أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن».

وقال الحافظ ابن حجر في الفصل الثالث ، في بيان حال الصحابة من العدالة ، من مقدمة الإصابة :

«اتفق أهل السنّة على أن الجميع عدول ، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة».

وقال أبو زرعة الرازي :

«إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاعلم أنه زنديق ، وذلك أن الرسول حق ، والقرآن حق ، وما جاء به حق ، وإنما أدى ذلك كله إلينا الصحابة ، وهؤلاء الزنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنّة فالجرح بهم أولى» (١).

انظر ـ أخي القارئ ـ إلى العصبيّة العمياء كيف تعمي القلوب ، فكل من انتقص أحدا من الصحابة ، حتى ولو كان معاوية بن أبي سفيان ، فإنّه بنظر ابن زرعة زنديق. وقد ثبت في الصّحاح عندهم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن المتخلّف عن جيش أسامة ، وهذا بدوره انتقاص في حقّ الصحابة ، أفلا يجوز لغير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينتقص صحابته بعد ما ثبت بالقطع واليقين أنّ النبيّ انتقصهم وتبرّأ من بعضهم كما روى الأخباريون «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختار خالد بن الوليد وبعثه لإصلاح حال بني خزيمة ، وهو قد قتل جمعا كثيرا منهم بسبب عداوة وضغن ، وكان في قلبه سهم من أيام الجاهلية ، حتّى أرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإمام عليّا عليه‌السلام في أثره لاستدراك حالهم وتسليتهم ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك المقام : اللهم إني أبرأ إليك ممّا فعله خالد» (٢).

والشيعة ـ أيّدهم الله تعالى ـ لا ينكرون أنّ في الصحابة جماعة مؤمنين أثنى الله تعالى عليهم في كتابه الكريم كقوله تعالى :

__________________

(١) الإصابة ج ١ / ١٨ ومقدمة تحقيق أسد الغابة ج ١ / ٢٣.

(٢) إحقاق الحق ج ٣ / ٤٩٦ ورواه البخاري في صحيحه ج ٥ / ١٢٧ ح ٤٣٣٩.

١٤١

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (١).

وقوله عزّ اسمه :

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (٢).

فالآية الأولى تشير إلى أنّه تعالى رضي عن بعض المؤمنين الأوّلين الذين هاجروا من مكّة إلى المدينة والذين آووا النبي ومن كان معه ، والذين سوف يتبعونهم بإحسان رضوا عنه تعالى وسلّموا أمورهم إليه سبحانه ، فلا اعتراض على حكمه كما اعترض بعض الصحابة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض المواقع كما سوف يأتيك بيان ذلك.

فالآية بصدد بيان فضيلة جماعة ممّن آمن وعمل صالحا بحيث رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه في كل شيء وهذا لا يكون إلّا لمن طهرت سيرته واستوت سريرته مع علانيّته ، وهؤلاء قلّة كانوا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وليس مدلول الآية أنّ من صدق عليه أنّه مهاجر أو أنصاري أو تابعي يعني أنّ الله تعالى رضي عنه رضى لا سخط بعده أبدا ، سواء أحسن بعد ذلك أو أساء؟. والظاهر أن المراد من الرضا في الآية (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) هو الرضا الذي لا سخط بعده ، فإنّه حكم محمول على طبيعة أخيار الأمة من سابقيهم وتابعيهم في الإيمان والعمل الصالح وهذا أمر لا مداخلة للزمان فيه حتى يصحّ فرض سخط بعد رضا وهو بخلاف قوله تعالى في الآية الثانية : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) فإنه :

«رضى مقيّد بزمان خاص يصلح لنفسه لأن يفرض بعده سخط» (٣).

__________________

(١) سورة التوبة : آية ١٠٠.

(٢) سورة الفتح : آية ١٨.

(٣) تفسير الميزان ج ٩ / ٣٧٦.

