أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

وعلى كلا التقديرين فإن الأمر بالصلاة لم يكن مباشرة من النبيّ وإنما بواسطة ، والواسطة يحتمل بحقها الكذب ، ومن احتمل بحقه الكذب لم يبق في هذا الأمر حجة.

ثالثا : لم ير عبد الله بن زمعة في الصحابة من هو أفضل من عمر ، فأين نص الغدير الذي كان حجة على ابن زمعة ومن شاكله من القوم ، لكنّ حب الدنيا حجب نور الحق عن قلبه ، مما يعطينا انطباعا خاصا عن نفاق بعض الصحابة وعدم تورعهم عن الكذب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٦ ـ لو كان خبر تقديم أبي بكر في الصلاة صحيحا ـ كما زعموا ـ وكان مع صحته دالا على إمامته لكان ذلك نصا من النبيّ بالإمامة ، ومتى حصل النص لا يحتاج معه غيره ، فكيف لم يجعل أبو بكر ونظيره عمر ذلك دليلا على إمامة أبي بكر؟! وكيف لم يحتجوا به على الأنصار؟! وكيف بنوا الخلافة على المبايعة التي حصل فيها الاختلاف والاحتياج إلى إشهار السيوف ، وعدلوا عن الاحتجاج بالنص المذكور؟ مع وضوح أن العاقل لا يختار الأعثر الأصعب مع وجود الأسهل إلّا لعجزه عنه ، فعلم أن ذلك ليس فيه حجة أصلا.

٧ ـ ومما يشهد أن الأمر بالصلاة لم يكن عن رأي رسول الله وإذنه وأمره أن حديث صلاة أبي بكر جاء من غير طريق عائشة أنها قالت : جاء بلال فأذّن بالصلاة ورسول الله مغمى عليه ، فانتظرنا إفاقته وكاد الوقت يفوت ، فأرسلنا إلى أبي بكر يصلّي بالناس (١).

وهذا تصريح منها بأن صلاته كانت عن أمرها ورأيها ، دون أمر رسول الله وإذنه ورأيه.

ويؤيد ذلك ويكشف عن صحته ، الإجماع على أن رسول الله خرج مبادرا معجّلا بين يدي رجلين من أهل بيته أحدهما أمير المؤمنين عليّ بن أبي

__________________

(١) كنز العمال ج ٥ / ٦٣٤ ح ٤١١٦ عن اللالكائي في السنّة.

٢٠١

طالب عليه‌السلام حتى تلافى الأمر بصلاته وعزل الرجل عن مقامه ، وقد ذم النبيّ عائشة وحفصة لعظيم فتنتهنّ في الأمة بقوله «إنكن كصويحبات يوسف» (١) وهو إخبار عن إرادة كل واحدة منهما المنزلة بصلاة أبيها بالناس ، ولو كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقدّم بالأمر لأبي بكر بالصلاة لما حال بينه وبين تمامها ، ولا رجع باللوم على غيره فيها.

٨ ـ إن إمامة أبي بكر في الصلاة وقياسها على إمامة الدين ، معارض باستخلاف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في غزوة تبوك ولم يعزله ، وإذا كان خليفة على المدينة ، كان خليفة في سائر وظائف الأمة ، ولا قائل بالفصل ، لأن استخلافه على المدينة أقرب إلى الإمامة الكبرى لكونه متضمنا لأمور الدين والدنيا بخلاف الاستخلاف في الصلاة.

٩ ـ الأحاديث في إمامة أبي بكر مضطربة جدا ، فتارة أنّ النبيّ أمر عمر بن الخطاب ، وأخرى أمر أبا بكر ، وثالثة أمر بلالا أن يأمر أبا بكر ، مما يذهب باطمئنان التصديق بالحادثة ، مضافا إلى وقوع الاضطراب في أصل الصلاة التي صلّاها أبو بكر هل هي الظهر أو العصر أو الصبح ، إلى ما هنالك من اضطرابات في أصل الحادثة وخصوصياتها مما يسقطها عن الحجية والاعتبار.

١٠ ـ إن قياس أمر الخلافة على إمامة الصلاة مبني على إثبات حجية القياس الذي قال بحجيته العامة ، وحرّمه الشيعة الإمامية وجمهور الظاهرية والمعتزلة.

الوجه الثاني :

من الوجوه التي استدل بها العامة على إمامة أبي بكر ، هو الإجماع على انعقاد الإمامة له ، سواء فسّر الإجماع باتفاق الكل كما حكي عن المنخول ، أو اتفاق أهل الحل والعقد أو اتفاق أهل المدينة كما في أصول الخفري ، أو اتفاق العلماء.

__________________

(١) نفس المصدر وصحيح مسلم ج ٤ / ١١٩ ح ٩٤ و ٩٥ وشرح النووي على صحيح مسلم ج ٤ / ١١٨ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٣٩.

٢٠٢

والجواب :

١ ـ إن إجماع الأمة كلها على خلافة أبي بكر لم يتحقق في وقت واحد بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة ، وهذا واضح مع قطع النظر عن عدم حضور أهل البيت عليهم‌السلام وبعض الصحابة كسعد بن عبادة سيد الأنصار وأولاده وأصحابه ، وكذا سلمان وأبي ذر والمقداد وبني جعفر وغيرهم من بني هاشم وسادات الحرمين وعظماء المسلمين.

