أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

ذلك عثمان بن عفّان بالنصّ على عمر من دون علم أبي بكر خشية أن يدركه الموت قبل الوصية ، فأمضى ما كتبه عثمان لمّا استفاق.

ذكر ابن الأثير في تاريخه أنّ أبا بكر أحضر عثمان بن عفان ليكتب عهد عمر بن الخطاب ، فقال له : اكتب :

بسم الله الرّحمن الرّحيم

هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين.

أما بعد ...

ثم أغمي عليه ، فكتب عثمان :

أما بعد ...

فإني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرا!.

ثم أفاق أبو بكر ، فقال : اقرأ عليّ. فقرأ عليه فكبّر أبو بكر وقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي ، قال : نعم ، قال : جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله.

فلما كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس ، فجمعهم وأرسل الكتاب مع مولى له ومعه عمر ، فكان عمر بن الخطاب يقول للناس : انصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله فإنه لم يألكم صالحا ، فسكن الناس وقرأ عليهم الكتاب ثم أشرف أبو بكر على الناس وقال : أترضون بمن استخلفت عليكم؟ فإني قد استخلفت عليكم ذا قربة ... (١).

انظر كيف افتروا على رسول الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجعلوا أبا بكر خليفة رسول الله ولا عجب من عمر كيف ينصّت الناس ليسمعوا من خليفة رسول الله ليمهّد لنفسه أن ينصتوا ويسمعوا له ويطيعوا.

__________________

(١) الكامل في التاريخ ج ٢ / ٤٢٥.

١٦١

رابعا :

قول عمر «حسبنا كتاب الله» يعني أنه لا يعطي لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أية أهمية ، ولو كان الكتاب كافيا لما احتجنا إلى السنّة المتمثلة بأقوال النبي وأفعاله ، ولو كان كافيا ذلك فلما ذا احتجّ هو وصاحبه على الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام عند ما احتجّت عليه بفدك فقال إنه سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة». فإذا كان الكتاب الكريم حسبه ، فكيف يستشهدان بأقوال النبيّ على الصديقة عليها‌السلام؟!!

ولو كان الكتاب كافيا من دون تفسير من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكان على عمر أن يصوم عن الكلام فقط لأن الله سبحانه وتعالى يقول : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) وهو لغة الصمت ؛ ولكنّ السنّة المباركة أوضحت لنا كيفية الصّوم بأحكامه المتقرّرة.

إذن ، لا يكفي الكتاب وحده من دون الرجوع إلى أقوال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال تعالى :

(وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (١).

* خلاصة الكلام :

إنّ الكتاب الذي أراد أن يكتبه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو النص على خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام ويكفينا ذلك مقالة ابن الخطاب «حسبنا كتاب الله» حيث شعر أنّ النبي أراد من كتابته الكتاب توطيد الأمر للإمام علي عليه‌السلام لذا حال بينه وبين كتابته.

* * * * *

__________________

(١) سورة النساء : آية ٨٣.

١٦٢

وهنا أطرق العبّاسي برأسه ، ولم يقل له شيئا.

قال الملك ـ متوجّها إلى الوزير ـ :

وهل صحّ ما ذكره العلوي؟

ـ قال الوزير : ذكر أهل التواريخ ذلك.

ـ قال العلوي : وإذا كان سبّ الصحابة حراما وكفرا ، فلما ذا لا تكفّرون معاوية بن أبي سفيان ولا تحكمون بفسقه وفجوره لأنه كان يسبّ الإمام عليّ بن أبي طالب إلى أربعين سنة وقد امتدّ سبّ الإمام إلى سبعين سنة.

ـ قال الملك : اقطعوا هذا الكلام وتكلّموا حول موضوع آخر.

جمع القرآن وتدوينه

ـ قال العبّاسي : من بدعكم أنتم الشيعة أنكم لا تعترفون بالقرآن!

ـ قال العلوي : بل من بدعكم أنتم السنّة أنكم لا تعترفون بالقرآن والدليل على ذلك أنّكم تقولون : إنّ القرآن جمعه عثمان ، فهل كان الرسول جاهلا بما عمله عثمان؟ حيث إنّه لم يجمع القرآن حتى جاء عثمان وجمعه ، وثم : كيف أنّ القرآن لم يكن مجموعا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان النبيّ يأمر قومه وأصحابه بختم القرآن فيقول : من ختم القرآن كان له «كذا» من الأجر والثواب ، هل يمكن أن يأمر بختم القرآن ما لم يكن مجموعا؟ وهل كان المسلمون في ضلال حتى أنقذهم عثمان؟.

ـ قال الملك ـ موجّها كلامه إلى الوزير ـ : وهل يصدق العلوي أنّ

١٦٣

أهل السنّة يقولون بأنّ القرآن من جمع عثمان؟

ـ قال الوزير : هكذا يذكر المفسّرون وأهل التواريخ (١).

