أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

ولم يكن فعله ، ليثبتوا صحة مقالة عمر بن الخطاب ، لا دليل عليها ولا برهان ، بل هي افتراء وبهتان عليه صلوات الله عليه وآله ، لكون السحر لا يؤثّر في جسده المبارك حيث من فاضل طينته خلق الله النبيين والأولياء والمرسلين والشيعة من الملائكة والمؤمنين ، فمن كان هذا حاله كيف يؤثر فيه السحر ، علاوة على عقله وروحه الذي من أجله أثاب وعاقب. وهل يؤمن على الرسالة من أثّر فيه السحر والشعوذة؟!

وعلى فرض أنّ السحر أثّر في جسده المبارك ـ وفرض المحال ليس محالا ـ فهل يؤثّر على أقواله وأفعاله؟

إن قلنا إنه يؤثّر ، لصار تابعا غير متبوع وبطل حينئذ كونه قدوة وأسوة حسنة ، وخلاف قوله تعالى (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (١) (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٢).

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (٣).

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٤).

ثانيا : إنّ ما ذكره النّووي وأمثاله «من الاعتلال بأنّ عمر بن الخطاب لشدة فقاهته ودقة نظره رأى أن الأوفق بالأمة ترك البيان ، ليكون المخطئ مأجورا ، وأنه خشي من أن يكتب الرسول أمورا يعجزون عنها ، فيستحقون العقوبة بعصيانهم لها» مردود جملة وتفصيلا وذلك :

__________________

(١) سورة الحشر : ٧.

(٢) سورة النساء : ٥٩.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٦.

(٤) سورة النساء : ٦٥.

٣٢١

١ ـ إن دعواه تلك تستلزم أن يكون عمر بن الخطاب أفقه وأعلم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن النبيّ أراد أن يكتب فمنعه عمر لمصلحة الإشفاق على الأمة ، وهذا هو الفسق بعينه والخروج عن ربقة الإيمان ، لأن هذا الكلام يعدّ ردا على الله عزوجل القائل :

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (١).

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٢).

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٣).

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (٤).

٢ ـ إن دعوى النّووي تلك تجيز الناس منع الرسول عن تبليغ الأحكام ، وكان الأحرى أن لا يبعث الله الرسل إلى الخلق ويكلّفهم بالتكاليف الشاقة واحتمال العذاب في تبليغ الأحكام ، ويترك الناس حتى يجتهدوا فيحصلوا على الأجر نتيجة اجتهادهم ، وهذا خلاف ما قامت عليه الضرورة وشهد به الوجدان من أن الاجتهاد متعسر على عامة الأفراد ، وعليه فإن تعذّر الاجتهاد وتعسّر على عامة الأفراد فلا أجر حينئذ لكونه ـ أي الأجر ـ يدور مدار الاجتهاد ، وهذا عكس ما دلت عليه النصوص القرآنية والنبوية من أن الأجر على النية الحسنة والعمل الصالح.

هذا مضافا إلى أن تحمّل النبيّ للمشاق في هداية الأمة أعظم وأشد من تسطير الكتاب الذي لم يكن مبدأه ، فكيف لم يشفق عمر على النبيّ في شيء من

__________________

(١) سورة المائدة : ٤٤.

(٢) سورة النساء : ٦٥.

(٣) سورة النساء : ٨٠.

(٤) سورة النساء : ١١٥.

٣٢٢

المواضع إلّا فيما فهم أن المراد تأكيد النص على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام؟ كما لا ريب أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أشفق على نفسه وأعلم بحاله من عمر بن الخطاب ، قال تعالى :

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١).

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (٢).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٣).

وأما الخوف من أن يكتب أمرا يعجز الناس عنه ، فلو أريد به الخوف من أن يكلّفهم فوق الطاعة ، فقد ظهر له ولغيره بدلالة العقل قوله تعالى :

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٤) وبغيره من الأدلة النقلية أن رسول الله لا يكلّف أمته إلّا دون طاقتهم.

ولو أريد الخوف من تكليفهم بما فيه مشقة ، فلم لم يمنع عمر وغيره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن فرض الحج والجهاد والصيام؟!

يرى عمر بحسب هذا الفهم أن كثيرا من الناس يعصون الله ورسوله في الأوامر الشاقة ، وعليه فإنه أراد أن يخفّف عن الأمة فغيّر وبدّل في أحكام الله وفرائضه ، فحرّم المتعتين وحيّ على خير العمل وغيرها من الأحكام تسهيلا على الأفراد ورفعا للمشقة عن أنفسهم ، وكأنه أرأف بهذه الأمة من الله ورسوله وأعرف

__________________

(١) سورة التوبة : ١٢٨.

(٢) سورة الحجرات : ٧.

(٣) سورة الحجرات : ٢.

(٤) سورة البقرة : ٢٨٦.

٣٢٣

بدينه منهما ، وصدق عزوجل حيث قال : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١).

وأما المشقة البالغة التي تعدّ في العرف حرجا وضيقا وإن كان دون الطاقة ، فقد نفاه الله تعالى بقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٢).