وأما دعوى تحققه بعد وفاة النبيّ بزمن بعيد ، فهي خلاف حقيقة الإجماع الذي يعتبر فيه اتحاد الوقت ، وعلى فرض تحققه بعد زمن طويل فإنه لا يكون حجة إلّا إذا دخل الباقون فيه طوعا ، أما إذا استظهر الأكثر وخاف الأقل ، ودخل فيما دخل فيه الأكثر خوفا وكرها فلا ، ولا شك أنّ الحال كان كذلك ، فإنّ بني هاشم لم يبايعوا أولا ، ثم قهروا فبايعوا بعد مدة ، وأما أمير المؤمنينعليه‌السلام فقد أخرجوه من داره ليبايع وهو مقاد بحمائل سيفه.

وما قيل من أن أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام بايع مكرها غير صحيح ، ولا برهان عليه سوى بعض الأقاويل مصدرها العامة ، لذا قال الشيخ المفيد (قدس‌سره) أحد أعلام الإمامية (٣٥٥ ـ ٤٣٦ ه‍) :

أجمعت الأمة على أن أمير المؤمنين عليه‌السلام تأخر عن بيعة أبي بكر ، فالمقلل يقول : كان تأخره ثلاثة أيام ، ومنهم من يقول : تأخر حتى ماتت السيّدة فاطمة عليها‌السلام ثم بايع بعد موتها ، ومنهم من يقول تأخر أربعين يوما ، ومنهم من يقول : تأخر ستة أشهر والمحققون من أهل الإمامية يقولون : لم يبايع ساعة قط. ومما يدل على أنه لم يبايع البتة ، أنه ليس يخلو تأخره من أن يكون هدى وتركه ضلالا ، أو يكون ضلالا ، وتركه هدى وصوابا ، أو يكون صوابا وتركه صوابا ، أو يكون خطأ وتركه خطأ ، فلو كان التأخر ضلالا وباطلا ، لكان أمير المؤمنين عليه‌السلام قد ضل بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بترك الهدى الذي كان يجب المصير إليه وقد أجمعت الأمة

٢٠٣

على أن أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يقع منه ضلال بعد النبيّ ولا في طول زمان أبي بكر وأيام عمر وعثمان وصدرا من أيامه حتى خالفت الخوارج عند التحكيم وفارقت الأمة ، وبطل أن يكون تأخره عن بيعة أبي بكر ضلالا.

وإن كان تأخره هدى وصوابا وتركه خطأ وضلالا فليس يجوز أن يعدل عن الصواب إلى الخطأ ولا عن الهدى إلى الضلال لا سيما والإجماع واقع على أنه لم يظهر منه ضلال في أيام الثلاثة الذين تقدّموا عليه ، ومحال أن يكون التأخر خطأ وتركه خطأ للإجماع على بطلان ذلك أيضا ولما يوجبه القياس من فساد هذا المقال.

وليس يصح أن يكون صوابا وتركه صوابا لأن الحق لا يكون في جهتين مختلفتين ولا على وصفين متضادين ، ولأن القوم المخالفين لنا في هذه المسألة مجمعون على أنه لم يكن إشكال في جواز الاختيار وصحة إمامة أبي بكر .... فثبت بما بيّناه أن أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يبايع أبا بكر على شيء من الوجوه كما ذكرناه وقدّمناه ..» (١).

وبالجملة : فإن أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يبايع أبا بكر ، وما ورد على فرض صحته «من أنهعليه‌السلام مد يده من غير أن يفتح كفه فضرب عليها أبو بكر ورضي بذلك (٢) (أي أن الثاني صفق على يد أمير المؤمنين» فهو لا يدل على البيعة أصلا لا مختارا ولا مكرها ، لأن قبض اليد دلالة الإحجام والانقباض عن مصافحة المغتصبين.

وأما ما ورد من أنه قال : «لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين» فليس فيه أية إشارة إلى بيعة القوم ولو كرها ، وإنما كل ما في الأمر أنه سكت ولم يحاربهم بسيف لقلة الأعوان والأنصار.

__________________

(١) الفصول المختارة ص ٥٦ ، ط / المفيد ١٤١٤ ه‍.

(٢) كتاب السقيفة ص ٢٣٣ المعروف بكتاب سليم بن قيس الهلالي العامري المتوفي عام ٩٠ ه‍ ، ط / دار الإرشاد الإسلامي ١٤١٤ ه‍.

٢٠٤

٢ ـ إنّ تخصيص الإجماع بأشخاص معدودين دون آل البيت عليهم‌السلام وبعض أصحاب النبيّ من المهاجرين والأنصار لا سيما سعد بن عبادة وسلمان والمقداد وعمار وغيرهم يعدّ تخصيصا من دون دليل ؛ أو ليس هؤلاء من المسلمين ، وأ وليسوا من أهل المدينة أو من أهل الحل والعقد؟!! فما هذه الغميضة في حقهم وعدم الالتفات إليهم؟!! وهل هذا إلّا جفاء وشقاء بالنسبة إلى هؤلاء النبلاء؟.

