أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

الطلاق تبحث في الزواج الدائم ، في حين إنّ الزواج المؤقت لا طلاق فيه ، هذا مضافا إلى أن الطلاق لغة بمعنى الإبانة والافتراق وهو متحقق بالزواج المنقطع فتشمله الآية المذكورة بلا إشكال.

والقدر المتيقن في المقام أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بالزواج المنقطع ، وليس ثمة دليل قطعي يثبت نسخ هذا الحكم ، فما ثبت باليقين لا يرتفع بالشك بل بيقين مثله.

وأما دعوى أن بإمكان الصحابي أن ينسخ هذا الحكم فمردودة على أصحابها وذلك لأن نسخا كهذا لا يبقي شيئا من الشريعة الخالدة ، ولأمكن لغير عمر بن الخطاب أن ينسخ أحكاما غيرها ، وهو تلاعب بالدين وشريعة سيّد المرسلين ، هذا مضافا إلى كونه اجتهادا في مقابل النص وردا على الله ورسوله ، مع التأكيد على أن الروايات التي تتحدث عن نسخ حكم المتعة في عهد رسول الله مضطربة ومتناقضة جدا ، فبعضها يقول نسخت يوم خيبر وبعضها يوم فتح مكة ، وأخرى في تبوك أو يوم اوطاس وما شابه ذلك ، من هنا يتبيّن معنا أن هذه الأحاديث الدالة على النسخ موضوعة برمّتها لما فيها من التناقض البيّن والتضارب الواضح ، لا سيّما مع وجود قرائن أخرى من الروايات الدالة على أن أكابر الصحابة كانوا يعملون بها ويدافعون عنها كابن عبّاس حبر الأمة وابن مسعود وغيرهما لا سيّما سيّد المؤمنين وأميرهم عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام الذي يدور الحق معه حيثما دار ، وما رواه العامة عنه من تحريمه للمتعة غير صحيح بل كذب وافتراء عليه لما روي عنه بالمتواتر «لو لا نهي عمر للمتعة ما زنا إلا شقي» ولما رواه آل البيت من بعده ، فآل البيت أدرى بما فيه.

ولا يخفى أنه لا عمر بن الخطاب ولا أي شخص آخر يحق له أن ينسخ حكما ثبت على عهد رسول الله ، بل لا معنى للنسخ ـ أساسا ـ بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانسداد باب الوحي وانقطاعه ، وحملهم كلام عمر على الاجتهاد مثير للعجب لأنه من الاجتهاد في مقابل النص.

ونحن نسأل من حرّموا المتعة :

٤٠١

ما الداعي لكي تنسخ المتعة بعد ما أبيحت للضرورة ، وهل الضرورة والحاجة مختصة بزمن رسول الله فقط أو أن الضرورة تبقى ضرورة في كل الأزمان؟ الذي نراه هو الثاني وتؤيده الشواهد العقلية والشرعية والعرفية والأخلاقية لأن المتعة ضرورة اجتماعية لتلبية الحاجات الغريزية للرجل والمرأة معا ، ولا يكفي الزواج الدائم لتلبية تلك الحاجات ، لوجود مشكلات ناتجة عن ضرورات يعيشها الإنسان بعيدا عن أهله فيواجه مشكلة الحاجة الجنسية الشديدة التي تتطلب منه التلبية والإرضاء ، كما أن هناك ضرورات تعيشها الأمة في بعض حالات الحرب ، أو تعيشها المرأة بفقدان الزوج ، أو تعيشها الفتاة العانس التي لا يرغب أحد بالزواج منها بالعقد الدائم ، ما ذا يفعل هؤلاء؟ هل يعيشون الرهبنة وقد حرّمها الله تعالى ، كما ليس بمقدور الكثير أن يعيش الرهبانية ، وهل يزنون وقد هدّد سبحانه فاعليه بأشد العذاب؟

لذا فنحن أمام خيارين لا ثالث لهما وهي : إما أن نسمح لهؤلاء بالفحشاء والبغاء ونعترف به (كما هو الحال في المجتمعات المادية اليوم) أو أن نعالج المسألة عن طريق زواج المتعة الذي هو الحل الوحيد الذي يقضي على المشكلة الجنسية قضاء تاما.

والخلاصة : أن الزواج الدائم لم يكن لا في السابق ولا في الحاضر بقادر على أن يلبي كل الاحتياجات الجنسية ، ولا أن يحقق رغبات جميع الفئات والطبقات فلا بدّ من بديل يتم من خلاله تلبية كل الطموحات المشروعة والتي لا تكلّف المجتمعات والأفراد أي مئونة أو كلفة ، بل العكس هو الصحيح حيث إن زواج المتعة لا مئونة زائدة فيه فيكفي أن يتفق الطرفان على المدة والمهر ولو كان هذا المهر دولارا أو دينارا فيتزوجان ويسعدان بحياتهما شهورا وسنين من دون أن يعكر صفوهما مشكلات النفقة والأسرة وما شابه ذلك.

وقد التفت إلى هذه الحقيقة أحد أعظم فلاسفة الغرب برتراند راسل الذي

٤٠٢

اشتهر بالجرأة في الرأي والاستقلال في شئون السياسة والدين ، فرأى أن سنن الزواج قد تأخرت بغير اختيار وتدبير فإن الطالب كان يستوفي علومه قبل مائة سنة أو مائتي سنة في نحو الثامنة عشرة أو العشرين ، فيتأهب للزواج في سن الرجولة الناضجة ، ولا يطول به عهد الانتظار إلا إذ أثر الانقطاع للعلم مدى الحياة ، وقلّ من يؤثر ذلك بين المئات والألوف من الشبان ، أما في العصر الحاضر فالطلاب يتخصصون لعلومهم وصناعاتهم بعد الثامنة عشرة أو العشرين ، ويحتاجون بعد التخرج من الجامعات إلى زمن يستعدون فيه لكسب الرزق من طريق التجارة أو الأعمال الصناعية والاقتصادية ، ولا يتسنى لهم الزواج وتأسيس البيوت قبل الثلاثين ، فهناك فترة طويلة يقضيها الشاب بين سنّ البلوغ وبين سنّ الزواج لم يحسب لها حسابها في التربية القديمة.

