أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) (١) وقوله تعالى (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) (٢) إلى أن قال : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) (٣).

وما احتمله بعضهم أن الآية (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) (٤) مسوقة للتأكيد ، يرد عليه أن سياق ما نقل من الآيات وخاصة سياق ذيل قوله (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ) الآيتين أشد وآكد لحنا من هذه الآية فلا وجه لكون هذه مؤكدة لتلك] (٥).

ولا بأس هنا أن نستعرض كلمات القوم لإيضاح هذه الحقيقة من ناحيتها التشريعية ومن كتب القوم.

١ ـ قال أبو الفداء إسماعيل ابن كثير الدمشقي :

«استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة ، ولا شك أنه كان مشروعا في ابتداء الإسلام ثم نسخ بعد ذلك وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح ثم نسخ ، ثم أبيح ثم نسخ مرتين .. وقد روي عن ابن عبّاس وطائفة من الصحابة القول بإباحتها للضرورة ، وهو رواية عن الإمام أحمد وكان ابن عبّاس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والسدي يقرءون (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة) وقال مجاهد : نزلت في نكاح المتعة ... وأما قوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) ومن حمل هذه الآية على نكاح المتعة إلى أجل مسمّى قال : لا جناح عليكم إذا انقضى الأجل أن تتراضوا على زيادة به وزيادة للجعل ، قال السدي : إن شاء أرضاها من بعد الفريضة

__________________

(١) سورة النساء : ٢٠.

(٢) سورة البقرة : ٢٣٦.

(٣) سورة البقرة : ٢٣٧.

(٤) سورة النساء : ٢٤.

(٥) تفسير الميزان للطباطبائي (قدس‌سره) ج ٤ / ٢٧٣.

٣٦١

الأولى يعني الأجر الذي أعطاها على تمتعه بها قبل انقضاء الأجل بينهما فقال : أتمتع منك بكذا وبكذا. ثم قال : إذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل ، وهي منه بريئة وعليها أن تستبرئ ما في رحمها وليس بينهما ميراث (١).

٢ ـ وقال الآلوسي :

«والآية أحد أدلة الشيعة على الجواز وأيدوا استدلالهم بها بأنها في حرف أبي «فما استمتعتم به منهن» إلى أجل مسمى ، وكذلك قرأ ابن عبّاس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم والكلام في ذلك شهير ، ولا نزاع عندنا في أنها أحلت ثم حرمت وذكر القاضي عياض في ذلك كلاما طويلا ، والصواب المختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين وكانت حلالا قبل يوم خيبر ثم حرمت يوم خيبر ، ثم أبيحت يوم فتح مكة وهو يوم أوطاس لاتصالهما ..» (٢).

وما نسبه مفسرو العامة ومنهم الآلوسي في روح المعاني من أن الإمام عليا عليه‌السلام قد نهى ابن عبّاس عن المتعة وقال له : «إنّك رجل تائه إن رسول الله نهى عن المتعة» لا أساس له من الصحة ، وتعدّه الشيعة الإمامية من الأحاديث المكذوبة والمفتعلة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٣ ـ روى الطبراني فقال : إنما كانت المتعة في أول الإسلام ، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه ، حتى نزلت الآية إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فكل فرج سواهما فهو حرام ، وحكي عنه أيضا أنه إنما أباحها حالة الاضطرار والعنت في الأسفار (٣).

أقول : إن زواج المتعة يندرج تحت قوله تعالى : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) وإلا

__________________

(١) تفسير ابن كثير ، سورة النساء آية ٢٤.

(٢) تفسير روح المعاني ج ٤ / ٨.

(٣) روح المعاني ج ٤ / ٩ نقلا عن الطبراني ، وروى مثله السيوطي في تفسيره ج ٢ / ٢٥٠.

٣٦٢

كيف أجازها النبي في السفر وحال الاضطرار كما يدّعي العامة؟ وهل أجاز في السفر الزنا؟ حاشاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فنسخ النبيّ لها ـ لو سلّمنا جدلا ـ لا يعني أنها كانت قبل النسخ من قبيل الزنا ، بل هي زواج شرعي وبقي إلى ما بعد رحيل النبيّ ولم يثبت بدليل شرعي نسخها.

٤ ـ قال الزمخشري :

نزلت ـ أي آية المتعة ـ في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتح الله مكة على رسوله ثم نسخت ، كان الرجل ينكح المرأة وقتا معلوما ليلة أو ليلتين أو اسبوعا بثوب أو غير ذلك ويقضي منها وطره ثم يسرحها ، سميت متعة لاستمتاعه بها أو لتمتيعه لها بما يعطيها ، وعن عمر قال : لا أوتي برجل تزوّج امرأة إلى أجل إلا رجمتهما بالحجارة .. وعن ابن عبّاس هي محكمة ، يعني لم تنسخ وكان يقرأ : «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى» (١).

٥ ـ وأخرج السيوطي عن ابن أبي داود عن سعيد بن جبير وعبد بن حميد وابن جرير وقتادة وابن الأنباري وعبد الرزاق عن عطاء والسدي وغيرهم بأسانيد متعددة عن أن الآية واضحة الدلالة في المتعة (٢).

٦ ـ كما أنه أخرج عن عبد الرزاق وأحمد ومسلم عن سبرة الجهني قال : أذن لنا رسول الله عام فتح مكة في متعة النساء ، فخرجت أنا ورجل من قومي ـ ولي عليه فضل في الجمال ـ وهو قريب من الدمامة مع كل واحد منا برد ، أما بردي فخلق ، وأما برد ابن عمي فبرد جديد غض ، حتى إذا كنّا بأعلى مكة تلقتنا فتاة مثل البكرة العنطنطة فقلنا : هل لك أن يستمتع منك أحدنا؟ قالت : وما تبذلان؟ فنشر كل واحد منا برده ، فجعلت تنظر إلى الرجلين ، فإذا رآها صاحبي قال : إن برد هذا

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ١ / ٤٨٧.