٣ ـ إنّ الشيعة لا يعتبرون الإجماع حجة شرعية إلّا إذا كشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام ، فهو حجة حينئذ لهذا المناط ، وحيث إن بيعة أبي بكر لم تقترن بموافقة أمير المؤمنين عليعليه‌السلام لم يتم عندهم الإجماع الحجة ، ولو سلمنا بوجود إجماع ، فحيث إن من يدور معه الحق حيثما دار (باتفاق النصوص عند الطرفين) غير راض عن اجتماعهم يوم ذاك فلا قيمة حينئذ لذاك الإجماع ، لكونه يعبّر عن آراء جماعة في مقابل النص القطعي الدال على أحقية الإمام عليّعليه‌السلام من غيره ممن ادّعى الخلافة لنفسه زورا ، فيعتبر وقوف الإمام عليه‌السلام بوجه المجمعين ضربة قوية للإجماع ، وهدما لأسسه لأنه لو كان مع الحق لوقف الإمام عليه‌السلام بجانبه ، فحيث إنهعليه‌السلام كان ضده ، يكشف هذا عن كون الإجماع أمرا باطلا فلا حجية فيه.

٤ ـ إذا كان الإجماع منعقدا على أبي بكر ، فلما لم ينعقد على ابن الخطّاب الذين عيّن من قبل أبي بكر ، فالسابق كان يعيّن اللاحق ، وحيث إنّ التعيين باختيار الأمة لم يتكرر ، فكيف يكون الإجماع حجة على بيعة الأول دون الثاني؟!

شبهة :

قد يقال : إنّ المراد بأهل الحل والعقد ، إجماع أهل الصدر الأول وأنه وإن لم يتحقق على خلافة أبي بكر يوم السقيفة لكنّه بعد ذلك إلى ستة أشهر قد تحقق اتفاق الكل على خلافته ورضوا بإمامته فتمّ الإجماع حينئذ.

والجواب :

٢٠٥

إن الإجماع غير محقق بعدم بيعة مولى الثّقلين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأصحابه حتى بعد ستة أشهر ، بل إن سعد بن عبّادة وأولاده لم يبايعوا قطعا ، لذا قتله (١) ابن الخطّاب وأشاع بين الناس أن الجنّ قتله ، فيكون خروج المعارضين خرقا للإجماع المدّعى.

وبهذا يتبيّن عدم صحة خلافة أبي بكر ، وما اعتمده العامة على خلافة أبي بكر لا يصلح للدليلية ، فهو كناقل الشوكة بالشوكة ، وكنافخ في غير ضرام.

والأنكى من ذلك أن ابن حجر الهيثمي المكي (٨٩٩ ـ ٩٧٤ ه‍) ادّعى (٢) : «أن النبيّ نص على أبي بكر ظاهرا» ، ولكنّه لم يظهر لنا نصا واحدا على مدعاه ، مع دعواه أيضا : «أن النبيّ لو أوصى إلى غير أبي بكر ـ يقصد الإمام عليّا ـ لوجب على الأمة مبايعته ، ولبالغ رسول الله في تبليغ ذلك الواجب إليهم بأن ينص عليه نصا جليا ينقل مشتهرا حتى يبلغ الأمة فألزمهم ، ولمّا لم ينقل كذلك مع توفر الدواعي على نقله ، دل على ذلك على أنه لا نص» (٣).

ليت شعري كيف أنه قلب الحقائق وأنكر الحق والموازين ، وهو نفسه عقد فصلا خاصا بخلافة الإمام عليّ عليه‌السلام وزيّنه بذكر فضائله ومآثره وكراماته ، أو ليست الكرامات والفضائل والمآثر دليلا على أحقيته وعلو شأنه؟! أم أن الفضيلة شيء والخلافة شيء آخر كما ادعوا؟! وهل رضي الله أن يكون الخليفة جاهلا فاسقا؟! كلا وألف كلا.

وها هي كتبهم ومصادرهم تعج بمناقب الإمام عليّ عليه‌السلام وبما ورد عن الرسول الكريم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق الإمام ، وأن هذا العبد المطيع لله ولرسوله قد قال عنه النبيّ يوم خيبر :

__________________

(١) لاحظ تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٩.

(٢) الصواعق المحرقة ص ٢٦ الفصل الرابع في بيان هل نص النبي على خلافة أبي بكر؟.

(٣) نفس المصدر ص ٢٨.

٢٠٦

«لأعطينّ هذه الراية رجلا يفتح الله على يديه ، يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله» ، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيّهم يعطاها ، قال عمر بن الخطاب : ما أحببت الإمارة إلا يومئذ ، فتساورت لها رجاء أن ادعى لها ، قال : فدعا رسول الله عليّ بن أبي طالب فأعطاه إيّاها ، وقال : «امش حتى يفتح الله عليك» (١).

ونحن نسأل : هل يحبّ الله رجلا فاسقا جاهلا ليس أهلا للخلافة؟ وقد تشدق العامة مستدلين على خلافة أبي بكر بحديث إمامته للصلاة من باب القياس ، ولا يستدلون على خلافة الإمام عليّ عليه‌السلام بهذا الحديث وغيره من الأحاديث القطعية الصدور والدلالة على خلافته وهي من حيث الوفرة والكمية ليس لأحد ممن تقدّم على أمير المؤمنين مثلها نوجزها بما يلي ونحيل بالرجوع إلى المصادر الكبرى (٢).

