أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

ليت شعري : كيف تنعقد الإمامة ـ حسبما ادّعاه القوم ـ بواحد من أهل الحل والعقد ، ولا تنعقد لمولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام الذي تصافق على بيعته يوم الغدير مائة وعشرون ألف مسلم وعلى طليعتهم النبي الكريم محمد وثلة من الصحابة منهم أبو بكر وعمر بن الخطّاب؟!!

وما ذهبوا إليه ما هو إلا تبريرا لما حصل في تلك الآونة الزمنية حيث إن البيعة انعقدت لأبي بكر بواسطة عمر بن الخطّاب ، لذا قال القرطبي المتوفى عام ٦٧١ ه‍ :

«فإن عقدها واحد من أهل الحلّ والعقد ، فذلك ثابت ، ويلزم الغير فعله ، خلافا لبعض الناس ، حيث قال : لا تنعقد إلا بجماعة من أهل الحل والعقد ، ودليلنا : أن عمر عقد البيعة لأبي بكر ، ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك ، ولأنه عقد ، فوجب أن لا يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر العقود» (١).

ولم يكتف علماء العامة بهذا بل أجازوا أن يتعين الإمام بالقهر والاستيلاء حسب تقرير التفتازاني المتوفى عام ٧٩١ ه‍ :

قال : وتنعقد الإمامة بطرق :

أحدها : بيعة أهل الحل والعقد من وجوه الناس الذين يتيسر حضورهم من غير اشتراط عدد ولا اتفاق من في سائر البلاد ، بل لو تعلق الحلّ والعقد بواحد مطاع كفت بيعته.

ثانيها : استخلاف الإمام وعهده ، وجعله الأمر شورى بمنزلة الاستخلاف ، إلا أن المستخلف عليه غير متعين فيتشاورون ويتفقون على أحدهم ، وإذا خلع الإمام نفسه كان كموته ، فينتقل الأمر إلى ولي العهد.

ثالثها : القهر والاستيلاء ، فإذا مات الإمام وتصدّى للإمامة من يستجمع

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١ / ٢٦٠.

١٨١

شرائطها من غير بيعة واستخلاف ، وقهر الناس بشوكته ، انعقدت الخلافة له وكذا إذا كان فاسقا أو جاهلا على الأظهر» (١).

يلاحظ على هذه الأقوال :

أولا : إن اختلاف القوم في شرائط الإمام وطرق تنصيبه ، جعل الخلافة وبالا على المسلمين ، حتى أخذت لنفسها شكلا يختلف كل الاختلاف عن الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه ، فقد أصبحت الخلافة الإسلامية امبراطورية ، وملكا عضوضا ، يتناقلها رجال العبث والفساد ، وقد أعانهم في تسنم ذروة تلك العروش ، مرتزقة متظاهرين باسم الدين ، فبرروا أفعالهم ووجهوا أعمالهم توجيها ملائما للظروف السائدة ، فخلقوا في ذلك أحاديث وسنن مفتعلة على صاحب الرسالة ، واصطنعوا لهذا وذاك فضائل ، لتدعيم مراكزهم السياسية ، من هذه الأحاديث ما نسبوه إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال :

«يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ، ولا يستنّون بسنتي وسيقوم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنسي ، قال الراوي : قلت : كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير ، وإن ضرب ظهرك ، وأخذ مالك ، فاسمع وأطع» (٢).

ثانيا : كيف تنعقد الإمامة بواحد ، في حين لا ينعقد النكاح بين الزوجين إلا بشهادة رجلين (٣) ، فما هذه الغميزة في الخلافة حيث اعتبروها أقلّ شأنا من عقد الزواج الذي اهتمت به السنّة المطهرة على الخصوص بشئونه وأحكامه ، والعجب

__________________

(١) شرح المقاصد ج ٢ / ٢٧٢ ، ط / استانبول.

(٢) صحيح مسلم ج ١٢ / ١٩٩ ح ٥٢ ، ط / دار الكتب الإسلامية ، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين وتحريم الخروج على طاعة السلطان.

(٣) أجمعت المذاهب الأربعة على أن الزواج لا ينعقد إلّا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين حال العقد ، لكن المالكية اشترطوا حضورهما عند الدخول ، أما الإمامية فلم يشترطوا شيئا من هذا القبيل.

١٨٢

أن عقد الإمامة الذي تتوقف عليه حياة الأمة ، لم يطرح في النصوص ـ حسبما زعم القوم ـ ولم تبيّن حدوده وشرائطه وسائر مسائله في حين لم يترك النبيّ بيان أحكام مسائل هي أدون بكثير من مسألة الخلافة؟!!

ثالثا : إنّ تنصيب بعض الصحابة للخلافة دون مشورة البقية يعدّ خرقا لنظرية الجمهور القائلة بأن «يد الله مع الجماعة» و «لا تجتمع أمتي على ضلالة» و «لا تجتمع أمتي على خطأ».

هذا مضافا إلى اعتراضات هائلة صدرت من نفس الصحابة على خلافة أبي بكر ، حتى إنّ الزبير ـ وكما يروي الدينوري ـ وقف في سقيفة بني ساعدة أمام المبايعين وقد اخترط سيفه ، وهو يقول : «لا أغمده حتى يبايع عليّ» فقال عمر : «عليكم الكلب» فأخذ سيفه من يده ، وضرب به الحجر فكسره (١).

وأيضا فإن الحباب بن منذر قد قام يوم السقيفة منتضيا سيفه قائلا : «أنا جذيلها المحكّك ، وعذيقها المرجّب ، أنا أبو شبل في عرينة الأسد ، يعزى إليّ الأسد ، فحامله عمر ، فضرب يده ، فندر السيف فأخذه ، ثم وثب على سعد بن عبادة ووثبوا على سعد أيضا وتتابع القوم على البيعة ، وبايع سعد ـ مكرها ـ وكانت فلتة كفلتات الجاهلية ، قام أبو بكر دونها ، وقال قائل حين أوطئ سعد : قتلتم سعدا ، فقال عمر : قتله الله ، إنه منافق ، واعترض عمر بالسيف صخرة فقطعه» (٢).

