أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

بالهداية ، وأنقذهم من الغواية ، وبصّرهم من العماية ، وهداهم إلى الدين القويم ، ودعاهم إلى الطريق المستقيم ، ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار ورغبة وإيثار ، فبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تعب هذه الدار في راحة ، قد حفّ بالملائكة الأبرار ، ورضوان الربّ الغفّار ، ومجاورة الملك الجبّار ، صلّى الله على أبي نبيّه وأمينه على الوحي ، وصفيّة وخيرته من الخلق ، ورضيّه ، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته. ثم التفتت إلى أهل المجلس وقالت :

أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه ، وحملة دينه ووحيه ، وأمناء الله على أنفسكم وبلغاؤه إلى الأمم ، زعيم حق له فيكم وعهد قدّمه إليكم ، وبقية استخلفها عليكم : كتاب الله الناطق ، والقرآن الصادق ، والنور الساطع ، والضياء اللامع ، بيّنة بصائره ، منكشفة سرائره ، منجلية ظواهره ، مغتبط به أشياعه ، قائدا إلى الرضوان اتباعه ، مؤدّ إلى النجاة استماعه ، به تنال حجج الله المنوّرة ، وعزائمه المفسّرة ، ومحارمه المحذّرة ، وبيّناته الجالية ، وبراهينه الكافية ، وفضائله المندوبة ، ورخصه الموهوبة ، وشرائعه المكتوبة.

فجعل الله الإيمان تطهيرا لكم من الشرك ، والصلاة تنزيها لكم عن الكبر ، والزكاة تزكية للنفس ونماء في الرزق ، والصيام تثبيتا للإخلاص ، والحج تشييدا للدين ، والعدل تنسيقا للقلوب ، وطاعتنا نظاما للملة ، وإمامتنا أمانا من الفرقة ، والجهاد عزّا للإسلام ، والصبر معونة على استيجاب الأجر ، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة ، وبرّ الوالدين وقاية من السخط ، وصلة الأرحام [منساة في العمر و..] منماة للعدد ، والقصاص حقنا للدماء ، والوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة ، وتوفية المكاييل والموازين تغييرا للبخس ، والنهي عن شرب الخمر تنزيها عن الرجس ، واجتناب القذف حجابا عن اللعنة ، وترك السرقة إيجابا للعفّة ، وحرّم الله الشرك إخلاصا له بالربوبية. (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١)

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٠٢.

٢٨١

وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فإنه (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (١).

ثم قالت : أيها الناس اعلموا أني فاطمة وأبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقول عودا وبدءا ولا أقول ما أقول غلطا ولا أفعل ما أفعل شططا (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٢).

فإن تعزوه (٣) وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم ، ولنعم المعزّى إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبلّغ الرسالة ، صادعا بالنذارة (٤) ، مائلا عن مدرجة المشركين ، ضاربا ثبجهم (٥) ، آخذا بأكظامهم (٦) ، داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، يكسّر الأصنام ، وينكث إلهام ، حتى انهزم الجمع وولّوا الدبر ، حتى تفرّى (٧) الليل عن صبحه ، وأسفر الحقّ عن محضه ، ونطق زعيم الدين ، وخرست شقاشق (٨) الشياطين ، وطاح وشيظ (٩) النفاق ، وانحلت عقد الكفر والشقاق ، وفهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص (١٠) ، وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ونهزة (١١) الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام (١٢) ، تشربون الطرق (١٣) وتقتاتون القدّ ، أذلّة خاسئين ، تخافون أن

__________________

(١) سورة فاطر : ٢٨.

(٢) سورة التوبة : ١٢٨.

(٣) تعزوه : تسندوه.

(٤) الصدع : الإظهار ، والنذارة بالكسر : الإنذار وهو الإعلام على وجه التخويف.

(٥) الثبج : وسط الشيء ومعظمه.

(٦) الكظم بالتحريك : مخرج النفس من الحلق.

(٧) تفرّى : انشق حتى ظهر وجه الصباح.

(٨) شقاشق جمع شقشقة بالكسر وهي : شيء كالرئة يخرجها البعير من فيه إذا هاج.

(٩) طاح : هلك ، والوشيظ السفلة والرذل من الناس.

(١٠) الخماص : نقي البطن عن الحرام.

(١١) نهزة الطامع : الفرصة أي محل نهزته.

(١٢) قبسة العجلان : مثل في الاستعجال. وموطئ الأقدام : مثل مشهور في المغلوبية والمذلة.

(١٣) الطرق : بالفتح ماء السماء الذي تبول فيه الإبل وتبعر. وبهم الرجال : شجعانهم.

