أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

مضى لوجهه ، ارتأى كلّ امرئ بعد ، ما شاء أن يرتئي (١). ومن شاء برأيه ما شاء هو عمر (٢).

وعن جابر بن عبد الله قال : كنّا مع رسول الله فلبينا بالحج وقدمنا مكة لأربع خلون من ذي الحجة ، فأمرنا النبيّ أن نطوف بالبيت وبالصفا والمروة ، وأن نجعلها عمرة ولنحلّ ، إلا من كان معه هدي قال : ولم يكن مع أحد منّا هدي غير النبي وطلحة ، وجاء «الإمام» عليّ من اليمن معه الهدي ، فقال : أهللت بما أهلّ به رسول الله ، فقالوا : أننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر ... قال : ولقيه سراقة وهو يرمي جمرة العقبة ، فقال يا رسول الله : ألنا هذه خاصة؟ قال: لا بل للأبد (٣).

النقطة الثالثة : عدم وجود ناسخ لآية متعة النساء.

وقع خلاف بين الخاصة والعامة في المتعة هل نسخت أو لا بعد اتفاقهم على حصولها بنص الكتاب والسنّة المطهّرة؟

قالت الإمامية : إنها لم تنسخ ، وأما العامة فقالوا بوقوع النسخ عليها كغيرها من الأحكام المنسوخة.

والنسخ لغة بمعنى الإزالة والإعدام ، وفي الاصطلاح يراد منه : رفع الحكم التكليفي الثابت السابق ، الظاهر في الدوام ، بتشريع لاحق بحيث لولاه لكان ثابتا ويظن أبديته مطلقا سواء كان الحكم الناسخ والمنسوخ في شريعة واحدة أو في شرائع عدة ، كما أن كل شريعة لاحقة تنسخ الشريعة السابقة عليها.

إن قيل : أليس في النسخ نسبة النقص أو الجهل إلى المشرّع بظهور خطأ أو نقص في تشريعه السابق ، عثر عليه متأخرا فأبدل رأيه إلى تشريع آخر ناسخ للأول؟

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٨ / ١٦٧ ح ١٢٢٦.

(٢) صحيح مسلم ج ٨ / ١٦٧ ح ١٦٦ ذيل حديث ١٢٢٦.

(٣) صحيح البخاري ج ٨ / ٤٧٥ ح ٧٢٣٠ كتاب التمني.

٣٨١

قلنا :

إن هذا المعنى للنسخ مستحيل عليه تعالى لكونه بهذا المعنى يستدعي تبدل رأي المشرّع بظهور خطأ أو نقص في تشريعه السابق ، والخطأ مستحيل على الذات الإلهية لاستلزامه الفقر وهو منزّه تعالى عنه ، وهذا المعنى من التشريع إنما يخص اولئك المشرّعين الذين لا يحيطون بالمصالح والمفاسد الكامنة وراء الواقع ، أما العالم بالواقع وبالخفايا المحيط بكل شيء ، مثل هذا يمتنع عليه الخطأ عقلا وشرعا.

فالنسخ المنسوب إليه تعالى ـ كما في نسخ حكم قبلة بيت المقدس بحكم قبلة الكعبة المشرّفة ـ إنما هو نسخ في ظاهره ، أما الواقع فلا نسخ أصلا ، وإنما هو حكم مؤقت وتشريع محدود من أول الأمر ، والله سبحانه لم يشرّعه حين شرّعه إلا وهو يعلم أن له أمدا ينتهي إليه ، وإنما المصلحة الواقعية اقتضت هذا التشريع المؤقت ، وقد شرّعه الله تعالى وفق تلك المصلحة المحدودة من أول الأمر ، ولكن لمصلحة في التكليف أخفى الله تعالى بيان الأمد وأجله إلى وقته المحدود ثم في نهاية الأمد جاء البيان إلى الناس : إن هذا التشريع قد انتهى بهذا الأجل ، فالنسخ في الحقيقة ليس سوى تأخير بيان الأمد المضروب من الأول ، ولعلّ في تأخير هذا البيان مصلحة للأمة كالتشديد على العباد بالتكليف وتسبيبا لهم لمزيد الأجر ، أو لنقصان في قابلياتهم فاستدعى إخفاء البيان تلطفا بهم.

والمشهور أن القرآن ينسخ بالقرآن والسنّة المتواترة ، وكذا تنسخ السنة المتواترة بالكتاب أو بمثلها.

وقد خالفهم الشافعي فلم يجوّز نسخ القرآن بالسنّة المتواترة ، ولا نسخ السنّة المتواترة بالقرآن(١).

__________________

(١) معارج الأصول للعلامة الحلي ص ١٧٢ ، المسألة التاسعة والعاشرة.

٣٨٢

ووافقه على ذلك أبو مسلم الأصفهاني حسبما نقل عنه الخضري في كتابه أصول الفقه فقال :

«إن خلاف أبي مسلم إنما هو في نسخ نصوص القرآن ، فهو يرى أن القرآن كله محكم لا تبديل لكلمات الله» (١).

يرد عليه :

أولا : لا قيمة لكلام المذكور بعد تصريح القرآن بإمكان النسخ في آياته بقوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) (٢).