وهذه الفترة هي فترة النمو الجنسي ، والرغبة الجامحة ، وصعوبة المقاومة للمغريات ، فهل من المستطاع أن يسقط حساب هذه الفترة من نظام المجتمع الإنساني ، كما أسقطها الأقدمون وأبناء القرون الوسطى؟ كلا إن ذلك غير مستطاع ، وأننا إذا أسقطناها من الحساب فنتيجة ذلك شيوع الفساد والعبث بالنسل بين الشبان والشابات ، فلا بد أن تسمح القوانين في هذه السن بضرب من الزواج بين الشبان والشابات ، لا يثقلهم بتكاليف الأسرة ، ولا يتركهم لعبث الشهوات والموبقات وما يعقبه من العلل والمحرجات» (١).

وقد أراد «راسل» أن يكون هذا الزواج عاصما من الابتذال ومدربا على المعيشة المزدوجة قبل السن التي تسمح بتأسيس البيوت ، وهذا الذي تبناه «راسل» ما هو إلا زواج المتعة ، ولعلّه قرأه في كتب التشريع الإسلامي الشيعي فتأثر به وتبناه ، أو يكون مجرد التقاء في وجهة النظر ولدته وحدة الشعور بالحاجة إلى تشريع مثله ، وهي قائمة في كل مكان وزمان.

__________________

(١) المتعة للفكيكي ص ٢٦٤ نقلا عن زواج بغير أطفال (Childless Marriage (.

٤٠٣

ورغم أهمية ما أبداه «راسل» إلّا أن دعوته للزواج المؤقت يبرر إباحة الإجهاض ، وإذا ندى منهما طفل فما ذا يكون حسابه لدى هذه القوانين ، فهل تعترف بشرعيته وتلحقه بأبويه ، أو تتركه عالة على المجتمع لتزيد به المتشردين من الأطفال أم ما ذا؟

الطعن الرابع : جهل عمر بموت النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

لقد بلغ من جهله أنه لم يعلم بأن كل نفس ذائقة الموت حتى رسول الله لكونه أسوة الأنبياء في ذلك ، ولأن الموت من السنن الحتمية على المخلوقات. ومع هذا فلم يدر عمر أن النبيّ لم يمت فقال : والله ما مات حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم ، فقال له أبو بكر : أما سمعت قول الله عزوجل :

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (١) وقوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (٢). قال عمر : فلمّا سمعت ذلك أيقنت بوفاته وسقطت إلى الأرض ، وعلمت أنه قد مات (٣).

فلو كان يحفظ القرآن أو يفكّر فيه لما قال ذلك ، وهذا يدل على بعده عن القرآن وتلاوته ، ومن هذه حاله كيف يجوز أن يكون إماما واجب الطاعة على جميع الخلق.

وقد حمل العامة جهل عمر بموت النبيّ على محامل ثلاثة :

المحمل الأول : لظنه أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لن يموت حتى يظهره الله على الدين كله كما هو مقتضى قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٤) ، ولقوله تعالى : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٠.

(٢) سورة آل عمران : ١٤٤.

(٣) لاحظ : تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٢ والكامل في التاريخ لابن الأثير ج ٢ / ٣٢٤ وشرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٢ / ٣١٩ وبحار الأنوار ج ٣١ / ١٠٦ والشافي للمرتضى ج ٤ / ١٧٣.

(٤) سورة التوبة : ٣٣.

٤٠٤

أَمْناً) (١) لذلك نفى موته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

هذه الشّبهة لقاضي القضاة في معرض دفاعه عن عمر بن الخطّاب في كتابه «المغني»(٢).

أورد عليه السيّد المرتضى (رضي الله عنه) في الشافي :

[بأنه لا يخلو خلاف عمر في وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أن يكون على سبيل الإنكار لموته على كل حال ، والاعتقاد بأن الموت لا يجوز عليه على كل وجه ، أو يكون منكرا لموته في تلك الحال ، من حيث لم يظهر دينه على الدين كله ، وما أشبه ذلك مما قال صاحب الكتاب : إنها كانت شبهة في تأخر موته عن تلك الحال.

فإن كان الوجه الأول ، فهو مما لا يجوز خلاف العقلاء في مثله ، والعلم بجواز الموت على سائر البشر لا يشك فيه عاقل ، والعلم من إظهار دينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه سيموت كما مات من قبله ضروريّ ، وليس يحتاج في مثل هذا إلى الآيات التي تلاها أبو بكر ، من قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) وما أشبهها.

وإن كان خلافه على الوجه الثاني ، تأوّل ما فيه أن هذا الخلاف لا يليق بما احتج به أبو بكر من قوله تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) لأنه لم ينكر على هذا جواز الموت ، وإنما خالف في تقدّمه ، وقد كان يجب أن يقول له : وأي حجة في هذه الآيات على من جوّز عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الموت في المستقبل ، وأنكره في هذه الحال!

وبعد ، فكيف دخلت الشبهة البعيدة على عمر من بين سائر الخلق! ومن أين زعم أنه لا يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم! وكيف حمل معنى قوله تعالى (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) وقوله (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) على أن ذلك لا يكون في المستقبل بعد الوفاة! وكيف لم يخطر هذا إلّا لعمر وحده ، ومعلوم أن

__________________

(١) سورة النور : ٥٥.

