أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (١).

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (٢).

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) (٣).

هذا مضافا إلى أنه لا معنى لدعاء زكريا لكي يهبه ولدا يرثه بالعلم ، وقد أفاض الله عزوجل على يحيى الحكم صبيا ، بمعنى أن زكريا لم يطلب ولدا ليورّثه العلم والنبوة لأنهما مما لا يورثان بل يفاضان من الله تعالى على صاحبهما ، فلا يمكن حينئذ لزكريا أن يهب النبوة أو العلم لابنه يحيى ، مع التأكيد على أن قول زكريا (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا* وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٤).

فقد طلب زكريا وارثا لأجل خوفه من أن يرثه الموالي الفسقة من بين إسرائيل ، ولا يليق خوفه منهم إلا بالمال دون النبوة والعلم ، لأنه عليه‌السلام كان أعلم بالله عزوجل من أن يخاف أن يبعث الله نبيا من ليس أهلا للنبوة ، وأن يورّث علمه وحكمته من ليس لهما بأهل ، لأنه إنما بعث لإذاعة العلم ونشره في الناس ، فكيف يخاف من الأمر الذي هو الغرض في بعثته؟!!

إشكال وحل :

كيف تقولون إن زكريا طلب ولدا ليرثه بالمال ، أليس في هذا إضافة البخل إليه؟

قلنا : معاذ الله أن يطرق إلى ساحته بخل ، وإنما طلب الولد ليرثه حرصا منه

__________________

(١) سورة الكهف : ٦٥.

(٢) سورة مريم : ١٢.

(٣) سورة الأنبياء : ٧٤.

(٤) سورة مريم : ٣ ـ ٦.

٣٠١

أن يظفر الفسّاق وأهل الفساد بماله فيصرفوه فيما لا ينبغي ، وطلبه هذا في غاية الحكمة ، فإن تقوية الفسّاق وإعانتهم على أفعالهم المذمومة محظورة في الدين.

توضّح بما تقدّم أنّ قانون الوراثة عام يشمل الأنبياء وغيرهم ، ولم يرد بدليل معتبر تخصيصه ، فيبقى العام سار بعمومه من دون تقييد أو تخصيص.

هذا بالإضافة على أن آيات الإرث عامة ، ولو كان هناك ما يوجب التخصيص بالرسول ، لكان على الرسول أن يعلمه ويخبر ابنته بذلك ، مع أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يخبرها ولا غيرها من الناس بهذا الحكم الخاص ، وهل من المعقول أن يخفي رسول الله هذا الحكم عن ابنته الزهراء عليها‌السلام مع شدة اتصالها به وكثرة تعلّقها به وتعلّقه بها ، وشدة الحاجة إلى بيان الحكم لها لئلا تطالب بالإرث بعد وفاة أبيها؟

وكيف يطلع أبو بكر ابنته عائشة على ذاك الحديث الذي سمعه من النبيّ ، أو أنها سمعت النبيّ يقول لأبيها «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث» ، ولم يطلع النبيّ ابنته الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام هذا الحديث مع علمه بما سيجري عليها من الاضطهاد والتكذيب وغير ذلك؟!!

وزبدة المخض :

يرد على أبي بكر ما يلي :

أولا : إنّ العمومات القرآنية كقوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) (١).

(يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (٢) (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) (٣).

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (٤) وغيرها من الآيات

__________________

(١) سورة النمل : ١٦.

(٢) سورة مريم : ٥.

(٣) سورة النساء : ١١.

(٤) سورة الأحزاب : ٦.

٣٠٢

تكذّب الحديث المزعوم الذي اختلقه أبو بكر بلفظين ، الأول قوله : إنّا معشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة (١).

والثاني قوله : إنّا معشر الأنبياء لا نورّث ذهبا ولا فضة ولا أرضا ولا عقارا ولا دارا لكنّما نورّث الإيمان والحكمة والعلم والسنة (٢). ثم ادّعى أنه سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنما هي طعمة اطعمناها الله ، فإذا متّ كانت بين المسلمين (٣).

وفي خبر آخر عنه : أن الله أطعم نبيّه (٤) طعمة ثم قبضه ، وجعله للذي يقوم بعده ، فوليت أنا بعده (٥) ، على أن أرده على المسلمين.

فهذه العمومات يدخل فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كغيره من المسلمين الذين يورّثون أبناءهم ، لا سيّما وأنه قدوة لغيره في توريث أولادهم ، وقد ورّث رسول الله نساءه الحجرات اللاتي كن يسكن فيها ، وقد تبرعت عائشة بسهمها وسهم غيرها من دون إذنهن لكي يدفن فيه أبو بكر وعمر بن الخطّاب ، فمن عجائب الدهر أن تدفع مولاتنا الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام من دعواها وتمنع من فدك بقولها وقيام البيّنة على ذلك وتترك حجر أزواج النبيّ في أيديهن من غير بيّنة ولا شهادة.

ودعوى «أن الأنبياء فقراء لا يملكون شيئا» مردودة : لما ثبت من سيرة

__________________

(١) صحيح مسلم ج ١٢ / ٦٦ ح ١٧٥٨ وفروعه.

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٦ / ٣٤٧.

(٣) شرح النهج ج ١٦ / ٣٥٠.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) ملاحظة : قال ابن أبي الحديد في شرحه ج ١٦ / ٣٥٠ : في هذا الحديث عجب ، لأنها قالت له : أنت ورثت رسول الله أم أهله؟ قال : بل أهله ، وهذا تصريح بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موروث يرثه أهله وهو خلاف قوله لا نورّث. وأقول : بل مخالف لقوله : إن الله أطعم نبيّه طعمة فإذا مت كانت بين المسلمين. ونحن نسأل : لما ذا لم يطعم أبو بكر شيعة الزهراء حينما طالبته بحقها ، أليست من المسلمين حتى منعها هذه الطعمة؟! أم لئن منعه منها لأجل شيء كان في نفس أبي بكر وصاحبه عمر؟!!