١٤٢

وقد احتج المخالفون على الشيعة بآية المبايعة تحت الشجرة ، مستدلين بذلك على أن الآية دليل على أن كلّ الذين بايعوه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الشجرة عدول ، يحرّم القدح فيهم ، لأن الله سبحانه رضي عنهم ، قال تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) ، وجعلوا الآية فضيلة للخليفتين أبي بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطّاب لأنهما بايعاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الشجرة.

لكن يرد على هذا ما يلي :

أولا : إنّ المبايعة ليست دليلا على الخلافة ، لأنه ـ وكما ذكر البيضاوي في تفسيره ـ «أنّ عدد المبايعين تحت الشجرة كانوا زهاء ألف وثلاثمائة أو أربعمائة أو خمسمائة مبايع» (١) ، فيهم النساء ، فلو كانت المبايعة دليلا على الخلافة للزم كون كل هؤلاء الذين بايعوه خلفاء وهو واضح البطلان.

ثانيا : إنّ الله سبحانه يذكر في نفس السورة (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(٢).

هنا أشار عزوجل إلى أن الذين بايعوه تحت الشجرة لم يكونوا جميعهم أوفياء على المبايعة بل إن بعضهم أو أكثرهم سوف ينكث العهد.

فقد أورد البخاري في باب غزوة الحديبية من كتاب المغازي ، عن أحمد بن إشكاب ، حدّثنا محمد بن الفضل عن العلاء بن المسيّب عن أبيه قال :

لقيت البراء بن عازب ، فقلت له : طوبى لك صحبت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبايعته تحت الشجرة!

فقال : يا بن أخي إنك لا تدري ما أحدثنا بعده (٣).

__________________

(١) تفسير البيضاوي ج ٢ / ٤١٠.

(٢) سورة الفتح : آية ١٠.

(٣) صحيح البخاري ج ٥ / ٧٩.

١٤٣

نعم ، لقد أحدثوا أمورا كثيرة عجيبة بعد رحيل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد ظلموا ابن عمه وابنته الزهراء عليهما‌السلام وعصروها بين الحائط والباب ، فأسقطوا جنينها ، وضربوها وغصبوا حقّها وكذّبوها ومنعوها من الإرث والخمس ، وبدّلوا أحكام الإسلام إلى آخر ما فعله القوم من منكرات وقبائح ، هذا مضافا إلى أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه أخبر عن لسان الغيب أنّهم سيحدثون أمورا قبيحة بعده فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«وأنه يجاء برجال من أمتي ، فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا ربّ أصحابي!

فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) (١) ، فيقال : إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» (٢).

وفي رواية أخرى : «ليردّنّ عليّ ناس من أصحابي الحوض حتى عرفتهم اختلجوا دوني ، فأقول : أصحابي!

فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك (٣).

وفي رواية المغيرة قال : سمعت أبا وائل عن عبد الله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعنّ رجال منكم ثم ليختلجنّ دوني ، فأقول : يا رب أصحابي! فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك (٤).

وعن سهل بن سعد قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«إني فرطكم على الحوض ، من مرّ عليّ شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا ،

__________________

(١) سورة المائدة : آية ١١٧.

(٢) صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، باب «وكنت عليهم شهيدا» ، والترمذي أبواب صفة القيامة.

(٣) صحيح البخاري ، باب صفة الحوض ، وابن ماجه باب المناسك.

(٤) صحيح البخاري ، باب صفة الحوض ج ٧ / ٢٦٣ ح ٦٥٧٦ وحديث رقم ٦٥٨٢.

١٤٤

ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم» (١).

وعن النعمان بن أبي عيّاش قال : هكذا سمعت من سهل؟ فقلت : نعم ، فقال : أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها :

«فأقول : إنهم مني ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقا سحقا لمن غيّر بعدي» (٢).

وعن ابن المسيّب أنّه كان يحدّث عن أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «يرد عليّ الحوض رجال من أصحابي فيحلئون (٣) عنه ، فأقول : يا رب أصحابي! فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى» (٤).