(٢) شرح النهج ج ١٢ / ٣٢٠ والشافي ج ٤ / ١٧٣.

٤٠٥

ضعف الشبهة إنما يكون من ضعف الفكرة (١) وقلة التأمل والبصيرة؟! وكيف لم يوقن بموته لمّا رأى ما عليه أهل الإسلام من اعتقاد موته ، وما ركبهم من الحزن والكآبة لفقده؟! وهلّا دفع بهذا اليقين ذلك التأويل البعيد ، فلم يحتج إلى موقف ومعرّف! وقد كان يجب ـ إن كانت هذه شبهة ـ أن يقول في حال مرض رسول الله وقد رأى جزع أهله وأصحابه وخوفهم عليه من الوفاة ، حتى يقول أسامة بن زيد معتذرا من تباطئه عن الخروج في الجيش الذي كان رسول الله يكرّر ويردد الأمر حينئذ بتنفيذه : لم أكن لأسأل عنك الركب ، ما هذا الجزع والهلع ، وقد أمنكم الله من موته بكذا وفي وجه كذا ، وليس هذا من أحكام الكتاب التي يعذر من لا يعرفها على ما ظنه صاحب الكتاب] (٢).

كما أورد المحدّث الجليل الشيخ محمد باقر المجلسي «أعلى الله مقامه الشريف» على قاضي القضاة بالقول :

«وأعجب من قول عمر قول من يتوجه لتوجيه كلامه ، وأيّ أمر أفحش من إنكار مثل هذا الأمر عن مثل عمر ، مع اطّلاعه على مرض النبيّ منذ حدث إلى أوان اشتداده ، وانتهاء حاله حيث إلى حيث انتهى ، وكانت ابنته زوجة النبيّ من ممرضاته ، وقد رجع عن جيش أسامة بعد أمر النبيّ له بالخروج بالخارجين ، خوفا من أن تحضره الوفاة ، فينقل الأمر إلى من لا تطيب نفسه به.

وكان النبيّ قد بيّن للناس في مجالس عديدة دنو أجله ، وحضور موته ، وأوصى للأنصار ، وأمر الناس باستيفاء حقوقهم كما هو دأب من حضره الموت ، كما روي مفصلا في صحيح البخاري ومسلم والترمذي وجامع الأصول وكامل ابن الأثير وغيرها من كتب السير والأخبار.

من هذه الأخبار ما رواه مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم أنه قال : قام

__________________

(١) في نسخة البحار : «الفطرة».

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٢ / ٣٢١ والبحار ج ٣١ / ١٠٧ والشافي ج ٤ / ١٧٦.

٤٠٦

رسول الله يوما فينا خطيبا بما يدعى خما بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكرهم ثم قال : أما بعد ألا أيّها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم الثّقلين ، أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ثم قال : «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي».

وقد روي متواترا من الطريقين قوله للإمام عليّ عليهما‌السلام : ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين.

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : عليّ ولي كل مؤمن من بعدي.

وقد روي في المفتريات : اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر.

وقد كان كثير مما خطب به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رءوس الأشهاد ، فهل يجوّز عاقل أن لا يقرع شيء من ذلك سمع عمر مع شدة ملازمته للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ومن شك في مثل ذلك هل يجوّز من شم رائحة من العقل أن يفوّض إليه أمر بهيمة ، فضلا أن يفوّض إليه أمر جميع المسلمين ، ويرجع إليه في جميع أحكام الدين.

وأمّا اعتذار ابن أبي الحديد بأنّه لم ينكر عمر ذلك على وجه الاعتقاد ، بل على الاستصلاح ، وللخوف من ثوران الفتنة قبل مجيء أبي بكر ، فلما جاء أبو بكر قوي به جأشه ، فسكت عن هذه الدعوى ، لأنه قد أمن بحضوره من خطب يحدث ، أو فساد يتجدّد.

فيرد عليه أوّلا : أنه لو كان إنكاره ذلك إيقاعا للشبهة في قلوب الناس حتى يحضر أبو بكر ، لسكت عن دعواه عند حضوره ، وقد روى ابن الأثير في الكامل : إنّ أبا بكر أمره بالسكوت فأبى ، وأقبل أبو بكر على الناس ، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا إليه وتركوا عمر (١).

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٢١٩.

٤٠٧

وثانيا : أنّه لو كان الأمر كما ذكر ، لاقتصر على إنكار واحد بعد حضور أبي بكر ، وقد اعترف ابن أبي الحديد بتكرّر الإنكار بعد الحضور أيضا.

وثالثا : قال ابن أبي الحديد : روى جميع أرباب السير أنّ رسول الله لما توفّي كان أبو بكر في منزله بالسنح ، فقام عمر بن الخطاب فقال : ما مات رسول الله ولا يموت حتى يظهر دينه على الدين كلّه ، وليرجعنّ فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ممن أرجف بموته ، ولا أسمع رجلا يقول مات رسول الله إلا ضربته بسيفي.

فجاء أبو بكر وكشف عن وجه رسول الله وقال : بأبي وأمّي طبت حيّا وميّتا ، والله لا يذيقك الله الموتتين أبدا. ثم خرج والناس حول عمر ، وهو يقول لهم : إنّه لم يمت ويحلف ، فقال له: أيّها الحالف! على رسلك ثم قال : من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت ، قال الله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (١) ، وقال : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (٢) ، قال عمر : فو الله ما ملكت نفسي حيث سمعتها أن سقطت إلى الأرض ، وقد علمت أن رسول الله قد مات (٣).