____________________________________

(١) وقع الخلاف في مسألة جمع القرآن الكريم وأنّه هل كان مجموعا على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أنه جمع على عهد أبي بكر وعثمان؟

المشهور عند المؤرخين والباحثين أن جمع السور وترتيبها بصورة مصحف مؤلف بين دفتين حصل بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا ريب أنّ السور كانت مكتملة على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرتبة آياتها وأسماؤها ، غير أن جمعها بين دفّتين لم يكن حصل بعد ، نظرا لترقب نزول القرآن على عهدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما دام لم ينقطع الوحي لم يصح تأليف السور مصحفا إلّا بعد الاكتمال وانقطاع الوحي ، الأمر الذي لم يكن يتحقق إلّا بانقضاء عهد النبوة واكتمال الوحي ، فقبل انقضاء العهد النبوي كان القرآن منثورا على العسب واللخاف والرقاع وقطع الأديم وعظام الأكتاف والأضلاع وبعض الحرير والقراطيس وفي صدور الرجال ، وقد دل على ذلك روايات منها موثّقة أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله عليه‌السلام :

قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّ عليه‌السلام : يا عليّ ؛ القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس فخذوه واجمعوه ولا تضيعوه كما ضيّعت اليهود التوراة ، فانطلق عليّ فجمعه في ثوب أصفر ثم ختم عليه في بيته وقال : لا أرتدي حتى أجمعه ، وإن كان الرجل ليأتيه فيخرج إليه بغير رداء حتى جمعه ، قال : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو أنّ الناس قرءوا القرآن كما أنزل ما اختلف اثنان (١).

والمشهور عند العامة إن أول من جمع القرآن زيد بن ثابت بأمر من أبي بكر ، كما قام بجمعه كلّ من ابن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما ، حتى انتهى الأمر إلى

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٨٩ / ٤٨ نقلا عن تفسير القمي.

١٦٤

دور عثمان فقام بتوحيد المصاحف ـ حسبما يقولون ـ لكثرة انتشار القراءات ، فأرسل نسخة موحّدة إلى أطراف البلاد ، وحمل الناس على قراءتها وترك ما سواها.

فالقرآن جمع مرتان :

الأولى : على عهد أبي بكر كما قلنا ، وأشارت إليه روايات أكثرها من مصادر العامة ، ولكن أقصى ما تدل عليه هذه المرويات هو مجرد جمعهم لما نزل من السور والآيات لشتات السور المكتوبة في الرقاع والألواح.

والسبب الذي استدعى أبو بكر ـ بإيحاء من عمر بن الخطّاب ـ للقيام بمهمة جمع القرآن هو رفضهم القاسي لمصحف الإمام علي عليه‌السلام الذي قام بجمعه بوصية من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ كيف يصح أن يبقى مفرقا على العسب واللخاف (١) أو في صدور الرجال ، وهو المرجع الأول لأسس التشريع الإسلامي ، والأساس الركين لبناء صرح الحياة الاجتماعية في كافة شئونها ، ولم يكن جمعهم للقرآن بريئا كما تنص بعض آحاد الأخبار أن عمر بن الخطاب خشي أن يستحرّ القتل بالقرّاء في كل المواطن كما استحرّ بهم يوم القيامة ، وإنما كان جمعهم لغاية في نفوسهم قضوها ، وإلا فما معنى ردهم لمصحف أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام واستنكارهم عليه وإبعاده عن الساحة ، هذا مضافا إلى أن اختيارهم لزيد بن ثابت كان في محله لأن الرجل المذكور من دعاة القوم ورجالات سلطتهم ، ويشهد له ما ذكره نص البخاري ج ٦ ص ٤١٥ ح ٤٩٨٦.

«... قال أبو بكر لزيد : إنّك رجل شاب عاقل لا نتّهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله ..».

كان الرجل ذا نزعة متلائمة مع أهداف السلطة آنذاك ، وقد أبدى ذلك يوم السقيفة ، حيث وقف موقف المدافع الحاد دون المهاجرين وهو أنصاري قائلا :

__________________

(١) العسب : جرائد النخل ، واللخاف : حجارة بيض عريضة رقيقة ، ويستحرّ : يشتدّ.

١٦٥

«إن رسول الله كان من المهاجرين وكنا أنصاره ، وإنما يكون الإمام من المهاجرين ونحن أنصاره .. فانبسط وجه أبي بكر وجزّاه خيرا فقال : جزاكم الله خيرا من حي يا معشر الأنصار ، وثبت قائلكم ـ يعني زيدا ـ والله لو قلتم غير هذا ما صالحناكم (١).

فلم ينس له أبو بكر هذا الموقف الخطير فجعله رئيس لجنة جمع القرآن وتركوا سادة القرّاء أمثال عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل ، وإلا لم يكن اختيارهم لزيد عن جدارة خاصة به دون غيره من وجوه الصحابة.