ثانيا : أن النسخ المدّعى هنا ليس تبديلا لكلمات الله ، وإنما هو شرح للمراد منها وتقييد أو تخصيص لظهوراتها (٣) ، أو نقول إن الناسخ ظرفه متأخر ، وملاكه مصلحة أخرى ، تبدلت عن مصلحة سابقة كانت مستدعية لذلك الحكم المنسوخ (٤).

ثالثا : دعواه أن القرآن كله محكم يكذّبه القرآن نفسه بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) (٥).

وبالجملة : فإن الذين قالوا بنسخها هي عندهم محرّمة ، ومن لم يعتقد بذلك هي عنده حلال حيث لم يثبت تحريمها أو نسخها ، وقد مال إلى هذا مالك حسبما نسب إليه ذلك شيخ الإسلام المرغيناني مستدلا عليه بقوله : «لأنه ـ أي نكاح المتعة ـ كان مباحا فيبقى إلى أن يظهر ناسخه» (٦).

__________________

(١) الأصول العامة للفقه المقارن : محمد تقي الحكيم ص ٢٤٦ نقلا عن أصول الفقه ص ٢٤٦ للخضري.

(٢) سورة البقرة : ١٠٦.

(٣) الأصول العامة للفقه المقارن ص ٢٤٦.

(٤) التمهيد في علوم القرآن ج ٢ / ٢٩٢.

(٥) سورة آل عمران : ٧.

(٦) البيان في تفسير القرآن للخوئي ص ٣١٤ نقلا عن الهداية في شرح البداية ص ٢٨ ، ط / بولاق مع فتح القدير.

٣٨٣

ونسب ابن كثير جوازها إلى أحمد بن حنبل عند الضرورة (١).

وقد تزوج ابن جريج أحد الأعلام وفقيه مكة في زمنه سبعين امرأة بنكاح المتعة (٢).

فمدلول آية المتعة لم يرد عليه ناسخ ، وذلك لأن نسخ الحكم المذكور فيها يتوقف على أمرين :

الأول : على أن المراد من الاستمتاع في الآية هو التمتع بالنساء بنكاح المتعة.

الثاني : على ثبوت تحريم نكاح المتعة بعد ذلك.

أمّا الأمر الأول : «إرادة التمتع بالنساء من الاستمتاع» فلا ريب في ثبوته وقد تضافرت في ذلك الروايات من الطرفين ، قال القرطبي : قال الجمهور : المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام ، وقرأ ابن عباس ، وأبي ، وابن جبير فما استمتعتم به منهنّ ـ إلى أجل مسمّى ـ فآتوهن أجورهن ومع ذلك فلا يلتفت إلى قول الحسن : بأن المراد منها النكاح الدائم ، وأن الله لم يحل المتعة في كتابه ، ونسب هذا القول إلى مجاهد ، وابن عبّاس أيضا ، والروايات المرويّة عنهما أن الآية نزلت في المتعة تكذّب هذه النسبة ، وعلى كل حال فإن استفاضة الروايات في ثبوت هذا النكاح وتشريعه تغنينا عن تكلف إثباته ، وعن إطالة الكلام فيه.

وأمّا الأمر الثاني : «تحريم نكاح المتعة بعد جوازه» فهو ممنوع ، فإن ما يحتمل أن يعتمد عليه القائل بالنسخ هو أحد أمور ، وجميعها لا يصلح لأن يكون ناسخا ، وهي ثلاثة : آيات ، روايات ، وإجماع.

أمّا الآيات : فقوله تعالى :

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ١ / ٤٠٨ عند تفسيره الآية المباركة ٢٤ من سورة النساء.

(٢) شرح الزرقاني على مختصر أبي الضياء ج ٨ / ٧٦.

٣٨٤

١ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) (١).

قالوا : إن النسخ لأجل أنه لا طلاق في نكاح المتعة ؛ قلنا : ليس في الآية تعرّض لبيان موارد الطلاق ، وأنه في أي مورد يكون وفي أي مورد لا يكون ، ولأن تشريع الطلاق لم يحصر إباحة الوطء وشرعيته بما كان موردا للطلاق ، وإلا فما ذا يقولون في التسري والوطء بملك اليمين ، فإن مورد الطلاق هو العقد المبني على الدوام لأنه حل لعقدة الزواج الدائم.

وإن قالوا : أن النسخ بالعدة لأجل أن عدد عدة المتمتع بها أقلّ من عدة المطلقة.

قلنا : إن المتمتع بها عليها عدة ، ولكنها تنقص عن عدة الدائم بحسب ما دل عليه الدليل تماما كنقصان عدة الأمة ، فنقصان عدة الأمة لا يستلزم نسخها وهو المتفق عليه عند جميع الإمامية ومشهور العامة.

هذا مضافا إنه لا دلالة في الآية ولا في غيرها على أن عدة المتمتع بها كعدة المطلّقة وعلى نحو واحد ، بل الاختلاف في العدة بحسب ما دلّ عليه الدليل ، هذا بالغض عن أن الطلاق يقصد منه الفراق وهو أعم من الدائم فيشمل المنقطع وغيره ، فعلام حملوا الطلاق على الزواج الدائم؟!

٢ ـ قوله تعالى : (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) (٢).

استدل المحرّمون للمتعة بهذه الآية من حيث إنّ المتمتع بها لا ترث ولا تورث فلا تكون زوجة.