ونحن نشك أن سعد بن عبادة بايعهم مكرها لشدة ما فعلوا به ، ولما رواه الطبري في رواية أخرى ، أن عمر بن الخطّاب قام على رأس سعد وقال : لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك فأخذ سعد بلحية عمر فقال والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة ، فقال أبو بكر مهلا يا عمر الرّفق هاهنا أبلغ ،

__________________

(١) الإمامة والسياسة ص ٨ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٥ ، ط / الأعلمي وشرح النهج ج ١ / ١٣٥ ط / الأعلمي ١٤١٥ ه‍.

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٩.

١٨٣

فأعرض عنه عمر وقال سعد أما والله لو أنّ لي قوّة ما أقوى على النهوض لسمعت مني في أقطارها وسككها زئيرا يجحرك وأصحابك ، أما والله إذا لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع ، احملوني من هذا المكان فحملوه فأدخلوه في داره وترك أياما ثم بعث إليه أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك ، فقال : أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي وأخضب سنان رمحي وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي فلا أفعل وايم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي واعلم ما حسابي ، فلما أتى أبو بكر بذلك قال له عمر لا تدعه حتى يبايع ، فقال له بشير بن سعد إنه قد لجّ وأبى وليس بمبايعكم حتى يقتل وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته فاتركوه فليس تركه بضارّكم إنما هو رجل واحد فتركوه .. فكان سعد لا يصلي بصلاتهم ولا يجمع معهم ويحج ولا يفيض معهم بإفاضتهم فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر» (١).

بل إن عمر نفسه قد اعترض بعد وفاة أبي بكر على خلافته فقال : «فلا يغرّن امرأ أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فقد كانت كذلك غير أن الله وقى شرّها» (٢).

كيف لا تكون فلتة وقد قامت على ظلم آل محمّد عليهم‌السلام ، ونفسه أبو بكر يعبّر عن هويته حينما قال :

«إن لي شيطانا يعتريني فإذا غضبت فاجتنبوني ، وإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوّموني» (٣).

أفيصح بعد ذلك أن يتشدق القرطبي ويقول : «ولم ينكر أحد من الصحابة

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٥٩ والإمامة والسياسة ص ٢٧ ط / الرضي ، قم.

(٢) نفس المصدر ج ٢ / ٤٤٦.

(٣) الإمامة والسياسة ص ٣٤.

١٨٤

ذلك» ، وكأن الحباب وسعدا والزبير وبني هاشم لا سيما مولى الثقلين أمير المؤمنين وزوجه الطهر الطاهر فاطمة روحي فداها لم يكونوا من الصحابة بل ولا ـ بنظر أبي بكر وعمر ـ من المسلمين؟!

رابعا : إنّ هذا الاختلاف الفاحش في كيفية عقد الإمامة يعرب عن بطلان نفس الأصل الذي ابتدعوه ، فلو كانت الإمامة مفوّضة إلى الأمة ، لكان على النبيّ العظيم بيان تفاصيلها وخصوصياتها وخطوطها العريضة ، وهل أنها تنعقد بواحد أو باثنين من الصحابة ، أو بأهل الحل والعقد أو بالصحابة الحاضرين يوم وفاة النبي؟!!

خامسا : كيف يعقل أن يترك النبي أمته بلا تعيين خليفة وهو يعلم إن لم يفعل بأن أمته سوف يتسلط بعضهم على بعض ، وسوف يريق بعضهم دماء بعض من أجلها ، وهو القائل ـ وكما ورد في سنن أبي داود والنسائي ـ أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة ناجية ، والباقون في النار» ، «وأنّ أصحابه لن ينجو منهم إلّا مثل همل النعم ، فيرتدّ أكثرهم ويرجعون بعده كفارا ، فيقال للنبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» (١).

فهذه الأحاديث وأمثالها تشهد على ما كان يعلمه النبيّ الكريم من اختلاف أمته ، وأن الخلافة من بعده من أولى قضاياه الكبرى ، ومع هذا يقال إنه «صلوات الله عليه وآله» لم يوص ، أو أنه أوكل اختيار الخليفة إلى عقول الناس المتضاربة ، ولو كنّا نصدّقها مستسلمين لكذّبنا عقولنا وتفكيرنا ، فإن الإسلام جاء رحمة للعالمين لينقذهم من الجاهلية والهمجية ساكتا عن أعظم أمر مني به الإسلام والمسلمون مع أنه كان على علم به؟!

فما علينا إلّا أن نتّهم التاريخ وحملة الحديث بالكتمان وتشويه الحقائق بقصد أو بغير قصد ، ولئن لم يكن محمّد نبيا مرسلا يعلم عن وحي ويحكم بوحي ،

__________________

(١) تقدم مصادر هذا الحديث فلاحظ.

١٨٥

فليكن ـ على أقل تقدير ـ أعظم سياسي في العالم كله لا أعظم منه ، فكيف يخفى عليه مثل هذا الأمر العظيم لصلاح الأمة بل العالم بأسره مدى الدهر ولا يضع له حدّا فاصلا؟!

وهل يرضى لنفسه عاقل يتولى شئون بلده فضلا عن أمة أن يتركها تحت رحمة الأهواء واختلاف الآراء ولو لأمد محدود وهو قادر على إصلاحها ، أو التنويه عن إصلاحها إلّا أن يكون مسلوبا من كل رحمة وإنسانية؟ حاشا نبينا وسيّدنا محمّد العظيم من جاء رحمة للعالمين ومتمما لمكارم الأخلاق وخاتما للنبيين! وقد قال الله تعالى منوّها بكمال الرسالة وتمامها (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (١) وقد وجدناه نفسه لا يترك المدينة المنوّرة ، إذا خرج لحرب أو غزاة من غير أمير يخلفه عليها ، فكيف نصدّق عنه أنه أهمل أمر هذه الأمة العظيمة بعده إلى آخر الدهر من دون وضع قاعدة يرجعون إليها أو تعيين خلف بعده!