الأحاديث المقرّرة :

١ ـ حديث : الخلافة.

٢ ـ حديث : الوصية.

٣ ـ حديث : من أحب أصحابك؟.

٤ ـ حديث : لكل نبي وصي ووارث.

٥ ـ حديث : قراءة سورة براءة.

٦ ـ حديث : المناجاة.

٧ ـ حديث : المباهلة.

٨ ـ حديث : المنزلة.

٩ ـ حديث : إني رافع الراية غدا.

١٠ ـ حديث : سد الأبواب إلا باب عليّ عليه‌السلام.

__________________

(١) صحيح مسلم ج ١٥ / ١٤٣ ـ ١٤٥ ح ٣٢ ـ ٣٣ ـ ٣٤ ـ ٣٥.

(٢) ننصح بمطالعة نهج الحق وشرحه إحقاق الحق ، والغدير وفضائل الخمسة من الصحاح الستة وشواهد التنزيل للحسكاني الحنفي والمراجعات.

٢٠٧

١١ ـ حديث : المؤاخاة.

١٢ ـ حديث : إن عليا مني وأنا منه.

١٣ ـ حديث : إن فيك مثلا من عيسى.

١٤ ـ حديث : لا يحبك إلا مؤمن.

١٥ ـ حديث : خاصف النعل.

١٦ ـ حديث : الطائر المشوي.

١٧ ـ حديث : أنا مدينة العلم وعليّ بابها.

١٨ ـ حديث : كسر الأصنام وردّ الشمس.

١٩ ـ حديث : الحق مع علي.

٢٠ ـ حديث : الثّقلين.

٢١ ـ حديث : الكساء.

٢٢ ـ حديث : الأمان.

٢٣ ـ حديث : اثنا عشر خليفة.

٢٤ ـ حديث : كونه عليه‌السلام نورا بين يدي الله تعالى.

وغيرها من الأحاديث الجليلة الدالة على فضل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أليست كلها قرائن واضحة على صحة إمامته وأحقيته بالخلافة من غيره ممن نسبوا إليهم بعض الفضائل لتكون وساما رفيعا لأصحابها لينالوا شرف الخلافة ، ومن هذه الألقاب : الصدّيق والفاروق وذو النورين وأمثالها ولكنهم نسوا بل تناسوا وتجاهلوا الآيات العظام والأحاديث الضخام الواردة بشأن مولى الثّقلين ، هذا مضافا إلى سيرته الطاهرة وعلو همته وغيرها من الصفات التي لم ينكرها حتى الأعداء ، فهيهات أن يقاس بالإمام عليّ عليه‌السلام أحد من الناس ، فإنه ـ على حد تعبير ابن أبي الحديد ـ كالمسك كلما ستر انتشر عرفه ، وكلّما كتم تضوّع نشره ، وكالشمس لا تستر بالراح ، وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة (١).

__________________

(١) من مقدمة شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.

٢٠٨

عود على بدء :

لقد أثبتنا بالإجمال بطلان طريقي الاختيار والميراث الدالّين على إثبات الخلافة ، فيبقى الطريق الأخير عنيت به «النص» من الله على لسان رسوله العظيم في تعيين الخليفة ، وسوف تأتيك الأدلة عليه.

بيان الأدلة على بطلان خلافة أبي بكر :

وهي كثيرة إليك بعضا منها.

الأول : إنّ الخلافة نيابة عن الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والنائب يشترط فيه أن يحمل المواصفات والخصال الحميدة التي كان يحملها المنوب عنه ، ومسألة الخلافة هي من أمهات الأمور التي يجب مراعاة مواصفاتها وشروطها ، تماما كما هي شروط ومواصفات النبوة من العصمة والكمال والعلم والصفات الأخرى الكمالية ، لأن معنى كونه خليفة لا بد أن يتصف بنفس الصفات التي كان عليها النبيّ ، لأن مسألة الخلافة أو الإمامة ليست مركزا دنيويا ، أمر تفويضها إلى الناس فتكون كسائر المناصب الدنيوية كرئاسة الجمهورية في أزمنتنا الحاضرة ، الأمر ليس هكذا ، بل إن مسألة الخلافة فوق ما يتصوره السطحيون ، إنها إمرة إلهية تعيينها بيده تعالى لكونها استمرارا لوظائف النبوة ولا تفترق عنها سوى بالوحي التشريعي ، لأن الإمام يقوم بكل ما كان يقوم به النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من البيان والتبليغ وتفصيل المجملات وتفسير المعضلات ، وإظهار ما لم يتسنّ للرسول العظيم الإشارة إليه لعدم توفّر الظروف الموضوعية أو المناسبة لذلك ، أو لعدم تهيؤ النفوس لتقبل الحكم الشرعي ، مع وجود أحكام مشرّعة لم يحن الوقت لتبليغها ، عدا عن أنّ الإمام ببيانه يكمل الشريعة ويزيح شبه الملحدين ، ويدرأ عن الدين عادية أعدائه بقوته وسلطانه ، وبالجملة كل ما كان من الوظائف والمسئوليات الملقاة على عاتق الرسول هي ملقاة على عاتق الإمام إلّا التشريع.