والجواب :

١ ـ إن ما دل على نفي التوارث في نكاح المتعة يكون مخصصا لآية الإرث

__________________

(١) سورة الطلاق : ١.

(٢) سورة النساء : ١٢.

٣٨٥

ولا دليل على أن الزوجية بمطلقها تستلزم التوارث ، وقد ثبت أنّ الكافر لا يرث المسلم ، وأن القاتل لا يرث المقتول ، وغاية ما ينتجه ذلك أن التوارث مختص بالنكاح الدائم ، وأين هذا من النسخ؟!

٢ ـ لعلّ الحكمة من عدم توارث في النكاح المنقطع هي ضعف علقة الزوجية بينهما لكونها مؤقتة ، والعلاقة المؤقتة لا توجب التوارث إلّا إذا اشترطت الزوجة الإرث من بعد وفاته وهي في عهدته.

٣ ـ إن المتمتع والمتمتع بها زوجان ، لكنهما لا يرثان لوجود دليل على ذلك ، ولا يقدح هذا بزوجيتهما ، بل عدم التوارث لا يخرجهما عن الزوجية ، لا سيما إذا كانت الزوجة من أهل الكتاب فإنها لا ترث من الزوج لما رواه العامة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يتوارث أهل الملتين مع اتفاقهم على جواز نكاح الكتابية بالعقد الدائم ، واتفاقهم على عدم التوارث بينها وبين زوجها المسلم تخصيصا منهم لعموم الإرث للحديث المتقدم. بل إن آية الميراث تقتضي بنفسها أن يتوارث المستمتع والمستمتع بها لأنهما زوجان ، لكنّ الدليل دل على عدم توارثهما ، فخصص به الكتاب.

٤ ـ إن آية المواريث وآية الأزواج (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (١) مكيتان ، وآية المتعة مدينة نزلت بعد الهجرة ، ولا يمكن تقديم الناسخ على المنسوخ ، بمعنى لو أن آية المتعة منسوخة لما تأخرت عن آية الأزواج المكية ، لأن الناسخ يأتي دائما متأخرا والمفروض العكس حيث تقدمت آية الأزواج وتأخرت آية المتعة.

٥ ـ لا توجد ملازمة عقلية بن الزوجية والإرث كما لا اتحاد في المفهوم ، وهل الوراثية إلّا حكم شرعي يثبت للزوجة بدليله ويرتفع بدليله كما في الكتابية والقاتلة؟.

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٥ ـ ٦.

٣٨٦

وأما الروايات التي ادّعى أنها ناسخة لآية المتعة منها :

١ ـ ما رووه عن الإمام عليّ عليه‌السلام أنه قال لابن عبّاس :

«إنك رجل تائه (١) ، إن رسول الله نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر»(٢).

٢ ـ ورووا عن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال :

رأيت رسول الله قائما بين الركن والباب وهو يقول : يا أيّها الناس إني قد أذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهنّ شيء فليخلّ سبيله ، ولا تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئا» (٣).

٣ ـ وروى سلمة عن أبيه ، قال :

رخّص رسول الله عام اوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها (٤).

والجواب :

أولا : إن هذه المرويات أخبار آحاد ، والنسخ لا يثبت بخبر الواحد.

ثانيا : إن هذه الروايات معارضة بروايات أهل البيت عليهم‌السلام المتواترة التي دلت على إباحة المتعة ، وأن النبيّ لم ينه عنها أبدا.

ثالثا : إن ثبوت الحرمة في زمان ما على عهد رسول الله لا يكفي في الحكم بنسخ الآية ، لجواز أن يكون هذا الزمان قبل نزول الإباحة ، وقد استفاضت الروايات من طرق العامة على حلية المتعة في الأزمنة الأخيرة من حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زمان خلافة عمر ، فإن كان هناك ما يخالفها فهو مكذوب ولا بدّ من طرحه.

__________________

(١) (رجل تائه) : حائر وحائد عن الطريق المستقيم.

(٢) صحيح مسلم ج ٩ / ١٦٢ ح ١٤٠٧ ـ ٢٩.

(٣) صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٩ ح ١٤٠٦ ـ ٢١ ـ ٢٢ وفي نصوص : فليخلّ سبيلها.

(٤) صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٧ ح ١٤٠٥ ـ ١٨.

٣٨٧

من هذه الروايات ما روى أبو الزبير قال :

سمعت جابر بن عبد الله يقول : كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله وأبي بكر حتى نهى عنه ـ أي نكاح المتعة ـ عمر في شأن عمرو بن حريث (١).

وروى أبو نضرة قال :

كنت عند جابر بن عبد الله ، فأتاه آت فقال : ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين ، فقال جابر : فعلناهما مع رسول الله ثم نهى عنهما عمر فلم نعد لهما (٢).

وروى أبو نضرة عنه أيضا قال :

متعتان كانتا على عهد النبيّ فنهانا عنهما عمر فانتهينا (٣).

وروى شعبة عن الحكم بن عيينة قال :

سألته عن هذه الآية ـ آية المتعة ـ أمنسوخة هي؟ قال : لا.

قال الحكم : قال عليّ لو لا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّا شقي (٤).

وروى القرطبي (٥) ذلك عن عطاء عن ابن عباس.