٣٠٣

بعضهم كداود وسليمان وزكريا ، هذا مضافا إلى أن الوراثة تكون حتى بالأشياء الحقيرة الثمن كالعمامة والثوب والعصا والخاتم وما شبههم ، فلا مجال للقول إن هذه الأشياء يرثها من الآباء ، الأنبياء الأجانب عنهم دون الأولاد.

ثانيا : لقد اعترف بعض علماء العامة (١) أن أبا بكر اغتصب من الصدّيقة الطاهرة أرض فدك ، ومنعها من حقها من الخمس وسهمها من خيبر ، مع وجود إجماع على أن فدكا لم يوجف عليها بخيل أو ركاب ، فهي ملك خاص لرسول الله ، وقد نص على ذلك علماؤهم لا سيّما الطبري (٢) منهم ، فإذا كانت ملكا خاصا لرسول الله ـ وقد كانت كذلك ـ فكيف جاز لأبي بكر شرعا وعقلا وعرفا أن يجعلها من صدقات النبيّ؟!

ثالثا : إنّ الخبر المزعوم «إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث» خبر واحد ، لم يعرف أحد من الصحابة موافقة أبي بكر على نقله ، وقد تفرّد أبو بكر بنقله ، وشهادة الجار إلى نفسه لا تقبل (٣) ـ حسبما جاء عن عمر بن الخطاب ردّا على الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام عند ما جاءتهما بالشهود ـ فكيف يعارض ـ أي هذا الخبر ـ الكتاب الكريم المقطوع الصدور؟! فالحديث غريب ، لأن المشهور أنه لم يروه إلا أبو بكر وحده (٤) ، بل قام الإجماع على عدم صحته ، والخارج عن الإجماع شاذ لا يعبأ به.

__________________

(١) كابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة ، والسمهودي في تاريخ المدينة ، والحلبي في السيرة ، والرازي في تفسيره ، وابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية ، وقال الأخير في تاريخه ج ٥ / ٢١٨ بعد عرضه لما جرى على السيّدة الزهراء : «هجرت فاطمة أبا بكر فلم تكلّمه حتى ماتت ؛ وهذا الهجران فتح على فرقة الرافضة شرا عريضا وجهلا طويلا ، وأدخلوا أنفسهم بسببه فيما لا يعنيهم ولو تفهموا الأمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله ، وقبلوا منه عذره ، ولكنهم طائفة مخذولة ، وفرقة مرذولة ، يتمسكون بالتشابه ويتركون الأمور المحكمة المقدرة عند أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين ..» لقد اعترف بأن الصدّيقة الزهراء ماتت وهي غضبى على أبي بكر ولكنّ للخليفة المزعوم مبرراته ، وعلى الآخرين أن يقبلوها ويسلّموا لها بنظره!!

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ / ٣٠٦ ، ط / الأعلمي وشرح النهج ج ١٦ / ٣٤٤.

(٣) البحار ج ٢٩ / ٩٤.

(٤) شرح النهج ج ١٦ / ٣٥٢.

٣٠٤

وبعبارة أوضح :

لو دار الأمر بين محتمل الصدور ـ عدا عن كونه مقطوع عدم الصدور ـ وبين مقطوع الصدور ، يقدّم الثاني بلا تردد ، وما فعله العامة هو أنهم قدّموا الاحتمال على القطع ، حفظا لماء وجه أبي بكر وتلميعا لصورته.

وزبدة المقال :

إن آية الإرث والرواية المزعومة متعاكستان ، وكل ما عارض الكتاب فهو زخرف ، وساقط عن الاعتبار وغير حجة ، ولم سلّمنا صدور الحديث المزعوم من النبيّ فلم بيّنه لغير ورثته وأخفاه عمّن يرثه؟ ولو كان الحديث صحيحا عند عترة النبيّ التي يدور الحق معها حيثما دارت لم يمسك أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام سيف رسول الله وبغلته وعمامته ، وقد احتج عليه‌السلام بهذه الأمور على القوم مشيرا عليهم أنه أحق بابن عمه من غيره.

فلو كان الحديث معروفا عند هؤلاء الأعاظم لم يجز لهم كتمانه.

وعلى فرض صحة الحديث فلم لم يصادر أبو بكر الأشياء الخاصة برسول الله كعمامته ودابته وحذائه وسيفه تطبيقا للحديث المزعوم «لا نورّث ما تركناه فهو صدقة» فهذه الأشياء مما تركها رسول الله فكان على الخليفة أن يصادرها لتوزع على الفقراء والمساكين ، هذا بالإضافة إلى حجرات النبيّ ، كان الواجب على أبي بكر أن يصادرها ويوزّعها على الفقراء ويحرم أن يطلب الإذن من عائشة لتسمح له بأن يدفن في حجرتها!!

قد يقال : إن رسول الله دفع دابته وحذاءه ولوازمه الخاصة إلى الإمام عليّ عليه‌السلام بعرضة (١) أن ترث زوجته الزهراء من أبيها ، فأهدتهم السيّدة الزهراء للإمام عليه‌السلام لكون هذه الأشياء من مختصات الرجال.

__________________

(١) شرح النهج ج ١٦ / ٣٥٤.