سادسا : كيف يعقل أن ينسب للنبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تفويض أمر تعيين الخليفة إلى الأمة المتمثلة بأهل الحل والعقد ، وقد حدّثنا التاريخ أن أهل الحل والعقد أو ما يعبّر عنهم بكبار الأمة ، هم بؤرة الخلاف والنزاع.

وهكذا على مر العصور كانت الطبقة الخاصة مع اختلاف نفوسهم وتباين نزعاتهم كسائر الناس لا ينفكون عن تحيزات فيهم أعظم منها في غيرهم ، ويندر أن يتجردوا عن أهوائهم النفسية ، وأغراضهم الشخصية ، تجعل كل فرد يشرئب إلى هذا المنصب أو ذاك ، فهل أمر كهذا مع أهميته وخطورته يوكل إلى من وصفنا ، وهل يعقل أن أبا بكر تفطن إلى سوء عواقب هذا التشريع دون النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!! فأسرع أبو بكر وأخوه عمر إلى تعيين الخليفة من بعدهما ، فعيّن الأول أخاه عمر بوصية كتبها بخط عثمان ، وعيّن الثاني عثمان بطريقة اخترعها

__________________

(١) سورة المائدة : ٣.

١٨٦

ضمن ستة أشخاص سماها بالشورى (١) ، فصغى رجل لضغنه ومال الآخر لصهره على حدّ تعبير مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فكيف تنسب الفطانة إلى الشيخين وعائشة دون النبي الذي لا يفعل إلا عن وحي ، ولا يحكم إلا بوحي ، هيهات هيهات أن يكون من النبي الحكيم مثل هذا التشريع ، وكيف يخفى عليه ضرره ، ولا يخفى على عائشة وهؤلاء يوم أوصوا أن لا تترك أمة محمد بلا راع؟!!

سابعا : إنّ إيكال الاستخلاف للأمة أمر لم يقم عليه دليل ، فهو بالغض عن مخالفته للنص ، لكنه بحدّ ذاته لم يكن قائما على الأسس الموضوعية ، بحيث يختار على ضوئها المستخلف من يستخلفه لحيازته على الشروط المعتبرة في القيادة والإمامة كالمؤهلات العلمية والسلوكية والقدرة على الإدارة ، والتجسيد الكامل لمفهوم القدوة ، وإنما كان ـ هذا الاستخلاف ـ متأثرا بالوضع النفسي للمستخلف وعلاقته بالمستخلف معه في العاطفة والسلوك والمصالح والطموحات ، فمثلا كان استخلاف أبي بكر لعمر بن الخطاب ردا للجميل الذي حباه به الأول كما تنبأ بذلك أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حينما قال له عمر : «لست متروكا حتى تبايع» فأجابه عليه‌السلام :

«احلب حلبا لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا» (٢).

وقال الإمام عليه‌السلام في موضع آخر يصف فيه عهد أبي بكر إلى عمر : «فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا ، أرى تراثي

__________________

(١) روى ابن قتيبة الدينوري في الإمامة والسياسة ص ٤١ : أن عمر بن الخطاب لمّا أحس بالموت قال لابنه : اذهب إلى عائشة واقرئها مني السلام ، واستأذنها أن أقبر في بيتها مع رسول الله ومع أبي بكر ، فأتاها عبد الله بن عمر فأعلمها ، فقالت : نعم وكرامة ، ثم قالت : يا بني أبلغ عمر سلامي وقل له : لا تدع أمة محمد بلا راع ، استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملا ، فإني أخشى عليهم الفتنة ..» يا سبحان الله صارت عائشة وغيرها أحرص على أمة الإسلام أكثر من النبي محمد (ص)؟! احكم أيها القارئ بعين الإنصاف.

(٢) الإمامة والسياسة ص ٢٩ ط / الرضي ، قم ، تحقيق علي شيري.

١٨٧

نهبا ، حتى مضى الأول لسبيله ، فأدلى بها إلى فلان (١) بعده ، ثم تمثل بقول الأعشى :

شتّان ما يومي على كورها

ويوم حيّان أخي جابر

فيا عجبا!! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته ـ لشدّ ما تشطّرا ضرعيها (٢) ـ فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحّم ، فمني الناس ـ لعمر الله ـ بخبط وشماس وتلوّن واعتراض ، فصبرت على طول المدة ، وشدة المحنة ، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم ، فيا لله وللشورى ، متى اعترض الرّيب فيّ مع الأول منهم ، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر» (٣).

والنتيجة : أن هذا الاستخلاف أدّى إلى تنافس على الخلافة بين ملوك بني أمية والعبّاس بعد انتزاعها من أصحابها الشرعيين من حين وفاة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسبب هذا الاختلاف منشؤه عدم اشتراط المؤهلات في المستخلف لفقدان النص برأي أصحاب هذه النظرية ، من هنا حاول بعض المتأخرين من فقهاء العامة تهذيب نظرية الاستخلاف ، مشترطين أن يكون المعهود له متصفا بصفات الإمامة كالفقاهة والعدالة ، ولا عبرة باستخلاف الجاهل والفاسق (٤).

مما يدل ـ بحسب هذا التعديل ـ أن ما سار عليه أغلب الحكّام في العهد والاستخلاف مخالف للأسس الشرعية حتى عند المذاهب السّنية.

وعلى ضوء التهذيب الطارئ على النظرية الأشعرية في تولّي الخلافة يكون حكم المعاصرين لأئمتنا المعصومين ـ بدءا بمولانا أمير المؤمنين وانتهاء بغياب

__________________

(١) أي إلى ابن الخطّاب.