وكان منهج زيد في جمع القرآن مقتصرا على تلقي السور والآيات من العسب واللخاف وصدور الرجال ، وكان أول عمل قام به : أن وجّه نداء عاما إلى ملأ الناس :

«من كان تلقى من رسول الله شيئا من القرآن فليأت به» ، فكان هو ولجنته والمشرف عليها عمر بن الخطّاب يقفون على باب المسجد يوميا ، والناس يأتونهم بآي القرآن وسوره كل حسب ما عنده من القرآن ، وكانوا لا يقبلون من أحد شيئا حتى يأتي بشاهدين يشهدان بصحة ما عنده من قرآن سوى خزيمة بن ثابت ، أتى بالآيتين آخر سورة براءة ، فقبلوهما منه من غير استشهاد لأن رسول الله اعتبر شهادته وحده بشهادتين (٢).

وهنا لعبت اللجنة دورها إلهام في ترتيب بعض الآيات كيفما شاءت لها مطامعها وأهواؤها.

قال الزرقاني : صحف أبي بكر كانت مرتبة الآيات دون السور (٣).

وهذه الصحف أودعت عند أبي بكر مدة حياته ثم صارت عند عمر ، وبعده

__________________

(١) تهذيب ابن عساكر ج ٥ / ٤٤٦.

(٢) التمهيد ج ١ / ٢٣٦ نقلا عن أسد الغابة ج ٢ / ١١٤.

(٣) مناهل العرفان ج ١ / ٢٥٤ والتمهيد ج ١ / ٢٣٧.

١٦٦

كانت عند ابنته حفصة ، وفي أيام توحيد المصاحف استعارها عثمان منها ليقابل بها النسخ ، ثم ردّها إليها (١).

الثانية :

حينما جمع في عهد عثمان حيث صيّر السور الطوال مع الطوال والقصار مع القصار ، وكتب في جمع المصاحف من الآفاق حتى جمعت ثم سلقها بالماء الحار والخل وقيل أحرقها فلم يبق مصحف حتى فعل به ذلك خلا مصحف ابن مسعود ، قال أنس بن مالك :

فأرسل ـ عثمان ـ إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق (٢).

من هنا رفض ابن مسعود أن يسلّم مصحفه لمن يحرقه أو يمزقه ، وظل محتفظا به في صرامة بالغة أدت إلى مشاجرة عنيفة جرت بينه وبين عثمان كان فيها إبعاده عن عمله وأخيرا حتفه نتيجة ضرب عثمان له وكسر أضلاعه وإخراجه من المسجد بصورة مزرية.

روى الواقدي بإسناده : أن ابن مسعود لمّا استقدم المدينة دخلها ليلا ، وكانت ليلة جمعة ، فلمّا علم عثمان بدخوله ، قال : أيّها الناس قد طرقكم الليلة دويبة ، من يمشي على طعامه يقيء ويسلح ، وقال ابن مسعود : لست كذلك ، ولكنني صاحب رسول الله يوم بدر وصاحبه يوم أحد ، وصاحبه يوم بيعة الرضوان ، وصاحبه يوم الخندق وصاحبه يوم حنين .. وصاحت عائشة : يا عثمان! أتقول هذا لصاحب رسول الله؟

فقال عثمان : اسكتي.

__________________

(١) القسطلاني بشرح البخاري ج ٧ / ٤٤٩.

(٢) صحيح البخاري ج ٦ / ٤١٦ ح ٤٩٨٧.

١٦٧

ثم قال لعبد الله بن زمعة بن الأسود : أخرجه إخراجا عنيفا فأخذه ابن زمعة فاحتمله حتى جاء به باب المسجد ، فضرب به الأرض فكسر ضلعا من أضلاعه ، فقال : ابن مسعود : قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان.

قال الراوي : فكأني أنظر إلى حموشة ساقي عبد الله بن مسعود ورجلاه تختلفان على عنق مولى عثمان ، حتى أخرج من المسجد وهو يقول : أنشدك الله ألا تخرجني من مسجد خليلي رسول الله (١).

وما فعله ابن مسعود كان في محله ، إذ أين المسوّغ الشرعي لكي يسلّم مصحفه لمن لا يعتقد شرعية خلافته ، مضافا إلى هتكه للمصاحف بحرقها أو تمزيقها لذا كان يقول ـ أي ابن مسعود ـ «إن رجالا لم يؤذن لهم قد تصرفوا في القرآن من تلقاء أنفسهم» (٢).

وقال أبو ميسرة : أتاني رجل وأنا أصلي فقال : أراك تصلي وقد أمر بكتاب الله أن يمزق كل ممزق! فتجوزت في صلاتي وكنت أجلس ... فإذا أنا بالأشعري وحذيفة وابن مسعود يتقاولان ، وحذيفة يقول لابن مسعود : ادفع إليهم المصحف. قال : والله لا أدفعه إليهم ، اقرأني رسول الله بضعا وسبعين سورة ثم أدفعه إليهم ، والله لا أدفعه إليهم (٣).

وسبب الجمع عند عثمان هو اختلاف المصاحف باختلاف القراءات ، فقد روى أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان ، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة ، فأشار حذيفة على عثمان أن يدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى ، فأرسل عثمان إلى حفصة أن ارسلي إلينا بالصحف ننسخها في

__________________

(١) التمهيد ج ١ / ٢٥٠ نقلا عن شرح النهج لابن أبي الحديد ج ٣ / ٤٣.