٢٨٢

يتخطفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد اللتيا والّتي ، وبعد أن مني ببهم الرجال ، وذؤبان العرب ، ومردة أهل الكتاب (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) (١) ، أو نجم قرن (٢) للشيطان وفغرت فاغرة (٣) من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها (٤) ، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها (٥) بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه ، مكدود في ذات الله ، مجتهدا في أمر الله ، قريبا من رسول الله ، سيّد أولياء الله ، مشمّرا ناصحا ، مجدّا كادحا ، وأنتم في رفاهية من العيش ، وادعون فاكهون آمنون ، تتربصون بنا الدوائر ، وتتوكفون (٦) الأخبار ، وتنكصون عند النزال ، وتفرّون عند القتال.

فلما اختار الله لنبيّه دار أنبيائه ، ومأوى أصفيائه ، ظهر فيكم حسيكة (٧) النفاق ، وسمل (٨) جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ، وهدر فينق (٩) المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم ، فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللغرّة فيه ملاحظين ، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا ، وأحمشكم (١٠) فألفاكم غضابا ، فوسمتم غير إبلكم ، وأوردتم غير شربكم ، هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لمّا يندمل ، والرسول لمّا يقبر ،

__________________

(١) سورة المائدة : ٦٤.

(٢) نجم بالفتح : ظهر ، وقرن الشيطان : أمته وتابعوه.

(٣) فغرفاه : أي فتحه ، والفاغرة : جماعة أو طائفة.

(٤) لهوات : جمع لهات : وهي اللحمة في أقصى الفم.

(٥) الصّماخ : خرق الأذن وقيل هو الأذن نفسها ، والأخمص : ما دخل من باطن القدم فلم يصب الأرض.

(٦) تتوكفون : تتوقعون أخبار المصائب والفتن النازلة بنا.

(٧) حسيكة : العداوة.

(٨) سمل : صار خلقا.

(٩) الهدير : ترديد البعير صوته في حنجرته ، والفينق المكرم من الإبل لا يركب ولا يهان.

(١٠) أحمشكم : حملكم على الغضب.

٢٨٣

ابتدارا زعمتم خوف الفتنة (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (١).

فهيهات منكم! وكيف بكم؟! وأنى تؤفكون ، وكتاب الله بين أظهركم؟ أموره ظاهرة ، وأحكامه زاهرة ، وأعلامه باهرة ، وزواجره لائحة ، وأوامره واضحة ، وقد خلفتموه وراء ظهوركم ، أرغبة عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟! (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢).

ثم لم تلبثوا إلّا ريث أن تسكن نفرتها ويسلس قيادها ، ثم أخذتم تورون وقدتها ، وتهيجون جمرتها ، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي ، وإطفاء أنوار الدين الجلي ، وإهمال سنن النبيّ الصفي ، تسرّون حسوا في ارتغاء ، وتمشون لأهله وولده في الخمر والضراء ، ونصبر منكم على مثل حزّ المدى ، ووخز السنان في الحشا وأنتم تزعمون الآن أن لا إرث لنا (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٣) ، بلى تجلّى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته ، أيها المسلمون أأغلب على إرثي؟!

يا ابن أبي قحافة! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد جئت شيئا فريّا ، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) (٤) وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا عليه‌السلام (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٥).

وقال : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (٦).

__________________

(١) سورة التوبة : ٤٩.

(٢) آل عمران : ٨٥.

(٣) سورة المائدة : ٥٠.

(٤) سورة النمل : ١٦.

(٥) سورة مريم : ٥ ـ ٦.

(٦) سورة الأنفال : ٧٥.

٢٨٤

وقال : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (١).

وقال : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (٢).

وزعمتم أن لا حظوة لي! ولا إرث من أبي! ولا رحم بيننا! أفخصكم الله بآية أخرج منها أبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! أم هل تقولون : إن أهل ملتين لا يتوارثان ، أولست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة ، أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟!

فدونكها مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمّد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذ تندمون ، (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) (٣). (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ* مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٤). ثم رمت بطرفها نحو الأنصار ، فقالت :

يا معشر النقيبة ، وأعضاد الملّة ، وحضنة الإسلام! ما هذه الغميزة في حقي ، والسنة عن ظلامتي؟! أما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبي يقول : «المرء يحفظ في ولده» ، سرعان ما أحدثتم ، وعجلان ذا إهالة ، ولكم طاقة بما أحاول ، وقوة على ما أطلب وأزاول ، أتقولون مات محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فخطب جليل استوسع وهنه ، واستنهر فتقه وانفتق رتقه ، وأظلمت الأرض لغيبته ، وكسفت النجوم لمصيبته ، وأكدت الآمال ، وخشعت الجبال ، وأضيع الحريم ، وأزيلت الرحمة عند مماته ، فتلك والله النازلة الكبرى ، والمصيبة العظمى ، لا مثلها نازلة ، ولا بائقة عاجلة ، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم وفي ممساكم ومصبحكم ، هتافا وصراخا وتلاوة وألحانا ، ولقبله ما حلّ بأنبياء الله ورسله ، حكم فصل ، وقضاء حتم.