(٢) المراد من العبارة : «أي أنهما اقتسما الخلافة فأخذ كل منهما شطرا» شرح النهج لصبحي الصالح ص ٥٦٥.

(٣) نهج البلاغة ص ٤٨ ، الخطبة ٣ شرح صبحي الصالح.

(٤) مغني المحتاج ج ٤ / ١٣١ محمد الشربيني ، دار الفكر ـ بيروت.

١٨٨

الإمام المهدي عليه‌السلام ـ غير شرعية ولا تستمد روحيتها من الشارع المقدّس لفقدانهم لشروط الخلافة ، ولمعاصرتهم لأشخاص أولى بالخلافة منهم.

وطرق التولّي لمسألة الحكم بعد وفاة النبي لم تقدّم للأمة إلّا مزيدا من الويلات والفتن والدماء ، فاستخلاف أبي بكر شجّع معاوية على استخلاف يزيد ، وأصبح الاستخلاف سنة متّبعة في حكم بين أمية وبني العبّاس.

أما الشورى التي ابتدعها عمر بن الخطاب فإنها كانت بلاء على المسلمين ، حيث خطط عمر كي يكون عثمان هو الخليفة ، وقد حصل ما أراده ابن الخطاب ، فأدّى تسلّم عثمان للخلافة إلى اقتطاع بيت مال المسلمين عن الفقراء واختصاصه ببني أمية وحاشية بلاطه ، مما أدى إلى قيام بعض صحابة النبي أمثال أبي ذر الغفاري وعمار بن ياسر وجماعة معهما كطلحة والزبير على عثمان والاعتراض عليه وقتله.

وبعد مقتله خرج طلحة والزبير على الإمام عليّ عليه‌السلام يطالبانه بدم عثمان ، واستغل معاوية الفرصة فقاتل الإمام عليّا عليه‌السلام تحت ذريعة الطلب بدم عثمان ، فأضعف جيشه ، وفي واقعة التحكيم قام الخوارج عليه فقتل عليه‌السلام بسيفهم ، ثم اضطر الإمام الحسن عليه‌السلام لعقد الصلح مع معاوية حفاظا على البقية الباقية من قواعده الشعبية المؤمنة ، لكنّ معاوية لم يف بشرط من شروط ذاك الصلح ، لذا صعد المنبر وقال : كل شرط تصالحت به مع الحسن فهو تحت قدميّ هاتين.

وهكذا استمر حكم معاوية بسياسة البطش لكل مناوئيه ، فكان يقتل على الظن والتهمة ، واستخلف ابنه يزيد على المسلمين ، فابتدأ حكمه بقتل سبط النبيّ الإمام الحسين عليه‌السلام وأهل بيته ، ثم استباح مدينة الرسول وقتل حسب النصوص التاريخية المشهورة ما لا يقل عن ستة آلاف وخمسمائة من أبناء المهاجرين والأنصار.

وأدت نظرية الغلبة والاستخلاف إلى تسلط ملوك بني العبّاس الذين حكموا

١٨٩

بالحديد والنار واستباحوا الحرمات والمقدّسات ، ويكفي كشاهد ما فعله عبد الملك بن مروان حيث مات في حبسه خمسون ألف رجل ، وثلاثون ألف امرأة ، وأساء حكمهم سمعة الإسلام في نظر غير المسلمين ، واستمر الصراع على الخلافة والسلطة وأريقت الدماء واستبيحت الأعراض ، وطورد أهل البيت عليهم‌السلام وحوصروا وفي نهاية المطاف كانت نهايتهم الشهادة على أيدي خلفاء الجور ولم ينج منهم سوى مولانا الإمام المهدي عليه‌السلام حيث شاءت القدرة الإلهية أن يستمر هذا البيت الطاهر بعطائه يفيض على المستحقين ، فغاب عن قواعده المؤمنة سوى الخواص منهم يستفيدون منه ومن عطائه ، كما أنه لم ينقطع كليا عن قواعده المؤمنة به بل يراهم ويرونه ولكنّهم لا يعرفونه مع قضائه لحوائجهم وسماعه لصرخاتهم واستغاثتهم. ولو أنّ الأمة أطاعت أهل البيت عليهم‌السلام لكانوا ـ أي أئمتنا عليهم‌السلام ـ لها سفينة النجاة حقا ، ولما حدث ما حدث من مآس على طول التاريخ.

ثامنا : إن هذا الاختلاف الفاحش في كيفية عقد الإمامة ، يعرب عن بطلان نفس الأصل ، لأنه إذا كانت الإمامة مفوّضة إلى الأمة ، كان من الواجب على النبي بالضرورة بيان تفاصيلها وخصوصياتها وخطوطها العريضة ، وأنه هل تنعقد بواحد أو باثنين من الصحابة؟ وهل أن أهل الحل والعقد هم أنفسهم من يعيّنون الخليفة أو لا؟ (١).

تاسعا : كيف يتصوّر أن يترك النبيّ الكريم الحكيم أمته بلا تعيين خليفة وهو يعلم إن لم يفعل سوف تراق الدماء من أجلها ، وقد ورد عنه بالمستفيض «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة ناجية ، والباقون في النار» وأن أصحابه لن ينجو منهم إلّا مثل همل النعم ، فيرتدّ أكثرهم ويرجعون بعده كفارا ، فيقال له : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» (٢).

__________________

(١) الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإمامية ج ٢ / ٤٩ ، ط / مركز العترة عام ١٤١٨ ه‍.

(٢) صحيح مسلم ج ١٥ / ٤٣ ، باب إثبات حوض النبي ، ط / دار الكتب العلمية ، والحديث متواتر مضمونا.

١٩٠

وما ورد عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ قال :

«إنهم مني ، فيقال : إنك لا تدري ما عملوا بعدك ، فأقول ؛ سحقا سحقا لمن بدّل بعدي» (١).

