أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

وله اعتراضات كثيرة على الظالمين له باغتصابهم حقه والاعتداء عليه وعلى سيّدة النساء مولاتنا فاطمة عليها‌السلام ، فكيف جاز حينئذ أن يترك حقا واجبا عليه ـ وهو على أقل تقدير نصرة السيدة الزهراء التي يرضى الله لرضاها ويسخط لسخطها حسبما جاء في المتواتر ـ وكيف يجرؤ هؤلاء بأن ينسبوا إلى الإمام عليّ رضاه عن الشّيخين اللذين ظلما زوجه الطاهرة الزكية وقد قال في حقه رسول الله : عليّ مع الحق ، والحق مع علي يدور معه حيثما دار؟.

وقال عنه : إنه من ثاني الثقلين اللذين لم يفترقا حتى يردا عليه الحوض وحكم بأن من تمسك بهما لن يضل أبدا ، ومن أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا؟!

٣ ـ إنّ عدم رضا سيدة النساء الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام بيعة أبي بكر إمّا أن يكون بحق أو باطل.

فإن كان الأول كان أبو بكر ظالما ، وإن كان الثاني وجب على أمير المؤمنين أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر ، وبعدم فعلهم يكونون مخلّين بالواجب ، وكونهم لم يفعلوا دل ذلك على أنها كانت محقة ، وأن أبا بكر وأتباعه ظالمون لها.

ودعوى أن الشيخين اعترضا عليها فيدل أنهما محقان دونها باطلة ، لأن السيدة فاطمة مطهّرة بنص الكتاب دونهما ، فالاعتراض عليها يكون ردا على كتاب الله الدال على طهارتها وكونها بضعة الرسول وثمرة فؤاده ومهجة كبده وتفاحة الفردوس وسيدة النساء ، كيف يردّ أبو بكر قولها ويعتدي عليها بحجة أخذ البيعة له من زوجها وهو ما فتئ بايع الإمام عليا يوم غدير خم في نفس العام الذي توفى فيه رسول الله!!؟

وليس من العجب أن يجتري الشيخان على بضعة النبيّ التي ربّاها رسول الله ، وهي إحدى العترة الذين هم أحد الثقلين ، فينسبان إليها مخالفة الواجب ، وينعتانها بالباطل ، فقد اجتريا على الله تعالى بادعائهما الخلافة لهما وتغييرهما حلال الله

٢٢١

وانتهاك حرماته ، واجتراؤهما على رسول الله ونعت الثاني له بالهجر وهو على فراش الموت.

وبالجملة :

إنّ تخلّف أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يكن مراعاة لحق مولاتنا الزهراء ، لأن البيعة لو كانت حقا خاصا لأبي بكر لم يكن للإمام عليه‌السلام أن يهادن عليه محاباة ولو للحظة واحدة ، وإنما تخلّفه كان من أجل الاعتراض على القوم ، وأنهم ادّعوا ما ليس لهم ، لأنّ الخلافة أمرها منوط بالنص الإلهي ، ولا مدخلية لآراء الناس فيها ، وعلى تقدير كونها منوطة بآراء الأمة فلا يخلو الأمر من ثلاثة :

أولها : أن تكون الإمامة على الخلق من المناصب الشرعية التي يكون الكتاب والسّنّة كافلين ببيان من له أهليتها وأحقيتها لأنهما قد اشتملا على بيان كل شيء ، فيلزم على هذا اجتماع كل من له أهلية استنباط الأحكام من المدارك المقررة ثم يتدارسونها ويستخرجون منها أحقية شخص معين للإمامة ، فمتى اتفقوا كلهم على دلالة الكتاب والسّنّة على إمامته انعقدت ، ومتى لم يتفقوا لم تنعقد ويعيدون النظر مرة أخرى وأخرى إلى أن يحصل الاتفاق ، ويلزم من هذا الوجه اعتبار قول من له أهلية الاستخراج من كتاب الله وسنّة رسوله من الرجال والنساء وغيرهم ، ويلزم منه أيضا أنهم إذا لم يتفقوا لم يحصل انعقاد الإمامة ، بل يجب إعادة النظر لأن نصب الإمام واجب على الخلق ، ولا يتم إلّا بالنظر ، وما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب ولا يكون لكل واحد أن يعمل برأيه ، وإن عمل لا يكون مؤاخذا لأن ذلك في المسائل الظنية التي لا دليل عليها قطعا.

ثانيها : أن تكون الإمامة على الخلق من المناصب الشرعية ، لكن المقتضى لثبوت حقوقها على الخلق من الطاعة والانقياد هو مبايعة الخلق ، فكل شخص يثبت الحق على نفسه ببيعته بمجرد الرأي من غير رجوع إلى الكتاب والسنة ، فإذا بايع الجميع انعقدت الإمامة شرعا عموما لأن كل شخص ـ بحسب هذه الدعوى ـ

٢٢٢

يحق له أن يبايع شخصا على أن يكون حاكما عليه ، وهذا مع ظهور فساده يستلزم دخول الناس ومنهم النساء في ذلك ، وكذا العوام المستضعفون ، فلو تخلّف واحد حينئذ لم تثبت الإمامة عموما.

وثالثها : أن تكون الإمامة من المناصب الدنيوية التي لا تعلق لها بالشرع بل هي منوطة برأي عرفاء الرجال كما يصنع كفّار الهند والإفرنج وكما هو سائد في زماننا هذا حيث يرشّح لرئاسة البلاد العارف بالسياسة ، وعلى هذا لا يكون الشيخان خليفتي رسول الله لأن انتخابهما لم يكن منوطا برأي عرفاء الرجال ، لأن من انتخب أبا بكر هم ثلة ممن لا عهد لهم بالسياسة ولا معرفة عندهم بالكتاب والسّنّة ، وعلى فرض أن لديهم من التجربة السياسية والمعرفة بالكتاب والسنّة ما يؤهلهم لئن يكونوا من أهل البصائر ، لكن أين سلمان وأبو ذر والمقداد وجابر وعمّار؟ بل أين الإمام عليّ وأين العبّاس وابنه عبد الله؟! أليسوا هؤلاء من أهل البصائر والمعرفة بأصول السياسة والكتاب والسنّة؟.