وهناك شروط لا بدّ من توفرها بالإمام وليس كما يتوهم العامة عدم اشتراط

٢٠٩

شيء مما كان مشروطا في النبيّ من العصمة والتسديد ولا أن يكون عارفا بأصول الشريعة وفروعها ومعارفها العليا ، لأن الهدف المتوخى من الإمام ـ حسبما يدّعون ـ هو أعمال السلطة وقيادة الهيئة التشريعية والتنفيذية والقضائية ، وتكفيه المقدرة العادية والعلم بمقدار محدود ، وقد عبّر الباقلاني عن ماهية الخليفة حيث قال :

«يجب أن يكون الإمام على أوصاف منها : أن يكون قرشيا من الصميم وأن يكون من العلم بمنزلة من يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين ، وأن يكون ذا بصيرة بأمر الحرب وتدبير الجيوش والسرايا وسد الثغور (١).

هكذا ينظر الأشاعرة إلى الإمامة أو الخلافة ، فعلام إذن يكفّرون الشيعة ما دامت الخلافة أمرا اعتباريا كبقية المناصب والمراسيم الوضعية؟

إنّ الخلافة ـ بنظر المسلمين الشيعة الإمامية ـ هي سفارة ربّانية لا ينالها إلّا من ارتقى في عالم الملكوت ، من هنا فإن الإمامة التي هي من مختصات أهل البيت عليهم‌السلام كانت لجدهم إبراهيم الخليل حيث شرّفه بها بعد النبوة والرسالة بقوله تعالى :

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٢).

فالآية تتناول موضوع مطلق الإمامة التي تشرّف بها ابراهيم خليل الرحمن ، هذه الإمامة التي هي أرقى من مقام الرسالة ، والتي يعبّر عنها بالخلافة وهي في الواقع أثر من آثار الرسالة ورشح من رشحاتها ، والخلافة بهذا المعنى هي من لوازم إمامتهم المطلقة التي يطلق عليها اسم «الولاية» ، فولايتهم تعني الإمامة المطلقة التي من لوازمها العلم المطلق والقدرة المطلقة ، وهي بهذا المعنى أرقى من الخلافة التي نصطلح على تسميتها ب «مطلق الإمامة».

__________________

(١) التمهيد ص ١٨١.

(٢) سورة البقرة : آية : ١٢٤.

٢١٠

إشكال :

كيف قلتم انّ مطلق الإمامة أرقى من مقام الرسالة ، وفي نفس الوقت هي أثر من آثارها ، أليس هذا تعارضا في القول؟!

والحل :

لا تعارض عند التأمل ، وذلك لأن الخلافة أو الإمامة بالمعنى الأخص هي مقام تنفيذي ، الحصول عليه فرع وجود المقام التشريعي ـ أعني مقام الرسالة ـ ولمّا كان ابراهيم الخليل رسولا مشرّعا احتاج إلى مقام آخر يكون من خلاله قادرا على تنفيذ أحكام الله تعالى ، وهذا المقام هو مقام مطلق الإمامة ، إذ لو لا الرسالة لما كان لمقام «مطلق الإمامة» دور في المجال التطبيقي ، فهي بهذا المعنى رشح من رشحات الرسالة فتدبر.

وعلى أساس هذا التمايز بين الإمامة المطلقة ومطلق الإمامة ، نرى أنّ أئمة آل البيتعليهم‌السلام لم يهبطوا عن مستوى الإمامة المطلقة حينما أهبطوهم عن مستوى مطلق الإمامة ، فالثانية فرع الأولى ، وعلى كلا التقسيمين للإمامة لا بدّ أن يتوفر في مطلق الإمام ـ عنيت الخليفة ـ عنصر ملكة العدالة ، ونعني بالملكة : الصفة الواقعية في العدالة التي يجب أن يتحلى بها الإمام ، ولا نريد العدالة بمعناها الظاهري المشهور وهو المحافظة ظاهرا على ظواهر الشريعة.

إنّ مفهوم العدالة ـ بحسب الفهم القرآني ـ هي الصفة الواقعية التي لا تفارق العبد في آن من آناته أو لحظة من لحظات حياته ، وكل من تلبّس بظلم خلال فترة وجوده فهو ظالم ولو لفترة زمنية مضت. فالآية الكريمة تتناول عدالة الإمام الواقعية بحيث لا يستحق تلك الإمامة من كان خارجا عنها ولو للحظة من عمره حتى ولو تاب بعدئذ وذلك لأمرين :

الأمر الأول :