فهذه الأحاديث وأمثالها تشهد على ما كان يعلمه الرسول الكريم من اختلاف أمته ، لذا كانت الإمامة من أولى قضاياه ، دفعا لحصول الخلاف ، والتقاتل على أقل تقدير (٢).

من هنا ورد عنه بالمستفيض أنه قال :

«لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة ، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش»(٣).

وقد أورد البخاري هذا الحديث من ثلاثة طرق ، ومسلم من تسعة طرق ، وأبو داود من ثلاثة ، والترمذي من طريق واحد ، والحميدي من ثلاثة طرق ، حسبما جاء في الينابيع.

وأهل البيت عليهم‌السلام أكثر انطباقا على هذا الحديث من خلفاء بني أمية وبني العبّاس ، لأن بني أميّة كانوا أقل من العدد المعلوم ، وبني العبّاس كانوا أكثر ، هذا مضافا إلى أن النبي أراد بهذا الحديث الإشادة بخلفائه من بعده ، لا سيما بقوله «لا يزال هذا الدين قائما» ولا يقوم الدين إلّا بالعدول ، وأين هي العدالة التي تحلّى بها الشيخان وأتباعهما من حكّام بني أمية وبني العبّاس؟!!

هل من العدالة أن يغتصب حق الإمام عليّ عليه‌السلام وتضرب السيدة الزهراء عليها‌السلام ويجري عليها ما جرى من ظلم الخليفة المزعوم؟! وحسبما قال ابن

__________________

(١) صحيح مسلم ج ١٥ / ٤٤ رقم الحديث ٢٢٩١.

(٢) الفوائد البهيّة ج ٢ / ٥٠.

(٣) ينابيع المودة ص ٥٣٣ الباب السابع والسبعون ، ط / الرضي ـ قم.

١٩١

أبي الحديد : «إنّ عمر بن الخطّاب هو أول من شيّد بيعة أبي بكر ووقم (١) المخالفين فيها فكسر سيف الزبير لمّا جرّده ، ودفع في صدر المقداد ، ووطئ في السقيفة سعد بن عبادة ، وقال : اقتلوا سعدا ، قتل الله سعدا! وحطّم أنف الحباب بن المنذر الذي قال يوم السقيفة : أنا جذيلها (٢) المحكّك ، وعذيقها المرجّب ، وتوعّد من لجأ إلى دار فاطمة عليهم‌السلام من الهاشميين ، وأخرجهم منها ، ولو لاه لم يثبت لأبي بكر أمر ، ولا قامت له قائمة» (٣).

بعد هذا كله ، هل يصح أن يقال : ارتحل النبيّ الأعظم ولم يوص لأحد من بعده ، أو أنه أوكل اختيار الخليفة إلى عقول الناس المتضاربة؟!!

ولو لم يوص ـ مع علمه المسبق بانشقاق الأمة من بعده وتضارب آرائها ـ لكذّبنا عقولنا وتفكيرنا ، لأن الإسلام جاء رحمة للعالمين ولينقذ الناس من الجاهلية والهمجية ، فدعوى أن النبيّ لم يوص ما هو إلّا اتهاما لهذا الرسول الكريم بعدم الكفاءة والجدارة.

ولو لم يكن محمّد نبيّا مرسلا يعلم عن وحي ويحكم بوحي ، فليكن ـ على الأقل ـ أعظم سياسي في العالم كله لا أعظم منه ، فكيف يخفى عليه مثل هذا الأمر العظيم لصلاح الأمة بل العالم بأسره مدى الدهر؟! أو أنه عليه‌السلام يعلم بهذا الاختلاف ولا يضع له حدّا فاصلا؟!!

وهل يرضى لنفسه عاقل يتولى شئون بلده فضلا عن أمة أن يتركها تحت رحمة الأهواء واختلاف الآراء ولو لأمد محدود وهو قادر على إصلاحها ، أو التنويه عن إصلاحها إلّا أن يكون مسلوبا من كل رحمة وإنسانية؟

__________________

(١) وقم المخالفين : أي أذلّهم.

(٢) معنى «أنا جذيلها المحكّك ...» هو أنني ذو رأي يشفى بالاستضاءة به كثير في مثل هذه الحالة ، وأنا في كثرة التجارب في هذه الحالة وأمثالها كالنخلة الكثيرة الحمل.

(٣) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١ / ١٣٥ ، باب نبذة من أخبار عمر.

١٩٢

حاشا نبيّنا الكريم من جاء رحمة للعالمين ، ومتمما لمكارم الأخلاق وخاتما للنبيين!! ومعنى كونه رحمة للعالمين أنه لم يترك شيئا إلّا بيّنه وحدّد تفاصيله ـ لا سيما هذا الأمر الخطير ـ وقد أوضح الباري العظيم هذا الأمر بقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (١) وقد وجدناه نفسه لا يترك المدينة المنورة ، إذا خرج لحرب أو غزاة من غير أمير يخلفه عليها ، فكيف نصدّق عنه أنه أهمل أمر هذه الأمة العظيمة بعده إلى آخر الدهر من دون وضع قاعدة يرجعون إليها أو تعيين خلف بعده!

فلا يتبقى لنا إلّا أن نعتقد بوجوب تعيين الخليفة على الأمة حفظا لمصالحها ، ودرءا للأخطار عنها ، وطروء الشبهات عليها وانحراف أهلها ، وقد حصل هذا التعيين بنصوص قرآنية وأخرى نبوية أشارت إلى أن الإمام عليا وأبناءه المعصومين هم الخلفاء على هذه الأمة والشهداء عليها والقيمين على أفرادها. وبهذا يتضح بطلان الطريق الثاني لانتخاب الخليفة ، وأما الطريق الثالث فباطل مثله ، وإليك البيان.