٣٠٥

قلنا : هذا صحيح ثبوتا لو لا النصوص الدالة على أن الإمام عليا ورث النبيّ بهذه الأشياء لكونه الخليفة الحق بعد رحيل النبيّ حسبما جاء في النصوص (١) الكثيرة من أن الإمام يرث الرسول في متعلقاته الخاصة والصحائف السماوية ، فقد ورد في صحيحة أبي بصير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال :

ترك رسول الله في المتاع سيفا ودرعا وعنزة (٢) ورحلا وبغلته الشهباء فورث ذلك كله عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام (٣).

رابعا : إن خلفاء بني أمية وبني العبّاس فهموا من فدك أنها ملك للصدّيقة الزهراء روحي فداها ، لذا كان السابق يرجعها إلى ورثة الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام من أولادها ، ثم إذا جاء اللاحق استردها منهم.

روى أبو بكر الجوهري عن محمّد بن زكريا عن ابن عائشة قال : «... لمّا ولي الأمر معاوية بن أبي سفيان أقطع مروان بن الحكم ثلثها ، وأقطع عمرو بن عثمان بن عفّان ثلثها ، وأقطع يزيد بن معاوية ثلثها ، وذلك بعد موت الحسن بن عليّ عليه‌السلام فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت كلها لمروان بن الحكم أيام خلافته ، فوهبها لعبد العزيز ابنه ، فوهبها عبد العزيز لابنه عمر بن عبد العزيز ، فلمّا وليّ عمر بن عبد العزيز الخلافة ، كانت أول ظلامة ردّها ، دعا الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وقيل : بل دعا الإمام عليّ بن الحسين عليهما‌السلام فردّها عليه ، وكانت بيد أولاد فاطمة عليها‌السلام مدة ولاية عمر بن عبد العزيز ، فلمّا وليّ يزيد بن عاتكة قبضها منهم ، فصارت في أيدي بني مروان كما كانت يتداولونها ، حتى انتقلت الخلافة منهم ، فلمّا ولي أبو العبّاس السّفاح ردّها على عبد الله بن الحسن بن الحسن ، ثم قبضها أبو جعفر لمّا حدث من بني الحسن ما حدث ، ثم ردّها المهدي ابنه على ولد فاطمة عليها‌السلام ، ثم قبضها موسى بن المهدي وهارون

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ / ٢٣٤ باب ما عند الأئمة من سلاح رسول الله ومتاعه.

(٢) العنزة : رميح بين العصا والرمح ، والرحل : مركب البعير.

(٣) أصول الكافي ج ١ / ٢٣٤ ح ٣.

٣٠٦

أخوه ، فلم تزل في أيديهم حتى وليّ المأمون ، فردّها على الفاطميين (١).

قال أبو بكر الجوهري : حدّثني محمّد بن زكريا قال : حدّثني مهدي بن سابق ، قال : جلس المأمون للمظالم ، فأول رقعة وقعت في يده نظر فيها وبكى ، وقال للذي على رأسه : ناد أين وكيل فاطمة؟ فقام شيخ عليه درّاعة وعمامة وخفّ ثغري ، فتقدم فجعل يناظره في فدك والمأمون يحتج عليه وهو يحتج على المأمون ، ثم أمر أن يسجّل لهم بها ، فكتب السجلّ وقرئ عليه فأنفذه ، فقام دعبل إلى المأمون فأنشده الأبيات التي أولها :

أصبح وجه الزمان قد ضحكا

بردّ مأمون هاشم فدكا

فلم تزل في أيديهم حتى كان في أيام المتوكل ، فأقطعها عبد الله بن عمر البازيار ، وكان فيها إحدى عشرة نخلة غرسها رسول الله بيده ، فكان بنو فاطمة يأخذون ثمرها ، فإذا قدم الحجّاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلونهم ، فيصير إليهم من ذلك مال جزيل جليل ...» (٢).

خامسا : إن أبا بكر طلب من الصدّيقة الزهراء البيّنة فجاءته بها وقد ردّها ، مع أن البيّنة إنما تراد ليغلب في الظن صدق المدعي ، ألا ترى إنّ العدالة معتبرة في الشهادات لكونها مؤثرة في غلبة الظن ، ولهذا جاز أن يحكم الحاكم بعلمه من غير شهادة ، لأن علمه أقوى من الشهادة ، ولهذا كان الإقرار أقوى من البيّنة من حيث كان أبلغ في تأثير غلبة الظن ، وإذا قدّم الإقرار على الشهادة لقوة الظن عنده فأولى أن يقدّم العلم على الجميع ، وإذا لم يحتج مع الإقرار إلى شهادة لسقوط حكم الضعيف مع القوي ، فلا يحتاج أيضا ـ مع العلم ـ إلى ما يؤثر الظن من البيّنات والشهادات.

ويدل على صحة ذلك ما شهده خزيمة بن ثابت على بيع جرى بين رسول الله

__________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٦ / ٣٤٩ و ٣٩٠.

(٢) شرح النهج ج ١٦ / ٣٤٩.

٣٠٧

وأعرابي ، مع أن خزيمة لم يكن حاضرا حال البيع ، ولكنه شهد على صدق النبيّ من حيث كونه نبيا مرسلا ومعصوما مسددا ، فجعل النبيّ شهادته بمثابة شهادتين ، فسمي خزيمة بذي الشهادتين ، وهذه قصة مشهورة مشابهة لقضية مولاتنا الزهراء عليها‌السلام ، فإذا كانت شهادة خزيمة بمثابة شهادتين من حيث علمه أن النبيّ لا يقول إلّا حقا لمكان عصمته وطهارته ولم يدفعه عن الشهادة من حيث لم يحضر ابتياعه ، كذا شهادة مولاتنا الزهراء بطريق أولى ، حيث كان يجب على من علم أن السيّدة فاطمة لا تقول إلّا حقا ، ألّا يستظهر عليها بطلب شهادة أو بيّنة.