(٢) تفسير الدر المنثور ج ٢ / ٢٥٠.

٣٦٣

خلق وبردي جديد غض ، فتقول : وبرد هذا لا بأس به ، ثم استمتعت منها فلم تخرج حتى حرّمها رسول الله (١).

كيف حرّمها رسول الله ، وعمر نفسه يقول : كانتا في عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما؟ وليس كما ادعى الآلوسي (٢) من أن عمر نهى عن المتعة لإظهار حرمتها لمن لم يبلغه النهي عنها من النبيّ ، وذلك كيف يخفى هذا على أمير المؤمنين خازن علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجلة الصحابة ، وهل كان سبرة الجهني ألصق برسول الله من الإمام علي وابن عباس؟!

٧ ـ روى البيهقي في سننه الكبرى عن محمّد بن كعب أن ابن عباس قال : كانت المتعة في أول الإسلام وكانوا يقرءون هذه الآية «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى» (٣).

٨ ـ قال القرطبي : وقال الجمهور : المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام ، وقرأ ابن عبّاس وأبي وابن جبير «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى فآتوهن أجورهن» (٤).

وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عبّاس قالا : ما كانت المتعة إلا رحمة من الله رحم بها أمة محمّد ، ولو لا نهيه عنها ـ أي عمر ـ ما احتاج إلى الزنا إلا شقي ، قال : وهي التي في سورة النساء (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) إلى كذا وكذا من الأجل ، على كذا وكذا ، قال : وليس بينهما وراثة ، فإن بدا لهما أن يتراضيا بعد الأجل فنعم ، وإن تفرقا فنعم ، وليس بينهما نكاح ، وأخبر أنه سمع ابن عباس يراها الآن حلالا (٥).

__________________

(١) نفس المصدر ص ٢٥١.

(٢) تفسير الآلوسي في روح المعاني ج ٤ / ٩.

(٣) سنن البيهقي ج ٧ / ٢٠٥.

(٤) تفسير القرطبي ج ٥ / ١٣٠.

(٥) الدر المنثور ج ٢ / ٢٥٢.

٣٦٤

٩ ـ قال المراغي :

ونكاح المتعة وهو نكاح المرأة إلى أجل معيّن كيوم أو اسبوع أو شهر كان مرخّصا فيه في بدء الإسلام ، وأباحه النبيّ لأصحابه في بعض الغزوات لبعدهم عن نسائهم فرخّص فيه مرة أو مرتين (١).

١٠ ـ قال الشوكاني : قال الجمهور : إن المراد بالآية نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام ، ويؤيده قراءة أبي بن كعب وابن عبّاس وسعيد بن جبير «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن» (٢).

١١ ـ قال علاء الدين البغدادي : المراد من حكم الآية هو نكاح المتعة ، وهو أن ينكح امرأة إلى مدة معلومة بشيء معلوم ، فإذا انقضت المدة بانت منه بغير طلاق ، وكان هذا في ابتداء الإسلام (٣).

هذه نبذة من كلمات مراجع تفسير القرآن عند العامة ، وكلها تشير إلى مشروعية المتعة في الإسلام.

نكاح المتعة في السنّة :

في باب نكاح المتعة من صحيح البخاري عن عمران بن حصين قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم ينزل قرآن يحرّمه ولم ينه عنها حتى مات ، قال رجل برأيه ما شاء. قال محمد : يقال إنه عمر (٤).

وأخرج عن قيس عن عبد الله قال : كنّا نغزو مع النبيّ وليس معنا نساء فقلنا : ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك فرخّص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب ، ثم قرأ :

__________________

(١) تفسير المراغي ج ٤ / ٨.

(٢) تفسير الشوكاني ج ١ / ٤١٤.

(٣) تفسير الخازن ج ١ / ٣٥٧.

(٤) صحيح البخاري ج ٥ / ١٨٨ رقم الحديث ٤٥١٨ وحديث رقم ١٥٧١ ج ٢.

٣٦٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (١).

وأخرج بسند آخر متصل بإسماعيل عن قيس عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنّا نغزو مع النبيّ ليس لنا نساء (٢) إلخ ..

فلمّا نهاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الخصاء لا بدّ أن يأمرهم بالبديل وقد فعل وهو الزواج المنقطع لمن لم يقدر على الزواج الدائم ، وقد أجازهم بالمنقطع كما أشار إليه حديث رقم (٤٦١٥) و (٥٠٧٥). فقد أورد البخاري حديثين في باب كراهة التبتل والخصاء أحدهما عن ابن شهاب وثانيهما عن الزهري.

قال سعيد بن المسيّب : سمعت سعد بن أبي وقّاص يقول : ردّ رسول الله على عثمان بن مظعون التبتّل ، ولو أذن له لاختصينا (٣).

وأخرج أيضا عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع قالا : كنّا في جيش فأتانا رسول الله فقال : إنه قد أذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا (٤).

وأخرج عن سلمة عن أبيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أيّما رجل وامرأة توافقا فعشرة ما بينهما ثلاث ليال ، فإن أحبّا أن يتزايدا أو يتتاركا تتاركا» فما أدري أشيء كان لنا خاصة أم للناس عامة (٥) ، وبيّنه عليّ عن النبيّ أنه منسوخ.