وعن مولانا الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إن الله تبارك وتعالى أعطى محمدا شرائع نوح .. والفطرة الحنيفية السمحة» (٣) ولا بدّ لكل عاقل أن يسأل ؛ كيف فهم عمر بن الخطاب من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي» أنه أراد أن يكتب لهم ما يعجزون عن القيام به؟! وأي ملازمة بين هذا الاعتذار وبين قوله «أنه قد غلبه الوجع» أو أنه ليهجر؟!! وهل يجوّز عاقل أن ينطق بمثل هذا الكلام في مقام تصويب رأي من وصفه الله سبحانه بالخلق العظيم ، وبعثه رحمة للعالمين؟!

وأما ما ذكره من أن عمر علم أنه تعالى أكمل دينه فأمن الضلال على الأمة لقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فيرد عليه أيضا :

أنه لو كان المراد بكمال الدين ما فهمه عمر للزم استغناء الناس عن الرسول ، وعدم احتياجهم إليه بعد نزول الآية في حكم من الأحكام ، ومفاد الآية تماما كوصيته (عليه وآله أفضل التحية والسلام) بالتمسك بالكتاب والعترة ، حيث لا دلالة فيه على أنه لم يبق أمر مهم للأمة أصلا حتى تكون الكتابة التي أرادها النبيّ لغوا وعبثا ، ويصح منعه عنها ، وقد كان المراد من الكتابة تأكيد الأمر باتّباع الكتاب والعترة الطاهرة الحافظة له ، والعالمة بما فيه على وجهه ، خوفا من ترك الأمة الاعتصام بهما ، فيتورّطون في أودية الهلاك ، ويضلوا كما فعل كثير منهم وضلوا عن سواء السبيل.

__________________

(١) سورة الحجرات : ١٦.

(٢) سورة البقرة : ١٨٥.

(٣) أصول الكافي ج ٢ / ١٧ ح ١.

٣٢٤

ولو فرضنا أن مراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أمرا وراء ذلك ، فليس هذا الاعتذار إلّا التزاما للمفسدة وقولا بأن النبيّ حاول أن يكتب عبثا لا فائدة فيه أصلا ، وكان قوله «لا تضلوا بعده أبدا» هجرا من القول وهذيانا محضا ، ولو كانت الوصاية بالعترة كافية فلم لم يتمسك عمر بعد النبيّ بها ، ولا رآهم أهلا للخلافة ولا للمشورة فيها ، فترك الرسول والعترة عليهم‌السلام وسارع إلى سقيفة بني ساعدة لعقد الخلافة لأبي بكر؟!

ثالثا : لقد ادّعى النّووي أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر ثم ترك ذلك اعتمادا على ما علمه من تقدير الله ذلك.

لكنه مرفوض وذلك لأنه :

لو كان ما ذكره النووي صحيحا فلم قال عمر «حسبنا كتاب الله» في حين أن عمر نفسه خطط لاستلام أبي بكر الخلافة ، بل يمكننا القول إن عمر هو الرأس المدبّر لذلك (١) ، من هنا أفصح أمير المؤمنين عن هوية تحرّك عمر لأخذ البيعة لأبي بكر من جموع الصحابة ، فقال عمر بن الخطاب للإمام علي عليه‌السلام : «إنك لست متروكا حتى تبايع ، فقال عليه‌السلام :

احلب حلبا لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا ، ثم قال : والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه» (٢).

فمن يجرّ الأمر لنفسه لا يرفض أمر النبيّ بكتابة الكتاب ، ثم أنه نفسه النووي يروي أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استخلف أبا بكر على الأمة عند ما قدّمه في الصلاة ، ومعناه أن المسلمين ـ بحسب هذا الادّعاء الموهوم ـ كانوا على علم تام بأن أبا بكر هو الخليفة ، فعلام إذا الخلاف عليه بعد وفاة النبي؟ ولما ذا منعوا النبيّ من تسطير الكتاب ليؤكد على خلافة أبي بكر؟!!

__________________

(١) قال ابن أبي الحديد في الشرح ج ١ / ١٣٥ : أن عمر هو الذي شيّد بيعة أبي بكر ووقم المخالفين فيها ..

(٢) الإمامة والسياسة ص ٢٩ فصل تخلّف سعد بن عبادة عن البيعة.

٣٢٥

شبهات وردود

الشبهة الأولى :

المراد من الهجر هو الإنكار على من قال : [لا تكتبوا أي لا تتركوا أمر رسول الله وتجعلوه كأمر من هجر في كلامه .. وكذا قول عمر «رض» : حسبنا كتاب الله رد على من نازعه لا على أمر النبيّ صلّى الله عليه] (١).

أو يحمل قول عمر بن الخطاب «اهجر» «أيهجر» على الدهشة والحيرة لعظم ما شاهد من حال الرسول وشدة وجعه ، فأجري الهجر مجرى شدة الوجع ، لا أنه اعتقد جواز الهجر عليه بمعنى الهذيان أو الغلط. أورد هذه الشبهة العيّاض المالكي في كتابه الشفاء.