وبالجملة : لم يثبت بدليل قطعي ومقبول نهي رسول الله عن المتعة ، ومما يدل على أن رسول الله لم ينه عن المتعة : أن عمر ينسب التحريم إلى نفسه حيث قال : «متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما» (٦) ولو كان التحريم من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكان عليه أن يقول : نهى النبيّ عنهما.

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٧ ح ١٦.

(٢) نفس المصدر ح ١٧.

(٣) مسند أحمد ج ٣ / ٣٢٥.

(٤) تفسير الطبري ج ٥ / ٩.

(٥) تفسير القرطبي ج ٥ / ١٣٠.

(٦) سنن البيهقي ج ٧ / ٢٠٦ باب نكاح المتعة وكنز العمال ج ٨ / ٢٩٣.

٣٨٨

وأمّا الروايات التي استدل بها القائل بالنسخ فهي على طوائف منها : ما ينتهي بسنده إلى الربيع بن سبرة عن أبيه ، ومنها ما روي عن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، ومنها ما روي عن سلمة بن الأكوع.

«أمّا ما ينتهي سنده إلى سبرة ، فهو وإن كثرت طرقه إلّا أنه خبر رجل واحد «سبرة» وخبر الواحد لا يثبت به النسخ. على أن مضمون بعض هذه الروايات يشهد كذبها ، إذ كيف يعقل أن يقوم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطيبا بين الركن والمقام ، أو بين الباب والمقام ، ويعلن تحريم شيء إلى يوم القيامة بجمع حاشد من المسلمين ، ثم لا يسمعه غير سبرة ، أو أنه لا ينقله أحد من ألوف المسلمين سواه ، فأين كان المهاجرون والأنصار الذين كانوا يلتقطون كل شاردة وواردة من أقوال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفعاله؟ وأين كانت الرواة الذين كانوا يهتمون بحفظ إشارات يد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولحظات عينيه ، ليشاركوا سبرة في رواية تحريم المتعة إلى يوم القيامة؟ ثم أين كان عمر نفسه عن هذا الحديث ليستغني به عن إسناد التحريم إلى نفسه؟! أضف إلى ذلك أنّ روايات سبرة متعارضة ، يكذّب بعضها بعضا ، ففي بعضها أنّ التحريم كان في عام الفتح وفي بعضها أنه كان في حجّة الوداع. وعلى الجملة إن رواية سبرة هذه في تحريم المتعة لا يمكن الأخذ بها من جهات شتى. وأما ما روي عن علي عليه‌السلام في تحريم المتعة فهو موضوع قطعا ، وذلك لاتفاق المسلمين على حلّيتها عام الفتح ، فكيف يمكن أن يستدل علي عليه‌السلام على ابن عبّاس بتحريمها في خيبر.

وأمّا ما روي عن سلمة بن الأكوع عن أبيه ، قال : «رخّص رسول الله في متعة النساء عام اوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنها» فهو خبر واحد ، لا يثبت به النسخ ، على أن ذلك لو كان صحيحا لم يكن خفيا عن ابن عبّاس ، وابن مسعود ، وجابر ، وعمرو ابن حريث ، ولا عن غيرهم من الصحابة والتابعين ، وكيف يصح ذلك ولم يحرّم أبو بكر المتعة أيام خلافته ، ولم يحرّمها عمر في شطر كبير من أيامه ، وإنما حرّمها في أواخر أمره ، هذا مع ثبوت حليتها عند جماعة من الصحابة والتابعين» (١).

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن للخوئي ص ٣٢١.

٣٨٩

وأما الإجماع المدعى على نسخ المتعة وتحريمها فمردود بأمرين :

الأول : إن الإجماع لا حجية له بذاته إذا لم يكن كاشفا عن قول المعصوم ، وقد عرفت ـ أيّها القارئ ـ أن تحريم المتعة لم يكن في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا بعده إلى مضي مدة من خلافة عمر، أفهل يجوز في حكم العقل أن يرفض كتاب الله وسنة نبيه بفتوى جماعة لم يعصموا عن الخطأ؟

ولو صحّ ذلك لأمكن نسخ جميع الأحكام التي نطق بها الكتاب ، أو أثبتتها السنّة القطعية ، ومعنى ذلك أن يلتزم بجواز نسخ وجوب الصلاة ، أو الصيام ، أو الحج بآراء المجتهدين ، وهذا مما لا يرضى به مسلم.

الثاني : إن الإجماع لم يتم في مسألة تحريم المتعة ، وكيف يدّعي الإجماع على ذلك ، مع مخالفة جمع من المسلمين من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بعده ، ولا سيما أن قول هؤلاء بجواز المتعة موافق لقول أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، وإذن فلم يبق إلا تحريم عمر. ومن البيّن أن كتاب الله وسنة نبيّه أحق بالاتباع من غيرهما ، ومن أجل ذلك أفتى عبد الله بن عمر بالرخصة بالتمتع في الحج ، فقال له ناس :

«كيف تخالف أباك وقد نهى عن ذلك ، فقال لهم : ويلكم ألا تتقون أفرسول الله أحق أن تتبعوا سنته أم سنة عمر؟

والخلاصة : أن جميع ما تمسك به القائلون بالنسخ لا يصلح أن يكون ناسخا لحكم الآية المباركة ، الذي ثبت ـ قطعا ـ تشريعه في الإسلام.