وفي رواية عطاء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : بينا أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلمّ ، فقلت : أين؟

قال : إلى النار والله ، قلت : وما شأنهم؟

قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلمّ ، قلت : أين؟

قال : إلى النار والله ، قلت : ما شأنهم؟

قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النّعم»(٥).

وفي رواية ابن أبي مليكة عن أسماء بنت أبي بكر قالت :

قال النبي : إني على الحوض حتى أنظر من يرد عليّ منكم وسيؤخذ ناس من

__________________

(١) صحيح البخاري ، باب صفة الحوض ج ٧ / ٢٦٥ ح ٦٥٨٣.

(٢) نفس المصدر والباب ح ٦٥٨٤ وقريب منه حديث رقم ٦٥٨٥.

(٣) «يحلئون» : أي يطردون.

(٤) صحيح البخاري ، باب صفة الحوض ج ٧ / ٢٦٥ ح ٦٥٨٦.

(٥) صحيح البخاري ، باب صفة الحوض ج ٧ / ٢٦٦ ح ٦٥٨٧.

١٤٥

دوني ، فأقول : يا رب مني ومن أمتي! فيقال : هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم» فكان ابن مليكة يقول : اللهم إنّا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن عن ديننا (١).

ثالثا : إنّ الله سبحانه قد خصّ الثناء بالمؤمنين من حضروا بيعة الشجرة ، ولم يشمل المنافقين الذين حضروها مثل عبد الله بن أبيّ وأوس بن خولي (٢) وأضرابهم.

رابعا : لقد أخبر القرآن الكريم أن في صحابة النبي جماعة من المنافقين ذمّهم الله في آيات كثيرة مثل قوله تعالى :

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) (٣).

وفيهم من أخبر سبحانه عنهم بالإفك حيث رموا فراش رسول الله بالخيانة.

وفيهم من أخبر سبحانه عنهم بقوله : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً)(٤).

وكان ذلك عند ما كان النبيّ قائما في مسجده يخطب خطبة الجمعة.

وفيهم من قصد اغتيال النبي في عقبة هرش عند رجوعه من غزوة تبوك كما عند العامّة (٥) ، أو من حجة الوداع أيضا كما عند الخاصة (٦).

__________________

(١) نفس المصدر ، حديث رقم ٦٥٩٣.

(٢) راجع خبر بيعة الشجرة أو الرضوان في مغازي الواقدي وإمتاع الأسماع للمقريزي ص ٢٩١.

(٣) سورة التوبة : آية ١٠١.

(٤) سورة الجمعة : آية ١١.

(٥) صحيح مسلم ، باب صفات المنافقين ومغازي الواقدي ج ٣ / ١٠٤٢ ومسند أحمد ج ٥ / ٣٩٠ وفي تفسير قوله (وهموا بما لم ينالوا) سورة التوبة من الدر المنثور.

(٦) بحار الأنوار ج ٢٨ / ٩٧.

١٤٦

خامسا : إنّ التشرف بصحبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس أكثر امتيازا من التشرف بالزواج من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ مصاحبتهن له كانت من أعلى درجات الصحبة ، وقد قال تعالى في شأنهنّ :

(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً* وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً* يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (١).

وقال في اثنتين منهنّ «عائشة وحفصة» :

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) إلى أن قال : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ* وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢).

سادسا : إن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطى ضابطة عامة بها يميّز المؤمن من المنافق ، وهذه الضابطة هي أنّه لا يحبه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّا منافق ، وقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال :

«لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق» (٣).

__________________

(١) سورة الأحزاب : آية ٣٠ ـ ٣٢.

(٢) سورة التحريم : آية ٤ وآية ١٠ ـ ١١.

(٣) لاحظ مسند أحمد ج ١ / ٨٤ صحيح مسلم ج ١ / ٣٩ التاج الجامع للأصول ج ٣ / ٣٣٥ صحيح الترمذي ج ٢ / ٣٠١ سنن النسائي ج ٢ / ٢٧١ ذخائر العقبى ص ٤٣ والصواعق المحرقة ص ٧٤ وتاريخ الخلفاء ص ١٧٠ ونهج الحق ص ٢١٩.