أن الإمامة عهد من الله العليّ القدير ويؤيده قوله تعالى في ذيل الآية (لا يَنالُ

٢١١

عَهْدِي ...) وفي نفس الوقت هي إمرة ربانية ووثيقة إلهية لا تنالها يد الظالمين ، لأن مفهوم الإمام ـ بحسب المنهج القرآني ـ هو الإنسان المثالي ، الذي يفترض أن يكون نقي الثوب ، مشرق الصحيفة ، ناصع السيرة ، يكون لأمره ونهيه نفوذ في القلوب ، ولا تكون قيادته محلا لطعن الطاعنين وانتقاداتهم ، بل يجب أن يكون على حالة من الكمال بحيث يستقبله الناس بوجوه ملؤها الإجلال والإكبار ، وهذا لا يكون سوى لشخص لم يعص الله تعالى طيلة حياته ، أما إذا كان في فترة من عمره مقترفا للذنوب والمعاصي فلا شك أنه سيكون عرضة لسهام الناقدين ، ولا تقبل أقواله أو قيادته بسهولة ، لذا يفرض العقل بلزوم نقاوة الإمام عن كل زلة ومعصية ، وأن الإنابة لو كانت ناجحة في حياته الفردية لا تكون ناجحة في حياته الاجتماعية ، ولا يقع أمره ونهيه موقع القبول.

الأمر الثاني :

إنّ كلمة «الظالمين» الواردة في الآية جمع محلّى باللام وهو ـ بحسب الاصطلاح الأصولي ـ يفيد الاستغراق الافرادي والزماني ، فإذا كان الظالمون بعامة أفرادهم ممنوعين من نيل الإمامة ، يكون الظلم بكل أنواعه وصوره وأزمانه مانعا من الرقي لهذا المنصب الخطير.

والحكم بعدم استحقاق الظالم للإمامة لا يدور مدار ثبوت الموضوع كما تصوّر العامة ، حتى إذا ما انتفى الموضوع ـ وهو الظلم ـ انتفى الحكم ـ وهو عدم استحقاق الإمامة لو كان ظالما ـ بل الحكم هنا في الآية يدور مدار وجود الوصف والعنوان وكان للحظة أو آنا ما ، لعموم اللفظ الدال على عموم الحالات والأزمان من دون أن يرد مقيّد أو مخصص ، فيبقى اللفظ على عمومه.

مثال ذلك : الزاني والسارق يبقى محكوما عليه بالحدّ وإن زال عنوان التلبس بالزنا أو السرقة ، بل وإن تاب بعد ثبوت الحكم في حقه. ومثله عنوان المستطيع ، فمن استطاع الحج يجب عليه وإن زالت عنه الاستطاعة وصار فقيرا ، ومثله عنوان

٢١٢

«أمهات نسائكم» فمن اتصفت كونها أما لزوجة ولو للحظة تحرم على الزوج وإن زالت علقة الزوجية.

على هذا الأساس : فإن المشايخ الثلاثة قضوا أعمارهم في المعاصي قبل الإسلام وبعده ، ومن كانت سيرته كما وصفنا كيف يقاس بالإمام عليّ الذي لم يعهد منه خطل في رأي ولا فعل ، بل بقي عمره منذ كان صغيرا مع رسول الله لم يفارقه أبدا ، وهل يقاس بمن شهد له الله تعالى بالولاية عند ما تصدق بخاتمه وطهّره بمحكم تنزيله ، أحد من الناس؟!

فلو دار الأمر بين إنسان كان طاهرا ونقيا جميع عمره وبين إنسان كان ظالما في أول عمره تقيا في آخره فأيهما يختار ويفضّل العقل؟

والجواب : قطعا يفضّل الأول على الثاني ، ومن هذا القبيل يكون الخيار واقعا على أمير المؤمنين دون سواه لسبق المعاصي منهم.

الثاني :

إنّ المتقدمين على الإمام عليه‌السلام لم يكونوا بذاك المستوى من العلم والورع والجهاد ، حيث لم يعرف لأحد منهم موقف ولا مشهد ، هذا بالإضافة إلى سبق إسلامه عليهم ولم يشرك بالله طرفة عين ، فهو ممن شهد له الأعداء بفضله وعلو كعبه ، وتقديم المفضول الأدنى على الفاضل الأرفع قبيح عقلا وشرعا.

أما العقل فإنه يوبّخ من قدّم الأدنى على الأرفع والأشرف ، وهذا مبدأ عقلائي لا نزاع فيه.

وأما الشرع فإنه استنكر واعترض على من فعل ذلك بآيات كثيرة منها قوله تعالى : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (١).

__________________

(١) سورة يونس : آية ٣٥.

٢١٣

في الآية توبيخ لأناس جعلوا أنفسهم هداة وقادة للآخرين وهم أحوج للهداية من غيرهم ، إذ كيف ينصّب الفاسق أو الجاهل نفسه هاديا وقائدا وخليفة ، وهو في نفس الوقت بحاجة لمن يهديه إلى الحق وبحاجة لمن يعلّمه محاسن الأخلاق وأصول الديانات؟!!

فلا يستوي عند الله تعالى وعند العقلاء من كل دين ، الجاهل والعالم ، والفاسق والمؤمن ، ولا الوضيع والشريف قال تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (١).

فمن أفتى من علماء العامة بوجوب تقديم أبي بكر وعمر على الإمام عليّ بن أبي طالب فهو مصداق قوله تعالى (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (٢).

إنّ الله تعالى رفع من شأن العلماء والمجاهدين والطيبين وأصحاب البصائر والعدالة بقوله تعالى :

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) (٣).

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) (٤).

(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) (٥).