__________________

(١) سورة النساء : ١١.

(٢) سورة البقرة : ١٨٠.

(٣) سورة الأنعام : ٦٧.

(٤) سورة الزمر : ٣٩ ـ ٤٠.

٢٨٥

(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (١).

إيها بني قيلة أأهضم تراث أبي وأنتم بمرأى مني ومسمع ، ومنتدى ومجمع ، تلبسكم الدعوة ، وتشملكم الخبرة ، وأنتم ذوو العدد والعدّة ، والأداة والقوة ، وعندكم السلاح والجنّة توافيكم الدعوة فلا تجيبون ، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون ، وأنتم موصوفون بالكفاح ، معروفون بالخير والصّلاح ، والنجبة التي انتجبت ، والخيرة التي اختيرت ، قاتلتم العرب ، وتحملتم الكدّ والتعب ، وناطحتم الأمم ، وكافحتم البهم ، فلا نبرح أو تبرحون ، نأمركم فتأمرون ، حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام ، ودرّ حلب الأيام وخضعت ثغرة الشرك ، وسكنت فورة الإفك ، وخمدت نيران الكفر ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوسق نظام الدين ، فأنّى جرتم بعد البيان ، وأسررتم بعد الإعلان ، ونكصتم بعد الإقدام ، وأشركتم بعد الإيمان ، (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢). ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض ، وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض ، وخلوتم بالدعة ، ونجوتم من الضيق بالسعة ، فمججتم ما وعيتم ، ودسعتم الذي تسوّغتم.

(إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) (٣) ، ألا وقد قلت ما قلت على معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم ، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم ، ولكنها فيضة النفس ، ونفثة الغيظ ، وخور القنا ، وبثة الصدر ، وتقدمة الحجّة ، فدونكموها ، فاحتقبوها دبرة الظهر ، نقبة الخفّ ، باقية العار ، موسومة بغضب الله وشنار الأبد ، موصولة بنار الله (الْمُوقَدَةُ* الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (٤) ، فبعين الله

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٤٤.

(٢) سورة التوبة : ١٣.

(٣) سورة ابراهيم : ٨.

(٤) سورة الهمزة : ٦ ـ ٧.

٢٨٦

ما تفعلون (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (١).

وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فاعملوا فإنا عاملون انتظروا فإنا منتظرون.

فأجابها أبو بكر عبد الله بن عثمان فقال :

يا ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفا كريما رءوفا رحيما وعلى الكافرين عذابا أليما وعقابا عظيما ، فإن عزوناه وجدناه أباك دون النساء ، وأخا لبعلك دون الأخلّاء ، آثره على كل حميم ، وساعده في كل أمر جسيم ، لا يحبّكم إلا كلّ سعيد ، ولا يبغضكم إلا كلّ شقي ، فأنتم عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطيّبون ، والخيرة المنتجبون ، على الخير أدلّتنا ، وإلى الجنّة مسالكنا ، وأنت يا خيرة النساء وابنة خير الأنبياء ، صادقة في قولك ، سابقة في وفور عقلك ، غير مردودة عن حقّك ، ولا مصدودة عن صدقك ، والله ما عدوت رأي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا عملت إلّا بإذنه ، وإنّ الرائد لا يكذب أهله ، وإني أشهد الله وكفى به شهيدا إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضّة ولا دارا ولا عقارا وإنّما نورث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة ، وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه ، وقد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح يقاتل به المسلمون ويجاهدون الكفار ، ويجالدون المردة الفجّار وذلك بإجماع من المسلمين لم أتفرّد به وحدي ، ولم استبدّ بما كان الرأي فيه عندي ، وهذه حالي ومالي هي لك وبين يديك لا نزوى عنك ولا ندّخر دونك ، وأنت سيدة أمة أبيك ، والشجرة الطيبة لبنيك ، لا ندفع ما لك من فضلك ، ولا نوضع من فرعك وأصلك ، حكمك نافذ فيما ملكت يداي فهل ترين أن أخالف في ذلك أباك؟.

فقالت عليها‌السلام : سبحان الله ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كتاب الله صادقا ولا

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٢٧.

٢٨٧

لأحكامه مخالفا ، بل كان يتّبع أثره ، ويقفو سوره ، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالا عليه بالزور؟ وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته ، هذا كتاب الله حكما عدلا ، وناطقا فصلا ، يقول : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (١) ، (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) (٢) فبيّن عزوجل فيما وزّع عليه من الأقساط ، وشرّع من الفرائض والميراث ، وأباح من حظ الذكران والإناث ما أزاح علّة المبطلين ، وأزال التظنّي والشبهات في الغابرين.

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (٣).