١٤٧

وأخرج السيوطي في تاريخه ص ١٧٠ :

عن الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : كنا نعرف المنافقين ببغضهم عليّا.

وروى في مستدرك الصحيحين ج ٣ / ١٢٩ وكنز العمال ١٥ / ٩١ عن أبي ذر قال : ما كنا نعرف المنافقين إلّا بتكذيبهم الله ورسوله والتخلف عن الصلوات والبغض لعليّ بن أبي طالب.

وعن عبد الله بن عبّاس قال : إنّا كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله ببغضهم عليّ بن أبي طالب (١).

إذن يوجد في الصحابة منافقون مدلّسون ، فكيف حينئذ يصح لنا أن نحكم على الكل بأنهم عدول أتقياء من جحد واحدا منهم كان زنديقا على حدّ تعبير ابن زرعة وأمثاله ، إن هذا إلّا اختلاق؟!!

سابعا : إنّ الآيات التي تناولت المهاجرين والأنصار بالمدح والثناء ما داموا على أخلاقهم وثباتهم ، أما إذا كانت الخاتمة سيئة فهل يمكن أن نحكم عليهم بالصحة وأنهم أناس مثاليون بحجة أنّ القرآن مدحهم في أول الدعوة ، مع أنّ المقياس للحكم على أي شخص هو دراسة جميع أحواله خصوصا الأخيرة التي هي مناط المدح والذم والثواب والعقاب.

بعد هذا كله فهل يصح أن يقال : إن كل الصحابة عدول ، يحرّم الطعن ببعضهم أو لعنه لخروجه عن مبادي الإسلام ، مع أن الله سبحانه لعن الظالمين بقوله تعالى :

(أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٢).

__________________

(١) تاريخ بغداد ج ٣ / ١٥٣.

(٢) سورة هود : ١٨.

١٤٨

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (١).

ونحن نسأل العامة المدافعين عن عامة الصحابة حتى السّفّاكين منهم :

أليس في الصحابة من نقض عهد الله تعالى ، وأفسد في الأرض وأهلك الحرث والنسل؟!!

فمن قال : لا ، فقد كذّب التاريخ ، ومن أقر فقد وافقنا بما نقول ، والحمد لله ، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.

__________________

(١) سورة الرعد : ٢٥.

١٤٩

بداية الحوار بين العباسي والعلوي

حول الصّحابة

ـ قال كبير علماء السنّة (وهو الملقّب بالشيخ العبّاسي):

إني لا أتمكّن أن أجادل مذهبا يكفّر كلّ الصحابة.

ـ قال كبير (١) علماء الشيعة (وهو الملقب بالعلويّ واسمه الحسين بن علي) : ومن هم الذين يكفّرون الصحابة؟

ـ قال العبّاسي : أنتم الشيعة هم أولئك الذين تكفّرون كل الصحابة.

ـ قال العلوي : هذا الكلام منك خلاف الواقع ، أليس من الصحابة : علي عليه‌السلام والعبّاس وسلمان وابن عبّاس والمقداد وأبو ذرّ ، وغيرهم ، فهل نحن الشيعة نكفّرهم؟

ـ قال العبّاسي : إني قصدت بكلّ الصحابة أبا بكر وعمر وعثمان وأتباعهم.

__________________

(١) المراد من قوله «كبير علماء الشيعة» إمّا أن يكون كبير الوفد المرافق ، وإما أن يكون ـ أي العلوي ـ كبيرهم بحسب تصور مقاتل بن عطية ، وإما أن يكون كبيرهم في المنطقة التي جرى فيها الحوار ، وإما أن يكون كبير الشيعة يوم ذاك لكنه لم تردنا تفاصيل عنه لأسباب الله أعلم بها.

١٥٠

ـ قال العلوي : نقضت نفسك بنفسك ، ألم يقرّر أهل المنطق أن (الموجبة الجزئيّة نقيض السالبة الكليّة) فإنك تقول مرة أنّ الشيعة يكفّرون كل الصحابة ، وتقول مرة : إنّ الشيعة يكفّرون بعض الصحابة!