الطريق الثالث : «الميراث» :

ذهب بعض الفرق الإسلامية كالعبّاسية والراوندية إلى ثبوت الإمامة بالوراثة باعتبار أنّ العبّاس بن عبد المطلب استحق الإمامة لقربه من النبيّ دون بني أعمامه.

ويلاحظ عليه :

١ ـ يشترط في الإمام العصمة ، وهي غير متوفرة في غير الإمام عليّ عليه‌السلام وأولاده المنصوص عليهم واحدا تلو الآخر.

٢ ـ لو ثبت التوارث في الإمامة لكان ثبت ذلك للنساء والصبيان مع أن ذلك باطل بإجماع الأمة.

__________________

(١) سورة المائدة : ٣.

١٩٣

٣ ـ يشترط في الإمامة النص منه تعالى ، ولا شيء منه في العبّاس وغيره.

٤ ـ إنّ القول بالميراث يعني تسلط الفسّاق على الإمامة والحكم ، وقد نهى الله عزوجل عنه في محكم كتابه الكريم بقوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (١) وتسليط الفسّاق على سدة الحكم وارتضاؤهم له يعتبر ركونا إليهم وهو حرام شرعا.

من هنا يتضح فساد الطريقين المتقدمين بما تقدم من البراهين ، هذا مضافا إلى عدم عصمتهما عدا الأول ، وعلينا إثبات الدليل عليه ، وهل أن النبي عيّن شخص الإمام بعده؟ ومن هو هذا الإمام؟ هل هو مولى الثقلين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام أو أبو بكر بن أبي قحافة؟

استدلال العامة على خلافة أبي بكر :

استدل العامة على خلافة أبي بكر بوجهين :

الوجه الأول :

إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدّم أبا بكر على جميع أهل بيته وأصحابه ، كي يصلي بالمسلمين إماما ، وحيث إن الصلاة عماد الدين (٢) ، دل ذلك على أن أبا بكر إمام الأمة لرضا النبيّ به في الاقتداء به في الصلاة ، فيكون مرضيا عنه لإمامته في أمر الدنيا وهو الخلافة (٣).

وقد أفصح صاحب المواقف وابن حجر في الصواعق عن رأي العامة في خلافة أبي بكر ، فقال الأول :

إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استخلف أبا بكر في الصلاة حال مرضه واقتدى به وما عزله

__________________

(١) سورة هود : ١١٣.

(٢) كنز العمال ج ٧ / ٢٨٤ رقم ١٨٨٨٩ ، ط / مؤسسة الرسالة ـ بيروت ١٤٠٥ ه‍.

(٣) شرح التجريد للقوشجي ص ٣٧٢ والصواعق المحرقة ص ٢٣ ، ط / مكتبة القاهرة.

١٩٤

فيبقى إماما فيها وكذا في غيرها إذ لا قائل بالفصل (١).

وقال الثاني : ووجه ما تقرر من أن الأمر بتقديمه للصلاة كما ذكر فيه الإشارة أو التصريح بأحقيته للخلافة ، وأن القصد الذاتي من نصب الإمام العام ، إقامة شرائع الدين على الوجه المأمور من أداء الواجبات وترك المحرمات وإحياء السنن وإماتة البدع ، وأما الأمور الدنيوية وتدبيرها كاستيفاء الأموال من وجوهها وإيصالها إلى مستحقيها ودفع الظلم ونحو ذلك ليس مقصودا بالذات بل ليتفرغ الناس لأمور دينهم ، إذ لا يتم تفرغهم إلا إذا انتظمت أمور معاشهم بنحو الأمر على الأنفس والأموال ووصول كل ذي حق إلى حقه ، فلذلك رضي النبيّ لأمر الدين وهو الإمامة العظمى أبا بكر بتقديمه للإمامة في الصلاة ومن ثم أجمعوا على ذلك ..» (٢).

يورد عليهما :

١ ـ دعوى أنّ النبي استخلف أبا بكر في الصلاة بحاجة إلى برهان وبيان وما نسبوه (٣) إلى النبي من أنه أمر عائشة بأن تأمر أباها أبا بكر مردود من أصله لكثرة الاضطراب والاختلاق في دلالته ، وذلك شاهد بفساده.

فروى أبو وائل ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : صلّى رسول الله في مرضه الذي مات فيه خلف أبي بكر قاعدا (٤).

وروى إبراهيم ، عن الأسود عن عائشة في حديث : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى عن يسار أبي بكر قاعدا ، وكان أبو بكر يصلّي بالناس قائما (٥).

__________________

(١) هامش إحقاق الحق ج ٢ / ٣٦٠ نقلا عن شرح المواقف.

(٢) الصواعق المحرقة ص ٢٣ ـ ٢٤.

(٣) السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ / ٣٠١ ، ط / الحلبي ـ مصر ١٣٥٥ ه‍ / ١٩٣١ م.

(٤) السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ / ٣٠٢ ، وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٤٠ ، ط / الأعلمي مصححة على نسخة ليدن ١٨٧٩ م والسيرة الحلبية ج ٣ / ٤٦٤ ، ط / دار المعرفة ١٤٠٠ ه‍.

(٥) السيرة الحلبية ج ٣ / ٤٦٤ ، وصحيح البخاري ج ١ / ٢١٧ ح ٧١٣ ، ط / دار الكتب.

١٩٥

وعن وكيع ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة : قالت : صلّى رسول الله في مرضه عن يمين أبي بكر جالسا وصلّى أبو بكر قائما بالناس (١).

وفي حديث عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالت : صلّى رسول الله بحذاء أبي بكر جالسا ، وكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله ، والناس يصلون بصلاة أبي بكر (٢).

ووجه الاضطراب واضح في هذه المرويات ، وجميعها مروي عن عائشة ، فتارة تقول : كان رسول الله إماما بأبي بكر ، وتارة تقول : كان أبو بكر إماما ، وأخرى تقول : صلّى عن يمين أبي بكر ، ورابعا تقول : صلّى عن يساره ، وخامسا تقول : صلّى بحذائه ، وهذه أمور متناقضة تدل بظاهرها على الاضطراب والاختلاق مما يستوجب بطلان الحديث المزعوم ، والشهادة عليه بأنه من الموضوعات.