والجواب :

أولا : ما تأوّله القاضي عيّاض ليس إلّا تمحّلا واضحا بحاجة إلى قرينة صارفة وهي مفقودة هنا ، بل دلت القرائن الخارجية على أن عمر هو القائل لا غيره ، منها تخلّفهم عن جيش أسامة وقد لعنهم الرسول بسبب ذلك ، ومنها ظلمهم للصدّيقة الطاهرة من أجل الاستيلاء على الخلافة ، كل ذلك يشير إلى أن القائل هو عمر ، ولو كان سواه لوجب على عمر أن يلبّي أمر رسول الله بإحضار الدواة والكتف ليكتب النبيّ ما أراده ، فعدم إحضاره للدواة أو عدم استنكاره ـ على أقل تقدير ـ على من حال بين النبيّ وبين كتابة الكتاب يستلزم القول بتفرده بتلك المقالة القبيحة تشكيكا برسول الله وبما سيئول إليه الكتاب ، ولو لم يكن هو القائل ـ أي عمر ـ لكان أحضر الكتاب ليفضح من استنكر على رسول الله أمره بإحضار الدواة.

ثانيا : سواء حملنا «الهجر» على الدهشة والحيرة من قائله أو على نحو الاستفهام فإن المعنى واحد وهو نسبة الهذيان ، وقد اعترف بذلك ابن حجر مع

__________________

(١) شرح النّووي على صحيح مسلم ج ١١ / ٧٨.

٣٢٦

شدة تعصّبه في مقدمة شرحه لصحيح البخاري.

وما رواه البخاري في باب العلم صريح في أنّ عمر نسب إلى النبيّ أنه قد غلبه الوجع ، ومعناه : لا يلزمنا إجابته في إحضار الكتاب لأنه يهذي». وعبارة «ما له أهجر استفهموه» هي نفس عبارة «قد غلبه الوجع» فمفاد العبارتين واحد ، ومعلوم من سياق الأخبار : أن اللّغط والاختلاف لم يحصلا إلّا من قول عمر ، وإنّ ترك النبيّ الكتابة إمّا أن يكون من جهته لكون عمر آذى النبيّ وأغاظه ، وإمّا لأنهم منعوا من إحضار الدواة ، وكلاهما يشكّلان علة تامة في عدم الكتابة.

ودعوى الاعتذار بأنّه صدر منه هذا الكلام من الدهشة تعتبر باطلة ، لأنه لو كان كذلك لكان يلزمه أن يتدارك ذلك بما يظهر للناس أنه لا يستخف بشأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا مضافا إلى أن عمر لو كان في هذه الدرجة من المحبة له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث يضطرب بسماع ما هو مظنّة وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى حدّ يختل نظام كلامه ، لكان حاله أشد اضطرابا بعد تحقق الوفاة ، ولو كان كذلك لم يبادر إلى السقيفة قبل تجهيزه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغسله ودفنه ، ولو سلم ذلك فهو لا ينفعه لأن مناط اللعن مخالفة أمر الرسول وممانعته فيما يوجب صلاح عامة المسلمين إلى يوم القيامة.

الشبهة الثانية :

أن عمر ونظائره فهموا أنّ أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإحضار ما طلب كان راجعا إلى اختيارهم أي فهموا منه الندب أو الإباحة ولم يستظهروا منه الوجوب.

يرد عليه :

إنه ظاهر الفساد ، وذلك لأن الأمر ظاهر في الوجوب كما حرّر في علم الأصول ، ويشهد له أنه قد اقترن به في المقام ما يمنع من أن يراد به الندب والإباحة ، فإنّ النبيّ علّل الكتاب بأن لا يضلّوا بعده ، والظاهر أن الأمر الذي يكون في تركه ضلال الأمة لا يكون مباحا ولا مندوبا ، وليس مناط الوجوب إلّا قوة المصلحة في الفعل وشدة المفسدة في الترك ، وقد علّل من منع الإحضار بأنه يهجر

٣٢٧

أو أنه قد غلبه الوجع ، وظاهر هذا الكلام عدم ارتباطه بمفهوم الإباحة أو الندب ، ويؤيده قول ابن عبّاس مع اعتراف الجمهور له بجودة الفهم وإصابة النظر : إن الرّزيّة كلّ الرزية ما حال بين رسول الله وبين الكتابة.

وهل يسمّى فوت أمر مباح أو مندوب رزية كلّ الرزيّة ، ويبكي عليه حتى بلّ دمعه الحصى ، ولا ينكر من له أدنى ألفة بكلام العرب ، أنهم يكتفون في فهم المعاني المجازية ونفي المعاني الحقيقية بقرائن أخفى من هذا ، فكيف بالمعنى الحقيقي إذا اقترن بمثل تلك القرينة؟!

على أن اشتغال الرسول [في حال المرض وشدة الوجع ودنو الرحيل ، وفراق الأمة التي بعثه الله تعالى بشيرا ونذيرا لهم] بكتابة ما كان نسبة الخير والشر إليه على حد سواء حتى يكون ردّه وقبوله مفوّضا إليهم وراجعا إلى اختيارهم ، مما لا يقول به إلّا من بلغ الغاية في السفه.

وإن كان على وجه الندب فظاهر أن ردّ ما استحسنه الرسول وحكم به ولو على وجه الندب ، وظنّ أن الصواب في خلافه وعدّه من الهذيان ، تقبيح قبيح لرأي من لا ينطق عن الهوى ، وتجهيل وتضليل لمن لا يضلّ ولا يغوى ، وليس كلامه إلا وحيا يوحى ، وهو في معنى الردّ على الله سبحانه ، وعلى حدّ الشرك بالله ، ولعلّ المجوّزين للاجتهاد في مقابل النص ولو على وجه الاستحباب لا يقولون بجواز الردّ عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذا الوجه المشتمل على إساءة الأدب وتسفيه الرأي.