وهنا أراد نظام الملك أن يتكلّم ، لكنّ العالم الشيعي لم يمهله وقال :

أيها الوزير العظيم لا يحقّ لأحد أن يتكلّم إلّا إذا عجزنا عن الجواب وإلّا كان خلطا للبحث ، وإخراجا للكلام عن مجراه من دون نتيجة.

ـ ثم قال العالم الشيعي : تبيّن أيها العباسي أنّ قولك إنّ الشيعة يكفّرون كلّ الصحابة كذب صريح.

ولم يتمكّن العبّاسي من الجواب واحمرّ وجهه خجلا ثم قال :

دعنا من هذا ، ولكن هل أنتم الشيعة تسبّون أبا بكر وعمر وعثمان؟

ـ قال العلوي : إنّ في الشيعة من يسبّهم وفيهم من لا يسبّهم.

ـ قال العبّاسي : وأنت أيّها العلوي من أيّ طائفة منهم؟

قال العلوي : من الذين لا يسبّون ، ولكن رأيي أنّ الذين يسبّون لهم منطقهم ، وإنّ سبّهم لهؤلاء الثلاثة لا يوجب شيئا : لا كفرا ولا فسقا ولا هو من الذنوب الصغيرة.

ـ قال العبّاسي : أسمعت أيها الملك ما ذا يقول هذا الرجل؟

١٥١

قال العلوي : أيها العبّاسي ، إنّ توجيهك الخطاب إلى الملك مغالطة ، فإنّ الملك أحضرنا لأجل التكلّم حول الحجج والأدلّة لا لأجل التحاكم إلى السلاح والقوّة.

ـ قال الملك : صحيح ما يقوله العلويّ ، ما هو ردّك أيّها العبّاسي؟

ـ قال العبّاسي : واضح أن من يسب الصحابة كافر.

ـ قال العلوي : واضح عندك لا عندي ، ما هو الدليل على كفر من يسبّ الصحابة عن اجتهاد ودليل ، ألا تعترف أنّ من يسبّه الرسول يستحق السبّ؟

ـ قال العبّاسي : أعترف.

ـ قال العلوي : فالرسول سبّ (١) أبا بكر وعمر.

قال العبّاسي : وأين سبّهم؟ هذا كذب على رسول الله!!

ـ قال العلوي : ذكر أهل التاريخ من السنّة أنّ رسول الله هيّأ جيشا بقيادة «أسامة» وجعل في الجيش أبا بكر وعمر وقال :

__________________

(١) لقد خلط المحاور العلوي بين السبّ واللعن مع أن الفرق بينهما واضح ، وإن كان السبّ من اللوازم البعيدة للعن كما أفدنا ذلك في الإجابة على الإيراد الحادي عشر فليراجع.

١٥٢

لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة (١) ، ثم أنّ أبا بكر وعمر تخلّفا عن جيش أسامة ، فشملهم لعن الرسول ومن يلعنه الرسول يحقّ للمسلم أن يلعنه.

____________________________________

(١) قد يسأل البعض :

ما وجه الحكمة من إرسال بعض الصحابة في جيش أسامة بن زيد؟

والجواب :

إنّ هذا تدبير وقائي صدر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتجاه الذين سيغتصبون الخلافة من صاحبها الشرعي الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بعد تواتر النصوص القرآنية والنبويّة على أنه الخليفة ، بدءا من أول البعثة إلى آخر عمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا سيّما وهو على فراش الموت حيث رأى إجراء أمرين لإبعاد القوم عن المدينة ريثما يتم الأمر لعليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لكنّ الحق أن يقال : إنّ أمر النبيّ بإرسال القوم في جيش أسامة لم يكن أمرا وقائيا محضا لإبعادهم عن منازعة أمير المؤمنين عليه‌السلام وإنما وجه الحكمة فيه هو فضحهم وتعريتهم أمام المسلمين وأنهم لا يستحقون أن يكونوا أوصياء النبيّ على أمة رسول الله محمّد ، حيث إنّهم عصوه في حياته فكيف لا يعصون أوامره بعد مماته ، وهذان الأمران هما :

الأول : إرسال هؤلاء في جيش أسامة.