وعلى هذا الأساس فالإمامة على مقتضى قول أهل السنة لا تخلو من هذه الأمور الثلاثة ، ووجه الحصر فيها :

أن الإمامة إمّا أن تكون منصبا شرعيا أو لا ، والأول إمّا أن يكون باستخراج أهل الحل والعقد ، أو بأن يبايع كل شخص عن نفسه ، وعلى كل هذه التقديرات يكون طلب أبي بكر وعمر وسائر من بايعهما الإمام عليا إلى البيعة ظلما ، فيثبت بذلك أن الظالم لا يستحق أن يكون الخليفة.

وأما الكبرى المنطقية حيث مفادها : أن كل ظالم ملعون ، فلا غبار عليها إذ إنّ كل من نازع أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام فهو كافر وملعون ، والملعون لا يستحق الخلافة لقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

الرابع :

ومن الأدلة على بطلان إمامة أبي بكر وصاحبيه عمر وعثمان ، كثرة المنكرات

٢٢٣

التي فعلوها في حياة النبيّ وبعد وفاته. ولا يمكننا في هذا البحث المقتضب أن نعدّد تلك المنكرات والمطاعن لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله ، فمنها :

ما فعلوه بالنبيّ وهو على فراش الموت حيث خالفوا أمره بتجهيز جيش أسامة والالتحاق به ، ثم لغطهم عند النبيّ عند ما طلب منهم إحضار الدواة والكتف ليكتب لهم الوصية بالكتاب والعترة ، ثم نعتهم له بالهجر والاكتفاء بكتاب الله حسبما جاء في كتب القوم من أن عمر قال : إن الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله.

ثم تركهم جنازة النبيّ واجتماعهم في السقيفة المعروفة ، والاعتداء على كرامة أمير المؤمنين ببيته وضربهم لسيّدة نساء العالمين وكسرهم لضلعها وإسقاطهم لجنينها والاستهانة والازدراء بها وتكذيبها ومنعهم إرثها واغتصابهم لحقها من الخمس وفدك. ولو لم يكن من المنكرات سوى اعتدائهم على حق الزهراء لكان كافيا بخروجهم من الدين والمروق عن شريعة سيّد المرسلين.

ومطاعن أبي بكر كثيرة نستعرض بعضا منها :

الطعن الأول :

تأمّره على الناس من دون أن يبيح الله تعالى له ذلك ولا رسوله ومطالبة جميع الأمة بالبيعة له والانقياد إلى طاعته طوعا وكرها فكان ذلك منه أول ظلم ظهر في الإسلام بعد وفاة رسول الله ، إذ كان هو وأولياؤه مقرين بأن الله ورسوله لم يولياه ذلك ولا أوجبا طاعته ولا أمرا ببيعته.

فلما انقاد الناس له طالبهم بالخروج إليه مما كان يأخذه رسول الله من الصدقات والأخماس وما شاكلها ، ثم سمّى نفسه بخليفة رسول الله ونفذت بذلك كتبه إلى الأمصار من خليفة رسول الله فكانت هذه الحالة منه جامعة للظلم والمعصية والكذب على النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك أنه لما طالبهم بالخروج إليه مما كان يأخذه منهم رسول الله من الصدقات وغيرها كان ذلك منه ظلما ظاهرا إذ كان يعلم أن الله ورسوله لم يجعلا له ولا إليه شيئا منه ولم يجعل الله ولا رسوله

٢٢٤

ولا ولاته شيئا من ذلك كان ظالما في مطالبته لهم به فظهرت منه المعصية لله ولرسوله إذ طالب بما ليس له بحق ، ولدعواه أنه خليفة رسول الله وقد علم وعلم معه الخاص والعام أنّ الرسول لم يستخلفه كان ظالما كاذبا بذلك على الله وعلى رسوله ، وصدق عليه قول النبيّ : من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار.

الطعن الثاني :

أن النبيّ لم يولّ أبا بكر شيئا من الأعمال مع أنه كان يولّيها غيره ، ولمّا أنفذه لأداء سورة براءة إلى أهل مكة عزله وبعث الإمام عليا عليه‌السلام ليأخذها منه ويقرأها على الناس ، ولما رجع أبو بكر إلى النبيّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يؤدي عني إلّا أنا أو رجل مني.

فمن لم يصلح لأداء سورة واحدة إلى أهل بلدة كيف يصلح للرئاسة العامة المتضمنة لأداء جميع الأحكام إلى عموم الرعايا في البلاد؟

الطعن الثالث :

لما انقاد لأبي بكر الناس طوعا وكرها امتنعت عليه قبيلة من العرب في دفع الزكاة إليه وقالوا له : إن الرسول لم يأمرنا بالدفع إليك ولا أمرك بمطالبتنا به فعلام تطالبنا بما لا يأمرك الله به ولا رسوله فسماهم أهل الرّدّة ، وبعث إليهم خالد بن الوليد في جيش فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم واستباح أموالهم وجعله فيئا قسّمه بين المسلمين ، فقبلوا ذلك منه مستحلين له إلا نفر كرهوا ذلك منهم عمر بن الخطّاب فإنه عزل سهمه منهم وكان عنده إلى أن ملك الأمر ثم رده عليهم فكانت خولة بنت جعفر بن قيس والدة محمد بن الحنفية منهم فبعث بها إلى أمير المؤمنين فتزوجها ولم يتملكها ، واستحل الباقون فروج نسائهم ، وقتل خالد بن الوليد رئيس القوم مالك بن نويرة وأخذ امرأته فوطأها من ليلته تلك من غير استبراء لها ، ولا وقعت عليها قسمة ، فأنكر عمر ذلك من فعله عليه وقال لأبي بكر في أمره فاحتج عليه بأن خالدا تأوّل فأخطأ ، فلما أكثر عليه عمر قال

٢٢٥

أبو بكر : ما كنت لأشيم سيفا سلّه الله تعالى.