(٢) طبقات ابن سعد ج ٣ / ٢٧٠.

(٣) مستدرك الحاكم ج ٢ / ٢٢٨.

١٦٨

المصاحف ثم نردّها إليك ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هاشم ، فنسخوها في المصاحف ، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة ..»(١).

وكان منهج عثمان في ترتيب المصحف مقتصرا كما قلنا على توحيد القراءات ، وتقديم السور الطوال على القصار ، وهو مغاير نوعا ما لترتيب مصاحف سائر الصحابة ، والدليل عليه ما فعله عثمان من وضع الأنفال وبراءة بين الأعراف ويونس وقد كانتا في الجمع الأول متأخرتين ، الأمر الذي أثار ابن عبّاس ليعترض على عثمان قائلا :

ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني (٢) ، وإلى براءة هي من المئين ، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال؟!

قال عثمان : كان رسول الله تنزل عليه السورة ذات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا ولم يبيّن لنا أنها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتهما في السبع الطوال(٣).

وهذا يدل على اجتهاد الصحابة في ترتيب سور المصحف ، فكان عثمان يعرف أن آيات من سور ربما كان يتأخر نزولها فيأمر النبي أن توضع موضعها من

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٦ / ٤١٦ ح ٤٩٨٧.

(٢) في مصحف ابن مسعود جعلها من المثاني ، وفي مصحف أبي بن كعب هي من المئين.

(٣) التمهيد ج ١ / ٣٠٣ نقلا عن مستدرك الحاكم ج ٢ / ٢٢١ ومجمع البيان ج ٥ / ٤.

١٦٩

السورة المتقدمة فزعم عثمان أن سورة براءة هي من تتمة سورة الأنفال (١) لتشابه ما بينهما في السياق العام وهو تعنيف بمناوئي الإسلام وتحريض المؤمنين على الثبات والكفاح لتثبيت كلمة الله في الأرض ، وحيث لم يرد نقل بشأنهما فقرن بينهما وجعلهما سورة واحدة هي سابعة الطوال.

إذن فإن ترتيب عثمان للمصحف مغاير لترتيب سائر الصحابة أمثال ابن مسعود وأبيّ بن كعب ، مضافا إلى مخالفته لترتيب مصحف مولانا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حيث كان مصحفه مرتّبا بحسب النزول ، فكان أوله اقرأ ثم المدثر ثم نون ثم المزمّل ثم تبت ثم التكوير وهكذا إلى آخر المكي والمدني ، نقله في الاتقان (٢) عن ابن فارس ، وفي تاريخ اليعقوبي (٣) ترتيب آخر لمصحفه عليه‌السلام. وهذا ما قال به أكثر محققي الشيعة بل نستطيع القول أن الإجماع قام عليه لأن ترتيبه على حسب ترتيب النزول ، وقد أشارت النصوص الكثيرة على أن أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام هو أول من تصدّى لجمع القرآن بعد وفاة النبيّ مباشرة بوصية منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

من هذه النصوص ما أورده القمي عن الثمالي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : ما أحد من هذه الأمة جمع القرآن إلّا وصيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤)

وعن جابر قال :

سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : ما من أحد من الناس يقول : إنه جمع القرآن كله كما أنزل الله إلّا كذّاب ، وما جمعه وما حفظه كما أنزل الله إلّا عليّ بن أبي طالب والأئمة من بعدهعليهم‌السلام(٥).

__________________

(١) كما أن العياشي (قدس‌سره) روى في تفسيره ج ٢ / ٧٩ عن أحدهما قال : الأنفال وسورة براءة واحدة.

(٢) الاتقان ج ١ / ٦٢.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٢ / ١١٣ والتمهيد ج ١ / ٢٣٠.

(٤) بحار الأنوار ج ٨٩ / ٤٨ نقلا عن تفسير القمي.

(٥) بحار الأنوار ج ٨٩ / ٨٨ ح ٢٧.

١٧٠

وعن جبلة بن سحيم عن أبيه عن أمير المؤمنين قال : لو ثنّى لي الوسادة وعرف لي حقي لأخرجت لهم مصحفا كتبته وأملاه عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١)

وروى محمد بن سيرين عن عكرمة قال :

لما كان بدء خلافة أبي بكر قعد عليّ بن أبي طالب في بيته يجمع القرآن. قال : قلت لعكرمة : هل كان تأليف غيره كما أنزل الأول فالأول؟ قال : لو اجتمعت الإنس والجن على أن يألفوه هذا التأليف ما استطاعوا.

وقال ابن جزى الكلبي :

كان القرآن على عهد رسول الله مفرّقا في الصحف وفي صدور الرجال فلما توفى ، جمعه عليّ بن أبي طالب على ترتيب نزوله ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير ولكنه لم يوجد (٢).