فقال أبو بكر : صدق الله وصدق رسول الله وصدقت ابنته ، أنت معدن الحكمة وموطن الهدى والرحمة ، وركن الدين ، وعين الحجّة ، لا أبعد صوابك ، ولا أنكر خطابك ، هؤلاء المسلمون بيني وبينك قلّدوني ما قلّدت ، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت ، غير مكابر ولا مستبدّ ، ولا مستأثر ، وهم بذلك شهود. فالتفتت فاطمة عليها‌السلام إلى الناس وقالت :

معاشر الناس المسرعة إلى قيل الباطل ، المغضية على الفعل القبيح الخاسر (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٤) كلا بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم ، فأخذ بسمعكم وأبصاركم ، ولبئس ما تأولتم ، وساء ما به أشرتم ، وشرّ ما منه اغتصبتم ، لتجدنّ والله محمله ثقيلا ، وغبّه وبيلا ، إذا كشف لكم الغطاء ، وبان ورائه الضرّاء ، وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون ، وخسر هنالك المبطلون. ثم عطفت على قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالت :

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختلّ قومك فاشهدهم وقد نكبوا

__________________

(١) سورة مريم : ٦.

(٢) سورة النمل : ١٦.

(٣) سورة يوسف : ١٨.

(٤) سورة محمّد : ٢٤.

٢٨٨

وكل أهل له قربى ومنزلتي

عند الإله على الأدنين مقترب

أبدت رجال لنا نجوى صدورهم

لما مضيت وحالت دونك الترب

تجهّمتنا رجال واستخفّ بنا

لما فقدت وكل الأرض مغتصب

وكنت بدرا ونورا يستضاء به

عليك تنزل من ذي العزة الكتب

وكان جبريل بالآيات يؤنسنا

فقد فقدت فكلّ الخير محتجب

فليت قبلك كان الموت صادفنا

لما مضيت وحالت دونك الكثب

إنّا رزينا بما لم يرز ذو شجن

من البريّة لا عجم ولا عرب (١)

ثم انكفأت عليها‌السلام وأمير المؤمنين عليه‌السلام يتوقع رجوعها إليه ، ويتطلّع طلوعها عليه ، فلما استقرّت بها الدار ، نسب إليها أنها قالت لأمير المؤمنين عليه‌السلام :

[يا ابن أبي طالب! اشتملت شملة الجنين وقعدت حجرة الضنين نقضت قادمة الأجدل ، فخانك ريش الأعزل ، هذا ابن أبي قحافة يبتزّني نحلة أبي ، وبلغة (بليغة) ابني ، لقد أجهر في خصامي ، وألفيته ألدّ في كلامي ، حتى حبستني قيلة نصرها ، والمهاجر وصلها ، وغضت الجماعة دوني طرفها ، فلا دافع ولا مانع ، خرجت كاظمة ، وعدت راغمة ، أضرعت خدّك يوم أضعت حدّك ، افترست الذئاب ، وافترشت التراب ، ما كففت قائلا ، ولا أغنيت باطلا ، ولا خيار لي ، ليتني متّ قبل هينتي (هنيئتي) ، ودون زلّتي ، عذيري الله منك عاديا ، ومنك حاميا.

ويلاي في كل شارق ، مات العمد ، ووهن العضد ، شكواي إلى أبي ، وعدواي إلى ربّي ، اللهمّ أنت أشدّ قوة وحولا ، وأحدّ بأسا وتنكيلا.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا ويل عليك ، بل الويل لشانئيك ، نهنهي عن وجدك يا ابنة الصفوة ، وبقيّة النبوة ، فما ونيت عن ديني ، ولا أخطأت مقدوري ، فإن كنت تريدين البلغة فرزقك مضمون ، وكفيلك مأمون ، وما أعدّ لك أفضل ممّا

__________________

(١) الاحتجاج ج ١ / ١٣١ ـ ١٤٥ ، وبحار الأنوار ج ٢٩ / ١٠٧ ـ ١١٥ والشافي في الإمامة ج ٤ / ٧٠ ودلائل الإمامة للطبري ص ٣٣.

٢٨٩

قطع عنك ، فاحتسبي الله ، فقالت : حسبي الله ، وأمسكت] (١).