لقد نصر أبو بكر خالدا ولم ينكر عليه مع أن القوم الذين كانوا مع خالد قالوا : إن جماعة مالك أذّن مؤذنهم وصلينا وصلوا وشهدنا الشهادتين وشهدوا فأي (١) ردة لهؤلاء.

وفي لفظ ابن الأثير : قال عمر لأبي بكر إن سيف خالد فيه رهق ، وأكثر عليه في ذلك ، فقال : هيه يا عمر! تأوّل فأخطأ ، فارفع لسانك عن خالد ، فإني لا أشيم سيفا سلّه الله على الكافرين ، وودى مالكا وكتب إلى خالد أن يقدم عليه ، ففعل ، ودخل المسجد وعليه قباء ، وقد غرز في عمامته أسهما ، فقام إليه عمر فنزعها وحطّمها وقال له : قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته ، والله لأرجمنّك بأحجارك ..» (٢).

ليت شعري كيف تأوّل أبو بكر فعل خالد ولم يتأوّل لمولاتنا بضعة المصطفى السيدة الزهراء عند ما طالبته بحقها من الخمس وفدك ، وإنكارها عليه اغتصابه الخلافة؟!!

ونحن نسأل الأتباع : كيف يسوغ لكم أن تتبعوا رجلا أفتى بدون علم قتل الأبرياء والاعتداء على الأعراض ، وصدقتموه بما فعل لمجرد كونه صحابيا ولم تتبعوا السيّدة الزهراء عليها‌السلام التي طهّرها الله في محكم قرآنه المجيد فقال عنها : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ...) وقال عنها نبيه الكريم : «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها» «من أسخط فاطمة فقد أسخط الله»؟!

الطعن الرابع : التخلف عن جيش أسامة :

من بدع أبي بكر أنه لم يمتثل أمر رسول الله اجتهادا منه كما يدّعي أتباعه لكن هذا الاجتهاد محرّما لكونه في مقابل النص (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ

__________________

(١) الاستغاثة ص ١٠ لأبي القاسم الكوفي المتوفى عام ٣٥٢ ه‍.

(٢) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٣٥٧ ، ط / دار صادر.

٢٢٦

وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (١).

فالأمة مجمعة في روايتها على أن رسول الله كان قد ضمه قبل وفاته إلى أسامة بن زيد مع صاحبه وجماعة من رؤساء المهاجرين والأنصار وأمرهم بالمسير معه إلى الشام وخرج أسامة في حياة الرسول فعسكر خارج المدينة واعتل الرسول علته التي توفي فيها ، وكرّر لهم النبي مقالته «نفذوا ـ أي جهزوا ـ جيش أسامة لعن الله المتخلّف عن جيش أسامة» إلى أن ارتحل النبي ولم ينفذوا جيش أسامة ثم أقبلا ـ أي أبو بكر وعمر ـ يخاصمان الأنصار في طلب البيعة ، فبايع الناس أبا بكر ، وأسامة على حال معسكره خارج خارج المدينة يراسلهم فلا يلتفتون إليه حتى إذا استوى لهم الأمر ، بعث ـ أبو بكر ـ إلى أسامة أن الناس نظروا في أمورهم فلم يجدوا لهم غنى عني ، وقد نظرت في أمري فلم أجد عن عمر غنى فخلفه عندي وامض في الوجه الذي أمرك به الرسول بالمضي فيه ، فكتب إليه أسامة من الذي أذن لك في نفسك بالتخلف عني حتى تطلب مني الإذن لغيرك إن كنت طائعا لله ولرسوله فارجع إلى معسكرك ومركزك الذي أقامك فيه رسول الله (٢).

ولم يكتف القوم بتخلفهم عن جيش أسامة حتى طعنوا بإمارته وقدحوا برسول الله مدّعين أنه أمر عليهم غلاما.

«فغضب الرسول غضبا شديدا فخرج وقد عصب على رأسه عصابة ، وعليه قطيفة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد أيّها الناس فما مقالة بلغني عن بعضكم في تأمير أسامة ولئن طعنتم في تأميري أسامة فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله ، وايم الله إنه كان للإمارة لخليقا وان ابنه من بعده لخليق للإمارة ، وإن كان لمن أحبّ الناس إليّ فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم ..» (٣).

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٦.

(٢) البحار ج ٣١ / ١٤ والاستغاثة ص ٢٥.

(٣) البحار ج ٣١ / ١٥.

٢٢٧

ولا يخفى على الفطن : أن تثاقلهم عن السير وتخلفهم عن الجيش ليحكموا قواعد سياستهم في سقيفة بني ساعدة ترجيحا منهم لذلك على التعبد بالنصّ النبوي ، ولو ذهبوا مع أسامة لكان فاتهم ما كانوا يرومونه من الطمع بالخلافة ، لذا تخلفوا حتى مات النبيّ ، فهمّوا بإلغاء البعث وحلّ اللواء تارة ، وبعزل أسامة أخرى.

فإذا كان حال القوم مع نبيهم حال حياته من العصيان وعدم الاحترام وقلة الإيمان ، فكيف بهم بعد موته مع بضعته الطاهرة وزوجها علي أمير المؤمنين الذي يدور الحق معه حيثما دار؟! وهل يمكن أن نحسن بهؤلاء الأوباش الظن بحجة أن القوم من الصحابة ، أو ليس الإمام عليّ والصدّيقة الزهراء من الصحابة؟ فترجيح أبي بكر وعمر على الإمام عليّ وزوجه فاطمة عليها‌السلام يعتبر ترجيحا من دون مرجح في حال مساواتهم مع بعض في الفضائل ، مع أن الإمام وزوجه لا يساويهما أحد من الناس ، فتقديم غيرهم عليهما يعتبر قبيحا عقلا ونقلا لا يفعله العقلاء.