النقطة الرابعة : في رد بعض الشّبهات.

الشبهة الأولى :

وهي لصاحب المنار حيث زعم : «أن التمتع ينافي الإحصان ، بل ليس من الإحصان في شيء ، أن تؤجر المرأة نفسها كل طائفة من الزمن لرجل ، فتكون كما قيل :

٣٩٠

كرة حذفت بصوالجة

فتلقفها رجل رجل

وزعم أنه ينافي قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) (١).

ثم ذكر أن تحريم عمر لم يكن من قبل نفسه ، فإن ثبت أنه نسبه إلى نفسه فمعناه أنه بيّن تحريمها ، أو أنه أنفذه ، أو أن عمر منع المتعة اجتهادا منه ووافقه عليه الصحابة (٢).

والجواب :

أمّا دعواه منافاة التمتع للإحصان فمبنيّ على ما يزعمه هو من إنّ المتمتع بها ليست زوجة ، وفساده واضح من حيث إن المتعة عقد قامت الأدلة المعتبرة على ثبوته وفعله كبار الصحابة إلى عهد عمر فحرّمه عليهم وهدّد بالوعيد على فاعلها ، فالمتمتّع بها زوجة كالدائمة لا يفترقان إلا ببعض الشروط.

فالقدر المتيقن في المقام هو أن أصل مشروعية زواج المتعة كان في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرا قطعيا ومفروغا عنه ، وليس ثمة دليل معتبر يمكن الاطمئنان إليه ويثبت نسخ هذا الحكم ، ولهذا لا بدّ من أن نحكم ببقاء هذا الحكم المستصحب بناء على ما هو مقرر في علم الأصول.

والعبارة المشهورة عن عمر بن الخطّاب خير شاهد على هذه الحقيقة ، وهي أن هذا الحكم لم ينسخ في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثم انّ من البديهي أنه لا يحق لأحد أن ينسخ الأحكام ، فالرسول وحده يحق له ـ وبأمر من الله وإذنه ـ أن ينسخ بعض الأحكام ، وقد سدّ باب نسخ الأحكام بعد

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٥ ـ ٧.

(٢) تفسير المنار ج ٥ / ١٣.

٣٩١

وفاة النبيّ ، وإلّا لاستطاع كل واحد أن ينسخ شيئا من الأحكام الإلهية حسب اجتهاده ومزاجه ، وحينئذ لا يبقى شيء من الشريعة الخالدة الأبدية ، هذا مضافا إلى أن الاجتهاد في مقابل النص النبوي محرّم وكفر لكونه ردا على الله ورسوله.

وأمّا تعبيره عن عقد المتعة بإجارة المرأة نفسها ، وتشبيه المرأة بالكرة التي تلقفها الأيدي فهو ـ لو كان صحيحا ـ لكان ذلك اعتراضا على تشريع هذا النوع من النكاح على عهد رسول الله ، لأن هذا التشبيه والتقبيح لا يختص بزمان دون زمان ، ولا يشك مسلم في أن التمتع كان حلالا على عهد رسول الله ، وقد عرفت أن إباحته استمرت حتى إلى مدة من عهد عمر.

هذا مضافا إلى أن انتقال المرأة من رجل إلى رجل لو كان قبيحا لكان مانعا عن طلاق المرأة في العقد الدائم ، لتنتقل إلى عصمة رجل آخر بعد عدتها من الأول ، فيستحب لها أو يجب عند خوف الفتنة أن تتزوج ثم يطلقها أو يموت وبعد العدة ييسر الله لها ثالثا فتتزوجه على كتاب الله وسنة رسوله ثم يطلقها أو يموت فييسر الله لها رابعا وهكذا إلى ما شاء الله كرة حذفت بصوالجة ، يتلقفها رجل رجل ، على ما سوغته الشريعة من الزواج بحدود العدة ، فهل يمكن أن يقال إن هذا لا يكون فيه شيء من إحصان المرأة ، ولو كان هذا الحال قبيحا فاسدا عند الله لا يصحّ أن يشرّع ما يؤدي إليه للزم أن يقيد شرع النكاح والطلاق والعدة ووطء الإماء والتسري بهنّ وبيعهن بما لا يؤدي إليه ولا يقع فيه ذلك ، فيقيد به نكاح المتعة أيضا ، ولئن جاز أن ينقطع الإحصان بالطلاق بعد يوم أو أكثر فما هو المانع من انقطاعه بأجل المتعة الذي قد يبلغ خمسين سنة أو أكثر.

وأمّا ما ادّعاه من نسبة عمر تحريم المتعة إلى نفسه ، فإنه لا ينهض ذلك بما زعمه ، فإن بيان عمر للتحريم إمّا أن يكون اجتهادا منه على خلاف قول النبيّ ، وإمّا أن يكون اجتهادا منه بتحريم النبيّ إياها ، وإمّا أن يكون رواية منه للتحريم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣٩٢

أما احتمال أن يكون قوله رواية عن النبيّ فلا يساعد عليه نسبة التحريم ، والنهي إلى نفسه في كثير من الروايات ، على أنه إذا كان رواية ، كانت معارضة بما تقدم من الروايات الدالة على بقاء إباحة المتعة إلى مدة غير يسيرة من خلافة عمر ، وأين كان عمر أيام خلافة أبي بكر؟ وهلّا أظهر روايته لأبي بكر ولسائر المسلمين؟ على أن رواية عمر خبر واحد لا يثبت به النسخ.