أقول :

إن هذه الخطبة الجليلة من ذخائر بيت الوحي ، حافظ عليها رجالات الشيعة عامة ، والعلويون منهم خاصة ، يحرصون على روايتها لما فيها من حجج دامغة تثبت ظلامة الصدّيقة الشهيدة الزهراء وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام عند مناوئيهم ، بحيث لم تترك مجالا لأولئك الظلمة الذين بلغوا الذروة في باطلهم وتهالكهم على جمع الحطام ، واضطهادهم ذرية نبيهم وتماديهم على الضلالة ، وقد طفحت الكتب من الفريقين بذكرها واشتبكت الأسانيد على نقلها. «ومن استشف حقائقها ، وألمّ بها إلمامة صحيحة لا يشك في أنها تنهدات الصدّيقة الحوراء وأنها نفثة مصدور وغضبة حليمة لا تجد مندوحة من الأصحار بالحقيقة حيث بلغ السكين المذبح فصبتها في بوتقة البيان لتبقى حجة بالغة مدى الأحقاب تعريفا للملإ الديني في الحاضر والغابر محل القوم من الفظاظة والحيف المفضيين إلى عدم جدارتهم لمنصب الخلافة وبعدهم عن مستوى الإمامة ومباينتهم للحق.

على أن جملها شاهدة فذّة على إثبات نسبتها إلى ابنة الرسالة لما فيها من إلماعة ضوء النبوة ونشرة من عبق الإمامة ونفحة من نفس الهاشميين مداره الكلام وأمراء البلاغة» (٢).

وأمّا ما ورد في الفقرة الأخيرة فإنّا نشك بصحة صدورها عن الصدّيقة الطاهرة وذلك للملاحظات التالية :

أولا : شدة التوبيخ الصادر إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام مع علمها بعصمته وكونه مأمورا من الله تعالى على لسان رسوله الكريم بعدم حمل السلاح لدفع القوم إلّا بعد إتمام العدّة وهي أربعون رجلا ، مما يستلزم صدور العبث والجهل منها ـ

__________________

(١) الاحتجاج ج ١ / ١٤٥ وبحار الأنوار ج ٢٩ / ١١٥.

(٢) وفاة الصدّيقة الطاهرة / المقرّم ص ٧٨.

٢٩٠

حاشاها روحي فداها ـ وقد دفعه المولى عزّ اسمه عنها. مضافا إلى أن صدور ذلك منها يعدّ اعتراضا على أمير المؤمنين الذي يدور الحق معه حيثما دار ، وهي على علم بذلك كلّه.

ثانيا : الدعاء على نفسها بالويل والثبور ، ولا نتصوّر أن مؤمنا يدعو على نفسه بالويل الذي لا يعرف مداه إلّا الله تعالى ، فإذا لم يعقل هذا بحق المؤمن فكيف بمن هي سيّدة المؤمنين والتي طهّرها الله في محكم التنزيل؟!

ثالثا : اتهام أمير المؤمنين لزوجه الصدّيقة بأنها أرادت البلغة من فدك لتحصيل الرزق ووعظه لها بأن رزقها مضمون وما اعدّ لها خير وأفضل مما قطع عنها ، وكل ذلك مخالف لمسلكها في الزهد والتقى ، وخلافا لسيرتها الطاهرة في إيثار الفقراء على نفسها حتى نزلت فيها آيات ، مضافا إلى مخالفة ما ذكر لمبدإ العصمة الذي حباها المولى عزّ اسمه به ، من خلال هذه القرائن نطمئن إلى عدم صحة صدورها من الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام لمخالفتها لصريح الكتاب الكريم القائل بطهارتها وقداستها ، ونحن مأمورون من قبل أئمتنا عليهم‌السلام بعرض أخبارهم على كتاب الله فإن كان موافقا له نأخذ به وإلّا فلا ـ حسبما تقتضيه قواعد الترجيح في أصول الفقه وعلم الكلام. نعم يمكن أن نأخذ بهذه الفقرة إذا أمكن تأويلها بما يتناسب وأصول عقيدتنا ، بحيث لا تخالف ما ذكرنا آنفا ، وعليه فيمكننا القول إن الفقرة المذكورة خطاب من الصدّيقة الطاهرة لأمير المؤمنين عليهما‌السلام والمقصود غيره من تلك الأمة النائمة والخانعة التي حنثت بعهدها إلى أمير المؤمنين عليّ في غدير خم وأمثالها من المواقع التي أخذ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها الميثاق على هذه الأمة بنصرة وليّ الله الأعظم وزوجه الصدّيقة فاطمة صاحبة الدلالات والآيات الباهرات والحجة على من في الأرض والسماء.

وبعبارة أخرى : لقد أرادت مولاتنا الصدّيقة الشهيدة من خلال تلك العبارات اللاذعة استنهاض تلك الثلة التي اشتملت شملة الجنين فسمعت الحقّ وتغافلت عن نصرته ، كما أرادت ـ فديتها بنفسي ـ فديتها بنفسي ـ أن تشعل فيهم ثورة الغضب على الباطل ،

٢٩١

وتأجّج فيهم شعلة الإيمان واليقين بالعترة الطاهرة ، فكان خطابها كخطاب القرآن الكريم لرسول الله من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة).