الثاني : أمرهم بإحضار الدواة والكتف.

ولكنّ الأمرين لم يتحققا ؛ وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على يقين أنهما لن يتحققا للنكتة التي ذكرنا آنفا ، وليس كما أخذه مشهور علمائنا أخذ المسلمات ، وهذا برأي المتواضع يترتب عليه مسألة جهل النبي بالموضوعات التي يترتب عليها حكم شرعي مع أن علمه بهما من وظائفه (١) المقرّرة.

__________________

(١) لاحظ تحقيقنا لرسالة المعارف السلمانية في علم المعصوم عليه‌السلام.

١٥٣

أما بيان الأمر الأول

فقد اتفق المؤرخون على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر بتجهيز جيش أسامة فقال :

«جهّزوا جيش أسامة ، لعن الله من تخلّف عنه».

فقال قوم : يجب علينا امتثال أمره ، وأسامة قد برز من المدينة ، وقال قوم : قد اشتد مرض النبي فلا تسع قلوبنا مفارقته (١).

ولم يكتفوا بمخالفتهم لأمر النبي حتى طعنوا بإمارة أسامة مدّعين حداثة سنّة في مقابل مشيختهم العاجية ؛ فروى ابن عبّاس فقال :

كان النبي قد ضرب بعث أسامة فلم يستتبّ لوجع رسول الله ولخلع مسيلمة والأسود وقد أكثر المنافقون في تأمير أسامة حتى بلغه فخرج النبي على الناس عاصبا رأسه من الصداع فقال :

«وقد بلغني أنّ أقواما يقولون في إمارة أسامة ولعمري لئن قالوا في إمارته لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله وإن كان أبوه لخليقا للإمارة وإنه لخليق لها فأنفذوا جيش أسامة ..» (٢).

وروى مثل هذا ابن الأثير فقال :

«... وأمر بإنفاذ جيش أسامة وقال : لعن الله الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (٣).

إلفات نظر : مما لا ريب فيه إن عبارة ابن الأثير تحريف لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة.

إذن لقد طعن القوم بإمارة الفتى الصغير.

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ٢٣.

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٣١ حوادث سنة ١١.

(٣) تاريخ ابن الأثير ج ٢ / ٣١٨ والطبري ج ٢ / ٤٣١.

١٥٤

والسؤال الذي يطرح نفسه ويثير انتباه الكثيرين : لما ذا عيّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسامة بن زيد قائدا على جيش كبير يريد غزو جيش الامبراطورية الرومية القابع في مستعمرات قرى البلقاء والداروم من أرض فلسطين (١) يوم ذاك ، في حين وجود شخصيات من أكابر الصحابة أكبر منه سنا؟!

والجواب من وجوه :

أولا : أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فعله الحكيم ذاك أن يهيئ المسلمين لقبول قاعدة «الجدارة والكفاءة» في ولاية أمورهم من الناحية العملية ، فليس الجاه والشهرة أو المال أو النسب أو تقدّم العمر هو الأساس لاستحقاق الإمارة والولاية ، لذا عبّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أسامة أنه كان جديرا بالإمارة كما كان أبوه من قبل.

ثانيا : لكي يترسخ في أذهان المسلمين أن صغر السنّ ليس عائقا ولا شرطا لقيادة الجيوش والمجتمعات ، فإذا جاز لأسامة بن زيد قيادة جيش إسلامي كبير ينضوي تحته مشايخ كبار ، فبطريق أولى جاز لعليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يتولى الخلافة وهو لا يتجاوز الثلاثين من عمره.