وقال الشيخ المفيد في المسائل السرويّة :

«وقد جمع أمير المؤمنين عليه‌السلام القرآن المنزل من أوله إلى آخره ، وألّفه بحسب ما وجب تأليفه ، فقدّم المكي على المدني والمنسوخ على الناسخ ، ووضع كل شيء منه في حقه» (٣).

وقال العلّامة المجلسي قدّس سره : وفي أخبار أهل البيت عليهم‌السلام : أنه آلى أن لا يضع رداءه على عاتقه إلّا للصلاة حتى يؤلّف القرآن ويجمعه ، فانقطع عنهم مدة إلى أن جمعه ثم خرج إليهم به في إزار يحمله ، وهم مجتمعون في المسجد ، فأنكروا مصيره بعد انقطاع ، فقالوا : لأمر ما جاء أبو الحسن ، فلمّا توسّطهم وضع الكتاب بينهم ثم قال : إن رسول الله قال : إني مخلّف فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وهذا الكتاب وأنا العترة ، فقام إليه الثاني ـ أي

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٨٩ / ٥٢.

(٢) التسهيل لعلوم التنزيل ج ١ / ٤.

(٣) بحار الأنوار ج ٨٩ / ٧٤.

١٧١

عمر بن الخطّاب ـ فقال له : إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله ، فلا حاجة لنا فيكما ، فحملعليه‌السلام الكتاب وعاد به بعد أن ألزمهم الحجة» (١).

ويروى عن ابن مسعود أنه قال :

«إن عليا جمعه وقرأ به ، وإذا قرء فاتبعوا قراءته» (٢). وحيث إنّ القراءات قد كثرت فأفصح القراءات قراءة عاصم لأنه أتى بالأصل وذلك أنه يظهر ما أدغمه غيره ويحقّق من الهمز ما ليّنه غيره ويفتح من الالفات ما أماله غيره.

وفي خبر طويل عن مولانا الصادق عليه‌السلام : أن أمير المؤمنين عليه‌السلام حمل مصحفه ـ بعد أن رفضه القوم ـ وولى راجعا نحو حجرته وهو يقول «فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون» (٣).

مميزات مصحف أمير المؤمنين علي عليه‌السلام :

امتاز مصحفه عليه‌السلام بمميزات عدة :

أولا : بترتيبه الموضوع على ترتيب النزول في دقة فائقة.

ثانيا : إثبات نصوص الكتاب كما هي من غير تحوير أو تغيير أو تشذ منه كلمة أو آية.

ثالثا : إثبات قراءته كما قرأه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرفا بحرف.

رابعا : اشتماله على توضيحات ـ على الهامش ـ وبيان المناسبة التي استدعيت نزول الآية ، والمكان الذي نزلت فيه ، والساعة التي نزلت فيها ، والأشخاص الذين نزلت فيهم.

خامسا : اشتماله على الجوانب العامة من الآيات ، بحيث لا تخص زمانا ولا

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٨٩ / ٥٢.

(٢) نفس المصدر ج ٨٩ / ٥٣.

(٣) نفس المصدر ج ٨٩ / ٥٢.

١٧٢

مكانا ولا شخصا خاصا ، فهي تجري كما يجري الشمس والقمر ، وهذا هو المقصود من التأويل في قوله عليه‌السلام : ولقد جئتهم بالكتاب مشتملا على التنزيل والتأويل (١).

فالتنزيل هو المناسبة الوقتية التي استدعت النزول والتأويل هو بيان المجرى العام.

كان مصحف مولانا عليّ عليه‌السلام مشتملا على كل هذه الدقائق أخذها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مضافا إلى ما حباه به الله سبحانه من العلم والفهم والحكم. قال عليه‌السلام :

ما نزلت آية على رسول الله إلّا أقرأنيها وأملاها عليّ فأكتبها بخطي ، وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها ، ودعا الله لي أن يعلّمني فهمها وحفظها ، فما نسيت آية من كتاب الله ولا علما أملاه عليّ فكتبته ..» (٢).

وهكذا بقي مع الإمام عليّ عليه‌السلام مصحفه يتوارثه أوصياؤه الأئمة من بعده ، وهو الآن مع الإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، فعند قيامه «يظهره للناس وتجري السنّة عليه» (٣).

وليس المهم إثبات أن القرآن جمع على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم كان بعده وإنما المهم إثبات أن ما بين الدفتين قرآن وأنه لم يحرّف ، وقد عدّ الشيعة عدم تحريف الكتاب من الضروريات ولا يعتد بقول من ذهب إلى وجود نقص أو زيادة في الآيات لأنها أقوال شاذة لا يعوّل عليها ، وليست هذه الآراء مما تفردت به بعض الإمامية بل سبقهم إلى ذلك جماعة من حشوية العامة وفقهائها. والتحريف بمعناه

__________________

(١) آلاء الرحمن ج ١ / ٢٥٧.

(٢) تفسير البرهان ج ١ / ١٦.

(٣) بحار الأنوار ج ٨٩ / ٤٣.