سادسا : كيف يجوز أن يكون الخبر المزعوم صحيحا وأزواج النبيّ لا يعلمن ذلك ، حتى وكّلوا عثمان بن عفان في المطالبة بحقوقهنّ (١) ، ولا يعرف العبّاس ـ حسبما جاء في بعض النصوص ـ حتى تنازع مع أمير المؤمنين عليه‌السلام في الميراث ، وكل ذلك يدل على بطلان الخبر.

ومن كان له شيطان يعتريه ـ كما صرّح هو بذلك ورواه عامة المؤرّخين ـ فإن استقام أعانوه وإن زاغ قوّموه ، كيف يؤمن عليه من تلفيق الأحاديث على رسول الله القائل بما معناه : كثر عليّ الكذّابون ، ألا فمن كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار.

وفي الختام أقول : إن مولاتنا الصدّيقة الطاهرة فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تسلم من بعض صحابة أبيها ، فلاقت منهم الظلم والاستبداد ، وما يؤسفنا أن إتباع السلف نمّقوا لهؤلاء الصحابة أفعالهم ، بحجة أنّ الصحابة لا يخطأون ، وكأن الصحبة ملازمة للعصمة ، فسبحان الذي وهب العقول ، ولكنّ أصحابها لا يعقلون!!

فعلى الأتباع سلوك طريق الحق المتمثّل بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام الذي قال عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنت مني وأنا منك» (٢) ، ولا يكون كمن

__________________

(١) شرح النهج ج ١٦ / ٣٥٣.

(٢) رواه البخاري ، باب فضائل الإمام علي عليه‌السلام.

٣٠٨

يجمع بين الأضداد ، فيصدق عليهم قول الشاعر (١) :

أهوى عليا أمير المؤمنين ولا

أرضى بشتم أبي بكر ولا عمرا

ولا أقول وإن لم يعطيا فدكا

بنت النبي ولا ميراثها : كفرا

الله يعلم ما ذا يحضران به

يوم القيامة من عذر إذا اعتذرا

النقطة الثالثة :

ونتطرق فيها إلى بعض الشبهات الراجعة إلى اغتصاب فدك من الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام.

الشبهة الأولى :

مفادها : إنّ الإمامية اتهموا أبا بكر بوقوفه بجانب ابنته عائشة حيث لم يطلب منها البيّنة على سكناها في الحجرة ، وكذا حجر أزواج النبي ، في حين طلبها من الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام ، والسبب يرجع في ذلك أن الحجر كانت لهنّ ، لأن الله تعالى نسبها إليهنّ بقوله تعالى (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) (٢).

والجواب :

لا ملازمة بين القرن بالبيوت وبين ملكيتها ، فالقرن بالبيوت أعم من الملك ، وذلك إن هذه الإضافة لا تقتضي الملك ، بل العادة جارية فيها بأنها تستعمل من جهة السكن ، ولهذا يقال: هذا بيت فلان ومسكنه ، ولا يراد بذلك : الملك ، وقد قال الله تعالى (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) (٣) ولا شبهة في أنه تعالى أراد منازل الأزواج التي يسكنون فيها زوجاتهم ، ولم يرد به : إضافة الملك.

__________________

(١) قال ابن الصبّاح : قال لي أبو الحسن : أتقول إنه قد أكفرهما في هذا الشعر؟ قلت : نعم ، قال : كذاك هو ، لاحظ شرح النهج ج ١٦ / ٣٥٩.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣.

(٣) سورة الطلاق : ١.

٣٠٩

قد يقال : قد روي إن النبيّ قسّم الحجر بين نسائه وبناته ، والتقسيم دلالة الملكية.

قلنا : من أين العلم أن القسمة تستلزم التمليك دون الإسكان والإنزال؟ ولو كان قد ملّكهنّ ذلك لوجب أن يكون ظاهرا مشهودا ، ودعوى «أن أمير المؤمنين عليه‌السلام ترك أزواج النبيّ في حجرهن ولم يطالبهنّ بالميراث» مدفوعة بأن تركه الحجرات في يد الأزواج لمثل ما ترك المطالبة بفدك حرصا على أن لا يعقب ما هو أعظم منه.

الشهبة الثانية :

إذا كان أبو بكر قد حكم بخطإ في دفع الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام عن الميراث ، واحتج بخبر لا حجة فيه ، فما بال الأمة أقرته على هذا الحكم ، ولم تنكر عليه ، وفي رضاهم وإمساكهم دليل على صوابه (١).

والجواب :

١ ـ إن ترك النكير لا يكون دليل الرضا إلا في الموضع الذي لا يكون له وجه سوى الرضا.

وبعبارة أخرى : لا ملازمة بين ترك النكير والرضا ، فقد يكون عدم النكير لتقية أو خوف أو مصلحة أهم.

٢ ـ أن النكير قد كان واقعا من السيّدة فاطمة عليها‌السلام ، ويشهد لهذا خطبتها القاصعة ، وهجرانها لأبي بكر إلى أن ماتت ، ووصايتها بأن لا يصليا عليها ودفنها ليلا.

٣ ـ وكما قال الجاحظ في كتابه «العبّاسية» : [لئن كان ترك النكير دليلا على صدقهما ، أنّ تركهم ـ أي الصحابة ـ النكير على المتظلمين منهما والمحتجبين

__________________

(١) تلخيص الشافي لشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي ج ٣ / ١٥٠.