المحمل الثاني : ما حكاه الفضل بن روزبهان الأشعري عن بعضهم :

إن ما صدر من عمر يوم ذاك كان من شدة المصيبة وغلبة المحبة ، فلم يأذن له قلبه أن يحكم بموت النبيّ ، وهذا أمر كان قد عمّ جميع المؤمنين بعد النبيّ ، حتى جنّ بعضهم ، وأغمي على بعضهم من كثرة الهم ، فغلب عمر شدة حال المصيبة ، فخرج من حال العلم والمعرفة وتكلم بعدم موته ، وأنّه ذهب إلى مناجاة ربه ، وأمثال هذا لا يكون طعنا (٤).

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٠.

(٢) سورة آل عمران : ١٤٤.

(٣) بحار الأنوار ج ٣١ / ١٠٧ ـ ١١٠.

(٤) بحار الأنوار ج ٣١ / ١١١ ودلائل الصدق ج ٣ / ٧٢.

٤٠٨

يرد عليه :

إن فقدان الحبيب لا يستلزم فقدان السكينة والهذيان بكلمات يتنزه عنها أبسط الزّهاد فكيف برجل كعمر ظن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بحسب زعمهم ـ أن السكينة نزلت عليه لما احتبس الوحي عنه ، وأنّه فاروق هذه الأمة يفرق بن الحق والباطل ، بل كان من اللازم أن يذهب عقله بالكلية لشدة محبته للنبيّ ، وهل كان الوحيد من بين الصحابة متيّما بعشق النبيّ حتى سلبه العشق الاتزان بالكلام؟ فأين أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام وأين الزهراء سيدة النساء وأهل بيتهما الأطهار وبقية الصحابة الأجلّاء أمثال عمّار وجابر وسلمان؟!

بل إن من الضروريات العادية أن من عظمت عليه المصيبة ، وجلّت الرّزية بفقد حبيبه حتى اشتبهت عليه الأمور الضرورية أن لا يترك تجهيز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتكفينه والصلاة عليه ودفنه ، ولا يسرع إلى سقيفة بني ساعدة لعقد البيعة وتهديد كل من لم يبايع أبا بكر ، والسؤال : لم لم يتكلم عمر في ذلك المجلس من شدة الحزن والوجد ما ينافي غرضه ، ولا يلائم تدبيره المشئوم ، ولم يأت في أمر الرئاسة وغصب الخلافة بهجر وهذيان ، ولم يتخلل من الزمان ما يسع لاندمال الجرح ونسيان المصيبة ، وكيف لم يأذن قلبه في الحكم بموته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنه لم يضق صدره بأن يقول في وجهه الكريم : إنه ليهجر ويمنعه من إحضار ما طلب ويقول : حسبنا كتاب الله ، الذي هو في قوة قوله: لا حاجة لنا بعد موتك إلى كتاب تكتبه لنا.

ومن بلغ به الحبّ إلى حيث يخرجه من حدّ العقل لا يجبه حبيبه بمثل هذا القول الشنيع ولا يرفع صوته في الردّ عليه ومنازعة المنازعين إلى حد يخرجه الحبيب رسول الله وإياهم من البيت ، ويقول : اغربوا عني ، ولا ينبغي التنازع عندي ، ولا ينكر ذلك إلا متعنّت لم يشم رائحة الإنصاف ، وما ذكر من جنون بعض الصحابة وإغماء بعضهم وخبل الآخرين شيء لم أسمعه إلى الآن ، نعم لو عدّ ما أتوا به من ترك جسده المطهّر والمسارعة إلى السقيفة طمعا في الرئاسة وشوقا إلى الإمارة من فنون الجنون ، وضروب الخبل ، لكان له وجه.

٤٠٩

المحمل الثالث :

إنّ ما ادعاه عمر كان لإظهار قوة الإسلام وشوكته على المنافقين ليرتدعوا عمّا كانوا يفكرون به من الاستيلاء على المدينة بعد موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخاف ـ أن لو اشتهر موتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البيعة للخليفة ـ تشتت أمر الإسلام فابتدع هذه الكذبة دفعا للمحذور المتقدم.

يرد عليه :

أنه لو كان خائفا من تشتت أمر الإسلام واستيلاء المنافقين قبل البيعة فلم ترك مقالته لقول أبي بكر ، والحال أن البيعة لم تقع ، بل كان عليه أن يشير إلى أبي بكر بالسكوت ويعرّفه غرضه ويشتغلا بالبيعة ، وكيف يرتدع المنافقون الذين لم يؤمنوا بأصل نبوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمجرد قول عمر «ما مات ولكن ذهب إلى المناجاة» وهم يرونه بينهم ميتا ساكن الحركات ، بل يعدون هذا القول من عمر والنبيّ مسجى بينهم من الهذيان والخرافات ، هذا مضافا إلى أن العامة يرون أن الصحابة كلهم عدول وأن المنافق بينهم قليل مخفي الحال ، فكيف يستولي المنافقون أو يخاف منهم بأسرع وقت تشتت أمر الإسلام.

هذا الطعن المتوجه على عمر ، لا يسمّى في الحقيقة من ناحية جهله بموت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما يعتبر طعنا من ناحية أخرى وهي تجاهله بموته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من باب المكر والكيد بالمسلمين لوصول أبي بكر إلى سدة الخلافة التي كان عمر بن الخطاب المهندس والمخطط لها.

فعمر الداهية لا تخفى عليه مسألة من أبده البديهيات ، كيف! وهو الذي ابتدع الشورى وكيفيتها لا يجهل جواز موت النبيّ الذي نعى نفسه الشريفة للمسلمين عامة وللصحابة خاصة مرارا ، ونطق الكتاب العزيز بموته ، وما تخلّف عمر عن جيش أسامة إلّا ارتقابا لموته ، ولا قال «حسبنا كتاب الله» إلّا بناء على وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما نسبه إلى الهجر إلا طعنا برأيه فيما يوصى به لما بعد الموت ، فكيف

٤١٠

يجهل حينئذ موته وقد فارقت روحه الدنيا أو يحتمل ذهابه إلى مناجاة ربه وهو مسجّى بينهم؟!!