وبالجملة فإن الخطبة الشريفة قصمت ظهور القوم وبدّدت أحلامهم ، فكان من أبي بكر أن تجرأ على الصدّيقة الطاهرة بكلام ينمّ عن عدم اعتقاد بما نزل بحقها من قرآن ، ولا بما كان يكنّه النبيّ لها من احترام.

فكان ردّه عليها لاذعا قال ـ حسبما ذكر ابن أبي الحديد في شرحه ـ :

أيها الناس ما هذه الرعة إلى كل قالة! أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله؟ ألا من سمع فليقل ، ومن شهد فليتكلم ، إنما هو ثعالة شهيدة ذنبه ، مربّ (١) لكل فتنة ، هو الذي يقول : كرّوها جذعة (٢) بعد ما هرمت ، يستعينون بالضعفة ، ويستنصرون بالنساء ، كأم طحال أحبّ أهلها إليها البغي!! ألا إني لو أشاء أن أقول لقلت ، ولو قلت لبحت ، إني ساكت ما تركت.

ثم التفت إلى الأنصار ، فقال : قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم ، وأحقّ من لزم عهد رسول الله أنتم ، فقد جاءكم فآويتم ونصرتم ، ألا إني لست باسطا يدا ولا لسانا على من لم يستحق ذلك منا. ثم نزل ، فانصرفت «الصدّيقة» فاطمة عليها‌السلام إلى منزلها.

ثم قال ابن أبي الحديد : قلت للنقيب أبي يحيى بن أبي زيد البصري : بمن يعرّض؟

فقال : بل يصرّح ، قلت : لو صرّح لم أسألك.

فضحك ، وقال : بعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

قلت : هذا الكلام كلّه لعليّ يقوله؟

__________________

(١) مرب : ملازم.

(٢) الجذعة : الصغير من الغنم وهنا كناية عن الفتنة.

٢٩٢

قال : نعم ، إنه الملك يا بنيّ! قلت : فما مقالة الأنصار؟

قال : هتفوا بذكر عليّ فخاف من اضطراب الأمر عليه فنهاهم.

فسألته عن غريبه ، فقال :

أما الرعة ـ بالتخفيف ـ اي الاستماع والإصغاء.

والقالة : القول.

وثعالة : اسم الثعلب ، علم غير مصروف ، ومثل ذؤالة للذئب ، وشهيدة ذنبه : أي لا شاهد له على ما يدّعي إلا بعضه وجزء منه وأصله مثل ، وقالوا : إن الثعلب أراد أن يغري الأسد بالذئب ، فقال : إنه قد أكل الشاة التي كنت قد أعددتها لنفسك وكنت حاضرا ، قال : فمن يشهد لك بذلك؟ فرفع ذنبه وعليه دم ، وكان الأسد قد افتقد الشاة ، فقبل شهادته ، وقتل الذئب.

ومربّ : ملازم ، اربّ بالمكان.

وكرّوها جذعة : أعيدوها إلى الحال الأولى ، يعني الفتنة والهرج.

وأم طحال : امرأة في الجاهلية ، يضرب بها المثل ، فيقال : أزنى من أم طحال (١).

روى الشيخ جمال الدين في الدر النظيم : أنّ أم سلمة زوجة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين سمعت ما جرى للسيّدة الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام ردت على أبي بكر فقالت :

ألمثل فاطمة بنت رسول الله يقال هذا القول؟!

هي ـ والله ـ الحوراء بين الإنس ، والنفس للنفس ، ربّيت في حجور الأتقياء ، وتناولتها أيدي الملائكة ، ونمت في حجور الطاهرات ، ونشأت خير نشأة ، وربيت

__________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٦ / ٣٤٧.

٢٩٣

خير مربى ، أتزعمون أن رسول الله حرّم عليها ميراثها ولم يعلمها ، وقد قال الله تعالى :

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (١).

أفأنذرها وخالفت مطلبه؟ وهي خيرة النسوان وأمّ سادة الشبان ، وعديلة مريم ، تمّت بأبيها رسالات ربه ، فو الله لقد كان يشفق عليها من الحرّ والقرّ ، ويوسدها يمينه ويلحفها بشماله ، رويدا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمرأى منكم ، وعلى الله تردون ، واها لكم ، فسوف تعلمون.

قال : فحرمت عطاؤها تلك السنة (٢).

ولا يمكنني إلّا أن أتجاهر بالحق وأصدع به : إن التجاسر على سيدة نساء العالمين وبضعة رسول رب العالمين سببه كفر هؤلاء وعدم اعتقادهم برسول الله ، وإلا لو كانوا مؤمنين بالله وبرسوله لكان عليهم مراعاة من قال عنه نبيّ الرحمة «عليّ مع الحق والحق مع عليّ يدور معه حيثما دار» و «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها» ، ولا عجب أن يصدر من أبي بكر كلام كهذا وقد صدر منهما ما هو أعظم حينما اعتديا عليها باقتحام دارها وكسر ضلعها ورفسها على بطنها!!

