ومعه ، فكان عمر يقول للناس : أنصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله فإنه لم يألكم نصحا ، فسكن الناس ، فلما قرئ عليهم الكتاب سمعوا وأطاعوا .. (١).

وفي نص آخر : لمّا ولى أبو بكر عمر خليفة ، قال بعض : قد وليت علينا فظا غليظا ، وارتفع الخلاف بقول أبي بكر : لو سألني ربي يوم القيامة لقلت : ولّيت عليهم خيرهم لهم (٢).

وفي تعبير آخر أيضا : أن طلحة اعترض على أبي بكر عند ما اختار عمر للخلافة فقال له : «أعمر خير الناس يا خليفة رسول الله! فاشتد غضب أبي بكر وقال : أي والله ، هو خيرهم وأنت شرّهم ، أما والله لو ولّيتك لجعلت أنفك في قفاك ، ولرفعت نفسك فوق قدرها ، حتى يكون الله هو الذي يضعها! أتيتني وقد دلكت عينك ، تريد أن تفتنني عن ديني ، وتزيلني عن رأيي! قم لا أقام الله رجليك ، أما والله لئن عشت فواق ناقة ، وبلغني أنك غمصته فيها ، أو ذكرته بسوء ، لألحقنّك بمحمضات قنّة حيث كنتم تسقون ولا تروون ، وترعون ولا تشبعون ، وأنتم بذلك بجحون راضون! فقام طلحة فخرج (٣).

ملاحظة :

هذه النصوص وغيرها دلت على أن في أخلاق عمر بن الخطّاب فظاظة ورعونة ، وهذا أمر شائع عنه ، فكيف عيّب عمر بأصحاب الشورى في حين كان الأجدر به أن يسكت عن معايبهم سترا عليهم كما ستر على آخرين ممن درأ عنهم الحد لحاجة في نفسه ، ولأنه ملئ بالمعايب ، ويكفي أنه مشهور بحمل الدّرّة ، التي قيل عنها :

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٤٢٥ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٦١٨ وشرح النهج ج ١ / ١٢٨.

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ٢٥.

(٣) شرح النهج ج ١ / ١٢٨.

٤٥٣

«إن درّة عمر أهيب من سيف الحجّاج ، بل هو أول من حمل الدرّة وأدّب بها» (١).

ويروى أن عمر أمر بقطع الشجرة التي بويع رسول الله تحتها بيعة الرضوان في عمرة الحديبية ، لأن المسلمين بعد وفاة رسول الله كانوا يأتونها ، فيقيلون تحتها ، فلما تكرّر ذلك أوعدهم عمر فيها ، ثم أمر بها فقطعت (٢).

يظهر أن ابن تيمية الذي حرّم التبرك بقبور الأولياء ، وآثارهم وحرّم البكاء على الأموات كان ذلك تبعا وتقليدا لسيّده عمر ، ويشهد لهذا ما ذكرناه آنفا ، ولموقفه من تقبيل الحجر الأسود حيث دنا منه وقال : إني لأعلم إنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولو لا أني رأيت رسول الله قبّلك واستلمك ، لمّا قبّلتك ولا استلمتك ، فقال له أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : بلى إنه ليضر وينفع ، ولو علمت تأويل ذلك من كتاب الله لعلمت أنّ الذي أقول لك كما أقول ، قال الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (٣).

فلما أشهدهم وأقروا له أنه الرب عزوجل ، وأنهم العبيد ، كتب ميثاقهم في رق ، ثم ألقمه هذا الحجر ، وأن له لعينين ولسانا وشفتين ، تشهد من وافاه بالموافاة ، فهو أمين الله عزوجل في هذا المكان ، فقال عمر : لا أبقاني الله بأرض لست بها يا أبا الحسن (٤).

وأتى رجل من المسلمين إلى عمر ، فقال : إنّا لما فتحنا المدائن أصبنا كتابا فيه علم من علوم الفرس ، وكلام معجب ، فدعا بالدرّة فجعل يضربه بها ، ثم قرأ (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) (٥) ويقول : ويلك! أقصص أحسن من كتاب الله!

__________________

(١) شرح النهج ج ١٢ / ٢٤٢.

(٢) شرح النهج ج ١٢ / ٢٦٠.

(٣) سورة الأعراف : ١٧٢.

(٤) شرح النهج ج ١٢ / ٢٦٠.

(٥) سورة يوسف : ٣.