الطعن الخامس :

جهله بالأحكام الشرعية ، فكيف يكون خليفة لرسول الله وهو لا يدري الكثير من الحلال والحرام ، لذا لما سئل عن الكلالة (١) قال : «أقول فيها برأيي ، فإن كان صوابا فمن الله ، وإن كان خطأ فمني» (٢).

ولم يعرف ميراث الجدّة ، فقال لجدة سألته عن إرثها : لا أجد لك شيئا في كتاب الله وسنة نبيه ، فأخبره المغيرة ومحمد بن مسلمة أنّ الرسول أعطاها السدس ، وقال : اطعموا الجدات السدس (٣).

__________________

(١) الواردة في سورة النساء : ١٢ و ١٧٦ ، والكلالة : الميت لا ولد له ولا والد بل له إخوة وأخوات ، وسائل الشيعة ج ١٧ / ٤٨١ ومجمع البيان سورة النساء.

(٢) البحار ج ٣١ / ٦ نقلا عن شرح النهج ١٧ / ٢٠٢.

(٣) سنن أبي داود ج ٣ / ١٦٧.

٢٢٨

وفي لفظ آخر :

إن جدتين أتتا أبا بكر هما أمّ الأم وأم الأب ، فأعطى الميراث أم الأم دون أم الأب ، فقال له عبد الرحمن بن سهيل أخو بني حارثة : يا خليفة رسول الله لقد أعطيت التي لو أنها لو ماتت لم يرثها ، فجعله أبو بكر بينهما يعني السدس (١).

كما أنه حرق الفجاءة السلمي وهو إياس بن عبد الله بن عبد ياليل بن عميرة بن خفاف فقال لأبي بكر : إني مسلم وقد أردت جهاد من ارتدّ من الكفار فاحملني وأعنّي فحمله أبو بكر على ظهر وأعطاه سلاحا فخرج يستعرض الناس المسلم والمرتد يأخذ أموالهم ويصيب من امتنع منهم ، فأمر أبو بكر طريفة بن حاجز أن يأسره أو يقتله ، فأسره طريفة ثم قدما على أبي بكر فقال له أبو بكر : يا طريفة اخرج به إلى هذا البقيع فحرّقه بالنار ، فخرج به وأوقد له نارا فقذفه فيها.

وفي رواية ابن الأثير والطبري : أوقد له نارا في مصلّى المدينة على حطب كثير ثم رمى فيها مقموطا أي : جمعت يداه إلى قفاه (٢).

ولأبي بكر سوابق في إحراقه الناس بالنار ، فقد روى هشام بن عروة عن أبيه قال : كان في بني سليم ردّة فبعث إليهم أبو بكر خالد بن الوليد فجمع رجالا منهم الحظائر ثم أحرقها عليهم بالنار ، فبلغ ذلك عمر فأتى أبا بكر فقال : تدع رجلا يعذّب بعذاب الله عزوجل ، فقال أبو بكر : والله لا أشيم سيفا سلّه الله على عدوه حتى يكون هو الذي يشيمه ، ثم أمره فمضى من وجهه ذلك إلى مسيلمة (٣).

وقد أحرق باب سيّدة الطهر فاطمة روحي لنعلها الفداء كما هو متواتر

__________________

(١) الغدير ج ٧ / ١٢١ نقلا عن موطأ مالك ج ١ / ٣٣٥ ، سنن البيهقي ج ١ / ٢٣٥ ، بداية المجتهد ج ٢ / ٣٤٤ ، الاستيعاب ج ٢ / ٤٠٠ ، الإصابة ج ٢ / ٤٠٢ وكنز العمال ج ٦ / ٦.

(٢) الكامل في التاريخ لابن الأثير ج ٢ / ٣٥٠ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٩٢ ، ط / الأعلمي ، والغدير ج ٧ / ١٥٦ ، ط / دار الكتب الإسلامية ـ طهران.

(٣) الغدير ج ٧ / ١٧٦ نقلا عن الرياض النضرة ج ١ / ١٠٠.

٢٢٩

ومشهور بين الإمامية ، فكان أبو بكر يهوى تعذيب مخالفيه بالنار لشدة غيظه وفوران حقده.

إنّ التعذيب بالنار من مختصات الخالق القدير وقد نهى عزوجل عن الإحراق على لسان رسوله بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يعذّب بالنار إلّا ربّ النار. وقوله : لا يعذّب بالنار إلا ربّها (١).

وقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من بدّل دينه فاقتلوه. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : زنا بعد إحصان فإنه يرجم ، ورجل يخرج محاربا لله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض أو يقتل نفسا فيقتل بها (٢).

هذا موافق لقوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٣).

قد يقال :

ورد عند الإمامية أن أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام قد أحرق عبد الله بن سبأ وأصحابه ، فلم لا يصح لأبي بكر أن يفعل ذلك بمخالفيه أسوة بالإمام عليّ عليه‌السلام؟

والجواب :

إن ما فعله أمير المؤمنين بابن سبأ وأصحابه لم يكن إحراقا وإنما حفر لهم حفرا وخرق بعضها إلى بعض ، ثم دخن عليهم حتى ماتوا.

__________________

(١) الغدير ج ٧ / ١٥٦ نقلا عن صحيح البخاري ، كتاب الجهاد ؛ باب لا يعذّب بعذاب الله ، وسنن أبي داود ج ٢ / ٢١٩ ومصابيح السنة ج ٢ / ٥٧ وتيسير الوصول ج ١ / ٢٣٦.