ونصيحتي للأتباع أن يفتحوا قلوبهم على الحقيقة ، فلا ميزة للصحابي عن غيره من المسلمين إلّا بمقدار ما يتقي الله في حلاله وحرامه ، فليست الصحبة معيارا للإيمان ودخول الجنان ، كما ليست من اللوازم الذاتية لثبوت الإسلام ، بل الاعتقاد والعمل الصالح هما الميزان قال تعالى : (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (٣).

والنتيجة :

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢١٤.

(٢) الصدّيقة فاطمة من المهد إلى اللحد / القزويني ص ٥٠٥.

(٣) سورة العصر.

٢٩٤

لقد كفر أبو بكر بسبب ستة أمور هي القدر المتيقن :

١ ـ ادّعى الخلافة لنفسه.

٢ ـ اعتداؤه على سيّدة النساء فاطمة عليها‌السلام وضربها وكسر ضلعها وأسقط جنينها واسمه محسن عليه‌السلام.

٣ ـ تغييره لأحكام الإسلام.

٤ ـ تكذيبه للسيّدة الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام ولأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وردّ شهادته وولديه الإمامين الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة كما في الحديث المتواتر بين الفريقين ، وقد طهّرهم الله تعالى في محكم قرآنه.

٥ ـ نفى العصمة عنها ، ومن نفى العصمة عمّن طهّره الله فقد كفر بما نزل على رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٦ ـ ادّعى كذبا على رسول الله أن الأنبياء لا يورّثون ، ويعتبر هذا ردا لحكمه تعالى ، وإبطالا له ، ومن أبطل حكم الله عزوجل فقد كفر (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُون) (١).

وقد حكّمت الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام بينها وبين أبي بكر القرآن الكريم فلم يرض ، وقد قال الله بحق من لم يرض بحكمه :

(وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢).

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٣).

__________________

(١) سورة المائدة : ٤٤.

(٢) سورة البقرة : ٢١٣.

(٣) سورة آل عمران : ٢٣.

٢٩٥

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١).

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٢).

لقد دعته الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام إلى الله ورسوله فأبى :

(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا)(٣).

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٤).

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (٥).

لقد استهزأ أبو بكر بكلام السيدة فاطمة وأمير المؤمنين وولديهما وشيعتهما أمثال أسماء بنت عميس وأم أيمن وأم سلمى وغيرهما وقد قال الله عن المستهزئين :

(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً)(٦).

من هذا المنطلق هجرته (٧) الصديقة الزهراء ولم تكلّمه بل أوصت أن تدفن

__________________

(١) سورة المائدة : ٤٥.

(٢) سورة المائدة : ٤٧.

(٣) سورة النور : ٥١.

(٤) سورة النساء : ٦٥.

(٥) سورة الأحزاب : ٣٦.

(٦) سورة النساء : ١٤٠.

(٧) اتفق على رواية هجرانها لأبي بكر عامة المؤرخين ، لاحظ شرح النهج ج ١٦ / ٣٥٠ ، والإمامة والسياسة للدينوري.

٢٩٦

سرا حتى لا يشاركا المؤمنين بالصلاة عليها استنكارا عليهما.

وقد أبطلت مولاتنا الصدّيقة الطاهرة كلام أبي بكر وفنّدته من أساسه ، ومما قالت :

يا ابن أبي قحافة! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد جئت شيئا فريّا ، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) (١) وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا عليه‌السلام إذ قال ربّ (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (٢).

وقال : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (٣).

وقال : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (٤).

وقال : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (٥).

ثم قالت : وزعمتم أن لا حظوة لي! ولا إرث من أبي! أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها؟! أم هل تقولون أهل ملتين لا يتوارثان؟ أولست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة ، أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟!

وهكذا مضت مولاتنا الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام تفنّد له مقالته بندا بندا وهو ساكت لا يمكنه الجواب على سليلة الطهر والكرامة.

لقد أبطلت عليها‌السلام دعواه التي هي عكس قانون الوراثة والتوارث بين الأنبياء ، أما كان داود وابنه سليمان من الأنبياء؟!.

__________________

(١) سورة النمل : ١٦.

(٢) سورة مريم : ٥ ـ ٦.

(٣) سورة الأنفال : ٧٥.

(٤) سورة النساء : ١١.

(٥) سورة البقرة : ١٨٠.

٢٩٧

لقد أشارت سيّدة الطهر عليها‌السلام على أبي بكر أن معنى قوله تعالى (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) هو إرث المال ، وهكذا فهم أبو بكر وجميع المسلمين آنذاك وهم يستمعون إلى خطبة الصدّيقة الشريفة فاطمة عليها‌السلام ، ومعنى ذلك أن سليمان ورث أموال أبيه داود ، ولم يفهموا غير هذا ، وهذا الكلام له دلالاته في اللغة العربية ، إذ إن كلمة «إرث» عند ما تطلق يتبادر منها معناها الحقيقي ، إلّا إذا جاءت قرينة صارفة عن معناها الحقيقي إلى آخر مجازي.