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) (٦).

(هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٧).

__________________

(١) سورة الزمر : آية ٩.

(٢) سورة يونس : آية ٥٩.

(٣) سورة العنكبوت : آية ٤٣.

(٤) سورة النساء : آية ٩٥.

(٥) سورة المائدة : آية ١٠٠.

(٦) سورة الأنعام : آية ٥٠.

(٧) سورة النحل : آية ٧٦.

٢١٤

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) (١).

(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) (٢).

(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) (٣).

فالعالم لا يقرن بالجاهل ، وقد اعترف أبو بكر بذلك عند ما استلم الخلافة «وليتكم ولست بخيركم وعليّ فيكم» «وإن لي شيطانا يعتريني فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوّموني» وأكّد ذلك عمر بن الخطاب فقال : «كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها» وصرّح عن عجزه وجهله فقال : «حتى ربات الحجال أفقه منك يا عمر».

«لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن».

«لو لا عليّ لهلك عمر». وأيضا قال : «عليّ أقضانا» (٤).

ولمّا اعترف الشيخان بجهلهما وعدم فقههما فلم الاتباع يضعونهما في غير المحل المناسب لهما ، أليس هذا إجحافا بغيرهما؟!! أليس هذا خلاف ما أراد الله تعالى؟!

إن المتقدّمين على مولى الثّقلين أدون منه علما وعملا وحسبا ونسبا وجهادا وتضحية وإيمانا ، «بل لا يقاس بآل محمد أحد من الناس».

ورد في ذخائر العقبى ص ١٧ عن أنس بن مالك أنه قال :

قال رسول الله : نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد.

وفي ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص ٢٥٣ أنه قال بعد حديث ابن عمر :

__________________

(١) سورة فاطر : آية ١٢.

(٢) سورة الحديد : آية ١٠.

(٣) سورة الحشر : آية ٢٠.

(٤) الصواعق المحرقة ص ١٢٦ الفصل الثالث.

٢١٥

قال أحمد بن محمد الكرزي البغدادي : سمعت من عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : سألت أبي أحمد بن حنبل عن أفضل الصحابة؟ فقال : أبو بكر وعمر وعثمان ، ثم سكت ، فقلت : أين عليّ بن أبي طالب؟

قال : هو من أهل بيت لا يقاس به هؤلاء.

وروى في الجزء السادس من كنز العمال عن فردوس الأخبار للديلمي قال : قال عليه‌السلام : نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد.

وروى الخوارزمي الحنفي بإسناده عن رسول الله : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : خير من يمشي على الأرض بعدي عليّ بن أبي طالب.

وينقل ابن حجر الهيثمي عن ابن سمّان في كتابه المعروف ب «الموافقة» بإسناده عن ابن عبّاس أنه قال :

لما جاء أبو بكر وعليّ لزيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاته بستة أيام ، قال عليّ لأبي بكر : تقدم ، فقال أبو بكر : لا أتقدّم رجلا سمعت رسول الله يقول فيه : عليّ مني كمنزلتي من ربي(١).

وعن ابن عبّاس عن النبيّ قال :

عليّ باب حطة من دخل منه كان مؤمنا ومن خرج منه كان كافرا (٢).

وأخرج الترمذي والحاكم عن عمران بن حصين أن رسول الله قال : ما تريدون من علي ، ما تريدون من علي ، إن عليا مني وأنا منه وهو وليّ كل مؤمن من بعدي (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عنوان صحيفة المؤمن حب عليّ بن أبي طالب».

__________________

(١) الصواعق المحرقة ص ١٠٨.

(٢) الصواعق المحرقة ص ١٢٥ الباب التاسع ، الفصل الأول في مآثر وفضائل الإمام عليّ عليه‌السلام.

(٣) نفس المصدر والصفحة.

٢١٦

«عليّ إمام البررة وقاتل الفجرة منصور من نصره مخذول من خذله».

«عليّ مني بمنزلة رأسي من بدني».

«عليّ يزهر في الجنة ككوكب الصبح لأهل الدنيا».

«عليّ يعسوب المؤمنين والمال يعسوب المنافقين».

وروى في نفس الفصل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال عند ما حاصر الطائف : «أوصيكم بعترتي خيرا ، وإن موعدكم الحوض والذي نفسي بيده لتقيمن الصلاة ولتؤتنّ الزكاة ولأبعثنّ إليكم رجلا مني أو كنفسي يضرب أعناقكم ثم أخذ بيد عليّ رضي الله عنه ثم قال : هو هذا» (١).

وفي رواية أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في مرض موته :

«أيّها الناس يوشك أن أقبض قبضا سريعا فينطلق بي وقد قدّمت إليكم القول معذرة إليكم ، إلّا إني مخلّف فيكم كتاب ربي عزوجل وعترتي أهل بيتي ، ثم أخذ بيد عليّ فرفعها ، فقال : هذا عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض فأسألهما ما خلّفت فيهما» (٢).

الثالث :

إنّ المتقدّمين على مولانا أمير المؤمنين قد ظلموه ، وكل ظالم ملعون ، والملعون لا ينوب الرسول بالخلافة.

فهنا صغرى وكبرى منطقية.