(٢) سنن أبي داود ج ٢ / ٢١٩ ومصابيح السنة ج ٢ / ٥٩ ومشكاة المصابيح ص ٣٠٠ والغدير ج ٧ / ١٥٦.

(٣) سورة المائدة : آية ٣٣.

٢٣٠

هذا مضافا إلى أن أبا بكر نفسه تندّم وهو على فراش الموت من فعلته النكراء مما يجعل المسألة في عداد المحرمات القطعية التي ارتكبها أبو بكر ، والندم عليها في آخر حياته لا يستلزم صلاح خلافته لأن المورد ليس كعقد الفضولي حتى يقع صحيحا بعد تعقّبه بالإجازة على نحو الشرط المتأخر.

فكان على أبي بكر أن لا يحرق الفجاءة لكونه متظاهرا بالإسلام وتلقاه الخليفة المذكور بالقبول يوم أعطاه ظهرا وسلّحه ، وإن كان فاسقا بالجوارح بحسب دعوى أبي بكر ، فالواجب عليه أن يتأوّل له كما تأوّل لخالد بن الوليد وتلقيبه له بسيف الله المسلول.

وقد دافع القاضي عضد الإيجي عن أبي بكر في المواقف من أن أبا بكر مجتهد وما إحراقه للفجاءة سوى اجتهادا ، وكذا جرى مجراه القوشجي في شرح التجريد ص ٤٨٢ حيث قال : إن إحراقه فجاءة بالنار من غلطة في اجتهاده فكم مثله للمجتهدين. أقول :

أولا : إن هذا الاجتهاد مرفوض لكونه في مقابل نص الكتاب والسنّة وإلا فإنه سيعطي المبرر للظالمين والسفاكين بإراقة الدماء تحت عنوان الاجتهاد ، وعلى هذا الأساس يكون ما ارتكبه بنو أمية وبنو العبّاس اجتهادا جائزا بحسب هذه الدعوى ، وبالتالي فكلهم إلى الجنّة لأنهم معذورون باجتهادهم بقتل الأبرياء وانتهاك الأعراض وسرقة الأموال.

ثانيا : يفرض على الخليفة أن يكون صبورا متأنيا لا عجولا متسرعا ، كما لا بدّ له أن يكون محتاطا بأقواله وأفعاله حتى لا يقع فريسة الحواشي والغواشي فتنتفي الحكمة من نصبه ووجوده.

الطعن السادس :

إقدام خالد على قتل مالك بن نويرة بأمره وزنى بامرأته من ليلته. فإن الاعتداء على الأعراض وسفك الدماء كانا من مهام الخليفة أبي بكر ، فها هم

٢٣١

مؤرخو العامة يثبتون القصة كاملة في كتبهم بل ويستنكر بعضهم ذاك الفعل السيئ الذي يتنزه عنه حتى اليهودي أو المشرك آنذاك.

مفاد القصة :

أن خالد بن الوليد دخل البطاح ولم يجد بها أحدا ، ووجد مالكا قد فرّقهم عن الاجتماع وقال : يا بني يربوع إنّا دعينا إلى هذا الأمر فأبطأنا عنه فلم نفلح ، وقد نظرت فيه فرأيت الأمر يتأتى لهم بغير سياسة ، وإذا الأمر لا يسوسه الناس ، فإياكم ومناوأة قوم صنع لهم ، فتفرقوا وادخلوا في هذا الأمر ، ولما قدم خالد البطاح بثّ السرايا وأمرهم بداعية الإسلام وأن يأتوه بكل من لم يجب وإن امتنع أن يقتلوه ، وكان قد أوصاهم أبو بكر أن يؤذّنوا إذا نزلوا منزلا ، فإن أذّن القوم فكفّوا عنهم ، وإن لم يؤذّنوا فاقتلوا وانهبوا ، وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم عن الزكاة ، فإن أقرّوا فاقبلوا منهم ، وإن أبوا فقاتلوهم.

فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من بين ثعلبة بن يربوع ، فاختلفت السرية فيهم ، وكان فيهم أبو قتادة ، فكان فيمن شهد أنهم قد أذّنوا وأقاموا وصلّوا ، فلما اختلفوا أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء ، فأمر خالد مناديا فنادى : ادفئوا أسراكم ، وهي في لغة كنانة القتل ، فظن القوم أنه أراد القتل ، ولم يرد إلّا الدفء ، فقتلوهم ، فقتل ضرار بن الأزور مالكا ، وسمع خالد الواعية ، فخرج وقد فرغوا منهم ، فقال : إذا أراد الله أمرا أصابه ، وتزوّج خالد أم تميم امرأة مالك ، فقال عمر لأبي بكر :

إن سيف خالد فيه رهق ، وأكثر عليه في ذلك ، فقال : هيه يا عمر! تأوّل فأخطأ ، فارفع لسانك عن خالد ، فإني لا أشيم سيفا سلّه الله على الكافرين ، وودى مالكا وكتب إلى خالد أن يقدم عليه ، ودخل المسجد وعليه قباء وقد غرز في عمامته أسهما ، فقام إليه عمر فنزعها وحطّمها ، وقال له : قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته ، والله لأرجمنك بأحجارك! وخالد لا يكلّمه يظن أن رأي أبي

٢٣٢

بكر مثله ، ودخل على أبي بكر فأخبره الخبر واعتذر إليه ، فعذره وتجاوز عنه وعنّفه في التزويج الذي كانت عليه العرب من كراهة أيام الحرب ، فخرج خالد وعمر جالس ، فقال : هلمّ إليّ يا ابن سلمة ، فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه ، فلم يكلّمه (١).