٢ ـ كيف يصلّي النبيّ جالسا ، والمأمومون قياما في حين أنّ عليهم الصلاة من جلوس اقتداء بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا مضافا إلى مناقضة هذا الحديث لما أمر به النبيّ ـ حسبما روى القوم في الصحاح ـ عن عروة بن الزبير عن عائشة (٣) قالت : صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته وهو شاك ، فصلّى جالسا ، وصلّى وراءه قوم قياما ، فأشار إليهم أن اجلسوا ، فلما انصرف قال : «إنما جعل الإمام ليؤتمّ به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا».

وورد عن أنس بن مالك قال : «سقط النبيّ عن فرس فشجّ شقه الأيمن فدخلنا عليه نعوده ، فحضرت الصلاة فصلّى بنا قاعدا فصلينا وراءه قعودا ، فلما قضى الصلاة قال : إنما جعل الإمام ليؤتمّ به ، فإذا كبّر فكبروا ، وإذا سجد فاسجدوا ... وإذا صلّى قاعدا فصلّوا قعودا أجمعون» (٤).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ / ٤٦٧ ، وسيرة ابن هشام ج ٤ / ٣٠٢ وتاريخ الطبري ج ٢ / ٤٣٩.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ / ٤٦٤.

(٣) صحيح البخاري ج ٢ / ٣٣٧ حديث رقم ١١١٣ ، ط / دار الكتب العلمية.

(٤) صحيح مسلم ج ٤ / ١١٢ والنووي بهامش صحيح مسلم ، والبخاري ج ١ / ٢٢١ ح ٧٣٢.

١٩٦

وفي رواية أخرى عن عائشة قالت : صلّى جالسا فصلوا بصلاته قياما ، فأشار إليهم أن اجلسوا فجلسوا (١).

وروى مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال : اشتكى رسول الله فصلينا وراءه وهو قاعد ، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره ، فالتفت إلينا فرآنا قياما ، فأشار إلينا فقعدنا ، فصلينا بصلاته قعودا ، فلمّا سلّم قال : إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم ، يقومون على ملوكهم وهم قعود ، فلا تفعلوا ، ائتموا بأئمتكم ، إن صلّى قائما فصلوا قائما ، وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا (٢).

فهذه الأحاديث تبطل حديث صلاة أبي بكر ، وتدلّ على اختلافه ، لأنه يتضمن مناقضة ما أمر به ـ كما في هذه المرويات ـ مما يستلزم القول بأن أبا بكر أقدم على الصلاة من دون أمر النبيّ ومشورته.

٣ ـ إن حديث صلاة أبي بكر ـ الذي تفردت بنقله عائشة ـ يتعارض بما روي عن ابن عبّاس قال :

قال رسول الله ابعثوا إلى عليّ عليه‌السلام فادعوه ، فقالت عائشة : لو بعثت إلى أبي بكر ، وقالت حفصة : لو بعثت إلى عمر ، فاجتمعوا عنده جميعا فقال رسول الله انصرفوا فإن تك لي حاجة أبعث إليكم فانصرفوا ، وقال رسول الله آن الصلاة؟ قيل : نعم ، قال : فأمروا أبا بكر ليصلّي بالناس ، فقالت عائشة إنه رجل رقيق ، فمر عمر ، فقال : مروا عمر فقال عمر : ما كنت لأتقدّم وأبو بكر شاهد ، فتقدّم أبو بكر ووجد رسول الله خفة فخرج فلما سمع أبو بكر حركته تأخر فجذب رسول الله ثوبه فأقامه مكانه وقعد رسول الله فقرأ من حيث انتهى أبو بكر (٣).

والملاحظ في هذا الحديث أن النبيّ وقع في تهافت ـ وحاشاه أن يقع ـ إذ

__________________

(١) شرح النووي بهامش صحيح مسلم ج ٤ / ١١٢ ، ط / دار الكتب الإسلامية ١٤١٥ ه‍.

(٢) صحيح مسلم ج ٤ / ١١٢ ح ٤١٣.

(٣) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٣٩.

١٩٧

كيف يأمر أبا بكر بن أبي قحافة بالصلاة ثم ينتره بثوبه ليصلّي مكانه ، لو لا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن لا تكون صلاة أبي بكر ممسكا عليه إلى آخر الدهر ، وإلا لو كان النبيّ راضيا عن أبي بكر لما كان قطعه عن الصلاة ، في حين أن العامة أنفسهم رووا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه صلّى خلف عبد الرحمن بن عوف الزهري (١) ، فليكن أبو بكر ـ على أقل تقدير مساويا لعبد الرحمن ـ فلا يجذبه النبيّ بثوبه ليصلّي مكانه. وعلى فرض اقتداء النبيّ بعبد الرحمن أو بأبي بكر فلا يوجب ذلك فضلا على النبيّ ولا على غيره من المسلمين.

ولو كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راضيا عن صلاة أبي بكر لما خرج معصّبا رأسه (٢) متكئا على الفضل بن عبّاس وعلى يد رجل كريم تناست ذكر اسمه عائشة ، وقد روى مسلم بذلك أخبارا مستفيضة عن عائشة قالت : أول ما اشتكى رسول الله في بيت ميمونة ، فاستأذن أزواجه أن يمرّض في بيتها ، وأذن له ، قالت : فخرج ويد له على الفضل بن عبّاس ، ويد له على رجل آخر ، وهو يخطّ برجليه في الأرض ، فقال عبيد الله : فحدّثت به ابن عبّاس ، فقال : أتدري من الرجل الذي لم تسمّ عائشة؟ هو عليّ عليه‌السلام (٣).