بل لا نرى ذلك منه إلا دهاء ومكرا وكيدا لعلمه أن الهاشميين وبعض الصحابة الأكابر كسلمان وعمار والمقداد وأبي ذر وحذيفة وأمثالهم يريدون بيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام فخاف أن يبايعوه ويتبعهم الناس لسبق أمر الغدير فادّعى أن النبيّ ما مات ليشغل الناس بهذا الكلام ، فيحصل لبيعة الإمام علي عليه‌السلام تأخير حتى يأتي أبو بكر من منزله بالسنح ليعملا رأيهما ويمضيا على ما أبرماه وأصحابهما في الصحيفة من منع أمير المؤمنين عليه‌السلام خلافته ، ولما حضر أبو بكر لم يسعه العدول عن مقالته دفعة بل بقي يتكلم إلى أن قرأ أبو بكر الآية (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ...) فأظهر المغلوبية وزعم كأنه لم يسمعها ، ومن أنصف وعرف بعض أحوال عمر صدّق بما قلناه ، فالأصح أن عمر لم يجهل وإنما تجاهل ، فالطعن عليه من هذا الباب ، وإن كان جاهلا في كثير من الأحكام وهو طعن آخر عليه يختلف بمضمونه عن هذا الطعن فتأمل.

شبهة وردّ :

ادّعى ابن أبي الحديد أن عمر بن الخطاب هو أول من سنّ للشيعة بطول عمر الإمام المهدي عليه‌السلام وعجّل الله فرجه الشريف الميمون حيث نسب إلى رسول الله عدم الموت ، فعلى الشيعة أن يشكروه على ما أسس لهم من هذا الاعتقاد (١).

يرد عليه :

أولا : إن اعتقاد الشيعة بغيبة الإمام وأنه لم يمت بل سيرجع لم يأخذه المسلمون الشيعة عن عمر بن الخطاب حتى يجب عليهم شكره ، وإنما هو مبدأ قرآني أيدته النصوص الشريفة عن النبيّ وآله الطاهرين.

ثانيا : ما دام القول بطول عمر الإمام المهدي عليه‌السلام من ابتكارات عمر فلما ذا

__________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٢ / ٣٢٣.

٤١١

يعيّب علينا ابن أبي الحديد وأمثاله من العامة لأننا نقول برجعته بعد غياب طويل؟!!

الطعن الخامس :

أن عمر بن الخطاب أمر برجم امرأة حامل ، فقال له أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : إن كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها سبيل ، فقال عمر : لو لا عليّ لهلك عمر (١).

ومن جهل هذا القدر لا يجوز أن يكون إماما لأنه يجري مجرى أصول الشرائع ، بل العقل يدل عليه ، لأنّ الرجم عقوبة ، ولا يجوز أن يعاقب من لا يستحق (٢).

وأجاب قاضي القضاة عن خطأ عمر بالقول :

إنّه ليس في الخبر إنه أمر برجمها مع علمه بأنها حامل ، لأنه ليس ممن يخفى عليه هذا القدر ، وهو أن الحامل لا ترجم حتى تضع ، وإنما ثبت عنده زناها فأمر برجمها على الظاهر ، وإنما قال في معاذ لأنه نبهه على أنها حامل (٣).

كما أن الفضل بن روزبهان اعترف بخطإ عمر في الأحكام وليس في الموضوعات ـ وحسب ـ لأن المجتهدين قد يعرض لهم الخطأ في الأحكام إما لغفلة أو نسيان أو عروض حالة تدعو إلى الاستعجال في الحكم ، والإنسان لا يخلو عن السهو والنسيان والعلماء وأرباب الفتوى يرجعونهم إلى حكم الحق ، وإن صح ما ذكر من حكم عمر في الحامل والمجنونة فربما كان لشيء مما ذكرناه ولا يكون هذا طعنا (٤).

__________________

(١) في نسخة شرح النهج ج ١٢ / ٣٢٥ : «لو لا معاذ لهلك عمر» وكذا في الشافي للمرتضى حيث نبهه معاذ على خطئه.

(٢) بحار الأنوار ج ٣١ / ١٥٠ ، نهج الحق وكشف الصدق ص ٢٧٧ ودلائل الصدق ج ٣ / ٧٤.

(٣) أي أن الشبهة ـ بنظر قاضي القضاة ـ موضوعية لا حكمية حتى يستوجب عليها العقاب والمؤاخذة.

(٤) دلائل الصدق ج ٣ / ٧٤.

٤١٢

ثم لم يكتف روزبهان بدفاعه عن عمر حتى نسب إليه أنه ـ أي عمر ـ شارك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في علمه. سبحانك ربنا ما هذا البهتان العظيم!!

يرد عليهما :

أولا : أن هذا الأمر لو كان على ما ظنه قاضي القضاة لم يكن تنبيه معاذ على هذا الوجه ، بل كان يجب أن ينبّهه بأن يقول : هي حامل ، ولا يقول له : إن كان عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها ، لأن ذلك قول من عنده أنه يرجمها مع العلم بحالها ، وأقلّ ما يجب لو كان الأمر كما ظنه أن يقول لمعاذ : ما ذهب عليّ أن الحامل لا ترجم ، وإنما أمرت برجمها لفقد علمي بحملها ، فكان ينفي بهذا القول عن نفسه الشبهة ، وفي إمساكه عنه مع شدة الحاجة إليه دليل على صحة قولنا ، وقد كان يجب أيضا أن يسأل عن الحمل لأنه أحد الموانع من الرجم ، فإذا علم انتفاءه أمر بالرجم.