وفي لفظ الطبري وغيره :

أن أبا بكر كان من عهده إلى جيوشه أن إذا غشيتم دارا من دور الناس فسمعتم فيها أذانا للصلاة فأمسكوا عن أهلها حتى تساءلوهم ما الذي نقموا ، وإن لم تسمعوا أذانا فشنوا الغارة فاقتلوا وحرّقوا ، وكان ممن شهد لمالك بالإسلام أبو قتادة الأنصاري الحارث بن ربعي أخو بني سلمة ، وقد كان عاهد الله أن لا يشهد مع خالد بن الوليد حربا أبدا بعدها ، وكان يحدث أنهم لمّا غشوا القوم راعوهم تحت الليل فأخذ القوم السلاح ، قال : فقلنا إنّا المسلمون ، فقالوا : ونحن المسلمون ، قلنا فما بال السلاح معكم؟ قالوا لنا فما بال السلاح معكم؟ قلنا فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح ، قال فوضعوها ثم صلينا وصلّوا وكان خالد يعتذر في قتله ...» (٢).

ولم يكتف خالد «القائد العسكري عند أبي بكر» بما صنع بمالك وأصحابه حتى انتهك حرمة جسد المسلم بعد الموت فجعل رأس مالك ورءوس أصحابه أثافي للقدور يطبخون عليها اللحم والمرق فرحين بمقتل مؤمنين بالله وبرسالة محمد وعترته الطاهرة.

وعند ما تسأل بعض علماء العامة عن سبب قتل مالك يجيبونك دائما إن مالكا ارتد عن الإسلام.

لكن يرد عليهم :

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٣٥٧ والطبري ج ٢ / ٥٠٣. وفي لفظ الطبري : هلمّ إليّ يا ابن أم شملة.

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ / ٥٠٤ والغدير ج ٧ / ١٥٩ وأسد الغابة ج ٥ / ٤٨.

٢٣٣

أولا : إن مالك بن نويرة كان صحابيا قد بعثه رسول الله على صدقة بني تميم وبني يربوع وكان قد أسلم هو وأخوه متمم (١) ، ولم يثبت بدليل قطعي أنه ارتدّ ، ولو شككنا بإسلامه بعد اليقين فنستصحب إسلامه.

ثانيا : إن عامة المؤرخين ذكروا أن أبا بكر ودّى مالكا في بيت المال وردّ سبيهم لأخيه متمم بن نويرة.

ثالثا : إن عمر بن الخطاب نفسه يعترف بأن مالكا مسلم عند ما قال لأبي بكر : إن عدو الله ـ أي خالد ـ عدا على امرئ مسلم فقتله ونزا على امرأته (٢). وشهد على ذلك أيضا أبو قتادة حيث قال : إن مالكا وأصحابه أذّنوا وصلّوا (٣).

رابعا : وعلى فرض ارتداد مالك فهل يسوغ لخالد أن يزني بزوجة الرجل في ليلة مقتل زوجها ، ألم يأمر الله عزوجل في القرآن الكريم بعدة الوفاة مع الاستبراء بالحيض بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (٤) (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (٥) وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) (٦). فالارتداد لا يسوّغ البناء بها قبل الاستبراء بالحيض وعدة الوفاة ، فكيف خفي ذلك على خالد سيف الله المسلول على حدّ زعم أبي بكر الخليفة؟!!

أنّى لنا أن نعدّه سيفا من سيوف الله وقد اغتصب فروج الحرائر وسفك تلكم الدماء الزكيّة من الذين آمنوا بالله ورسوله واتّبعوا سبيل الحق وصدّقوا بالحسنى ، وأذّنوا وأقاموا وصلّوا وقد علت عقيرتهم : بأنّا مسلمون؟!! وأنّى لنا أن نعدّه كذلك

__________________

(١) أسد الغابة ج ٥ / ٤٨ و ٥٤.

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ / ٥٠٤.

(٣) أسد الغابة ج ٥ / ٤٩ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٥٠٤ والكامل لابن الأثير ج ٢ / ٣٥٩.

(٤) سورة البقرة : ٢٣٤.

(٥) سورة البقرة : ٢٢٨.

(٦) سورة الطلاق : ١.

٢٣٤

وقد تبرّأ منه نبيّ الإسلام الأعظم غير مرّة ، مستقبل القبلة شاهرا يديه وأبو بكر ينظر إليه من كثب؟!

زه زه بالاجتهاد تجاه نصّ الكتاب والسنّة ، ولا مرحبا بمجتهد يخالف دين الله! أيحسب الإنسان أن يترك سدى؟ أو يحسب أن لن يقدر عليه أحد؟ (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ* وَقِيلَ مَنْ راقٍ* وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ* وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ* إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) (١) (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٢).

إذن فإن مالكا رجل مسلم عاصر النبيّ الأعظم ، وأحسن صحبته واستعمله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على صدقات قومه ، وقد عدّ من أشراف الجاهلية والإسلام ومن أرداف الملوك ، لقد قتله خالد بأمر من أبي بكر لثلاثة أسباب :

الأول : عدم مبايعته لأصحاب السقيفة.

الثاني : عدم دفعه الزكاة لأبي بكر.

الثالث : طمعا بزوجته.

والسبب الثالث كان أمرا مشهودا ، فقتل الرجل مظلوما غيرة ومحاماة على ناموسه ، فهو شهيد لما في المتواتر : من قتل دون أهله فهو شهيد ، وفي الصحيح : من قتل دون مظلمته فهو شهيد (٣).

والعذر المفتعل من منع مالك الزكاة لا يبرّي خالدا من تلكم الجنايات ، أيصدّق جحد الرجل فرض الزكاة ، ومكابرته عليها وهو مؤمن بالله وكتابه ورسوله ومصدّق بما جاء به نبيّه الأقدس ، يقيم الصلاة ويأتي بالفرائض بأذانها وإقامتها ، وينادي بأعلى صوته : نحن المسلمون ، وقد استعمله النبيّ الأعظم على الصدقات ردحا من الزمن؟

__________________

(١) سورة القيامة : ٢٦ ـ ٣٠.