فحينما طلب زكريا من الله عزوجل أن يرزقه غلاما يرثه بالمال حرصا من أن يرثه الفسّاق من أقاربه ، وليس المراد من الإرث وراثة العلم لأن الله قادر أن يهب العلم ليحيى من دون استعانة بزكريا أو بآل يعقوب (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) فزكريا لم يطلب من الله أن يرزقه ولدا يرث العلم من آل يعقوب بل أراد إرث المال.

قد يقال : إن زكريا أراد إرث النبوة بمعنى أن يرثه بالنبوة.

قلنا : إن النبوة لا تورّث ، فمن كان قادرا على إيهاب النبوة على زكريا قادر على إيهابها من دون تعلّم أو تعليم.

ودعوى أن سليمان ورث داود بالعلم لا بالمال ، وكذا يحيى ورث زكريا بالعلم لا المال مردودة بما يلي :

أولا : إن لفظ الإرث والميراث يستعمل شرعا وعرفا ولغة في المال ، فإذا قلنا : إن زيدا ورث عمروا ، فالظاهر منه أنه ورثه بالمال ، لا أنه وارثه في العلم أو المعرفة ، إلّا إذا كانت هناك قرينة كما قلنا آنفا تدل على إرث العلم والمعرفة كقوله تعالى :

(وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) (١).

__________________

(١) سورة غافر : ٥٣.

٢٩٨

فالكتاب قرينة على أن الإرث هو المعرفة هنا لا المال ، وكذا قوله تعالى :

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) (١).

وكذا قوله تعالى :

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) (٢).

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (٣).

ثانيا : إنّ الوراثة لسليمان عليه‌السلام ويحيى من داود وزكريا هو إرث المال لا العلم لأن سليمان كان نبيا في حياة أبيه داود حسبما قصّ علينا القرآن الكريم في قصة الزرع الذي نفشت فيه غنم القوم (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) (٤).

وورد في تفسير قوله تعالى : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) (٥) إن النبيّ سليمان ورث من أبيه داود ألف فرس حينما أصابها النبيّ داود من العمالقة (٦) ، وهي الجياد استعرضها سليمان مسرورا بها.

فسليمان ورث أباه داود تلك الخيول والأفراس وغيرها من الأموال التي تركها داود ، فثبت بهذا أن سليمان ورث أباه بالمال لا بالعلم.

ودعوى الآلوسي في تفسيره «بأن الأنبياء لا يورّثون لحديث رواه أبو بكر محتجا به في مسألة فدك والعوالي بمحضر الصحابة وهم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم» (٧) مردودة عليه وذلك :

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٢.

(٢) سورة الأعراف : ١٣٧.

(٣) سورة الشورى : ١٤.

(٤) سورة الأنبياء : ٧٩.

(٥) سورة ص : ٣١.

(٦) بحار الأنوار ج ١٤ / ١٠٢ ومجمع البيان ج ٨ / ٢٧٦ وتفسير الكشاف للزمخشري ج ٤ / ٨٨.

(٧) روح المعاني ج ١٣ / ٢٨٠.

٢٩٩

١ ـ لأن الخبر الذي رواه أبو بكر هو خبر واحد ولا حجية في أخبار الآحاد لا سيّما الصادر منه لكونه غير مأمون على الدين والدنيا.

٢ ـ أن الخبر مشكوك الصدور يصادم العمومات القرآنية القطعية الصدور ، فكيف يقدّم المشكوك على المقطوع؟!

٣ ـ أن الآلوسي يكذّب الإمام عليّا والسيّدة الزهراء عليهما‌السلام وجلة الصحابة أمثال سلمان وجابر وأم سلمى وأسماء بنت عميس وغيرهم ممن وقفوا مع أمير المؤمنين ، أوليس هؤلاء من الصحابة الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم؟!!

إذن وراثة سليمان لداود مالية ، وأما وراثة يحيى لزكريا فكانت مالية أيضا لا علمية لأن علوم الأنبياء لدنية إفاضية لا اكتسابية تحصيلية كما تشير إلى ذلك النصوص القرآنية كقوله تعالى :

(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١).

(وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (٢).

(فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) (٣).

(وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (٤).

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) (٥).

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٦).

__________________

(١) سورة البقرة : ٥٣.

(٢) سورة البقرة : ٨٧.

(٣) سورة النساء : ٥٤.

(٤) سورة النساء : ١٦٣.

(٥) سورة الأعراف : ١٧٥.

(٦) سورة يوسف : ٢٢.

٣٠٠