٣١٠

عليهما والمطالبين لهما دليل على صدق دعواهم ، أو استحسان مقالتهم ، ولا سيّما وقد طالت المناجاة وكثرت المراجعة والملاحاة وظهرت الحسيكة واشتدت الموجدة ، وبلغ ذلك من فاطمة عليها‌السلام أنها أوصت ألّا يصلّي عليها أبو بكر ، ولقد كانت قالت له حين أتته طالبة بحقها ومحتجة لرهطها : من يرثك إذا متّ يا أبا بكر؟ قال : أهلي وولدي ، قالت : فما بالنا لا نرث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فلما منعها ميراثها وبخسها حقها ، واعتل عليها ، وجنح في أمرها ، وعاينت الهضم وأيست من النزوع ووجدت مس الضعف وقلة الناصر ، قالت : والله لأدعونّ الله عليك.

فإن يكن ترك النكير منهم على أبي بكر دليلا على صواب منعها ، إنّ في ترك النكير على سيّدة النساء فاطمة عليها‌السلام دليلا على صواب طلبها ، وأدنى ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت ، وتذكيرها ما نسيت ، وصرفها عن الخطأ ـ حاشاها من كل ذلك ـ ورفع قدرها عن البذاء وأن تقول هجرا أو تجور عادلا وتقطع واصلا ، فإذا لم تجدهم أنكروا على الخصمين جميعا ، فقد تكافأت الأمور واستوت الأسباب ، والرجوع إلى أصل حكم الله في المواريث أولى بنا وبكم وأوجب علينا وعليكم] (١).

الشبهة الثالثة :

كيف يظن بأبي بكر أنه ظلم السيّدة فاطمة عليها‌السلام وتعدى عليها ، في حين كلما ازدادتعليها‌السلام عليه غلظة ازداد لها لينا ورقة ، حيث تقول : «والله لا أكلمك أبدا» فيقول : «والله لا أهجرك أبدا» ، ثم تقول : «والله لأدعونّ الله عليك» فيقول : والله لأدعونّ الله لك» ثم يتحمل منها هذا القول الغليظ والكلام الشديد في دار الخلافة ، وبحضرة قريش والصحابة ، ما حاجة الخلافة إلى البهاء والتنزيه وما يجب لها من الرفعة والهيبة ، ثم لم يمنعه ذلك من أن يعتذر إليها متحننا عليها بقوله : ما أحد أعزّ عليّ منك فقرا ولا أحب إليّ منك غنى (٢).

__________________

(١) تلخيص الشافي ج ٣ / ١٥١ نقلا عن العثمانية للجاحظ ، بشيء من التصرف.

(٢) نفس المصدر.

٣١١

والجواب :

١ ـ إن الشّيخين أجادا استعمال لعبة شد الحبل ، فواحد يشد ويقسو وآخر يلين ويتراخى ، وهذه لعبة الساسة الذين يمررون مشاريعهم تحت عناوين لا تمت إلى الواقع بصلة ، فيكذبون ويماكرون في سبيل تحقيق مشتهياتهم الرخيصة.

٢ ـ إن أسلوب اللين والرقة ـ لو صحت نسبة ذلك إلى أبي بكر ـ ليس دليلا على براءته من الظلم وسلامته من الجور ، وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر ـ إذا كان أريبا وللخصومة معتادا ـ أن يقلب الحقائق على المظلوم أمام الناس ، فيظنون أن الظالم بريء ، والمظلوم أو المنتصف ظالما ، وهذا نوع مكر ودهاء لا رقة وحنان!.

٣ ـ لينه ورقته ـ بحسب ما أفادت هذه الدعوى ـ يتعارض مع خشونته لها بالقول بعد إيرادها الخطبة حسبما ذكره النقيب أبو يحيى بن أبي زيد البصري وقد تقدمت مقالته آنفا ، مضافا لخشونته عليها بسياطه التي هوت على جسدها الطاهر من قبل عمر وخالد وبعض جلاوزته ، وفي هذه الحال لا يبقى مجال لدعوى اللين والرّقة بالقياس إلى شناعة ما صدر منه اتجاهها فديتها بنفسي.

الشبهة الرابعة :

لو كانا ـ أي أبو بكر وعمر ـ ظلماها فلم أمسك الصحابة عن خلعهما والخروج عليهما ـ وهم الذين وثبوا على عثمان في أيسر من جحد التنزيل وردّ النصوص ولو كانا ـ كما يقولون وما يصفون ـ ما كان سبيل الأمة فيهما إلا كسبيلها فيه ، وحيث لم يثبوا عليهما دل ذلك على صلاحهما؟

والجواب :

إن إمساك الصحابة عن خلعهما مع ما ارتكبا من جحد التأويل ورد النصوص ليس مفاده صحة أفعالهما ، بل لأنّ بعضهم لم يعرف حقائق الحجج ، بل أكثرهم

٣١٢

ارتدّ عن الإسلام بسبب تركهم لمولى الأنام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، من هنا لم يحاربهم عليه‌السلام خوفا من تعنتهم وشدة تصلّبهم ، فيتقوى المشركون على بلاد الإسلام وهو مما لا تحمد عقباه. وبعض الصحابة الموالين لأمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام قد استنكروا على خلفاء الجور آنذاك ، ولكنّ هذا الإنكار لم يصل إلى المستوى المطلوب في عملية التغيير ، لا لضعف عند هؤلاء بل لعدم توفّر السّبل الأخرى التي هي شرط في عملية التغيير ، منها وجود النخبة الصالحة من القواعد الشعبية الموالية ، فقلة الأنصار سبب في سكون هؤلاء وعدم خروجهم على اولئك الذين يملكون كل عناصر الإرهاب الفكري والعسكري ، مع وفرة المؤيدين لهم والمناصرين لخطهم ، وهذه طريقة السفهاء في كل عصر ومكان.