٤٥٤

إنما هلك من كان قبلكم ، لأنهم أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم ، وتركوا التوراة والإنجيل حتى درسا ، وذهب ما فيهما من العلم (١).

يرد عليه :

١ ـ ما الإشكال ـ عند عمر ـ أن يستطلع المسلمون على حضارات الشعوب الأخرى ويأخذوا منها ما ينفعهم ، فلم يرو عن رسول الله أنه نهى عن ذلك بل إن الانفتاح على الآخرين ودراسة ما لديهم من معارف وعلوم أمر يقره العقلاء ويؤكده القرآن الكريم لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٢). فليس الغرض (عند عمر) هو المحافظة على الكتاب الكريم وإنما ليمنع الرواية والحديث عن الأعاجم والفرس لفرط حساسيته منهم ، ولعقدة العنصرية العربية عنده ، وقد اشتهر عمر بذلك كما أنه اشتهر بمنعه من كتابة أحاديث النبيّ ، فقال يوما :

«جردوا القرآن وأقلوا الرواية عن محمّد وأنا شريككم» (٣).

وقال لأبي هريرة الذي يروي عنه العامة كثيرا :

«لتتركنّ الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس» (٤).

ولما أراد بعضهم أن يكتب السنن فاستشاروه بذلك فقال :

«إن قوما قبلكم كتبوا كتبا فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا» (٥).

وعبارته المشهورة التي واجه بها النبيّ أكبر شاهد على مدعانا وهي : «حسبنا كتاب الله».

__________________

(١) شرح النهج ج ١٢ / ٢٦١.

(٢) سورة الحجرات : ١٣.

(٣) تاريخ الطبري ج ٣ / ٢٧٣.

(٤) تاريخ ابن عساكر وأضواء على السنّة المحمدية الشيخ محمود أبو ريّة ص ٣٠١.

(٥) الملل والنحل للسبحاني ج ١ / ٥٧ نقلا عن تقييد العلم ص ٢٩.

٤٥٥

ونحن نسأل : هل يكفي الكتاب لنفهم أحكامه وفيه آيات محكمات وأخر متشابهات؟ وكيف يكون الكتاب حسبنا ، وقد قال الله في الكتاب : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (١).

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٢).

ومن فصّل لعمر وللمسلمين الصلاة وشرائطها وأجزائها وكذا الزكاة والصوم والحج وبقية الأحكام؟! فهل فصّلها لنا عمر أم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! وهل هناك آيات فصّلت لنا أن صلاة الصبح ركعتين والظهر أربعا والمغرب ثلاثة؟!

وهلّا دلّنا عمر على آية تفصّل لنا أحكام الصوم أو غيرها من أحكام الإسلام؟!

٢ ـ إن ترك اليهود والنصارى لكتبهم لم يكن سببه إقبالهم على كتب علمائهم وإنما يرجع إلى العلماء أنفسهم الذين حرّفوا لهم كتبهم فأطاعوهم ، فالعلة كانت من العلماء لا من الأتباع فحسب ، وإلا لو كانت قراءة الكتب سببا لتحريف الشرائع المقدّسة لكان على المسلمين اليوم أن يكتفوا بالقرآن دون السنّة المطهّرة ودون الانكباب على كتب الأقوام والشعوب الأخرى ، فتكون النتيجة أن نتوقع ضمن منظومتنا العربية فقط بنظر عمر بن الخطّاب!.

فلم يكن زجر عمر الآخرين عن مطالعتهم لأفكار الفرس والعجم إلا لعقدة نقص في ذاته تنم عن جهله وبغضه للمعارف والعلوم ، ويشهد لما نقول :

ما روي من أن عمر جاءه رجل ، فقال : إن ضبيعا التميمي لقينا يا أمير المؤمنين ، فجعل يسألنا عن تفسير حروف من القرآن ، فقال : اللهم أمكنّي منه ،

__________________

(١) سورة الحشر : ٧.

(٢) سورة آل عمران : ٣٢ ويجدر بالقارئ أن يطالع الآيات التالية : آل عمران ١٣٢ والنساء ٥٩ والمائدة ٩٢ الأنفال ١ و ٢٠ و ٤٦ وطه ٩٠ والنور ٥٤ ـ ٥٦ ومحمد ٣٣ والمجادلة ١٣ والتغابن ١٢.