(٢) سورة العنكبوت : ٤.

(٣) الغدير ج ٧ / ١٦٢ نقلا عن مسند أحمد ج ١ / ١٩١ والنسائي والفيض القدير.

٢٣٥

لا ها الله. أيوجب الردّة مجرّد امتناع الرجل المسلم الموحّد المؤمن بالله وكتابه عن أداء الزكاة لهذا الإنسان بخصوصه وهو غير منكر أصل الفريضة؟ أو يحكم عليه بالقتل عندئذ؟ وقد صحّ عن المشرّع الأعظم قوله : لا يحلّ دم رجل يشهد إن لا إله إلا الله ، وإني رسول الله إلّا بإحدى ثلاثة : النفس بالنفس ، والثيّب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة (١).

أيسلب امتناع الرجل المسلم عن أداء الزكاة حرمة الإسلام عن أهله وماله وذويه ويجعلهم أعدال اولئك الكفرة الفجرة الذين حقّ على النبي الطاهر شنّ الغارة عليهم؟ ويحكم عليهم بالسبي والقتل الذريع وغارة ما يملكون ، والنزو على تلكم الحرائر المأسورات؟ (٢).

لذا قال الجزري :

«وقد اختلف في ردته ـ أي مالك ـ وعمر يقول لخالد : قتلت امرأ مسلما ، وأبو قتادة يشهد أنهم أذّنوا وصلّوا ، وأبو بكر يردّ السبي ويعطي دية مالك من بيت المال ، فهذا جميعه يدل على أنه مسلم.

ووصف متمم بن نويرة أخاه مالكا فقال : كان يركب الفرس الحرون ويقود الجمل الثّفال وهو بين المزادتين النّضوحتين في الليلة القرّة وعليه شملة فلوت ، معتقلا رمحا خطّيا فيسري ليلته ثم يصبح وجهه ضاحكا كأنه فلقة قمر رحمه‌الله ورضي عنه» (٣).

لقد قتل مالك ونزي على زوجته وعلى الحرائر من قوم مالك بمرأى ومسمع أبي بكر ولم يبال بإلحاح عمر بن الخطاب على إقامة القصاص على خالد ، أليس هذا انتهاكا لحرمات الله وتجرؤا على الله عزوجل؟!

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب المحاربين ـ باب قول الله إن النفس بالنفس.

(٢) الغدير ج ٧ / ١٦٣.

(٣) أسد الغابة ج ٥ / ٤٩.

٢٣٦

لقد جنّد أبو بكر تلك الجنود لنكح النساء وفضّ ناموس الحرائر ، وهو ينزّه ساحتهم بأعذار مفتعلة كالتأويل والاجتهاد ، وكأنهما يبيحان قتل الأنفس وهتك الأعراض وسلب الأموال. إن اجتهادا كهذا لا يبقي على الإسلام شيئا بل يعطي مبررا للسفاكين لئن يسفكوا أكثر ، فتنقلب الموازين ، ويسود الظلم والعدوان بدلا من شريعة العدل والأمن والأمان.

الطعن السابع :

تخلّفه عن جيش أسامة ، وقد لعن الرسول المتخلّف عنه ، قال أصحابنا رضوان الله عليهم : كان أبو بكر وعمر وعثمان من جيشه ، وقد كرّر النبيّ لما اشتد مرضه الأمر بتجهيز جيش أسامة ولعن المتخلّف عنه ، فتأخروا عنه واشتغلوا بعقد البيعة في سقيفة بني ساعدة ، وخالفوا أمره ، وشملهم اللعن ، ومن لعنه النبيّ استحق الطرد من الرحمة الإلهية ، ومن طرد لا يصلح للخلافة.

واتفق عامة المؤرخين على أن النبيّ أمر بتجهيز جيش أسامة وأن جماعة طعنوا في إمارته ولعن المتخلف عنه إلا أن العامة حرّفوا في كتابي الطبري وابن الأثير قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعن الله من تخلّف عنه» إلى «لعن الذين يتخذون قبور أنبيائهم مساجد» وهاك ـ أخي القارئ ـ نص هاتين العبارتين لتعلم صحة ما أقول.

قال ابن الأثير :

«ضرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعثا إلى الشام وأميرهم أسامة بن زيد مولاه وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ، فتكلم المنافقون في إمارته وقالوا : أمر غلاما على جلّة المهاجرين والأنصار ، فقال رسول الله : إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل ، وإنه لخليق للإمارة ، وكان أبوه خليقا لها ، وأوعب (١) مع أسامة المهاجرون الأوّلون ، منهم : أبو بكر وعمر ، بينما الناس على

__________________

(١) أي أدخل.

٢٣٧

ذلك ابتدئ برسول الله مرضه» (١).

ثم قال : «وأمر بإنفاذ جيش أسامة وقال : لعن الله الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(٢).

وقال الطبري :

«كان النبيّ قد ضرب بعث أسامة فلم يستتب لوجع رسول الله ولخلع مسليمة والأسود وقد أكثر المنافقون في تأمير أسامة حتى بلغه ، فخرج النبيّ على الناس عاصبا رأسه من الصداع .... إلى أن قال : قد بلغني أن أقواما يقولون في إمارة أسامة ولعمري لئن قالوا في إمارته لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله وإن كان أبوه لخليقا للإمارة وإنه لخليق لها فانفذوا بعث أسامة ، لعن الله الذين يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ، فخرج أسامة فضرب بالجرف» (٣).

فخطاب رسول الله إلى القوم المنافقين من أصحابه الذين لم يمتثلوا أمره بإحضار الدواة والكتف ليكتب لهم كتابا بولاية أمير المؤمنين ، فطعنوا بكلامه ونسبوه إلى الهجر ، هو نفسه خطاب للذين تخلّفوا عن جيش أسامة.