١٧٣

اللغوي «إمالة الشيء والعدول عن موضعه إلى جانب آخر». وقد حصل هذا التحريف في أوساط الأمة الإسلامية حتى حرّفوا الكلم عن مواضعه ، وأنت إذا تصفحت كتب التاريخ والتفسير عند علماء العامة وجدت الكثير من هذا التحريف في الآيات النازلة بحق آل البيت عليهم‌السلام وقد أشار القرآن لهذا التحريف بقوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) (١). وقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) (٢). وقوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) (٣). وتحريف الكلم عن مواضعه عبارة عن : تفسيره على غير وجهه ، وتأويله بما لا يكون ظاهرا فيه تأويلا من غير دليل. فالتحريف عن غير المواضع المخصوصة فيه ؛ يعني صرف الكلام عن معناه الحقيقي الموضوع له إلى معنى آخر بعيد عنه وهذا ما يسمى بالتحريف المعنوي. وهنا تقسيمات أخر للتحريف هي بحسب الاصطلاح على وجوه :

١ ـ تحريف لمدلول الكلام كما تقدم آنفا وهو المعبّر عنه «التفسير بالرأي» المنهي عنه شرعا لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» (٤).

٢ ـ تحريف موضعي : بمعنى إثبات السور أو الآيات على خلاف ترتيب نزولها ، وهذا في الآيات قليل كآية التطهير والإكمال ، لكنه في السور يشمل كل القرآن لأن الترتيب الموجود للقرآن حاليا هو على خلاف ترتيب النزول.

٣ ـ تحريف قرائي : بمعنى أن تقرأ الكلمة على خلاف قراءتها المعهودة لدى جمهور المسلمين ، وهذا كأكثر اجتهادات القرّاء المبتدعة التي لا عهد لها في الصدر الأول للإسلام ، وهذا غير جائز ، وذلك لأن القرآن واحد نزل من عند واحد

__________________

(١) سورة المائدة : ١٣.

(٢) سورة آل عمران : ٧٨.

(٣) سورة المائدة : ٤١.

(٤) غوالي اللئالي ج ٤ / ١٠٤.

١٧٤

أحد كما في قوله عليه‌السلام : «إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد ولكنّ الاختلاف يجيء من قبل الرواة» (١). وعن الفضل بن يسار قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إن الناس يقولون : إن القرآن نزل على سبعة أحرف. قال عليه‌السلام : كذبوا أعداء الله ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد(٢).

٤ ـ تحريف في لهجة التعبير : كما في لهجات القبائل حيث كل قبيلة يختلف لهجها عن لهج الأخرى عند أداء الحرف أو الكلمة. ويمكن حمل حديث الأحرف السبعة على هذا القسم باعتبار أن الأحرف السبعة عبارة عن إرادة اختلاف لهجات العرب في أداء الكلمات والحروف ، والتحريف في اللهجة إذا عدّ لحنا في الكلام ومخالفا لقواعد الإعراب فإنه غير جائز لقوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) (٣). إضافة إلى أننا أمرنا بقراءة القرآن بعربية صحيحة لقوله عليه‌السلام: «تعلموا القرآن بعربيته» (٤).

٥ ـ التحريف بزيادة حرف أو آية أو سورة : أما الزيادة التفسيرية على الآيات فلا بأس بها وقد ورد عنهم عليهم‌السلام زيادات تفسيرية توضيحا لآية أو بيانا لشأن نزولها أو تأويلها أو تعيينا لمصداق من مصاديقها.

٦ ـ التحريف بالنقص : بمعنى أن القرآن الموجود حاليا فيه سقط لبعض الآيات أو السور ، وهذا ما ترفضه الشيعة ومع هذا يتهمهم العامّة بمقالة التحريف مع أنهم رووا العديد من النصوص التي تشير إلى مسألة وجود سقط من الآيات في القرآن فمثلا يروون في مصادرهم أن خليفتهم عمر بن الخطاب يزعم وجود آية رجم الشيخ والشيخة إذا زنيا وكان يقول : «والذي نفسي بيده لو لا أن يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله تعالى لكتبتها «الشيخ والشيخة إذا زنيا

__________________

(١) أصول الكافي ج ٢ / ٦٣٠ حديث ١٢.

(٢) نفس المصدر حديث ١٣.

(٣) سورة الزمر : ٢٨.

(٤) وسائل الشيعة ج ٤ / ٨٦٥ ب ٣٠ ح ١.

١٧٥

فارجموهما البتة» فإنّا قد قرأناها (١).

ولكن يرد عليه : إن شريعة الرجم ليست منحصرة بالشيخ والشيخة بل هي شاملة للمحصن والمحصنة سواء كانا شيخين أم شابّين.