أما الصغرى فتقريرها بوجهين :

الأول :

إن القوم نازعوه في الخلافة ، وتقدّموا عليه ، واستقلوا بالأمر دونه ، وذلك

__________________

(١) الصواعق المحرقة ، الفصل الثاني من الباب التاسع ص ١٢٦.

(٢) نفس المصدر السابق.

٢١٧

حقه دونهم بالدلائل العقلية (١) والنقلية ، ومنازعتهم له على الخلافة ظلم عليه ، وقد ذمّ الله الظالمين وأوعدهم بالعذاب ، منها قوله تعالى :

(إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢).

(وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (٣).

(وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (٤).

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) (٥).

(ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (٦).

(قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٧).

(فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٨).

(رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٩).

(وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً) (١٠).

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١١).

__________________

(١) يأتي بيانها في الفصل الآتي.

(٢) سورة إبراهيم : ٢٢.

(٣) سورة إبراهيم : ٢٧.

(٤) سورة الإسراء : ٨٢.

(٥) سورة الكهف : ٢٩.

(٦) سورة مريم : ٧٢.

(٧) سورة الأنبياء : ١٤.

(٨) سورة المؤمنون : ٢٨.

(٩) سورة المؤمنون : ٩٤.

(١٠) سورة الفرقان : ٣٧.

(١١) سورة القصص : ٥٠.

٢١٨

(وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (١).

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٢).

(فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (٣).

(وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) (٤).

ونظيرها من الآيات الكريمة الدالة على قباحة الظلم والظالمين ، حيث إن الله تعالى لم يرد لظالم أن يحكم أو يتسلط على الرقاب ، لأن التسلط والحكم إمضاء للقبيح ، والله تعالى لا يفعل القبيح لكونه عبثا يتنزه الحكيم عنه.

الثاني : على تقدير عدم ثبوت كون الإمامة حقا لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، لكنها ليست حقا لأحد منهم بالنص من الله ولا من رسوله ، لأنهم جميعا متفقون على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يوص إلى أحد ، وأنه مات على غير وصيّة ، فالمقتضى لإمامتهم بزعم أهل البدعة إنما هو رأي الأمة واتفاقهم عليه ، ومعلوم أنّ الإمام عليا عليه‌السلام لم يكن حاضرا في وقت عقد البيعة يوم السقيفة ولا حصل منه موافقة على هذا الرأي السخيف ، فلم تنعقد إمامتهم بمقتضى ما قرّروه ولم يثبت لهم حق على أحد من الأمة ، لا سيّما أنّ مولاتنا وسيدتنا الصدّيقة الكبرى فاطمة بنت محمد عليهما‌السلام وولديها الإمامين السبطين الحسن والحسين وكذا العبّاس عم النبي وأولاده وأسامة بن زيد والزبير وعمار وسلمان وأبي ذر والمقداد وغيرهم لم يرضوا بخلافة أبي بكر واعتبروها حقا اغتصب من الإمام عليعليه‌السلام ، ومع هذا فإن طلب القوم من الإمام عليه‌السلام أن يبايع يعتبر ظلما وطلبا لما لم يثبت لهم ولم يستحقوه شرعا ، فضلا عن إلزامهم له عليه‌السلام بها والتشديد عليه والتهديد له بتحريق الدار وجمع

__________________

(١) سورة الزمر : ٢٤.

(٢) سورة غافر : ٥٢.

(٣) سورة الشورى : ٤٠.

(٤) سورة الشورى : ٤٤.

٢١٩

الحطب عند الباب واعتدائهم على بضعة المصطفى فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين.

وقد اعتذر بعض المتعصبين للشّيخين بأنّ الإمام عليا عليه‌السلام لم يتخلّف عن البيعة لأبي بكر إلّا رعاية لحق الصدّيقة السيدة الزهراء عليها‌السلام لكونها لم تكن راضية ، وأما زوجها فقد كان راضيا.

والجواب :

١ ـ أما كونه عليه‌السلام راضيا فلم ينقل عنه هذا بغير خلاف بين المؤرخين.

٢ ـ وعلى تقدير كونه راضيا ، لكنه هل رضي أن تظلم الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام؟! وهي القائلة للشيخين حينما زاراها : «... فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبيّ لأشكونّكما إليه .. ثم قالت لأبي بكر : والله لأدعونّ الله عليك في كل صلاة أصليها» (١).

وهل يتصور عاقل أن أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام يسخط السيدة الزهراء ليرضي الشيخين اللذين ظلماه وزوجته عليها‌السلام؟!!

وكيف يرضيهما وهو القائل :

«لقد تقمّصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى ، ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير ... إلى أن يقول : فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا أرى تراثي نهبا ، حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده ..» (٢).

والتقمص كناية عن اغتصاب الخلافة التي هي حق له عليه‌السلام ، ويؤكد هذا نفس قولهعليه‌السلام : «أرى تراثي نهبا» اغتصبه الأول بتدبير الثاني ، ثم رده الأول عليه.

__________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري ص ٣١.

(٢) الخطبة الشقشقية ، نهج البلاغة ج ١ / ٢٦ ، شرح محمّد عبده.

٢٢٠