٤٥٦

فبينا عمر يوما جالس ، إذ جاءه الضبيع ، وعليه ثياب وعمامة ، فتقدم من عمر وقال : يا أمير المؤمنين ما معنى قوله تعالى : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً* فَالْحامِلاتِ وِقْراً) (١)؟ قال : ويحك أنت هو! فقام إليه فحسر عن ذراعيه ، فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته ، فإذا له ضفيرتان ، فقال : والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك ، ثم أمر به فجعل في بيت ، ثم كان يخرجه كل يوم فيضربه مائة ، فإذا برأ أخرجه فضربه مائة أخرى ، ثم حمله على قتب وسيّره إلى البصرة ، وكتب إلى أبي موسى يأمره أن يحرّم على الناس مجالسته ، وأن يقوم في الناس خطيبا ، ثم يقول : إن ضبيعا قد ابتغى العلم فأخطأه ، فلم يزل وضيعا في قومه وعند الناس حتى هلك ، وقد كان من قبل سيّد قومه (٢).

ملاحظة :

هل من العدل أن يضرب ضبيع مائة جلدة كل يوم ويغرّب عن بلده وتقاطع مجالسته من أجل سؤاله عمر بن الخطاب عن آية قرآنية أو عن الحروف المقطعة في القرآن؟! وهل كانت سيرة النبيّ كذلك حتى استنّ بها عمر؟! أم أن في حشاشته عصبية لا يسكّنها إلا انتقامه من الأبرياء والمستضعفين؟!!

وقد اعترف بعصبيته وغلظته رجل طالما دافع عن عمر ألا وهو ابن أبي الحديد فقال :

«وكان في أخلاق عمر وألفاظه جفاء وعنجهية ظاهرة ، يحسبه السامع لها أنه أراد بها ما لم يكن قد أراد ، ويتوهم من تحكى له أنه قصد بها ظاهرا ما لم يقصده ، فمنها الكلمة التي قالها في مرض رسول الله ، ومعاذ الله أن يقصد بها ظاهرها! ولكنه أرسلها على مقتضى خشونة غريزته ، ولم يتحفظ منها ، وكان الأحسن أن يقول «مغمورا» أو «مغلوب بالمرض» وحاشاه أن يعني بها غير ذلك.

__________________

(١) سورة الذاريات : ١ ـ ٢.

(٢) شرح النهج ج ١٢ / ٢٦١.

٤٥٧

ولجفاة العرب من هذا الفن كثير .. ثم قال : وعمر هو الذي أغلظ على جبلة بن الأيهم حتى اضطره إلى مفارقة دار الهجرة ، بل مفارقة دار الإسلام كلها ، وعاد مرتدا داخلا في دين النصرانية (١).

وقيل لابن عبّاس لمّا أظهر قوله في العول (٢) بعد موت عمر ولم يكن قبل يظهره : هلّا قلت هذا وعمر حي؟ قال : هبته ، وكان امرأ مهابا.

واستدعى عمر امرأة ليسألها عن أمر ـ وكانت حاملا ـ فلشدة سطوته ورهبته ألقت ما في بطنها فأجهضت به جنينا ميتا ، فاستفتى عمر أكابر الصحابة في ذلك ، فقالوا : لا شيء عليك إنّما أنت مؤدب ، فقال له الإمام عليّ عليه‌السلام : إن كانوا راقبوك فقد غشوك وإن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطئوا وعليك غرّة ـ يعني عتق رقبة ـ فرجع عمر والصحابة إلى قوله (٣).

هذا النص وأمثاله حجة على عمر والصحابة حيث جهلوا أبسط أحكام دينهم إلى أن جاء حلّال المعضلات أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فحلها ومع هذا يقول الأتباع : تجوز خلافة المفضول على الفاضل ، سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم.

* * * * *

__________________

(١) شرح النهج ج ١ / ١٤٢.

(٢) زيادة سهم الفريضة ليدخل النقصان على أهل الفرائض.

(٣) شرح النهج ج ١ / ١٣٥.

٤٥٨

وجاء أبو بكر إلى الحكم بانتخاب جماعة صغيرة تحت شراسة السيف والقوة ، فشرعية خلافة أبي بكر مستندة إلى السلاح والقوة.

ولذا قال عمر في حقه : «كانت بيعة أبي بكر فلتة من فلتات الجاهلية وقى الله المسلمينشرها ، فمن عاد إليها فاقتلوه» وأبو بكر نفسه كان يقول : «أقيلوني فلست بخيركم وعليّ فيكم» ولذا فالشيعة يعتقدون بأن خلافة هؤلاء باطلة من أساسها (١).