الشبهة الخامسة :

إنّ خطأ أبي بكر تماما كخطإ أبوينا آدم وحواء عليهما‌السلام حيث أزلهما الشيطان عن الجنّة (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) (١) فوسوس لهما الشيطان فأخرجهما مما كانا فيه ، فلم عذرتم ـ أيّها الشيعة ـ فعل آدم ولم تعذروا فعل أبي بكر.

والجواب :

لا يقاس خطأ أبي بكر بما صدر من أبينا النبيّ آدم عليه‌السلام ، فقياس الأول على الثاني قياس مع وجود فارق ، إذ إنّ خطأ أبي بكر عبارة عن شيطنة مع إطاعة ، فأبو بكر أخبر عن نفسه بطاعة الشيطان عند الغضب ، وأن عادته بذلك جارية ، وليس هذا بمنزلة من يوسوس إليه الشيطان ولا يطيعه ويزيّن له القبيح فلا يأتيه ، وليس وسوسة الشيطان بعيب على الموسوس له إذا لم يستزله ذلك عن الصواب ، بل هو زيادة في التكليف ، ووجه يتضاعف معه الثواب.

وأما قوله تعالى (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) فإن معناه : أن أبوينا آدم وحواء عليهما‌السلام كانا مندوبين إلى اجتناب الشجرة وترك التناول منها ، ولم يكن ذلك

__________________

(١) سورة البقرة : ٣٦.

٣١٣

عليهما واجبا لازما ، لأن الأنبياء عليهم‌السلام لا يخلّون بالواجب ، فوسوس لهما الشيطان حتى تركا المندوب إليه من الامتناع من تناول الشجرة ، وحرما أنفسهما بذلك الثواب ، فسماه الله إزلالا ، لأنه حط لهما عن درجة الثواب ، وفعل الأفضل ، وأما قوله تعالى (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) فلا ينافي هذا التأويل ، لأن المعصية قد يسمى بها من أخلّ بالواجب والندب معا ، وقوله «فغوى» أي خاب من حيث لم يستحق الثواب على ما ندب إليه. وعليه فإن معصية آدم مجازية لا يستحق عليها ذما ولا عقابا ، فأين هذا من قول أبي بكر مخبرا عن نفسه «بأن الشيطان يعتريه حتى يؤثر في الأشعار والأبشار» فكيف يسوّى بينه وبين ما لا يستحق عليه عقاب ولا يثبت عليه ذم ، وهو يجري مجرى المباح من حيث إنه لا يؤثر في حال فاعله.

قد يقال : إنما قال أبو بكر ذاك القول على نحو الخشية والإشفاق لا الحقيقة والحال.

قلنا : إن مفهوم خطابه يقتضي خلاف ذلك ، ألا ترى أنه قال : «إن لي شيطانا يعتريني» وهذا قول من تلبّس فيه الشيطان فهو ملازم له في ليله ونهاره ، ولو كان على سبيل الإشفاق والخوف لكان قال «إني لا آمن من كذا وإني لمشفق منه».

هذه أهم النقاط في الطعن العاشر الوارد في أبي بكر بن أبي قحافة أثرتها ابتغاء إجلاء الحقيقة وكشف القناع عن ماهية الخليفة المزعوم ، وهناك طعون أخرى أعرضنا عن ذكرها خوف ملل القارئ.

كما أن هناك طعونا على نظيره عمر بن الخطاب أهمها :

الطعن الأول :

ما روته العامة والخاصة ، أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد في مرضه أن يكتب لأمته كتابا لئلا يضلوا بعده ولا يختلفوا ، فطلب دواة وكتفا أو نحو ذلك ، فمنع عمر من إحضارهما ، وقال إنه ليهجر!! أو ما يؤدي هذا المعنى ؛ حسبما ادّعى العامة ـ وقد

٣١٤

وصفه الله بأنه (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) (١) ، وأن كلامه ليس إلا وحيا يوحى ، وكثر اختلافهم وارتفعت أصواتهم ، فتسأمّ الرسول منهم وتضجّر. وها نحن نورد بعض الشواهد على هذا الطعن هي :

١ ـ ما رواه البخاري كشاهد على حديث الهجر بعدة طرق في أماكن متفرقة من كتابه ، عن سعيد بن جبير سمع ابن عباس يقول :

يوم الخميس وما يوم الخميس ، ثم بكى حتى بلّ دمعه الحصى ، قلت : يا ابن عبّاس ما يوم الخميس؟

قال : اشتدّ برسول الله وجعه فقال : «ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده أبدا» فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبيّ تنازع ، فقالوا : ما له؟ أهجر؟ استفهموه ، فقال : ذروني ، فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه ، فأمرهم بثلاث قال : اخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، والثالثة إما أن سكت عنها ، وإما أن قالها فنسيتها (٢) ، قال سفيان : هذا من قول سليمان.

٢ ـ عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عبّاس ، قال :

لمّا اشتدّ بالنبيّ وجعه قال : «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده» قال عمر : إن النبيّ غلبه الوجع ، وعندنا كتاب الله حسبنا ، فاختلفوا أو كثر اللغط ، قال النبيّ : قوموا عني ، لا ينبغي عندي التنازع ؛ فخرج ابن عبّاس يقول : إن الرّزيئة كلّ الرّزيئة ما حال بين رسول الله وبين كتابه (٣).