ملاحظة : ذيل الرواية عن الإمام عليّ عليه‌السلام مكذوب عليه لما ورد بالمتواتر عنه عليه‌السلام من الطرفين أنه قال : لو لا نهي عمر عن المتعة ما زنى إلا شقي.

وأخرج مسلم عن أبي وكيع وابن بشر عن إسماعيل عن قيس قال : سمعت عبد الله يقول : كنّا نغزو مع رسول الله ليس لنا نساء ، فقلنا : ألا نستخصي (٦)؟ فنهانا

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٥ / ٢٢٨ رقم الحديث ٤٦١٥ وحديث رقم ٥٠٧٥.

(٢) صحيح البخاري ج ٦ / ٤٣٩ رقم الحديث ٥٠٧١.

(٣) صحيح البخاري ج ٦ / ٤٤٠ رقم الحديث ٥٠٧٣ و ٥٠٧٤.

(٤) صحيح البخاري ج ٦ / ٤٥٣ حديث رقم ٥١١٧.

(٥) صحيح البخاري ج ٦ / ٤٥٣ حديث رقم ٥١١٩.

(٦) الخصاء : سلّ الخصي ونزع البيضة بشق جلدها حتى يخلص من الشهوة.

٣٦٦

عن ذلك ، ثم رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب (١) إلى أجل ، ثم قرأ عبد الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٢).

وأخرج عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع ، قالا : خرج علينا منادي رسول الله فقال: إن رسول الله قد أذن لكم أن تستمتعوا ، يعني متعة النساء (٣).

وأخرج عن ابن جريج قال : قال عطاء : قدم جابر بن عبد الله معتمرا ، فجئناه في منزله ، فسأله القوم عن أشياء ، ثم ذكروا المتعة. فقال : نعم ، استمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر (٤).

وعن عبد الرزاق عن ابن جريج عن أبي الزبير قال :

سمعت جابر بن عبد الله يقول : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام ، على عهد رسول الله وأبي بكر ، حتى نهى عنه عمر ، في شأن عمرو بن حريث (٥).

وعن عاصم عن أبي نضرة ، قال : كنت عند جابر بن عبد الله ، فأتاه آت فقال : ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين ، فقال جابر : فعلناهما مع رسول الله ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما (٦).

وعن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه سبرة أنه قال : أذن لنا رسول الله بالمتعة ، فانطلقت أنا ورجل إلى امرأة من بني عامر ، كأنها بكرة عيطاء ، فعرضنا عليها أنفسنا ، فقالت : ما تعطي؟ فقلت : ردائي ، وقال صاحبي : ردائي ، وكان رداء صاحبي أجود من ردائي ، وكنت أشبّ منه ، فإذا نظرت إلى رداء صاحبي أعجبها ،

__________________

(١) المراد من قوله (تنكح المرأة بالثوب) إشارة إلى المهر مما تراضيا عليه.

(٢) صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٥ ح ١٤٠٤.

(٣) صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٦ حديث رقم ١٤٠٥ ـ ١٣ و ١٤ ، ومسند أحمد ج ٤ / ٥١.

(٤) صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٦ رقم الحديث ١٤٠٥ ـ ١٥.

(٥) صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٦ رقم الحديث ١٤٠٥ ـ ١٦.

(٦) صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٧ رقم الحديث ١٤٠٥ ـ ١٧ ـ ١٨ وفي بداية المجتهد لابن رشد ج ٢ / ٦٣ : ونصفا من خلافة عمر ثم نهى عنها عمر الناس.

٣٦٧

وإذا نظرت إليّ أعجبتها ، ثم قالت : أنت ورداؤك يكفيني ، فمكثت معها ثلاثا ، ثم إنّ رسول الله قال : «من كان عنده شيء من هذه النساء التي يتمتع فليخلّ سبيلها» (١).

وفي مسند الطيالسي عن مسلم القرشي قال :

دخلنا على أسماء بنت أبي بكر فسألناها عن متعة النساء ، فقالت : فعلناها على عهد النبيّ (٢).

وفي مصنّف عبد الرزاق : لقد كان أحدنا يستمتع بملء القدح سويقا (٣).

وروى الترمذي والبيهقي عن موسى بن عبيدة عن محمّد بن كعب عن ابن عبّاس أنه قال :

إنما كانت المتعة في أول الإسلام ، فكان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيزوّج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه حتى إذا نزلت الآية (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) ، قال ابن عبّاس : فكل فرج سوى هذين فهو حرام (٤).

وأخرج عن عطاء ، قال : قدم جابر بن عبد الله معتمرا فجئناه في منزله ، فسأله القوم عن أشياء ، ثم ذكروا المتعة ، فقال : نعم ، استمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر (٥).

وفي لفظ آخر لأحمد بن حنبل : «حتى إذا كان في آخر خلافة عمر» (٦).

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٨ رقم الحديث ١٤٠٦ ـ ١٩ و ٢٠ و ٢١ ، ومعنى «العيطاء» الطويلة العنق في اعتدال وحسن قوام.

(٢) الطيالسي : حديث ١٦٣٧.

(٣) المصنف لعبد الرزاق ج ٧ / ٤٥٨.

(٤) الترمذي ج ٥ / ٥٠ باب نكاح المتعة ، والبيهقي ج ٧ / ٢٠٥.

(٥) صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٦ ح ١٤٠٤ ـ ١٥.

(٦) مسند أحمد ج ٣ / ٣٨٠.

٣٦٨

وفي بداية المجتهد : ونصفا من خلافة عمر ثم نهى عنها عمر الناس (١).

وفي حديثين آخرين لمسلم في صحيحه : عن جابر قال : فعلناهما ـ أي المتعتين ـ مع رسول الله وأبي بكر ثم نهى عنهما عمر (٢).