ثانيا : أن التفصيل بين الشّبهة الموضوعية والحكمية من حيث ادّعاء جهل عمر بالأولى دون الثانية فصل من دون دليل ، تكذّبه القرائن المقالية الدالة على خطأه في تشخيص الموضوعات والأحكام. هذا مضافا إلى أن الاشتباه هنا حكمي لا موضوعي ويشهد له قول معاذ أو أمير المؤمنين عليه‌السلام : إن يكن لك سبيل عليها فلا سبيل لك على ما في بطنها.

وقد اعترف قاضي القضاة بتقصير عمر من حيث تركه البحث في تعرّف حال الحامل.

مع التأكيد على أن عمر لم يكن محتاطا في سفك الدماء ـ حسب تصريح القاضي الأرموي (١) ـ لكونه لم يبحث عن حالها ولم يعلم كونها حاملا ، كما أن تنبيه معاذ له يؤكد الطعن عليه ونقصه.

__________________

(١) حسبما صرح في دلائل الصدق ج ٣ / ٧٥ نقلا عن السيد السعيد.

٤١٣

ثالثا : أن الإمام لا بد أن يكون معصوما من الخطأ محيطا بأحكام الشريعة فلا يجوز أن يجهل حكما أو يخطأ فيه ولا سيّما واضحات الشريعة كهذه الأحكام ، وخصوصا فيما يتعلق بالدماء ونحوها خاصة مع الاستعجال وإلّا كان أضر الناس على الأمة والشريعة ، فتمتنع إمامته.

الطعن السادس :

أنه أمر برجم المجنونة فنبهه أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال : إن القلم موضوع عن المجنون حتى يفيق» فقال : لو لا عليّ لهلك عمر ، وهذا يدل على أنه لم يكن يعرف الظاهر من الشريعة (١) ، فلما كان كذلك كيف يكون إماما وخليفة؟!

وقد اعترف قاضي القضاة وسائر من تصدّى للجواب عنه بصحته ، لكنه أوّل كلامه كعادته فقال : «أنّ عمر لم يعرف جنون المرأة ، فيجوز أن يكون الذي نبّه عليه أمير المؤمنين هو جنونها دون الحكم ..» (٢).

وأورد عليه السيّد المرتضى عليه الرحمة :

بأنه لو كان أمر برجم المجنونة من غير علم بجنونها لما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أما علمت أن القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق؟! بل كان يقول له بدلا عن ذلك : هي مجنونة ، وكان ينبغي أن يكون عمر لمّا سمع من التنبيه له على ما يقتضي الاعتقاد فيه أنه أمر برجمها مع العلم بجنونها يقول متبرئا من الشّبهة : ما علمت بجنونها ، ولست ممن يذهب عليه أن المجنون لا يرجم.

فلما رأيناه استعظم ما أمر به وقال : لو لا عليّ لهلك عمر ، دلّنا على أنه كان تأثم وتحرّج بوقوع الأمر بالرجم ، وأنه مما لا يجوز ولا يحل وإلّا فلا معنى لهذا الكلام (٣).

__________________

(١) نهج الحق ص ٢٧٧ وشرح النهج ج ١٢ / ٣٢٦.

(٢) الشافي في الإمامة ج ٤ / ١٨١.

(٣) نفس المصدر ص ١٨٢.

٤١٤

الطعن السابع :

أن عمر منع من المغالاة في صدقات النساء ـ أي مهورهن ـ وقال : من غالى في مهر ابنته اجعله في بيت مال المسلمين ، لشبهة أنه رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوّج ريحانته السيّدة فاطمة عليها‌السلام بخمسمائة درهم ، فقامت إليه امرأة ونبهته بقوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) (١) على جواز المغالاة ، فقال : كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في البيوت (٢).

وقد أكّد هذا المعنى عامة مؤرخي العامة ، منهم ابن كثير فقد روى نصوصا مستفيضة منها :

عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمي قال :

قال عمر : لا تغالوا في مهور النساء ، فقالت امرأة : ليس ذلك لك يا عمر إنّ الله يقول (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ..) من ذهب ، فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئا ، فقال عمر : إن امرأة خاصمت عمر فخصمته (٣). وفي لفظ آخر قال عمر : امرأة أصابت ورجل أخطأ (٤).

وأجاب المتعصّبون (٥) لعمر :

__________________

(١) سورة النساء : ٢٠.

(٢) دلائل الصدق ج ٣ / ٧٦ والشافي ج ٤ / ١٨٣. وفي نسخة شرح النهج ج ١٢ / ٣٢٩ «كل النساء أفقه من عمر».

ملاحظة : خمسمائة درهم تعادل خمسا وعشرين ليرة عثمانية ، والليرة تعادل مثقالين شرعيين ، والمثقال يعادل ٢٥ ، ٤ غراما من الذهب.

(٣) تفسير ابن كثير ج ١ / ٤٠١ سورة النساء ، آية : ٢٠.

(٤) نفس المصدر ، وفي نص آخر : قال عمر : ألا تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت ناضلت إمامكم فنضلته. شرح النهج ج ١١ / ٢٠٤.

(٥) شرح النهج ج ١٢ / ٣٢٩ ودلائل الصدق ج ٣ / ٧٧ نقلا عن العامة.

٤١٥

بأنه لم ينه نهي تحريم بل نهي تنزيه ، وقوله : كل الناس أفقه ـ أو كل النساء ـ أفقه من عمر محمول على التواضع وكسر النفس.