ـ وهناك آيات أخر زعمها عمر بن الخطّاب من القرآن وأسقطت منه مثل آية الرغبة قال : كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : «أن لا ترغبوا عن آباءكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آباءكم» (٢). وأخرج العامة عن أبي عبيدة بإسناده عن حميدة بنت أبي يونس مولى عائشة قالت : قرأ عليّ أبي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة «إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلّموا تسليما وعلى الذين يصلون الصفوف الأولى» (٣). وعليه فالشيعة لا يقولون بوجود تحريف في القرآن وقد أقاموا الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة في كتبهم (٤) فلتراجع.

* * * * *

__________________

(١) صيانة القرآن من التحريف ص ١٢٥ نقلا عن تنوير الحوالك للسيوطي ج ٣ / ٤٢ وفتح الباري / ابن حجر ج ١٢ / ١٢٧.

(٢) نفس المصدر ، نقلا عن البخاري ج ٨ / ٢٠٨ وصحيح مسلم ج ٤ / ١٦٧.

(٣) الاتقان في علوم القرآن ج ٣ / ٧٣.

(٤) ومنها هذا الكتاب كما سوف ترى في البحوث اللاحقة.

١٧٦

قال العلوي : اعلم أيها الملك أنّ الشيعة يعتقدون أنّ القرآن جمع في زمن الرسول كما تراه الآن لم ينقص منه حرف ولم يزد فيه حرف ، أما السنّة فيقولون : إن القرآن زيد فيه ونقص منه ، وأنّه قدّم وأخّر وأنّ الرسول لم يجمعه وإنما جمعه عثمان لمّا تسلّم الحكم وصار أميرا.

قال العبّاسي ـ وقد انتهز الفرصة ـ : هل سمعت أيها الملك أنّ هذا الرجل لا يسمّي عثمان خليفة وإنما يسمّيه أميرا.

قال العلوي : نعم عثمان لم يكن خليفة.

قال الملك : ولما ذا؟

قال العلوي : لأن الشيعة يعتقدون بطلان خلافة أبي بكر وعمر وعثمان! (١).

____________________________________

(١) جوهر النزاع بين الإمامية وبقية الفرق الأشعرية هو الخلافة ، لذا افترقوا في تعيين الطرق لإثباتها إلى ثلاثة أمور :

النص ـ الاختيار ـ الميراث.

الطريق الأول : «النص» :

وقد ذهب إليه الإمامية «أيدهم الله عزوجل» حيث على مسلكهم لا بدّ للخليفة أن يكون متحليا بنفس الصفات والكمالات التي كان يتحلى بها النبي الكريم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، خلافا للزيدية ـ التي هي من فرق الشيعة لكنها ليست إمامية اثنى عشرية ـ حيث قالوا إن تعيين الإمام إنما هو بالاختيار ، ووافقوا بذلك الأشاعرة.

لكننا نحن الإمامية نعتقد ـ طبقا للأدلة القاطعة ـ أن المرجع في تعيين الإمام

١٧٧

أو من ينوب لتسلّم قيادة الأمة بعد النبي هو أمران :

الأول : النص من الله سبحانه على لسان رسوله العظيم أو إمام ثبتت إمامته بالنص عليه من الرسول أو الإمام السابق.

الثاني : ظهور المعجزة على يديه ، للتدليل على أنه متعين من قبل الله تعالى ، والشيعة الإمامية حينما يشترطون النص والمعجزة وفقا لما يعتقدون من وجوب الإمامة ، لأنها بمثابة النبوة أو المكمّل لها إلا ما استثناه الدليل ، فالإمام عليه‌السلام له كل ما كان للنبي الكريم إلا الوحي التشريعي ، فبذا هي ركن عظيم ، وأصل من أصول الدين ، فالمسألة عند الشيعة توقيفية ، لا رأي للناس فيها حتى يمكنهم انتخاب إمام لهم ، ووفقا لأصوليتها كبقية الأصول لا مجال لرأي العباد فيها ، حينئذ لا بدّ أن يكون المعيّن لها هو الله سبحانه وتعالى.

ولا بدّ في النص أن يكون جليا واضحا لا خفيا مبهما ، بمعنى أنه لا بد أن يبرز النص اسم الإمام بعد النبيّ ، بحيث لا يوقع الناس في الريب ، لأن الإمامة واجبة عليه تعالى بعد وفاة النبيّ بحكم ضرورة العقل والنقل الدالين على وجوب النيابة بعد رحيل الرسول من عالم الدنيا ، بل إن صلاحيات الإمامة أكبر وأعظم لما تمثّله من بسط أحكام الشريعة وتطبيق قوانينها ودساتيرها إلى ما هنالك من وظائف هي من مختصات الإمام عليه‌السلام ، وكل هذا لا يتوفر إلّا برجل معصوم من الذنوب والخطايا والقبائح ومسدّد في كل حركاته وأقواله وأفعاله.

وملكة العصمة في الإمام ـ على مذاق الإمامية ـ هي من الأمور الخفية والباطنية التي لا يعلمها إلا الله تعالى ، فإذا كان هكذا فلا مجال لغيره تعالى كي يعيّن الإمام ، ووافقنا على ذلك جماعة من المعتزلة كالنظّامية والحائطية حيث قالوا باشتراط النص الجلي على الخليفة.