فخروج النبيّ بهذه الحالة (٤) لينحّي أبا بكر عن الصلاة ، له دلالاته الهامة ، وعلى أقل تقدير كان على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتركه يؤمّ الصلاة ـ لو كان يحسن الظن به ـ حتى لا يسيء أحد من المسلمين به الظن وأنه غير جدير بإمامة صلاة ، فكيف بإمامة العباد والبلاد!!

هذا مضافا إلى أنهم لا يختلفون أنه عليه وآله الصلاة والسلام أمر عمرو بن

__________________

(١) لاحظ أسد الغابة في معرفة الصحابة ج ٣ / ٤٧٦ ، ط / دار الكتب العلمية.

(٢) سيرة ابن هشام ج ٤ / ٣٠٢.

(٣) صحيح مسلم ج ٤ / ١١٧ ح ٩١ وصحيح البخاري ج ١ / ٢٠٢ ح ٦٦٥.

(٤) وكما نقل البخاري في صحيحه ج ١ / ٢٠٢ ح ٦٦٤ أن النبي خرج يهادى بين رجلين ، ورجلاه يخطّان من الوجع فلاحظ.

١٩٨

العاص على أبي بكر وعمر وجماعة من المهاجرين والأنصار ، وكان يؤمّهم طول زمان إمارته في الصلاة ، ولم يدل ذلك على فضله عليهم بحسب ما يذهبون إليه من تقديمهما على عمرو بن العاص.

ويروى أن سالم مولى أبي حذيفة كان يؤم المهاجرين قبل مقدم النبي إلى المدينة (١).

٤ ـ إن إمامة أبي بكر للصلاة ليست فضيلة له ، ولا توجب أن يكون إماما على هذه الأمة ، وذلك لما يروون من أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأمته : «صلوا خلف كل بر وفاجر» (٢). فأباح لهم النبيّ بحسب مضمون هذا الحديث الصلاة خلف الفجّار والفساق ، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه بطل ما اعتمدوه من فضل أبي بكر في الصلاة.

هذا مضافا إلى تجويزهم الصلاة خلف كل مفتون ومبتدع ، فقد روى البخاري عن أبي التّياح أنه سمع أنس بن مالك يقول : قال النبيّ لأبي ذر :

اسمع وأطع ولو لحبشي كأنّ رأسه زبيبة (٣).

بل إنّ عزل أبي بكر عن الصلاة بعد تقدمته ـ على فرض أنّ النبيّ قدّمه ـ إنما كان لإظهار نقصه عند الأمة وعدم صلاحيته للتقديم في شيء ، فإن من لا يصلح أن يكون إماما للصلاة مع أنه أقل المراتب عند العامة لصحة تقديم الفاسق فيها ، فكيف يصلح أن يكون إماما عاما ورئيسا مطاعا لجميع الخلق ، فكان قصده صلوات الله عليه وآله إن كان وقع هذا الأمر منه إظهار نقص أبي بكر وعدم صلاحيته للتقديم في ذلك ، فيكون حجة عليهم لا لهم.

وما أشبه هذه القصة بقصة سورة براءة وعزله عنها ، وإنفاذه بالراية في يوم

__________________

(١) صحيح البخاري ج ١ / ٢١١ ح ٦٩٢.

(٢) كنز العمال ج ٦ / ٥٤ ح ١٤٨١٥ عن سنن البيهقي.

(٣) صحيح البخاري ج ١ / ٢١٢ ح ٦٩٦.

١٩٩

خيبر ، فإن ذلك كله كان بيانا لإظهار نقصه وعدم صلاحيته لشيء من أمور الدين والدنيا.

٥ ـ إنّ حديث صلاة أبي بكر وإصرار هذه المرويات على تقديمه على غيره من الصحابة لا سيما مولى الثّقلين علي بن أبي طالب عليه‌السلام لا شك أنّ فيه غميزة بعمر بن الخطاب حيث قام ليصلي فأبعده النبيّ لأنه كان يريد ـ بزعمهم ـ أبا بكر.

فعن عبد الله ابن زمعة بن الأسود قال :

لما استعزّ برسول الله وأنا عنده في نفر من المسلمين ، قال : دعاه بلال إلى الصلاة ، فقال: مروا من يصلّي بالناس ، قال فخرجت فإذا عمر في الناس ، وكان أبو بكر غائبا ، فقلت : قم يا عمر فصلّ بالناس ، قال : فقام ، فلما كبّر ، سمع رسول الله صوته ، وكان عمر رجلا مجهرا ، قال: فقال رسول الله فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون ، يأبى الله ذلك والمسلمون. قال : فبعث إلى أبي بكر ، فجاء بعد أن صلّى عمر تلك الصلاة ، فصلّى بالناس. قال عبد الله بن زمعة : قال لي عمر : ويحك ما ذا صنعت لي يا بن زمعة ، والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله أمرك بذلك ، ولو لا ذلك ما صليت بالناس ، قال : قلت : والله ما أمرني رسول الله بذلك ، ولكني حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس (١).

نلاحظ هنا

أولا : إن عمر بن الخطّاب لو كان أهلا لإمامة الصلاة لما نهره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها ، فحيث أصرّ على أبي بكر دون عمر دل ذلك على عدم أهليته ولياقته لكي يؤم المسلمين بالصلاة.

ثانيا : كما أن عبد الله بن زمعة تصرف بدون إذن النبيّ فأمر عمر بالصلاة دون أبي بكر ، كذا أمكن لعائشة أن تتصرف بإعطاء الأمر دون إذن النبيّ لها بذلك ،

__________________

(١) السيرة النبوية ج ٤ / ٣٠٢ وكذا صحيح مسلم ج ٤ / ١١٩ ح ٩٤ و ٩٥ حيث أصرت عائشة على عمر ليصلّي بالناس ، لكن النبيّ بزعم هذه المرويات ـ أصر على أبي بكر.

٢٠٠