وعن اياس بن سلمة عن أبيه ، قال : رخّص رسول عام أوطاس في المتعة ثلاثا ، ثم نهى عنها (٣).

وعن الربيع بن سبرة عن أبيه ، أنّ رسول الله نهى يوم الفتح ، عن نكاح المتعة (٤).

وعن ابن شهاب عن عبد الله والحسن ابني محمد بن عليّ عن أبيهما ، عن عليّ بن أبي طالب ، أن رسول الله نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية (٥).

وعن إبراهيم التيمي عن أبيه ، قال : قال أبو ذر رضي الله عنه : لا تصلح المتعتان إلّا لنا خاصة. يعني متعة النساء ومتعة الحج (٦).

وعن غنيم بن قيس ، قال : سألت سعد بن أبي وقّاص عن المتعة؟ فقال : فعلناها ، وهذا ـ أي معاوية بن أبي سفيان ـ كافر بالعرش ـ أي بيوت مكة ـ (٧).

من خلال هذا العرض الموجز للنصوص المتعلقة بالمتعة من مصادر القوم نحصل على طائفتين منها :

__________________

(١) بداية المجتهد ج ٢ / ٦٣.

(٢) صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٧ ح ١٦ ـ ١٧.

(٣) نفس المصدر ح ١٨.

(٤) صحيح مسلم ج ٩ / ١٦٠ ح ٢٤ كتاب النكاح.

(٥) نفس المصدر ح ٢٩ ـ ١٤٠٧ و ٣٠ و ٣١ و ٣٢.

(٦) صحيح مسلم ج ٨ / ١٦٦ ح ١٢٢٤ ـ ١٦٢.

(٧) صحيح مسلم ج ٨ / ١٦٦ ح ١٢٢٤ ـ ١٦٤.

٣٦٩

الأولى : تشير إلى أن التحريم صدر من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عدة مواقع كخيبر ومكة بعد عام اوطاس ، وفي بعض النصوص أن المتعتين مخصوصتان بأصحاب رسول الله دون غيرهم (١). وأغلب هذه النصوص تدل على إباحة المتعة في السفر.

الثانية : إلى أن النهي صدر من عمر بن الخطاب ، مع اعترافه أن المتعتين كانتا على عهد رسول الله واستنكار كثير من الصحابة عليه.

لذا دفعا لمحذور التناقض الحاصل بين هذه المرويات نسبوا تكرار النسخ في حكم واحد ، حتى ولو أدى هذا النسخ إلى التلاعب بالدين واضطراب المشرّع الإسلامي وعدم استقراره على حكم معيّن في واقعة واحدة.

وعلى فرض جواز تكرر النسخ في حكم واحد دفعا لتناقض الأحاديث ، فلا بدّ من القول بتكرر النسخ بعدد الأحاديث المتناقضة ، وعلى هذا فقد صحّ ما نقله القرطبي حيث قال :

«وقال غيره ـ أي ابن العربي ـ ممن جمع الأحاديث في المتعة ، أنها تقتضي التحليل والتحريم سبع مرات ، فروى ابن عمرة : أنها كانت في صدر الإسلام ، وروى سلمة بن الأكوع أنها كانت عام اوطاس ، ومن روايات على تحريمها يوم خيبر ، ومن رواية الربيع بن سبرة إباحتها يوم الفتح ، وهذه الطرق كلها في صحيح مسلم ، وفي غيره عن عليّ نهيه عنها في غزوة تبوك ، وفي سنن أبي داود عن الربيع بن سبرة النهي في حجة الوداع ، وذهب أبو داود إلى أن هذا أصح ما روي في ذلك ، وقال عمرو عن الحسن : ما حلت قبلها ولا بعدها ، وروى هنا في سبرة أيضا. فهذه سبعة مواطن أحلت فيها المتعة ثم حرّمت ..» (٢).

فالتزام العامة بصحة كل ما ورد في الكتب الموسومة بالصحة عندهم أدى إلى القول بنسخ حكم المتعة في الشرع مرات متعددة ، ولنعم ما قاله ابن القيّم في

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٨ / ١٦٦ ح ١٦٠ ـ ١٦١ ـ ١٦٢.

(٢) تفسير القرطبي ج ٥ / ١٣٠ ـ ١٣١.

٣٧٠

هذا الصدد : «وهذا النسخ ، لا عهد بمثله في الشريعة البتة ، ولا يقع مثله فيها» (١).

هذا مضافا إلى ما ذكرنا ، كيف تصح واحدة من تلك الروايات مع ما تواتر نقله عن عمر بن الخطّاب نفسه حيث قال : متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أنهى عنهما : متعة النساء ومتعة الحج ، فأما أن يعتقد العامة بهذه الرواية وأمثالها ويتركوا تلك الروايات المضطربة التي نسبت إلى رسول الله النسخ المتكرر ، وإما أن يكذّبوا بقية الصحابة الأجلّاء أمثال ابن عبّاس وجابر بن عبد الله والذين قالوا بحليتها وعدم نسخها وأنهم تمتعوا على عهد رسول الله وأبي بكر ونصف من خلافة عمر ، هذا بالغض عن أن أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام على رأس القائلين بعدم نسخها ، فهل يكذّب الإمام عليّ وجلة الصحابة حتى تلمّع صورة عمر بن الخطّاب؟!