يرد عليهم :

أن المروي أنه منع من ذلك وحظره (١) حتى قالت له المرأة ما قالت ، ولو كان غير حاظر للمغالاة لما كان في الآية حجة عليه حيث احتجت بها المرأة عليه ، ولا كان لكلام المرأة موقع ، ولا كان يعترف لها بأنها أفقه منه ، بل كان الواجب عليه أن يردّ عليها ويوبّخها ويضربها بالدرة كعادته مع مخالفيه ، ويعرّفها أنه ما حظر ذلك ، وإنما تكون الآية حجة عليه لو كان حاظرا مانعا ، وأما التواضع فلا يقتضي إظهار القبيح ، وتصويب الخطأ ، إذ لو كان الأمر على ما توهمه المجيب لو كان هو المصيب والمرأة مخطئة ، وكيف يتواضع بكلام يوهم أنه المخطئ وهي المصيبة (٢).

الطعن الثامن :

تجسّسه على بعض المسلمين ، فقد روى ابن أبي الحديد وغيره أن عمر كان يعسّ ليلة ، فمر بدار سمع فيها صوتا ، فارتاب وتسوّر ، فرأى رجلا عند امرأة وزق خمر ، فقال ؛ يا عدو الله ، أظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته! فقال : لا تعجل يا أمير المؤمنين ، إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في ثلاث :

قال الله تعالى (وَلا تَجَسَّسُوا) وقد تجسست ، وقال (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) وقد تسوّرت ، وقال «فإذا دخلتم بيوتا فسلّموا على أهلها» وما سلّمت ، فقال : هل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال : نعم والله لا أعود ، فقال : اذهب فقد عفوت عنك (٣). وفي نص آخر: دخل على جماعة ظنا منه أنهم على حرام فكان العكس (٤).

__________________

(١) لاحظ ما رواه ابن كثير في تفسيره من أن عمر نهى عن كثرة الصداق ثم رجع عن ذلك.

(٢) الشافي ج ٤ / ١٨٥.

(٣) شرح النهج ج ١١ / ٢٠٥ سيرة عمر.

(٤) مجمع البيان في تفسير القرآن ج ٩ / ١٧٠ سورة الحجرات ، آية : ١٣.

٤١٦

وحاول قاضي القضاة تصحيح اعوجاج عمر فقال :

أما حديث التجسس ، فإن فعله فقد كان له ذلك ، لأن للإمام أن يجتهد في إزالة المنكر بهذا الجنس من الفعل ، وإنما لحقه الخجل لأنه لم يصادف الأمر على ما ألقي إليه في إقدامهم على المنكر (١).

يرد عليه :

إن التجسّس حرام ومحظور بالقرآن والسنّة ، ولا يجوز للرجل أن يجتهد في محرّم ومخالفة الكتاب والسّنّة. خصوصا مع عدم علمه ولا ظنه ، ولذا ظهر كذب افترائه على ذينك المسلمين.

قال السيّد المرتضى عليه الرحمة :

إن التجسّس محظور بالقرآن والسّنة ، وليس للإمام أن يجتهد فيما يؤدي إلى مخالفة الكتاب والسنّة ، وقد كان يجب إن كان هذا عذرا صحيحا أن يعتذر به إلى من خطّأه في وجهه وقال له : إنك أخطأت السّنة من وجوه ، فإنه بمعاذير نفسه أعلم من غيرها ، وتلك الحال حال تدعو إلى الاحتجاج وإدامة العذر ، ولك هذا تلزيق وتلفيق (٢).

شبهة وردّ :

مفاد الشبهة (٣) :

إن ما فعله عمر ليس من الاجتهاد الحرام ، لأن الاجتهاد في الحرام يكون حراما فيما لو لم يكن للحكم الحرام معارض ، وهاهنا ليس كذلك لأن إزالة المنكر على المحتسب والإمام واجب بقدر الوسع والإمكان فهذا يجوّز التجسس لأنه من جملته ، ومع الإزالة ، فكان التجسس لإزالة المنكر خارجا عن حكم مطلق

__________________

(١) الشافي ج ٤ / ١٨٤ نقلا عن المغني ٢٠ ق ٢ / ١٤.

(٢) الشافي ج ٤ / ١٨٥ والبحار ج ٣١ / ١٤٤.

(٣) صاحب الشبهة هو : الفضل بن روزبهان الأشعري أحد أعلام العامة.

٤١٧

التجسس ، فيجوز فيه الاجتهاد ، ألا يرى أن رسول الله أمر بكسر القدور التي طبخت فيها لحوم الحمير الأهلية مع أن الكسر إتلاف مال الغير وهو حرام للنص والإجماع ومع ذلك أمر به لأن إزالة المنكر كانت تدعو إلى ذلك ، فإزالة المنكر إذا دعت إلى أمر لا يتيسر الإزالة إلا به يجوز للمحتسب الإقدام عليه ، كما يجوز للمحتسب أن يكسر الدنان التي فيها الخمر إذا تيسر الإهراق بدون الكسر ، ويجوز أن عمر اجتهد فدخل الدار وتجسس ثم لما ذكّروه بالقرآن تغيّر اجتهاده فتركهم وخرج ، وأمثال هذه الأمور لا يبعد عن أئمة العدل.

والجواب :

أولا : لا تزاحم بين وجوب النهي عن المنكر ودليل حرمة التجسس لتباين موضوعيهما فلا وجه لدعوى خروج التجسس لإزالة المنكر عن حكم مطلق التجسس ، ولو سلمت المزاحمة فالمقتضى لحرمة التجسس أهم وأقوى من مقتضى وجوب النهي عن المنكر ، فيلزم القول بحرمة التجسس تقديما لها على وجوب النهي عن المنكر المحتمل ، ويدل عليه الأحاديث الناهية عن الفضيحة وطلب الستر. مضافا إلى أن إزالة المنكر بالتسوّر على الحيطان يستلزم هتك الخليفة واتهامه بالتجسّس على عورات النساء ، علاوة على هتك الأعراض الذي قامت الأدلة القطعية على حرمته.