وأمّا احتمال أن يكون قول عمر هذا اجتهادا منه بتحريم النبيّ نكاح المتعة فهو أيضا لا معنى له بعد شهادة جماعة من الصحابة إباحته في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى وفاته. على أنّ اجتهاده هذا لا يجدي غيره ممن لم يؤمر باتباع اجتهاده ورأيه ، بل وهذان الاحتمالان مخالفان لتصريح عمر في خطبته : «متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما».

وإذن فقد انحصر الأمر في أنّ التحريم كان اجتهادا منه على خلاف قول رسول الله بالإباحة ، ولأجل ذلك لم تتبعه الأمة في تحريمه متعة الحجّ وفي ثبوت الحدّ في نكاح المتعة ، فإن اللازم على المسلم أن يتبع قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن يرفض كل اجتهاد يكون على خلافه : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (١).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أحللت إلا ما أحلّ الله ، ولا حرّمت إلّا ما حرّم الله»(٢). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه ـ فمه ـ إلا حق» (٣). ومع هذا كله فقد قال القوشجي في الاعتذار عن تحريم عمر المتعة خلافا لرسول الله وأجيب : «بأنّ ذلك ليس مما يوجب قدحا فيه ، فإن مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع» (٤).

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٦.

(٢) طبقات ابن سعد ج ٤ / ٧٢ ، ط / مصر.

(٣) رواه أبو داود ـ التاج ج ١ / ٦٦.

(٤) شرح التجريد ، مبحث الإمامة ، والبيان في تفسير القرآن ص ٣٢٩ والغدير ج ٦ / ٢٣٨.

٣٩٣

وما ادعاه القوشجي من نسبة الاجتهاد لعمر وللنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واضح الفساد لكون معارف النبيّ كلها من وحي الله إليه ولا علاقة للاجتهادات الشخصية فيها ، قال تعالى :

(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١).

(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٢).

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) (٣).

فالآراء التي لا تستند إلى وحي الله تبقى معرّضة للخطأ والله سبحانه لم يرد لنبيّه الكريم الوقوع في الخطأ لكونه قدوة حسنة ، ولأن الوقوع في الخطأ رجس نزهه الله سبحانه عنه.

وأما اجتهاد عمر فإنه اجتهاد في مقابل النص ، وهكذا اجتهاد يعتبر مرفوضا عند المسلمين لا سيّما الإمامية منهم حيث حرّموه واستنكروا على من قال به.

والنتيجة : أن آية المتعة لا ناسخ لها ، وأن تحريم عمر ، وموافقة جمع من الصحابة له على رأيه طوعا أو كرها إنما كان اجتهادا في مقابل النص ، وقد اعترف بذلك جماعة ، وأنه لا دليل على تحريم المتعة غير نهي عمر ، إلا أنهم رأوا أن اتباع سنّة الخلفاء كاتباع سنّة النبيّ.

وعلى أيّ حال فما أجود ما قاله عبد الله بن عمر : «أرسول أحق أن تتبع سنّته أم سنّة عمر؟!» ومن مساوئ الدهر أن يقاس النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بواحد من أمته ويجعل كلّا منهما مجتهدا وما ينطقه الرسول الأمين هو عين ما ثبت في اللوح المحفوظ.

__________________

(١) سورة النجم : ٤.

(٢) سورة الأحقاف : ٩.

(٣) سورة الحاقة : ٤٤ ـ ٤٥.

٣٩٤

الشّبهة الثانية :

إن النكاح يحتاج إلى ولي وشهود فتبطل المتعة (١).

والجواب :

١ ـ ليس الإشهاد شرطا في صحة العقد عند الإمامية بل هو مستحب ، لأن الإشهاد شرط زائد ، والأصل عدمه حتى يثبت الدليل ، ولا دليل عليه ، وأما قبول الولي فهو شرط في صحة تمتع البكر على بعض الأقوال ، لكنّ المشهور ـ وهو الأظهر (٢) عندي ـ لا يقولون بشرطيته ، هذا مضافا إلى أن التمتع بالسفر في عهد رسول الله ـ حسبما جاء في مرويات العامة(٣) بالخصوص ـ لم يلحظ فيها حضور الولي ، فلا يوجد نص يشير إلى أن الصحابة تمتعوا بحضور ولي المتمتع بها أو حضور الشهود.

٢ ـ الشيعة يشترطون في المتعة كل شرط ثبت في الكتاب أو السنّة أنه شرط في المتعة بل قد يلتزمون بالاحتياط عند الشك في الشرط.

الشّبهة الثالثة :

إن القول بحلية المتعة تناقض بل تهدم روح الآية المباركة (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (٤).

فإطلاق النكاح في الآية لا يشمل إلا العقد الدائم ، فلو كانت المتعة حلالا لكان قول الله جل جلاله (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً ..) مهملا لا معنى له ، وعبثا لا طائل تحته ، وأي معنى لقوله : «لا يجدون نكاحا» لو حل تمتع بكف

__________________

(١) هذه الشبهة لروزبهان الأشعري ، حكاها عنه البلاغي.