كيف تصح واحدة من تلك الأحاديث ولم يسمع بها الخليفة عمر ولا أحد من الصحابة ولا التابعين حتى عصر ابن الزبير ، ولا كان عند أحد من المسلمين علم بإحدى تلك الروايات في كل تلك العصور وإلّا لأسعفوا بها عمر فاستشهد بها ، وأسعفوا بها عصبة الخلافة حتى عهد ابن الزبير فاستشهدوا بها ، في حين أن المعارضين أمثال ابن عبّاس وجابر وابن مسعود وغيرهم كانوا يجبونهم بسنّة الرسول ، ويستشهد بعضهم الآخر على ذلك فيسألون أسماء أم ابن الزبير ، ويقول الإمام عليّ وابن عبّاس لو لا نهي عمر لما زنى إلّا شقي ، وفي كل تلك الموارد لم يقل أحد بأن الرسول نهى عن متعة النساء.

أجل ، إن تلكم الأحاديث وضعت احتسابا للخير وتأييدا لموقف عمر بن الخطاب ودفعا للقالة عنه ، كما وضعت أحاديث الأمر بإفراد الحج والنهي عن العمرة احتسابا للخير ودفعا للقالة عنه.

عرفنا مما تقدم عدم صحة تلك الروايات الدالة على النسخ وسوف يأتي مزيد

__________________

(١) زاد المعاد ج ٢ / ٢٠٤.

٣٧١

نقض عليها ، ولكن يتساءل المرء عن سبب نهي عمر بن الخطّاب عن المتعتين ، هل كان بداعي الإصلاح أم وراء الأكمة ما وراءها؟!

إن الخلفية الذهنية التي انطلق منها عمر بن الخطّاب ، هي خلفية عشائرية حملها معه قبل الإسلام ، تلزم الباحث بالوقوف بوجه أفكاره الجاهلية ، وبالإذعان بشدة العصبية التي كان يتصف بها الرجل المذكور ، فعند ما أطلق تحريمه للمتعتين كغيرها من الموارد التي حرّمها على المسلمين ، كان يروم من خلاله تقويض مبادي الإسلام ، وهل يملك الصلاحية التشريعية لكي يحرّم ما أحلّه الله؟! لا أحد يملك صلاحية كهذه ، لأن الله وحده هو المشرّع ، فلا حكم إلا له ، ولا راد لقضائه ولا سلطان إلّا سلطانه ، وكيف يتجرأ على الله سبحانه بقوله : متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أحرّمهما وأعاقب عليهما؟!

إن ما ذهب إليه عمر ينمّ عن انعدام الثقة بالله وبرسوله بل وانعدام الإيمان بهما ، هذا مضافا إلى سيطرة المشاعر الجاهلية على قلبه وعقله ، فلم يكن تحريمه لهما غيرة على الدين ـ كما يحاول البعض إلصاقها به ـ لأن الغيرة لا تستتبع أن يحرّم ما أحلّ الله ، وهل هناك أحد أشدّ غيرة على الدين من الله ورسوله وآل رسوله؟! وهل الغيرة أن يحرّم المرء ما أحلّ الله ورسوله؟!

قد يقال : إن تحريم عمر لمتعة النساء كان نتيجة خلل حصل من سوء الاستفادة منها كما أومأ لذلك صاحب الإصابة «من أن سلمة بن أمية استمتع من سلمى مولاة حكيم بن أمية بن الأوقص الأسلمي فولدت له فجحد ولدها ، فبلغ ذلك عمر فنهى عن المتعة».

والجواب : لا ملازمة بين معالجة الخلل وبين تحريم المتعة ، فبدلا من التحريم ، كان عليه التقويم والتنظيم ، بمعنى أنه كان عليه أن ينظّم العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة من خلال العقد المنقطع ، لا أنه يحرّم ويعاقب فاعلها ، وإلّا على هذا الأساس كان عليه أن يحرّم أغلب الأوامر الإسلامية نتيجة سوء الاستفادة

٣٧٢

منها ، فالعيب ليس في حكم المتعة وإنما في بعض الأفراد الذين أساءوا الاستفادة منها ، وإذا تنصّل الزوج من ولده بالمتعة ، فليس معناه أن النقص فيها ، وإنما في متعلقها أعني الزوج المنكر لولده من المتعة.

وهل حصل خلل في متعة الحج حتى حرّمها عمر قياسا على الخلل الحاصل بنظره في متعة النساء؟! وما هذه الفطانة التي كان يتحلّى بها عمر دون بقية أكابر الصحابة لا سيّما أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام؟!

إنّ مقتضى ما دلت عليه النصوص الواردة عن عمر أنه حرّمها لما بلغه أن نساء تمتعنّ فحبلن ، لكنّ الحقيقة غير ما تظاهر به عمر ، لأن واقعه وباطنه هو عدم الاعتقاد بالمتعة كحكم تشريعي هبط به الوحي على قلب خاتم الرسل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من هنا أراد أن يقلب الموازين الشرعية بتغيير الحلال إلى حرام ليرجع الناس عن دين الله تعالى ، وإلّا لم منع من تدوين الأحاديث الصادرة عن النبيّ بل هدّد بالنفي والضرب كل من أراد بثها ونشرها (١) بين المسلمين!!

فقد ورد في صحيح مسلم وغيره من كتب القوم ، واللفظ لمسلم عن جابر بن عبد الله قال : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام ، على عهد رسول الله وأبي بكر ، حتى نهى عنه عمر ، في شأن عمرو بن حريث.

وفي لفظ المصنّف لعبد الرزاق عن عطاء عن جابر :

استمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر ، حتى إذا كان في آخر خلافة عمر استمتع عمرو بن حريث بامرأة ـ سمّاها جابر فنسيتها ـ فحملت المرأة فبلغ ذلك عمر فدعاها فسألها ، فقالت : نعم ، قال : من أشهد؟ قال عطاء : لا أدري ، قالت : أمي ، أم وليّها ، قال : فهلّا غيّرهما ، قال : خشي أن يكون دغلا (٢).