وليت شعري إذا لم يرخّص الله سبحانه ولا رسوله بذلك ، فما بال عمر يتجسس ويهتك ستر الله ، وكيف صار التجسس عند الخصم راجحا لإزالة المنكر وقد أمر الله ورسوله بالستر وعدم الفضيحة؟!

ثانيا : لا يصح قياس ما نحن فيه على كسر الدنان إذا توقف إهراق الخمر عليه ، فإن التكليف بإتلاف الخمر معلوم فتجب مقدمته وهي كسر الدنان ، بخلاف التكليف بالنهي عن المنكر المحتمل فإنه غير معلوم بل محكوم بالعدم فكيف يجب التجسس مقدمة لإزالته على أن إتلاف الخمر أهم في نظر الشارع المقدّس من

٤١٨

ضغط الدنان بخلاف النهي عن المنكر في المقام ، فإن الستر على الناس أهم منه ، فقياس أحدهما على الآخر قياس مع الفارق.

هذا مضافا إلى أن النهي عن المنكر لو كان أهم من التجسس لكان وجب على كل مسلم أن يتجسس على جاره في حال احتمل صدور منكر منه لينهاه عنه وهو مقطوع الحرمة للأدلة القطعية وللإجماع.

ثالثا : وأمّا ما روي من أمر رسول الله بكسر القدور التي طبخت فيها لحوم الحمر الأهلية فكذب ، إذ لو سلم حرمة أكل لحمها فترك الأكل لا يتوقف على كسر القدور فكيف يأمر به رسول الله ويتلف المال بلا مقتض ، ولو سلم صحة الرواية ، وتوجيهها بأن الأمر بالكسر لبيان الاهتمام بحرمة أكل الحمير ، فقياس ما نحن فيه على كسر القدور خطأ ، ضرورة أن الاهتمام في المقام إنما هو بالستر على الناس لا بالنهي عن المنكر حتى يستباح لأجله التجسس.

الطعن التاسع :

أعطيات عمر من بيت المال.

منها : أنه كان يعطي من بيت المال ما لا يجوز ، حتى إنّه أعطى عائشة وحفصة في كل سنة عشرة آلاف درهم ، وحرّم على أهل البيت خمسهم ، وكان عليه ثمانون ألف درهم لبيت المال ، ومنع الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام إرثها ، ونحلتها ، التي وهبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها.

وأجاب قاضي القضاة وروزبهان :

إن لعمر تفضيل بعض النساء على بعضهن ككون بعضهن أكثر مئونة من بعض ، كما له أن يفضلهن بالعطاء على الرجال أيضا.

يرد عليهما :

أن التفضيل لا بدّ أن يكون لسبب يقتضيه كالجهاد وغيره من الأمور العام

٤١٩

نفعها للمسلمين ، ومسألة أن لهنّ حقا في بيت المال لا يقتضي تفضيلهن على غيرهن ، وما عيب بدفع حقهن وإنما عيب بالزيادة عليه ، لا سيّما وقد كنّ في أيام النبيّ يعشن على الكفاف وبأبسط العيش ، وكونهن أمهات المؤمنين لا يصح زيادة الإنفاق لأنهنّ أولى بأن يساوين أبناءهن وأولى بأن يساوين أيامى المؤمنين ليكنّ أسوة لغيرهن كما كنّ في حياة النبيّ أسوة للغير ، فما بال عمر يريد أن يدخلهن في زي الثراء وأبهة الملوك وترفهم ويدخل الحسرة في قلوب الفقراء والأيامى.

قد يقال : إن تحريم التزويج عليهنّ يقتضي تفضيلهن بالعطاء على غيرهنّ.

والجواب : أن تحريم التزويج عليهنّ لا يقتضي أكثر من الإنفاق عليهنّ بنحو ما تعودنه لا ذلك الإنفاق العظيم ، لا سيّما أن أكثرهن التحقن بأهاليهنّ مما يخفف عليهن الكثير من النفقات التي قد يصرفنها لوحدهن.

هذا مضافا إلى أن التفضيل إن كان بالفضل فالسيّدة المعظّمة مولاتنا الزهراء عليها‌السلام وأمير المؤمنين وجملة من الصحابة أفضل منهنّ ، وإن كان بالقرب من النبيّ فالإمام علي وزوجه ريحانة النبيّ وأبناءهما أقرب إليه منهنّ ، وإن كان بالجهاد والنفع في الإسلام فلا جهاد عليهنّ ولا على غيرهن ، بل هنّ مأمورات بالقرن في بيوتهن ، وإن كان التفضيل بكثرة المئونة فكثير من الرجال أكثر منهنّ مئونة.

وما وجه تفضيل عمر بعض نساء النبيّ على بعضهنّ الآخر كتفضيله عائشة وحفصة سوى أن بعضهنّ كنّ من أعوانه وأنصاره على أذية مولى الثّقلين أمير المؤمنين عليّ وزوجه سيّدة النساء فاطمة عليهما‌السلام ، فروى الحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين عن سعد قال :

كان عطاء أهل بدر ستة آلاف ، وكان عطاء أمهات المؤمنين عشرة آلاف ، عشرة آلاف لكل امرأة منهنّ غير ثلاث نسوة : عائشة ، فإن عمر قال : أفضّلها ألفين لحب رسول الله إياها ، وصفية وجويرية سبعة آلاف سبعة آلاف ، وعن مصعب بن

٤٢٠