____________________________________

(١) وسبب بطلانها ـ بنظر الشيعة الإمامية ـ أنها لم تقم على أساس النص الإلهي ، بل قامت بالقهر والسيف ، وقد ادّعى العامة تبعا لمقولة عمر أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينص على تعيين الخليفة بل ترك تعيينه شورى بين أهل الحل والعقد لذا لمّا طعن عمر بن الخطاب دخل عليه ابنه عبد الله فقال له : سمعت الناس يقولون مقالة ـ وآليت أن أقولها لك ـ زعموا أنك غير مستخلف ، وأنه لو كان لك راعي إبل أو غنم ثم جاءك وتركها رأيت أنه قد ضيّع ، فرعاية الناس أشد ، فوضع رأسه ثم رفعه ، فقال : إن الله تعالى يحفظ دينه ، إن لم أستخلف فإن رسول الله لم يستخلف ، وإن استخلفت فإن أبا بكر قد استخلف (١).

ففي هذا النص احتجاج من عبد الله بن عمر على أبيه أنه كيف يترك الأمة بلا راع ، ولو أن راعيا ترك غنمه ألا يرى الناس أنه ضيّعهم ، فرعاية الناس أشد من رعاية الغنم ، فما بال رسول الله ـ وحاشاه ـ ترك الأمة بلا راع ألا يرى الناس أنه قد ضيّعهم وتركهم فريسة التناحر والتقاتل من أجل الخلافة والخليفة؟!

وهل أن أبا بكر الذي استخلف على الأمة عمر بن الخطاب أكثر حنكة وحكمة من رسول الله الذي لم يستخلف بنظر عمر؟!!

__________________

(١) شرح النهج ج ١٢ / ٣١٦.

٤٥٩

إن الأدلة القرآنية والنبوية التي سيقت للتدليل على وجود خليفة بعد رسول الله بها الغنى والكفاية ، فالأعشى يخفى عليه نور الشمس ، كما أن النائم في غفلة عن انفلاق الفجر ..

أما وجه بطلان خلافة أبي بكر فلما تقدم في المتن من أنه جاء للحكم بقوة السيف ويشهد له الكم الوفير من النصوص التاريخية عند الطرفين ، منها :

ـ ما رواه ابن قتيبة الدينوري وهو أحد أعلام القرن الثالث ومن تابعي التابعين (ولد عام ٢١٣ وتوفي ٢٧٦ ه‍).

قال : لمّا اجتمعت الأنصار في منزل سعد بن عبادة ، فزع أبو بكر أشد الفزع ، وقام معه عمر فخرجا مسرعين إلى سقيفة بني ساعدة ، فلقيا أبا عبيدة الجراح فانطلقوا جميعا ، حتى دخلوا سقيفة بني ساعدة ، وفيها رجال من الأشراف ، معهم سعد بن عبادة ، فأراد عمر أن يبدأ بالكلام ، وقال : خشيت أن يقصر أبو بكر عن بعض الكلام (١) ، فلما تيسر عمر للكلام ، تجهّز أبو بكر وقال له : على رسلك ، فستكفى الكلام ، فتشهد أبو بكر ، وكان من جملة ما قال : كنا معشر المهاجرين أول الناس إسلاما ، والناس لنا فيه تبع ، ونحن عشرة رسول الله ، ونحن مع ذلك أوسط العرب أنسابا ، ليست قبيلة من قبائل العرب إلا ولقريش فيها ولادة ، وأنتم أيضا والله الذين آووا ونصروا ، وأنتم وزراؤنا في الدين ووزراء رسول الله ، وأنتم اخواننا في كتاب الله وشركاؤنا في دين الله وفيما كنّا فيه من سراء وضراء ، والله ما كنّا في خير قط إلا كنتم معنا فيه ، فأنتم أحب الناس إلينا ، وأكرمهم علينا ، وأحق الناس بالرضا بقضاء الله تعالى والتسليم لأمر الله ولما ساق لكم ولإخوانكم المهاجرين ، وهم أحق الناس فلا تحسدوهم وأنتم المؤثرون على أنفسهم حين

__________________

(١) إن مقالة عمر هذه تدل على شيئين : الأول : أن أبا بكر لا يجيد المحادثة والخطابة ، والثاني : أن عمر هو الرأس المدبّر لخلافة أبي بكر ، فما قصد نسجه عمر لا يمكن لأبي بكر أن يعبّر عنه لعدم لياقته بنظر عمر بن الخطاب.

٤٦٠