وفي رواية أخرى قال جابر : قدم عمرو بن حريث من الكوفة فاستمتع بمولاة

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ / ٤٧٣ حوادث عام ٢٣.

(٢) المصنف لعبد الرزاق ج ٧ / ٤٩٦ باب المتعة.

٣٧٣

فأتي بها عمر وهي حبلى فسألها ، فقالت : استمتع بي عمرو بن حريث ، فسأله فأخبره بذلك أمرا ظاهرا ، قال : فهلّا غيّرها ، فذلك حين نهى عنها (١).

إن قيل : إنّ عمر لم يحرّم متعة النساء وإنما هدّد من تمتّع من دون شهود عدول كما يوحي إليه بعض الأخبار منها خبر عمرو بن حريث السابق.

قلنا :

إن عمر تدرّج في تحريمه للمتعة بدءا بالتشديد في أمر شهود نكاح المتعة ، وطلب أن يشهده عدول المؤمنين كما يظهر من خبر محمّد بن الأسود بن خلف : «أن عمرو بن حريث استمتع بجارية فحملت منه ، فذكر ذلك لعمر فسألها ، فقالت : استمتع مني عمرو بن حريث فسأله فاعترف ، فقال عمر : من أشهدت؟ قال : أمها أو أختها أو أخاها وأمها ، فقام عمر على المنبر فقال : ما بال رجال يعملون بالمتعة ولا يشهدون عدولا ..» (٢) ثم نهيه عنه بتاتا حتى قال : «لو تقدّمت في نهي لرجمت» (٣).

وبعد هذا أصبح نكاح المتعة محرّما في المجتمع الإسلامي ، وبقي عمر مصرّا على رأيه إلى آخر عهده لم يؤثر فيه نصح الناصحين ، ولمّا أشكل عليه عمران بن سواد بقوله : «ذكروا أنك حرّمت متعة النساء وقد كانت رخصة من الله نستمتع بقبضة ونفارق عن ثلاث.

أجاب عمر : إن رسول الله أحلّها في زمان ضرورة ثم رجع الناس إلى سعة ثم لم أعلم أحدا من المسلمين عمل بها ولا عاد إليها ، فالآن من شاء نكح بقبضة وفارق عن ثلاث بطلاق وقد أصبت ..» (٤).

__________________

(١) المصنف لعبد الرزاق ج ٧ / ٥٠٠ ، وفتح الباري ج ١١ / ٧٦.

(٢) المصنف لعبد الرزاق ج ٧ / ٥٠٠.

(٣) كنز العمال ج ٨ / ٢٩٤ ، ط / دائرة المعارف ، حيدرآباد ـ دكن سنة ١٣١٢ ه‍.

(٤) تاريخ الطبري ج ٣ / ٢٩٠ حوادث عام ٩٣ في باب شيء من سيره.

٣٧٤

يرد على اعتذاره في تحريم المتعة من أن عهده يختلف عن عهد رسول الله من حيث ضرورة المتعة فيه دون غيره ، بأن جلّ الروايات التي صرّحت بوقوعها في عصر رسول الله وبإذن منه ذكرت أنها كانت في الغزوات وحال السفر ، بل صريح بعضها (١) ـ وهو يفوق حد الاستفاضة ـ عدم دخالة السفر في جوازها بل الحاجة والضرورة ، ولا فرق في ذلك بين عهد رسول الله وعهد أبي بكر وعمر إلى زماننا الحاضر وإلى أبد الدهر.

فإن الإنسان لم يزل منذ أن وجد على ظهر هذا الكوكب ولا يزال بحاجة إلى السفر والاغتراب عن أهله أسابيع وشهورا ، بل وسنين طويلة أحيانا ، فإذا سافر الرجل ما ذا يصنع بغريزة الجنس في نفسه؟ هل يتركها عند أهله حتى إذا عاد إليهم عادت غريزته ليصرفها مع زوجه؟

أم أنها معه لا تفارقه في السفر والحضر؟ وإذا كانت غريزته غير مفارقة له فهل يستطيع أن يتنكر لها في السفر ويستعصم؟

وإذا كان الشاذ النادر في البشر يستطيع أن يستعصم فهل الجميع يستطيعون ذلك أم أن الغالب منهم تقهره غريزته؟

وهذا الصنف الكثير من البشر إذا طغت عليه غريزته في المجتمع الذي يمنعه من التصرف في غريزته ويطلب منه أن يخالف فطرته وما تقتضيه طبيعته ما ذا يفعل عند ذاك؟ وهل له سبيل غير أن يخون ذلك المجتمع؟!

والإسلام الذي وضع حلا مناسبا لكل مشكلة من مشاكل الإنسان هل ترك هذه المشكلة بلا حل؟! لا ، بل شرّع لحل هذه المشكلة : الزواج المؤقت ولو لا نهي عمر عنها ما زنى إلا شقي (أو شفى (٢)) على حد تعبير مولى المؤمنين عليّ بن

__________________

(١) لاحظ صحيح مسلم ج ٩ / ١٥٦ ـ ١٥٧ ح ١٤ ـ ١٥ ـ ١٦ ـ ١٧.

(٢) في بعض الروايات ، والمراد من «شفى» القليل من الناس.

٣٧٥

أبي طالب عليه‌السلام ؛ أما المجتمعات البشرية فقد وضعت لها حلا بتحليل الزنا في كل مكان.