الشهبة الثالثة :

لو سلّمنا أن أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإحضار ما طلب كان على وجه الإيجاب والإلزام للخوف ـ لو ترك الكتابة ـ من ترتب مفسدة عظيمة هي ضلال الأمة ، فكيف تركها رسول الله ولم يصر على الطلب؟ أليس هذا تقصيرا في هداية الأمة واللطف بها؟!

والجواب :

١ ـ كيف يصرّ على الطلب وقد تنازعوا عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى قال : «قوموا عني» ،

٣٢٨

فلما رأى من حال الحاضرين أمارة العصيان ؛ وشاهد منهم إثارة الفتنة وتهييج الشر ، خاف من أن يكون في الوصية وتأكيد التنصيص على من عيّنه الله للإمامة ، وجعله أولى الناس من أنفسهم في غدير خم ، أمارة على تعجيل الفتنة بين المسلمين ، وتفريق كلمتهم ، فيتسلط بذلك الكفّار وأهل الرّدة عليهم ، وينهدم أساس الإسلام ودعائم الإيمان ، وذلك لأن الراغبين في الإمامة والطامعين في الملك والخلافة قد علموا من مرضه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإخباره تصريحا وتلويحا في عدة مواقف بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد دنا أجله ، ولا يبرأ من مرضه ، فوطّنوا أنفسهم لإلقاء الشبهة بين المسلمين بأنه لو كتب الكتاب وأكّد الوصيّة بأنه على وجه الهجر والهذيان ، فيصدّقهم الذين في قلوبهم مرض ، ويكذّبهم المؤمنون بأن كلامه ليس إلا وحيا يوحى ، فتقوم فيهم المحاربة والقتال وينتهي الحال إلى استئصال أهل الإيمان وظهور أهل الشرك والطغيان ، فاكتفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنصّه يوم الغدير وغيره.

وقد بلّغ الحكم وأدّى رسالة ربه كما أمره بقوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (١) فلم يكن في ترك الكتابة تقصير في التبليغ والرسالة ، وإنما منعت طائفة من الأمة لشقاوتهم ذلك الفضل ، وسدّوا باب الرحمة ، فضلّوا عن سواء الصراط وأضلّوا كثيرا (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢).

٢ ـ إن القوم لم يتركوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجالا كي يكتب تلك الوصية ، ويشهد له ما رواه ابن عبّاس من أن الرزية كل الرزيّة ما حال بين رسول الله وبين الكتابة.

فهناك من حال ومنع من كتابة الكتاب ، والمانع هو عمر بن الخطّاب وجماعته ، حيث سيطروا على الموقف لعلمهم أن أمير المؤمنين لن يدافعهم لكونه

__________________

(١) سورة المائدة : ٦٧.

(٢) سورة الشعراء : ٢٢٧.

٣٢٩

موصى ولقلة أنصاره ، ولا يصح دفعهم ، والحال أن النبيّ على فراش الموت مما يسبّب أذية لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن آذاه فقد آذى الله تعالى.

وقد يكون السكوت أهم من حيث كونه اختبارا للأمة وامتحانا لها ، إذ كان من اللازم على المسلمين أن يرغموا أنف من منع وصول الدواة والكتف إلى رسول الله ، ولمّا فشلوا في ذلك ، ثم تأكد فشلهم عند ما وقفوا على الأطلال يتفرّجون على بضعة الرسول كيف كان يضربها عمر وخالد وقنفذ ، أبعد هذا يقال إن النبيّ لم يصر على الطلب وقد فشلوا في نصرته ودفع الضّيم عنه وأهل بيته ـ وكان يعلم بما سيئول إليه أمرهم ـ لقد سقط المسلمون آنذاك في مخالب الشيطان ، ألا في الفتنة سقطوا.

قد يقال : إن النبيّ كفّ عن الطلب لما رأى من صواب قول عمر بن الخطاب.

قلنا : ليس في الكلام ما يدل على تصويب رأي عمر ، فإن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المستفيض : «قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع» صريح في الغيظ والتأذي بتلك المخالفة.

وهل يجوّز عاقل أن ينطق بمثل هذا الكلام في مقام تصويب رأي من وصفه الله بالخلق (١) العظيم والشاهد (٢) على الأمة؟!!

الشبهة الرابعة :

إن قوله «حسبنا كتاب الله» يدل على أنه لا خوف على الأمة من الضلال بعد كتاب الله في حكم من الأحكام وإلّا لم يصح أن يستند إليه عمر في منع كتابة ما أراده النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يصرّح بتعيينه ، ولعلّ ما أراد النبيّ كتابته هو بيان ما يرفع الاختلاف في أمته.

__________________

(١) كقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم : ٤.

(٢) كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) الأحزاب : ٤٥.

٣٣٠

والجواب :

١ ـ إن كلام عمر يعتبر ردا عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يستلزم الإنكار والكفر ، لأن الراد عليه راد على الله تعالى واستخفاف به.

هذا مضافا إلى أن مقدار الآيات التي يستنبط منها الأحكام يتراوح ما بين الخمسمائة آية إلى السبعمائة ، وليست كلها في الظاهر مدركا لكثير من الأحكام ، وليس دلالتها على وجه يقدر على استنباط الحكم منها كل أحد ، ولا يقع في فهمه اختلاف بين الناس حتى ينسدّ باب الضلال.