٣ ـ وعن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال :

__________________

(١) سورة النجم : ٣.

(٢) صحيح البخاري مجلد ٣ / ٣٩٩ ح ٣١٦٨ ، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب ، والثالثة التي نسيها الراوي هي أمر النبيّ بحفظ أهل بيته عليهم‌السلام ونصرتهم. ورواه في باب جوائز الوفد حديث رقم ٣٠٥٣.

(٣) صحيح البخاري ج ١ / ٤٥ ح ١١٤ ، باب كتابة العلم.

٣١٥

لمّا حضر رسول الله وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب ، قال النبيّ : «هلمّ أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده» فقال عمر : إن النبيّ قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول قرّبوا يكتب لكم النبيّ كتابا لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلمّا أكثروا اللغو والاختلاف عند النبيّ ، قال رسول الله : «قوموا» ، قال عبيد الله ، وكان ابن عبّاس يقول : إن الرّزية كلّ الرّزيّة ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (١).

٤ ـ وعن ابن عبّاس قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ، اشتد برسول الله وجعه فقال : «ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا» فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : ما شأنه أهجر؟ استفهموه! فذهبوا يردّون عليه ، فقال : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه ، وأوصاهم بثلاث قال : اخرجوا المشركين .. (٢).

٥ ـ عن الزّهري ، عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عبّاس قال :

لمّا حضر النبيّ وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال : «هلمّ أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده» قال عمر : إنّ النبيّ غلبه الوجع وعندكم القرآن ، فحسبنا كتاب الله ، واختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم رسول الله كتابا لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف عند النبيّ ، قال : قوموا عني.

قال ابن عبّاس : إن الرّزية كلّ الرّزيّة ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (٣).

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٧ / ١١ ح ٥٦٦٩ باب قول المريض قوموا عنّي.

(٢) نفس المصدر ج ٥ / ١٦١ ح ٤٤٣١ و ٤٤٣٢.

(٣) صحيح البخاري ج ٧ / ٥١٨ ح ٧٣٦٦ وصحيح مسلم ج ١١ / ٨٠ ح ١٦٣٧ و ١٦٣٨.

٣١٦

وقد روى خبر الهجر مسلم في صحيحه بثلاثة طرق ، باب : ترك الوصية.

وقد ذكر النووي في شرحه على صحيح مسلم كلاما ليس لله فيه رضى ، نعرضه على القارئ الكريم ليكون على إلمامة بما يلبّسه القوم من حقائق ، من أجل رفعة الشيخين ، حتى لو أدى هذا الرفع إلى توهين مقام رسول الله الشاهد على الأمة ، والذي كان من ربه كقاب قوسين أو أدنى ، قال :

«حين اشتدّ وجعه ـ أي النبيّ ـ قال : ائتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا ، فقالوا : إن رسول الله يهجر ، وفي رواية قال عمر بن الخطّاب : إنّ رسول الله قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، ثم ذكر أن بعضهم أراد الكتاب وبعضهم وافق عمر وأنه لمّا أكثروا اللغو والاختلاف ، قال النبيّ : «قوموا». اعلم أن النبيّ معصوم من الكذب ومن تغيير شيء من الأحكام الشرعية في حال صحته وحال مرضه ، ومعصوم من ترك بيان ما ببيانه وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه وليس معصوما من الأمراض والأسقام العارضة للأجسام ونحوها مما لا نقص فيه لمنزلته ولا فساد لما تمهد من شريعته ، وقد سحر (صلى الله عليه (١)) حتى صار يخيّل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله ولم يصدر منه (صلى الله عليه) وفي هذا الحال كلام من الأحكام مخالف لما سبق من الأحكام التي قررها ، فإذا علمت ما ذكرناه ، فقد اختلف العلماء في الكتاب الذي همّ النبيّ به ، فقيل : أراد أن ينص على الخلافة في إنسان معيّن لئلا يقع نزاع وفتن ، وقيل : أراد كتابا يبيّن فيه مهمات الأحكام ملخصة ليرتفع النزاع فيها ويحصل الاتفاق على المنصوص عليه ، وكان النبيّ همّ بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة أو أوحي إليه بذلك ثم ظهر أن المصلحة تركه أو أوحي إليه بذلك ونسخ ذلك الأمر الأول ، وأما كلام عمر فقد اتفق العلماء المتكلمون في

__________________

(١) قال النبيّ كما ورد في مصادر العامة : لا تصلوا عليّ الصلاة البتراء ، قيل : وما البتراء؟ قال : تقولون : اللهم صل على محمد وتمسكون ، بل قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد.

فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ١ / ٢٢٣ نقلا عن الصواعق المحرقة ص ٨٧.

٣١٧

شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره ، لأنه خشي أن يكتب (صلى الله عليه) أمورا ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها ، فقال عمر : حسبنا كتاب الله لقوله تعالى (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) وقوله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فعلم أن الله تعالى أكمل دينه فأمن الضلال على الأمة وأراد الترفيه على رسول الله فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه.

ثم حكى عن البيهقي أنه قال : وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم أنه (صلى الله عليه) أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر ثم ترك ذلك اعتمادا على ما علمه من تقدير الله ذلك ، كما همّ بالكتاب في أول مرضه حين قال : وا رأساه ثم ترك الكتاب ، وقال : يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ثم نبّه أمته على استخلاف أبي بكر بتقديمه إياه في الصلاة.