ولا يقتصر الأمر في ما ذكرنا على من يسافر من وطنه ، فللبشر كثير من الحالات في وطنه تمنعه من الزواج الدائم أحيانا سواء في ذلك الرجل والمرأة ، فما يصنع إنسان لم يتمكّن من الزواج الدائم سنين كثيرة من عمره في وطنه أن لم يلتجئ إلى الزواج المؤقت؟ ما ذا يصنع هذا الإنسان ، والقرآن يقول له (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) (١) ويقول لها : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) (٢)؟!

أمّا ما ذكره عمر بن الخطّاب خليفة أبي بكر ، في مقام العلاج من تبديل نكاح المتعة بالنكاح الدائم على أن يفارق عن ثلاث بالطلاق ، فالأمر ينحصر فيه بين أمرين لا ثالث لهما :

إمّا أن يقع ذلك بعلم من الزوجين وتراض بينهما فهو الزواج الموقت أو نكاح المتعة بعينه.

وإمّا أن يقع بتبييت نية من الزوج مع إخفائه عن الزوجة فهو غدر بالمرأة واستهانة بها بعد أن اتفقا على النكاح الدائم وأخفى المرء في نفسه نية الفراق بعد ثلاث ، وكيف يبقى اعتماد للمرأة وذويها على عقد الزواج الدائم مع هذا؟

وزبدة المخض :

إن كل تلك الروايات التي رويت عن رسول الله في تحريمه المتعتين ونهيه عنهما والتي حفلت بتدوينها أمهات كتب الحديث والتفسير وضعت بعد عصر عمر ، والشاهد عليه ، أن واحدا من الصحابة على عهد عمر لو كانت عنده رواية عن رسول الله تؤيد سياسة الخليفة في المتعتين والتي كان يجهر بها ويهدد على مخالفتها بقوله (وأعاقب عليها) لو كان واحد من الصحابة على عهده عنده من

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٣٥.

(٢) سورة النساء : ٢٥.

٣٧٦

رسول الله شيء يؤيد هذه السياسة لما احتاج إلى كتمانها عن الخليفة ولنشرها ، ولو كان الخليفة في كل تلك المدة قد اطلع على شيء يؤيد سياسته لاستشهد به ولما احتاج إلى كل هذا العنف بالمسلمين.

وهكذا انتهى عهد عمر بن الخطّاب ، بعد أن كبت المعارضين لسياسة حكمه وكتم أنفاسهم ومنعهم حتى من نقل الحديث عن رسول الله ، واستمر الأمر على ذلك إلى ست سنوات من خلافة عثمان ، وانتشر الأمر متدرجا بعد ذلك فنشأ جيل جديد لا يعرف من الإسلام إلا ما سمحت سياسة الخلافة بنشره وبيانه.

متعة الحج :

وأما متعة الحج التي حرّمها عمر بن الخطّاب فهي الفترة الواقعة بين العمرة وحج التمتع ، وانعقد الإجماع على حلية متعة الحج واستمرارها ودوامها عدا فريق من المسلمين لم يعملوا إلّا برأي سيّدهم عمر فحرّموها طبقا لتحريم عمر لها ، فخالفوا سنّة رسول الله واتّبعوا بدعة عمر.

وقد عيّنت النصوص التاريخية متعة الحج التي لم يتقبّلها عمر ، وأراد من خلال تحريمه للمتعة في أشهر الحج أن يرفع من البنية الاقتصادية في مكة لأن المتعة هي أن يأتي المكلف بالعمرة ثم يحل من إحرامه ، فيحلّ له كل ما حرم عليه ثم يأتي بإحرام جديد لحج التمتع ، فكان هدف عمر أن يفصل بين العمرة وحج التمتع ، فتكون الأولى في غير أشهر الحج لئلا تبقى مكة خالية من الحجيج ، وقد أشار عمر بن الخطّاب إلى هذا في عدة مواطن نذكر بعضا منها :

١ ـ عن الأسود بن يزيد قال :

بينا أنا واقف مع عمر بن الخطّاب بعرفة عشية عرفة فإذا هو برجل مرجّل شعره يفوح منه ريح الطيب ، فقال له عمر : أمحرم أنت؟ قال : نعم ، فقال عمر : ما هيئتك بهيئة محرم ، إنما المحرم الأشعث الأغبر الأذفر ، قال : إني قدمت متمتعا وكان معي أهلي ، وإنما أحرمت اليوم ، فقال عمر عند ذلك : لا تتمتعوا في هذه

٣٧٧

الأيام فإني لو رخّصت في المتعة لهم لعرّسوا بهنّ في الأراك ثم راحوا بهن حجاجا (١).

قال ابن القيم : قال ابن حزم ـ معلّقا على الخبر ـ : وكان ما ذا؟ وحبّذا ذلك وقد طاف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على نسائه ثم أصبح محرما ولا خلاف أن الوطء مباح قبل الإحرام بطرفة عين ، والله أعلم.

٢ ـ وعن أبي حنيفة عن حمّاد عن ابراهيم عن عمر بن الخطّاب : أنه بينا هو واقف بعرفات إذ أبصر رجلا يقطر رأسه طيبا ، فقال له عمر : ألست محرما؟ ويحك! فقال : بلى يا أمير المؤمنين ، قال : ما لي أراك يقطر رأسك طيبا ، والمحرم أشعث أغبر ، قال : أهللت بالعمرة المفردة وقدمت مكة ومعي أهلي ففرغت من عمرتي ، حتى إذا كان عشية التروية أهللت بالحج ، قال : فرأى عمر أن الرجل قد صدّقه إنّما عهده بالنساء والطيب بالأمس ، فنهى عمر عند ذلك عن المتعة وقال : إذا والله لأوشكتم لو خلّيت بينكم وبين المتعة أن تضاجعوهن تحت أراك عرفة ثم تروحون حجّاجا (٢).