ومن راجع كلام المفسرين علم أنه ليس آية إلّا وقد اختلفوا في فهمها واستخراج الأحكام منها على أقوال متضادة ووجوه مختلفة ، والكتاب يشتمل على ناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه ، وظاهر ومأوّل ، وعام وخاص ، ومطلق ومقيّد وغير ذلك مما لا يصيب في فهمه إلّا الراسخون في العلم المعصومون من الزيغ والضلال ، ومن ذلك يعلم أن غرض النبيّ من طلب الكتاب لم يكن إلا لتعيين الأوصياء إلى يوم القيامة ، لأنه إذا كان كتاب الله عزوجل بطوله وتفصيله لم يرفع الاختلاف بين الأمة فكيف يتصور في مثل هذا الوقت منه إملاء كتاب يشتمل على أسطر قلائل يرفع الاختلاف في جميع الأمور عن الأمة ، إلّا بأن يعيّن في كل عصر من يرجعون إليه عند الاختلاف ، ويرشدهم إلى جميع مصالح الدين والدنيا ، ويفسّر القرآن المجيد على وجهه الصحيح بحيث لا يقع منهم اختلاف فيه ، ويشهد لما ذكرنا قول أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«هذا كتاب الله الصامت ، وأنا كتاب الله الناطق» (١).

٢ ـ إن اعتماد ابن الخطّاب بقوله «حسبنا كتاب الله» على كتاب الله دون أقوال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تماما كقول المريض : لا حاجة لنا إلى الطبيب لوجود كتب

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٨ / ٢٠ ح ١٢.

٣٣١

الطب بين أظهرنا ، مع أن الكتب الطبية أشمل للفروع من الكتاب الكريم لتفاصيل الأحكام الشرعية.

هذا مضافا إلى أن الكتاب دعا لإطاعة رسول الله (١) والأخذ منه (٢) ، ولم تقيّد إطاعته أو الأخذ منه في حال الصحة دون المرض ، فيبقى الإطلاق منعقدا في الظهور عرفا وعقلا وشرعا ، فما فعله عمر من المنع عن كتابة ما يمنع عن الضلال عين الضلال والإضلال ، وكثرة الخلاف بين الأمة ، وتشتت طرقها مع وجود كتاب الله بينهم دليل قاطع على عدم رفع الاختلاف (٣).

الشبهة الخامسة :

أن عمر أشفق على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تحمل مشقة الكتابة مع شدة الوجع.

يرد عليه :

إن رسول الله لم تجر عادته في أيام صحته بأن يكتب الكتاب بيده ، وإنما كان يملي على الكاتب ما يريد ، إما لكونه أميا لا يقرأ ولا يكتب ـ حسبما يميل إلى هذا الرأي جمهور العامة ـ أو لكونه لا يتعاطى القراءة والكتابة ، ـ وهو الحق عندي ـ ولم يكن ذلك مستورا على عمر ، فكيف أشفق عليه من الكتابة؟

وأمّا الإملاء فمن أين علم أنه لا يمكن للرسول التعبير عمّا يريد بلفظ مختصر ، وعبارة وجيزة لم يكن في إلقائها إلى الكاتب مشقة لا يقدر على تحمّلها ، على أن تحمّله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمشاق في هداية الأمة لم تكن هذه الكتابة مبدأه ، فكيف لم يشفق عمر في شيء من المواضع إلّا فيما فهم أن المراد تأكيد النص في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام؟

__________________

(١) كآية إطاعة الرسول وأولي الأمر.

(٢) كقوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الحشر : ٧.

(٣) جرت محاورة بين هشام بن الحكم أحد أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام مع رجل شامي ، وقد بيّن فيها هشام عدم كفاية الكتاب وحده لرفع الاختلاف ، راجع أصول الكافي ج ١ / ١٧١ ح ٤ والاحتجاج للطبرسي ج ٢ / ١٢٢.

٣٣٢

ولا ريب أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أشفق على نفسه وأعلم بحاله من عمر بن الخطاب ، فبرودة مثل هذا الاعتذار مما لا يرتاب فيه ذو فطنة ، ورب عذر أقبح من ذنب ، وهنا موضعه.

وأما اشتداد الوجع فإنما استند إليه عمر لإثبات أن كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس مما يجب الإصغاء إليه ، لكونه ناشئا من اختلال العقل لغلبة الوجع وشدة المرض ، وهذا الاختلال نوع جنون ، وقد نزهه سبحانه عنه ، كما أنه تعالى كشف حقيقة بعض الأصحاب الذين نعتوه بالهذيان بقوله تعالى:

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (١).

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٢).

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) (٣).

إن قيل : إن قول عمر «حسبنا كتاب الله» ردّ على من نازعه ، لا على أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قلنا : إن هذا ظاهر الفساد ، وذلك لأن الرواية التي رواها البخاري في باب كتابة العلم صريحة في أنه ردّ على قول النبيّ ، وأنّ الاختلاف من الحاضرين إنما وقع بعد قوله ذلك ، وكذلك روايته في باب قول المريض : قوموا عنّي. هذا مضافا إلى ما أوردناه سابقا على هذه الشبهة فليراجع.

__________________

(١) سورة سبأ : ٤٦.

(٢) سورة النجم : ١ ـ ٥.