(٢) «رسالة في المختار من ولاية الأبكار» بحث فقهي استدلالي للمؤلف ، مخطوط.

(٣) صحيح مسلم ج ٩ / ١٦٠ باب نكاح المتعة.

(٤) سورة النور : ٣٣.

٣٩٥

من برّ (١)؟ وأي معنى لقوله «حتى يغنيهم الله» وأي حاجة إلى الاستعفاف؟ فوجوب الاستعفاف عند العجز عن النكاح يناقض حلية المتعة.

يجاب عليه :

إن كلمة النكاح الواردة في الآية تفيد معنى المهر والنفقة ، فمن لم يجد السبيل إلى أن يتزوج بأن لا يجد المهر والنفقة ، عليه أن يتعفف ولا يدخل في الفاحشة حتى يوسّع الله عليه من رزقه(٢).

كما أن من معاني كلمة نكاح» إذا أطلقت ما يلي :

ـ العقد لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) (٣).

ـ للعقد والوطء لقوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)(٤).

ـ للحلم والعقل لا الوطء والعقد لقوله تعالى : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ)(٥).

ـ للمهر حيث سمّي المهر باسم النكاح لقول تعالى : (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً).

ـ للسفاح لقوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) (٦) فسمى السفاح نكاحا هنا.

__________________

(١) كما في رواية أبي الزبير عن جابر قال : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق : صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٧ ح ١٦.

(٢) مجمع البيان ج ٧ / ١٩٥ سورة النور ، آية : ٣١٣.

(٣) سورة الأحزاب : ٤٩.

(٤) سورة البقرة : ٢٣٠.

(٥) سورة النساء : ٦.

(٦) سورة النور : ٣.

٣٩٦

فيكون معنى الآية الكريمة : أن على المعدمين الذين لا يملكون مهرا لنكاحي المؤقت والدائم وجوب الاستعفاف حتى يغنيهم الله من فضله ، ونهاهم عن ارتكاب الفاحشة بأنواعها وأمرهم أن يصونوا فروجهم بالاستعفاف عن خطر الأمراض الفتاكة كالسيدا أو الزهري والسيلان وبقية العاهات ، وقد تضمنت الآية المباركة حكمة الزواج الدائم والمنقطع ، ومن لم يوفّق لأحدهما ولو بكفّ من طحين أو قبضة تمر عليه أن يستعفف ، وهذا تسهيل من الشارع الحكيم وتيسير للمسلمين (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١) وقوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٢).

لئلا يقع المسلمون في حرج الزّنى وويلاته ، كما يكون المهر في المتعة كف من بر ، قد يكون من تبر ، وهذا تابع لحالة الأمة الاقتصادية وما تصاب به من رخاء وترف أو فقر وشظف.

الشّبهة الرابعة :

مفاد الشبهة هو : التوفيق بين الروايات الدالة على جواز الاستمتاع في عهد الرسول ، وبين الدالة على تحريم عمر للمتعة ، فتحمل الأولى على أن أصحابها لم يبلغهم التحريم ، ولم يكن قد اشتهر التحريم بين صحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى كان زمن عمر ، فلمّا وقع فيها النزاع ظهر تحريمها واشتهر ، وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة فيها.

والجواب :

من البعيد جدا أن يكون كل هؤلاء الأصحاب على غفلة من تحريم النبيّ للمتعة وفيهم من هو أكثر ضبطا وورعا من عمر ، لا سيّما فيهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، بل الاعتقاد بهذا يوجب إساءة الظن بكل أصحاب

__________________

(١) سورة الحج : ٧٨.

(٢) سورة البقرة : ١٨٥.

٣٩٧

رسول الله وبالأخص أهل بيته ، إذ كيف يعقل أن يحرّم الرسول شيئا كالمتعة إلى يوم القيامة بجمع من المسلمين ، ثم لا يسمعه غير عمر بن الخطاب ، أو أنه لا ينقله أحد من ألوف المسلمين سواه ، فأين كان المهاجرون والأنصار الذين كانوا يلتقطون كل شاردة وواردة من أقوال النبيّ وأفعاله؟

وأين كانت الرواة الذين كانوا يهتمون بحفظ إشارات يد النبيّ ولحظات عينيه ، ليشاركوا عمر في رواية تحريم المتعة إلى يوم القيامة؟ ثم أين كان عمر نفسه عن روايات التحريم ليستغني بها عن إسناد التحريم إلى نفسه؟!!

هذا مضافا إلى أن العامة رووا في مصادرهم أن الأصحاب تمتعوا في عهد النبيّ ، وأيضا فإن عمر قد قرن تحريم المتعتين بلفظ واحد ، ولم يدّع أحد منهم النسخ في متعة الحج.

الشّبهة الخامسة :

لا فرق بين الزواج المؤقت والزّنا من حيث إن كليهما يهدفان إلى شيء واحد وهو بيع جسد المرأة لقاء دفع مبلغ معين ، وفي الحقيقة ليس وصف الزواج المؤقت سوى ستار على وجه الفحشاء والزنا ، نعم غاية الفرق بين الأمرين هو إجراء ما يسمّى بالصيغة ، وهي ليست سوى عبارة بسيطة.