ثم قال : وإن كان المراد بيان أحكام الدين ورفع الخلاف فيها فقد علم عمر حصول ذلك لقوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وعلم أنه لا تقع واقعة إلى يوم القيامة إلا وفي الكتاب أو السنة بيانها نصا أو دلالة ، وفي تكلف النبي في مرضه مع شدة وجعه كتابة ذلك مشقة ، ورأى عمر الاقتصار على ما سبق بيانه إياه نصا أو دلالة تخفيفا عليه ..» (١).

وقال الخطابي :

«ولا يجوز أن يحمل قول عمر على أنه توهم الغلط على رسول الله أو ظن به غير ذلك مما لا يليق به بحال ، لكنّه لما رأى ما غلب على رسول الله من الوجع وقرب الوفاة مع ما اعتراه من الكرب خاف أن يكون ذلك القول مما يقوله المريض مما لا عزيمة له فيه فيجد المنافقون بذلك سبيلا إلى الكلام في الدين ، وقد كان أصحابه يراجعونه في بعض الأمور قبل أن يجزم فيها بتحتيم كما راجعوه يوم

__________________

(١) شرح النّووي على صحيح مسلم ج ١١ / ٧٦ باب ٥ كتاب الوصية.

٣١٨

الحديبية في الخلاف وفي كتاب الصلح بينه وبين قريش. فأما إذا أمر بالشيء أمر عزيمة فلا يراجعه فيه أحد منهم ، قال : وأكثر العلماء على أنه يجوز عليه الخطأ فيما لم ينزل عليه ، وقد أجمعوا كلّهم على أنه لا يقر عليه ، قال : ومعلوم أنّه وإن كان الله تعالى قد رفع درجته فوق الخلق كلهم فلم ينزّهه عن سمات الحدث والعوارض البشرية ، وقد سها في الصلاة فلا ينكر أن يظنّ به حدوث بعض هذه الأمور في مرضه فيتوقف في مثل هذا الحال حتى تتبيّن حقيقته ، فلهذه المعاني وشبهها راجعه عمر» (١).

يرد على النّووي ما يلي :

أولا : نسب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قد سحر حتى صار يخيّل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله ، معنى هذا أن السحر يؤثر في ذات الرسول محمّد الذي جعله الله رحمة للعالمين وحجة على الخلائق أجمعين.

وفحوى كلامه أنّ أمر الرسول لهم بإتيان الدواة والكتف كان نتيجة خيال كالسحر حيث يخيل إلى المسحور بعض الأمور التي لا واقع لها.

وقد روى مفسرو العامة أن رجلا يهوديا سحر النبيّ فأتاه جبريل بالمعوذتين وقال له : إنّ رجلا من اليهود سحرك ، والسحر في بئر فلان فأرسل الإمام عليا عليه‌السلام فجاء به فأمره أن يحل العقد ويقرأ آية فجعل يقرأ ويحل حتى قام النبيّ كأنما نشط من عقال (٢).

فحاصل المرويات عندهم : أن الرسول أصيب بسحر بعض اليهود ، ومرض على أثر ذلك ، ثم أخبره جبرائيل أن آلة السحر موجودة في بئر ، فأرسل من يخرجها ، ثم تلا سورة الفلق فتحسنت صحته.

__________________

(١) شرح النووي على صحيح مسلم ج ١١ / ٧٧.

(٢) تفسير الدر المنثور للسيوطي ج ٦ / ٧١٦ سورة الفلق.

٣١٩

ويدفعه :

١ ـ أن السورة مكية ، ومجابهته لليهود إنما كان في المدينة ، فتسقط هذه المرويات عن الحجية والاعتبار ، هذا بالإضافة إلى ضعف أسانيدها ، وعدم موافقة مداليلها للكتاب الكريم.

٢ ـ لو كان السحر يفعل بجسم النبيّ ما فعله لأمكن أن يؤثّر في روحه أيضا ، وتكون أفكاره بذلك لعبة بيد السحرة ، وهذا يزلزل مبدأ الثقة بالنبيّ ، مع أن النبيّ مصون من تأثير السحر ، كيف؟ وقد ردّ القرآن الكريم على اولئك الذين اتهموه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه مسحور ، إذ يقول : (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً* انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)(١).

قد يقال : إن المراد من قوله «مسحورا» فاسد العقل بالسحر ، وأما تأثره عن السحر بمرض يصيبه في بدنه ونحوه فلا دليل على مصونيته منه ـ حسبما ذهب إليه العلّامة الطباطبائي ـ (٢).

قلنا : إن هذا مدفوع بإطلاق كلمة «مسحورا» الشامل للسحرين : العقلي والجسمي ، ولا قرينة معتبرة دالة على التقييد ، والاعتماد على نصوص ضعيفة أكثرها من مصادر العامة مشكل شرعا ، هذا بالإضافة إلى كونها تمسّ بقدسية مقام النبوة ، ولا يعتمد عليها في فهم الآيات.

٢ ـ لو كان اليهود بمقدورهم أن يفصلوا بسحرهم ما فعلوه بالنبيّ حسبما جاء في بعض هذه المرويات لاستطاعوا أن يصدوه عن أهدافه بسهولة عن طريق السحر ، والله سبحانه قد حفظ نبيه كي يؤدي مهام النبوة والرسالة (٣).

فما ادعاه العامة من تأثر النبيّ بالسحر حتى صار يخيّل إليه أنه فعل الشيء

__________________

(١) سورة الفرقان : ٨ ـ ٩.

(٢) تفسير الميزان ج ٢٠ / ٣٩٤.

(٣) تفسير الأمثل ج ١٠ / ٥١١.

٣٢٠