(٣) سورة التكوير : ١٩ ـ ٢٢.

٣٣٣

الشبهة السادسة :

إن كلمة «الهجر» التي تلفّظها عمر لم يقصد بها ظاهرها ، ولكنه أرسلها على مقتضى خشونة غريزية ولم يتحفظ منها ، وقد تبنّى هذه الشبهة ابن أبي الحديد (١) ؛ فقال : وكان في أخلاق عمر وألفاظه جفاء وعنجهية ظاهرة ، يحسبه السامع لها أنه أراد بها ما لم يكن قد أراد ، ويتوهّم من تحكى له أنه قصد بها ظاهرا ما لم يقصده ، فمنها الكلمة التي قالها في مرض رسول الله ، ومعاذ الله أن يقصد بها ظاهرها! ولكنه أرسلها على مقتضى خشونة غريزته ولم يتحفّظ منها ، وكان الأحسن أن يقول : «مغمور» أو «مغلوب بالمرض» وحاشاه أن يعني بها غير ذلك! ولجفاة الأعراب من هذا الفنّ كثير ، ثم قال :

وعلى نحو هذا يحتمل كلامه في صلح الحديبية لما قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألم تقل لنا : ستدخلونها ـ أي مكة ـ في ألفاظ نكرة حكايتها ، حتى شكاه النبيّ إلى أبي بكر ، وحتى قال له أبو بكر : الزم بغرزه (٢) ، فو الله إنه لرسول الله.

ويرد عليه :

أولا : أنه لا وجه لحمل الكلام على المحامل البعيدة وإخراجه عن ظاهره من غير دليل ، وظاهر الكلام تقبيح لرأي رسول الله وردّ لقوله على أقبح وجه ، ولم يقم برهان على عدم جواز الخطأ والارتداد على عمر بن الخطّاب حتى يؤوّل ابن أبي الحديد كلامه بالتأويلات البعيدة ، وما رووه في فضله من الأخبار فمع أنها من موضوعاتهم ، لا حجة فيها على الخصم لتفرّدهم بروايتها ، فأكثرها لا دلالة فيها على ما يجديهم في هذا المقام.

والعجب أنّهم يثبتون أنواع الخطايا والذنوب للأنبياء عليهم‌السلام لظواهر الآيات الواردة فيهم ، وينكرون علينا حملها على ترك الأولى وغيره من الوجوه ، مع قيام

__________________

(١) شرح النهج ج ١ / ١٤٢ ، ط / الأعلمي.

(٢) أي اتبع قوله.

٣٣٤

الأدلة العقلية والنقلية على عصمتهم وجلالة قدرهم عمّا يظنون بهم ، ولا يرضون بمثله في عمر بن الخطّاب ، مع عدم الدليل على عصمته ، واشتمال كتبهم ورواياتهم على جرائره ، ولو جانبوا الاعتساف لم يجعلوه أجلّ قدرا من أنبياء الله.

ثانيا : إن الطعن ليس مقصورا على سوء الأدب والتعبير بالعبارة الشنيعة ، بل به وبالردّ لقول الرسول والإنكار عليه ، وهو في معنى الردّ على الله عزوجل والشرك به ، وإن كان أحسن الألفاظ وأطيب العبارات.

وأما قصة صلح الحديبية (١) التي أشار إليها ابن أبي الحديد وغيره من الرواة فليس الطعن فيها بلفظ يشتمل على سوء الأدب حتى يجري فيه تأويل ، بل بالإنكار لقول الرسول وعدم تصديقه بعد قوله : «أنا رسول الله أفعل ما يأمرني به ولن يضيّعني» وهو إما تكذيب صريح للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو لم يصدّقه في قوله ذلك ، أو تقبيح صريح لما قضى الله به لو صدّق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

روى مسلم في كتاب الجهاد والسير عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل ، قال : قامسهل بن حنيف يوم صفّين فقال : أيّها الناس! اتّهموا أنفسكم ، لقد كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الحديبية ، ولو نرى قتالا لقاتلنا ، وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله والمشركين ، فجاء عمر بن الخطّاب ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله! ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال : بلى ، قال : أليس قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النار؟ قال : بلى ، قال : ففيم نعطي الدّنية في ديننا ، ونرجع ولمّا يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال : يا ابن الخطّاب! إني رسول الله ولن يضيّعني الله أبدا. قال : فانطلق عمر فلم يصبر متغيظا ، فأتى أبا بكر فقال : يا أبا بكر! ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال : بلى ، قال : أليس قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال : فعلام نعطي الدّنية في ديننا ، نرجع ولمّا يحكم الله بيننا وبينهم؟

__________________

(١) رواها البخاري في الصحيح ج ٣ / ٢٤٤ ح ٢٧٣١ و ٢٧٣٢ باب الشروط في الجهاد ، وابن أبي الحديد في شرح النهج ج ١٢ / ٢٣٢ باب سيرة عمر ، وتاريخ الطبري ج ٢ / ٢٨٠ ومجمع البيان ج ٩ / ١١٠ والمجلسي في بحار الأنوار وغيرهم من المؤرخين.

٣٣٥

فقال : يا ابن الخطّاب! إنه رسول الله ولن يضيّعه الله أبدا ، قال : فنزل القرآن على رسول الله بالفتح ، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه ، فقال : يا رسول الله! أو فتح هو؟ قال : نعم ، فطابت نفسه ورجع (١).