الجواب :

إنّ مساواة الزواج المؤقت بالزنا ليس إلا خلطا بين مفهوميهما وجعلهما شيئا واحدا ، فحقيقة الزواج المؤقت تختلف بجوهرها عن الزنا ، وليس عبارة عن مجرد كلمتين تقال وينتهي كل شيء ، بل ثمة مقررات له نظير ما في الزواج الدائم إلا ما أخرجه الدليل ، فالمرأة المتمتع بها تكون طوال المدة المضروبة في الزواج المؤقت خاصة بالرجل المتمتع ، ثم عند ما تنتهي المدة المذكورة يجب على المرأة أن تعتد بحيضتين بمعنى أن تمتنع من الزواج مطلقا برجل آخر لمدة خمسة وأربعين يوما التي هي مقدار حيضتين ، حتى يتبيّن أنها حملت من الرجل الأول أو لا ، على أنها

٣٩٨

يجب أن تعتد حتى لو توسلت بوسائل لمنع الحمل أيضا ، وإذا حملت من ذلك الرجل فالولد لهما ، ويجب على الوالد أن يتكفله تماما كما يتكفل أولاده من الزواج الدائم ، ويجري عليه كل ما يجري على الأولاد من الزواج الدائم ، في حين إنّ الزنا والبغاء لا ينطوي على أي شيء من هذه الشروط والحدود ، فهل يمكن أن نقيس هذا الزواج بالبغاء؟ نعم هناك فروق بين الزواج المؤقت والدائم من حيث التوارث بين الزوجين ، والنفقة وبعض الأحكام ، ولكن هذه الفروق لا تجعل الزواج المؤقت بغاء.

الشّبهة السادسة :

يتيح لبعض طلاب الهوى أن يسيء استعمال الزواج المؤقت ، ويرتكبوا كل فاحشة تحت ستار المتعة ، حتى صار هذا العقد منبوذا عند أكثر الناس ، ومورد اشمئزاز لدى العديد من النساء ، لما يستلزم رفضه من الأساس.

والجواب :

الإساءة إلى القانون لا يبرّر عدم استعماله ، وأي قانون في العالم لم يسأ استعماله؟!.

وهل من الحكمة أن نمنع من الأخذ بقانون تقتضيه الفطرة البشرية وتمليه الحاجة الاجتماعية الملحة بحجة أن هناك من يسيء استعماله؟ أم أنّ علينا أن نمنع من سوء استخدام القانون الصحيح؟

فمثلا : لو أن البعض استعمل موسم الحج لبيع المخدرات أو لنشر الرذيلة بين الحجيج ، فهل علينا أن نمنع من هذا التصرف الشّائن ، أم نمنع من اشتراك الناس في هذا المكان المقدّس؟! الأصح هو الأول ، وهكذا الأمر في مقامنا هذا ، فإذا كره أكثر الناس هذا الزواج ـ إما لأنهم لا يؤمنون به من الأساس ، وإما لسوء استعماله ـ لا يكشف ذلك عن عيب في القانون ، بل يكشف عن عيب العاملين به. فلو قامت المجتمعات الإسلامية بتطبيقه على النحو الصحيح ، وضمن ضوابطه

٣٩٩

ومقرراته الخاصة به ، أمكن المنع من استخدام المستغلين لهذا القانون ، ولأمكن لكل الناس أن يحبّوا هذا القانون ولا يرفضونه ، لا سيّما وأن الحاجة إليه في وقتنا الحاضر عظيمة لكونه يسدّ حاجة طبيعية عند الرجل والمرأة خاصة عند الذين لا يملكون ما يمكّنهم من الزواج الدائم لظروف موضوعية قاسية ، فحاجة المرأة المطلقة أو الأرملة إلى هذا العقد أكثر من حاجة الرجل ، لأن هكذا امرأة لا يرغب عادة في الزواج منها بالعقد الدائم ، فلا بد من وجود بديل يمكن من خلاله أن تنفّس المرأة عن حاجتها الطبيعية خوفا من الوقوع في الزنا أو النظرة الحرام ، كما أن المرأة العانس بحاجة إليه أكثر من غيرها لما فيه من قضاء وطرها وتلبية رغبتها التي قد تهوي بها إلى الحرام إن لم تتزوج.

الشّبهة السابعة :

تترتب على الزواج المؤقت آثار سلبية منها بقاء أطفال بلا أسر تماما كما يحصل عند الأولاد غير الشرعيين.

والجواب :

إن قياس أولاد الزواج المؤقت على أولاد البغاء فاسد لأن أولاد البغاء غير مرتبطين بآبائهم ولا أمهاتهم من الناحيتين القانونية والشرعية ، في حين إنّ أولاد المتعة لا يختلفون في أي شيء عن أولاد العقد الدائم حتى في الميراث وسائر الحقوق الاجتماعية والشرعية.

وبالجملة : فإن المتعة لم يطرأ عليها نسخ ، وكل ما هناك أن عمر بن الخطاب هو من حرّمها للحديث الشهور والمتفق عليه أنه قال : متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أحرّمهما وأعاقب عليهما.

وما ادعاه العامة من وجود روايات ناسخة لحكم المتعة فجميعها مضطرب ، فبعضها ينسب التحريم للنبيّ ، وبعضها ينسب التحريم لآية الطلاق (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) مع أن الآية لا علاقة لها بالمسألة المطروحة لأن آية

٤٠٠