لقد لعن رسول الله بعض أصحابه المنافقين ، لكنّ يد الدس حرّفت الحقيقة ، فبدلا من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة» وضعوا مكانها ـ في أكثر مصادرهم ـ تلك العبارة الممسوخة «لعن الله الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

ووقوع العبارة الممسوخة بعد الأمر بإنفاذ جيش أسامة خلاف سياق حديث رسول الله وتوبيخه لمن طعن في إمارة أسامة وأبيه زيد ، فالذيل شيء والصدر شيء آخر ، الشيء الذي يستتبع الجزم بوقوع التحريف في مقاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّ مشيئة الله

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٣١٧ أحداث سنة ١١ ه‍.

(٢) نفس المصدر ص ٣١٨.

(٣) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٣١ حوادث سنة ١١ ه‍.

٢٣٨

تعالى حالت دون جبروت المحرّفين فأبقت على عبارة اللعن في كتاب الملل والنحل للشهرستاني ، قال عند ذكر الاختلافات الواقعة في مرض النبي ، الخلاف الثاني أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : جهّزوا جيش أسامة لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة ، وقال قوم : يجب علينا امتثال أمره وأسامة قد برز من المدينة ، وقال قوم : قد اشتد مرض النبيّ فلا تسع قلوبنا لمفارقته والحال هذه فنصبر حتى نبصر أي شيء يكون من أمره» (١) فعدم خروجهم مع أسامة وتخلّفهم عنه مما لا نزاع فيه أصلا ، وأما دعوى أن تخلّفهم إنما كان لأجل محبتهم لرسول الله فلم تسع قلوبهم مفارقته ، هذه الدعوى مردودة لأن محبّة النبيّ تعني إطاعته فيما يأمر وينهى قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٢) وهذا تماما كعدم امتثالهم لأمره بإحضار الدواة والكتف ، وهل أن عدم إحضارهم لما أمرهم به النبيّ كان أيضا محبة منهم له؟!!

فتخلّفهم وعدم خروجهم يعتبر قدحا في خلافتهم لكونهم مأمورين بالانقياد لأسامة ، فما لم يمتثلوا لم يتم غرض الرسول في إنفاذ الجيش ، فلم يكن لأبي بكر الحكم على أسامة ، والخلافة رئاسة عامة تتضمن الحكم على الأمة كافة بالاتفاق فبطلت خلافة أبي بكر ، وإذا بطلت خلافته ثبت بطلان خلافة عمر ، لكونها بنص أبي بكر ، وبطلت خلافة عثمان لابتنائها على الشورى بأمر عمر ، هذا مضافا إلى أن عدم الانقياد لأمره بعد تكريره الأمر إيذاء له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد قال الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) (٣) (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤).

فتثاقلهم عن السير ثم تخلّفهم عن الجيش أخيرا من أجل أن يحكموا قواعد

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ص ٢٣.

(٢) سورة آل عمران : ٣١.

(٣) سورة الأحزاب : ٥٧.

(٤) سورة التوبة : ٦١.

٢٣٩

سياستهم ويقيموا عمدها ترجيحا منهم لذلك على التعبد بالنص حيث رأوه أولى بالمحافظة وأحق بالرعاية ، إذ لا يفوت البعث بتثاقلهم عن السير ولا يتخلف من تخلّف منهم عن الجيش ، فلو انصرفوا إلى الغزوة قبل وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانصرفت عنهم الخلافة لا محالة ، لذا أراد النبي أن تخلو منهم المدينة فيصفوا الأمر من بعده لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب على سكون وطمأنينة ، فإذا رجعوا قد أبرم عهد الخلافة وأحكم للإمام عليّ عليه‌السلام عقدها كانوا عن المنازعة والخلاف أبعد لكونهم فطنوا إلى كل ما دبّره النبي فطعنوا في تأمير أسامة وتثاقلوا عن السير معه ، فلم يبرحوا من الجرف حتى لحق النبيّ بربه ، فهمّوا حينئذ بإلغاء البعث وحل اللواء تارة وبعزل أسامة أخرى ، ثم تخلّف كثير منهم عن الجيش إيثارا لرأيهم وترجيحا لاجتهادهم على التعبد بنصوصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

«وبقي أسامة يراسلهم خارج المدينة فلا يلتفتون إليه حتى إذا استوى لهم الأمر ، فبعث أبو بكر إلى أسامة أن الناس نظروا في أمورهم فلم يجدوا غنى عني ، وقد نظرت في أمري فلم أجد عن عمر غنى فخلّفه عندي وامض في الوجه الذي أمرك به الرسول بالمضي فيه ، فكتب إليه أسامة : من الذي أذن لك في نفسك بالتخلّف عني حتى تطلب مني الإذن لغيرك إن كنت طائعا لله ولرسوله فارجع معسكرك ومركزك الذي أقامك فيه رسول الله ، فلم يزالوا يدارونه ويعدونه ويمنونه إلى أن أجاب وقبل منه وتركهم» (١).

شكّك بعض الصحابة بإمارة أسامة الفتى اليافع بحجة أنه صغير وهم مشايخ كبار ، فالمشكلة ليست في صغر سنه وإنما أرادوا استلام السلطة والحكم بعد رحيل النبي ، لذا لو كان ما يدّعون من صحبتهم لرسول الله فلم لم ينفذوا ما أمر به النبي ، ولما ذا لم يلتحقوا بالركب بعد وفاة النبي ، من هنا ذكر المؤرخون تخلّفهم عن الالتحاق وتشكيكهم بقيادة أسامة ، قال ابن الأثير :

«وقال من مع أسامة من الأنصار لعمر بن الخطاب إن أبا بكر خليفة رسول

__________________

(١) الاستغاثة ص ٢٧ ، ط / قم.

٢٤٠