الطريق الثاني : «الاختيار» :

في مقابل طريق النص الذي يعتقد به الإمامية ، ذهب العامة إلى طريق

١٧٨

ومرجع آخر لتعيين الإمام ، هذا الطريق هو مرجعية الأمة بمعنى أن تعيين الإمام الخليفة راجع إلى الأمة الإسلامية ، وألغوا خصوصية النص الجلي ، مدعين أن النبي ارتحل من عالم الوجود ولم ينصّب على الأمة أحدا ينوب مكانه ، بل ترك أمر تعيينه إلى الأمة.

وقد اختلف العامة فيما بينهم في تحديد ماهية الأمة التي يراد لها أن تنتخب الإمام ، هل المراد منها كل أفراد الأمة ، أو جماعة معيّنون يصطلح عليهم بأهل المشورة أو أهل الحل والعقد؟

الأول باطل بالوجدان عندهم لأنه لم يعهد أنّ خليفة من الخلفاء كان قد انتخبه المسلمون جميعا في كل أقطار البلاد الإسلامية ، لذا عدّلوا به إلى المعنى الآخر وهو أن المراد من أفراد الأمة الذين يجب عليهم أن ينتخبوا هم أفراد معيّنون في كل بلد من بلدان المسلمين ، وهذا أيضا باطل لأنه تكليف بما لا يطاق ، إذ من أين للمسلمين أن يعرفوا الأفراد المعينين في كل بلد ـ وهم ما يصطلح عليهم بأهل الحل والعقد ـ ومن يعيّنهم؟ وما السبيل إلى انتخاب الذين يعيّنون أهل الحل والعقد؟ كل هذا خارج عن الوسع وهو الحرج المنفي بقوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١) ولا حرج ولا تعجيز أكثر من التعرّف على إجماع فضلاء كل بلدان المسلمين ، فبطل هذا القول الفاسد ، ولو كان ممكنا لما لزم لأنه دعوى بلا برهان ، إذ لو كان كذلك لما لزم أحد القيام بقسط ، ولا تعاون على بر وتقوى ، إذ لا سبيل إلى اجتماع أهل الأرض على ذلك أبدا لتباعد أقطارهم ، ولو كان هذا هو المطلوب ، لكان أمر الله بالقيام بالقسط وبالتعاون على البر والتقوى باطلا فارغا ، وهذا خروج عن الإسلام وتفريغا له من مضمونه ، فسقط القول المذكور. ولكنّ الرأي الراجح والثابت عندهم هو أن المراد بأهل الحل والعقد هم جماعة معدودون يتواجدون في بلد الإمام ، وقد أشار إلى هذا المعنى الماوردي في الأحكام السلطانية.

__________________

(١) سورة الحج : ٧٨.

١٧٩

وقد اختلفوا في عدد أهل الحل والعقد إلى آراء :

منهم من قال : إن أقل عدد يتحقق به مفهوم الشورى هو خمسة أشخاص (١) يحق لهم أن ينتخبوا الإمام.

ومنهم من قال : يكفي أربعة أو ثلاثة بل اثنان (٢).

ومنهم من قال : بكفاية الواحد إذا شهد عليه الشهود (٣).

قال عبد القاهر البغدادي المتوفى عام ٤٢٩ ه‍ :

«إن الإمامة تنعقد لمن يصلح لها بعقد رجل واحد من أهل الاجتهاد والورع إذا عقدها لمن يصلح لها ، فإذا فعل ذلك وجب على الباقين طاعته» (٤).

وقال الجويني المتوفى عام ٤٧٨ ه‍ :

«إن البيعة تنعقد بشخص واحد من بني هاشم إذا بايعه رجل واحد لا غير» (٥).

وقال في موضع آخر :

«اعلموا أنه لا يشترط في عقد الإمامة الإجماع ، بل تنعقد الإمامة ، وإن لم تجمع الأمة على عقدها ، والدليل عليه أنّ الإمامة لمّا عقدت لأبي بكر ، ابتدر لإمضاء أحكام المسلمين ولم يتأنّ لانتشار الأخبار إلى من نأى من الصحابة في الأقطار ، ولم ينكر عليه منكر. فإذا لم يشترط الإجماع في عقد الإمامة لم يثبت عدد معدود ، ولا حدّ محدود ، فالوجه الحكم بأنّ الإمامة تنعقد بعقد واحد من أهل الحل والعقد» (٦).

__________________

(١) الأحكام السلطانية ص ٧.

(٢) مآثر الإنافة في معالم الخلافة للقلقشندي ج ١ / ٤٣.

(٣) مغني المحتاج ج ٤ / ١٣١ ونظام الحكم والإدارة ص ١١٠.

(٤) أصول الدين ص ٢٨٠ عبد القاهر البغدادي ، ط أولى ، استانبول ١٣٤٦ ه‍.

(٥) إحقاق الحق ج ٢ / ٣٣٥.

(٦) الإلهيات ج ٢ / ٥١٣ نقلا عن الإرشاد ص ٤٢٤.

١٨٠