ومن نظر في هذه الأخبار لم يشك في أن عمر بن الخطاب لم يرض بقول رسول الله وكان في صدره حرج مما قضى به رسول الله وقد قال الله عزوجل : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٢).

وظن عمر أن رسول الله كاذب في وعده «حاشاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وإلّا فلا معنى لقيامه مغضبا متغيّظا غير صابر حتى جاء إلى أبي بكر يبث له شكواه من رسول الله ، كان دائما يغيظ رسول الله ، ومما يدل على شدة غضبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عمر ما رواه البخاري في باب غزوة الحديبية من كتاب المغازي عن زيد بن أسلم عن أبيه :

أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسير في بعض أسفاره وكان عمر بن الخطّاب يسير معه ليلا فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه رسول الله ، ثم سأله فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ، وقال عمر بن الخطاب : ثكلتك أمّك يا عمر نزرت (٣) رسول الله ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك. قال عمر : فحرّكت بعيري ثم تقدّمت أمام المسلمين وخشيت أن ينزل فيّ قرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي ، قال : فقلت لقد خشيت أن يكون نزل فيّ قرآن وجئت رسول الله فسلّمت فقال : «لقد أنزلت عليّ الليلة سورة لهي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس» ثم قرأ : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (٤).

__________________

(١) صحيح مسلم ج ١٢ / ١١٧ ح ١٧٨٥.

(٢) سورة النساء : ٦٥.

(٣) قوله «نزرت» أي ألححت عليه.

(٤) صحيح البخاري ج ٥ / ٨٠ ح ٤١٧٧.

٣٣٦

ولا يخفى على ذي بصيرة أن ما ظهر من رسول الله من الغضب والغيظ عليه في الحديبية وفي مرضه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث أمره بالخروج من البيت مع المتنازعين لم يظهر بالنسبة إلى أحد من الصحابة ، وكذلك ما ظهر عنه من سوء الأدب كان فيه مميّزا عن غيره من الصحابة.

وظهور الغيظ من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع خلقه العظيم وعفوه الكريم وخوفه في الفظاظة والغلظة من انفضاضهم كما قال سبحانه (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (١) لم يكن إلّا لشدة تفاحشه في ترك الأدب والوقاحة وبلوغ تأذي رسول الله إلى الغاية وقد قال الله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢).

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) (٣).

وقد كان رسول الله يصبر على كثير من الأذى ويستحي من زجرهم حتى نزل في ذلك قرآن بقوله تعالى (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) (٤).

فإذا كان دخولهم إلى بيوت النبيّ من غير إذن يؤذي النبيّ ، فإن الاعتراض عليه والتشكيك به يؤذيه بطريق أولى.

وقد أخفى اتباع عمر بن الخطاب وحزبه كثيرا من كلماته الشنيعة ، وما قال فيه رسول الله كما يظهر من قول ابن أبي الحديد في ألفاظ نكرة حكايتها حتى شكاه النبيّ إلى أبي بكر (٥).

ثالثا : إن ما اعتذر به ابن أبي الحديد من أن عمر كان يرسل تلك الألفاظ

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٥٩.

(٢) سورة التوبة : ٦١.

(٣) سورة الأحزاب : ٥٧.

(٤) سورة الأحزاب : ٥٣.

(٥) شرح النهج ج ١ / ١٤٢

٣٣٧

على مقتضى غريزته وخشونة طبعه وجبلّته ، ولم يكن يقصد بها ظواهرها ، ففيه اعتراف بأنه كان لا يملك لسانه يتكلم بما يحكم به عقله ، وظاهر أن رجلا لم يقدر على ضبط لسانه في مخاطبة مثل النبيّ مع علو شأنه في الدنيا والآخرة معدود عند العقلاء في المجانين ، ومثله لا يصلح للرئاسة العامة ، وخلافة من اصطفاه الله على العالمين.

ومن رضي بإمامة من يكره حكاية ألفاظه كما مرّ من كلام الموجّه «ابن أبي الحديد وأمثاله» فقد بلغ الغاية في السفاهة ، وفاز بالقدح المعلّى من الحماقة.

رابعا : إن ما ذكره ابن أبي الحديد من أن الأحسن كان أن يقول : مغمور أو مغلوب بالمرض ، فهو هذيان كقول إمامه ، إذ الكلام في أنّه لا يجوز الردّ على الرسول ، وإنكار قوله مطلقا سواء كان في حال المرض أو غيره ، للآيات والأخبار الدالة على وجوب الانقياد لأوامره ونواهيه ، وأنه لا ينطق عن الهوى ولا يقول إلا حقا ، والهجر وغلبة المرض ، وإن كان أمرا شائعا في أكثر البشر إلّا أنه لا استبعاد في براءة من اصطفاه الله على العالمين عنه ، كما أن غلبة النوم يعم سائر الخلق ، وقد روى الخاص والعام أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا ينام قلبه إذا نامت عيناه (١).