٣ ـ عن عبد الله بن عمر قال : إنّ عمر بن الخطّاب قال : افصلوا بين حجّكم وعمرتكم ، فإنّ ذلك أتمّ لحجّ أحدكم ، وأتمّ لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج (٣).

٤ ـ عن سعيد بن المسيّب :

أن عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في أشهر الحج وقال : فعلتها مع رسول الله وأنا أنهي عنها ، وذلك أن أحدكم يأتي من أفق من الآفاق شعثا نصبا معتمرا في أشهر الحج ، وإنما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ، ثم يقدم فيطوف بالبيت ويحلّ

__________________

(١) زاد المعاد / ابن القيم ج ١ / ٢١٤.

(٢) المتعة للفكيكي ص ١٤٠ نقلا عن كتاب الآثار ص ٩٧.

(٣) موطأ مالك ص ٢٣٨ ، سنن البيهقي ج ٥ / ٥ ، تيسير الوصول ج ١ / ٢٧٩ ، والدر المنثور في ذيل آية ١٩٦ من سورة البقرة.

٣٧٨

ويلبس ويتطيّب ويقع على أهله إن كانوا معه ، حتى إذا كان يوم التروية أهلّ بالحج وخرج إلى من يلبي بحجة لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلا يوما ، والحجّ أفضل من العمرة ، لو خلينا بينهم وبين هذا لعانقوهنّ تحت الأراك ، مع أن أهل البيت (١) ليس لهم ضرع ولا زرع وإنما ربيعهم فيمن يطرأ عليهم (٢).

٤ ـ وعن أبي موسى : أن عمر قال : هي سنّة رسول الله ـ يعني المتعة ـ ولكنّي أخشى أن يعرّسوا بهنّ تحت الأراك ، ثم يروحوا بهن حجّاجا (٣).

٥ ـ وعن ابن عبّاس : قال لمن كان يعارضه في متعة الحج بأبي بكر وعمر : يوشك أن ينزل عليكم حجارة من السماء ، أقول قال رسول الله وتقولون قال أبو بكر وعمر (٤).

وهكذا حدّث الرواة عن حال عمر وبعض الصحابة الذين لم يكونوا على استعداد لتلقي حكما يخالف ما دأبوا عليه في العصر الجاهلي حيث كانوا يرون المتعة في أشهر الحج من أفجر الفجور ، فقد ورد عن ابن عبّاس أنه قال : إن المشركين في الجاهلية كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، ويجعلون المحرّم صفر ، ويقولون : إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر ، حلّت العمرة لمن اعتمر ، فقدم النبيّ وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا : يا رسول الله أي الحلّ؟ قال : الحلّ كله (٥).

__________________

(١) يقصد أهل مكة.

(٢) المتعة للفكيكي ص ١٤٢ نقلا عن السيوطي في جمع الجوامع.

(٣) مسند أحمد ج ١ / ٤٩.

(٤) زاد المعاد لابن القيم ج ١ / ٢١٥ وهامش شرح المواهب ج ٢ / ٣٢٨.

(٥) صحيح مسلم ج ٨ / ١٨٣ ح ١٢٤٠ باب جواز العمرة في أشهر الحج ، وصحيح البخاري ج ٢ / ٤٨٥ ح ١٥٦٤ ومسند أحمد ج ١ / ٢٤٩ وسنن أبي داود ، كتاب المناسك ـ باب العمرة ، والنسائي : كتاب الحج ، وسنن البيهقي ج ٤ / ٣٤٥ ومشكل الآثار للطحاوي ج ٣ / ١٥٥.

٣٧٩

ملاحظة :

المراد من قوله «ويجعلون المحرّم صفر» هو الإخبار عن النسيء الذي كانوا يفعلونه ، وكانوا يسمّون المحرم صفرا ويحلّونه وينسئون المحرم أي يؤخرون تحريمه إلى ما بعد صفر ، لئلا يتوالى بينهم ثلاثة أشهر محرّمة تضيق عليهم أمورهم من الغارة وغيرها.

وأما قوله «إذا برأ الدبر» أي برأ ما كان يحصل بظهور الإبل من الحمل عليها ومشقة السفر فإنه كان يبرأ بعد انصرافهم من الحج.

«وعفا الأثر» أي اندرس أثر الإبل وغيره في سيرها.

قال ابن حجر في تعليل هذا الأمر :

وجه تعلق جواز الاعتماد بانسلاخ صفر مع كونه ليس من أشهر الحج ، وكذلك المحرّم أنهم لمّا جعلوا المحرّم صفرا ولا يبرأ دبر إبلهم إلا عند انسلاخه ، ألحقوه بأشهر الحج على طريق التبعية ، وجعلوا أول أشهر الاعتمار شهر المحرّم الذي هو في الأصل صفر ، والعمرة عندهم في أشهر الحج(١).

كان هذا دأب قريش وسنتهم في العمرة وقد خالفهم الرسول في ذلك فقد روي عن الصحابي عمران بن الحصين قال :

تمتعنا على عهد رسول الله ونزل القرآن ، وقال رجل برأيه ما شاء (٢).

وحسب رواية مسلم عن عمران بن الحصين قال المطرّف :

إني لأحدّثك بالحديث اليوم ، ينفعك الله به بعد اليوم ، واعلم أن رسول الله قد اعمر طائفة من أهله في العشر ، فلم تنزل آية تنسخ ذلك ، ولم ينه عنه حتى

__________________

(١) راجع شرح الحديث بشرح النووي على مسلم وشرح ابن حجر بفتح الباري.

(٢) صحيح البخاري ج ٢ / ٤٨٧ ح ١٥٧١.

٣٨٠