ومن الغرائب عند العامة ، أنهم يستدلون على خلافة عمر بن الخطّاب بما نص عليه أبو بكر في مرضه وأثبته في وصية ، وكان الكاتب له عثمان بن عفّان ، ولم يجوّز أحد فيه أن يكون هجرا وناشئا من غلبة المرض ، مع أنه أغمي عليه أثناء كتابة العهد كما رواه ابن أبي الحديد في كيفية عقده الخلافة لعمر ، من أنه كان يجود بنفسه فأمر عثمان أن يكتب عهدا وقال : «هذا ما عهد به عبد الله بن عثمان (٢) إلى المسلمين ، أما بعد ، ثم أغمي عليه ، وكتب عثمان : قد استخلفت عليكم عمر بن الخطّاب ، وأفاق أبو بكر ، فقال : اقرأ فقرأه ، فكبّر أبو بكر وسرّ ، وقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي؟!

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٤ / ٥٢٩ ح ٣٥٦٩ و ٣٥٧٠ وبحار الأنوار ج ١٦ / ١٣٢ ح ٧ و ٨ و ٩ و ١٠ و ١١.

(٢) عثمان اسم أبي قحافة.

٣٣٨

قال : نعم ، قال : جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله ، ثم أتمّ العهد وأمر أن يقرأ على الناس فقرئ عليهم ..» (١).

فجوّزوا في رسول الله أن يكون عهده هجرا وهذيانا ، ولا يكون كذلك في عهد أبي بكر ، أمن العدل أن ينسبوا الهجر إلى رسول الله وينزّهوا عنه أبا بكر وعمر مع أنه لم يدل دليل من العقل والنقل على براءتهما من الهذيان ، فالأنسب لأشياعهما الذين يجوّزون الهذيان على سيّد الأنام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تصحيحا لقول عمر بن الخطاب أن يتردّدوا في إمامته ولا يستندوا إلى وصية أبي بكر في شأنه.

ثم إن قول عمر بن الخطّاب في مقام الردّ على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «حسبنا كتاب الله» يدل على أنه لا حاجة إلى الخليفة مطلقا ، فكيف سارع إلى السقيفة لعقد البيعة وجعله أهمّ من دفن سيّد البريّة عليه وآله أكمل الصلاة والتحية.

الشبهة السابعة :

إنّ ردّ عمر بن الخطّاب على رسول الله كان من فضائله من حيث إنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يستشير أصحابه ويأخذ بالرأي الراجح ، من هنا كان عمر يردّ على رسول الله في كثير من المواطن ، وكان النبيّ بدوره يرجع إلى قوله ويترك ما حكم به ، ويستشهد العامة على ذلك بأخبار تدل بنظرهم على جرأته وفضله ، روى ابن أبي الحديد منها روايتين :

الأولى :

لما توفّى عبد الله بن أبي ، رأس المنافقين في حياة رسول الله ، جاء ابنه وأهله ، فسألوا رسول الله أن يصلّي عليه ، فقام بين يدي الصفّ يريد ذلك ، فجاء عمر فجذبه من خلفه ، وقال: ألم ينهك الله أن تصلي على المنافقين! فقال : إنّي خيّرت فاخترت ، فقيل لي : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ

__________________

(١) شرح النهج ج ١ / ١٢٨.

٣٣٩

يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (١) ، ولو أني أعلم إني إذا زدت على السبعين غفر له لزدت. ثم صلّى رسول الله عليه ومشى معه ، وقام على قبره.

فعجب الناس من جراءة عمر على رسول الله ، فلم يلبث الناس إلا أن نزل قوله تعالى : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) (٢) ، فلم يصلّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدها على أحد من المنافقين (٣). وفي رواية البخاري : قال عمر : أتصلّي عليه وهو منافق وقد نهاك الله أن تستغفر لهم.

الثانية :

روى أبو هريرة ، قال : كنّا قعودا حول رسول الله في نفر ، فقام من بين أظهرنا ، فأبطأ علينا ، وخشينا أن يقطع دوننا فقمنا ـ وكنت أول من فزع ـ فخرجت أبتغيه حتى أتيت حائطا للأنصار لقوم من بني النّجار ، فلم أجد له بابا إلّا ربيعا ، فدخلت في جوف الحائط ـ والربيع الجدول ـ فدخلت منه بعد أن احتفرته ، فإذا رسول الله ، فقال : أبو هريرة؟ قلت : نعم ، قال : ما شأنك؟ قلت : كنت بين أظهرنا ، فقمت فأبطأت عنّا ، فخشينا أن تقتطع دوننا ، ففزعنا ـ وكنت أول من فزع ـ فأتيت هذا الحائط فاحتفرته كما يحتفر الثعلب ، والناس من ورائي.

فقال : يا أبا هريرة ، اذهب بنعليّ هاتين ، فمن لقيته وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه ، فبشّره بالجنّة ، فخرجت ، فكان أول من لقيت عمر ، فقال : ما هذان النعلان؟ قلت : نعلا رسول الله بعثني بهما وقال : من لقيته يشهد أن لا إله إلّا الله ، مستيقنا بها قلبه فبشّره بالجنة.

فضرب عمر في صدري فخررت لاستي ، وقال : ارجع إلى رسول الله ،

__________________

(١) سورة التوبة : ٨٠.

(٢) سورة التوبة : ٨٤.

(٣) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٢ / ٢٢٩ فصل سيرة عمر بن الخطاب ، وصحيح البخاري ج ٥ / ٢٥٠ ـ ٢٥١ ح ٤٦٧٠ و ٤٦٧١ و ٤٦٧٢ وفيه قال النبيّ : «أخّر عني يا عمر».

٣٤٠