ثالثا : أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك أن يقيم الحجة للناس أن من لم يكن جديرا لقيادة جيش فكيف يكون جديرا لقيادة مجتمع بكامله وهي ولاية أمور جميع المسلمين قاطبة؟!!

وبالجملة فما ادّعاه محبو الشيخين من أنّ القوم إنما تخلّفوا عن جيش أسامة لصغر سنّه ، ليس سببا كاملا أو حقيقيا لتخلفهم ، وإنما لأجل أن يبقوا بجانب النبي ليتمّ ما اتفقوا عليه سابقا ، وإلا لو كان صغر السنّ سببا وافيا لما تنفّذ البعث بعد أن تم أمر الخلافة ، وحسب رواية ابن الأثير في تاريخه ج ٢ / ٣٣٤ أن عمر بن الخطاب كان في جيش أسامة بالجرف ، فطلب أسامة من أبي بكر أن يستعفي ابن الخطاب من الخدمة العسكرية فأعفاه.

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ / ٤٢٩.

١٥٥

وأما بيان الأمر الثاني

فإنّ القوم لمّا لم يمتثلوا أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إنفاذ جيش أسامة ، أراد أن يدبّر أمرا آخر عسى أن يكون أنجع وحجة على القوم ، وأمرهم بإحضار دواة وكتف ليكتب لهم كتابا لا يضلون من بعده أبدا ، فنسب عمر بن الخطّاب إلى النبيّ الهجر ، وقد رواها العامة في مصادرهم ، لكنّهم بدّلوا في بعضها عبارة «النبي ليهجر» ب «غلبة الوجع».

فعن عبد الله بن عبّاس قال : لمّا اشتدّ بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرضه الذي مات فيه ، قال :

ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي فقال عمر : إنّ رسول الله قد غلبه الوجع ، حسبنا كتاب الله. وكثر اللغط ، فقال النبي : قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع ؛ قال ابن عبّاس :

الرزية كلّ الرّزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله (١).

وفي رواية سعيد بن جبير قال :

قال ابن عباس : يوم الخميس وما يوم الخميس ، اشتد برسول الله وجعه فقال : ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع.

فقالوا : ما شأنه أهجر؟

استفهموه! فذهبوا يردّون عليه ، فقال :

دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه (٢).

وعن ابن عبّاس قال :

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ٢٢ وصحيح البخاري ج ٥ / ١٦٢ ح ٤٤٣٢.

(٢) صحيح البخاري ج ٥ / ١٦١ ح ٤٤٣١ ، باب مرض النبي.

١٥٦

يوم الخميس وما يوم الخميس ـ ثم جرت دموعه على خدّيه ـ اشتدّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرضه ووجعه ، فقال : ايتوني بدواة وبيضاء أكتب لكم كتابا لا تضلون بعدي أبدا ، فتنازعوا ـ ولا ينبغي عند نبيّ تنازع ـ فقالوا : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهجر ، فجعلوا يعيدون عليه ، فقال : دعوني فما أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه ، فأوصى [بثلاث] : أن يخرج المشركون من جزيرة العرب ، وأن يجاز الوفد بنحو مما كان يجيزهم ، وسكت عن الثالثة عمدا أو قال : نسيتها (١).

والثالثة التي نسيها أو تناساها الراوي الذي نقل عن ابن عبّاس هي التي أرادها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي كتابة الكتاب يوصيهم فيه بعليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وعن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عبّاس قال : لما حضر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب قال : «هلمّ أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده» قال عمر : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله ، واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتابا لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : قوموا عنّي.

قال عبيد الله : فكان ابن عبّاس يقول : إن الرّزية كلّ الرّزيّة ما حال بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (٢).

هذا وقد التمس السّنة الأعذار لعمر ولكنّ واقع الحادثة يأبى ذلك ، حتى لو أبدلت كلمة يهجر بلفظة غلبه الوجع ، فسوف لن نجد مبرّرا لقول عمر : «حسبنا كتاب الله».

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ج ٢ / ٣٢٠ ، ط / بيروت ، وصحيح البخاري ج ٥ / ١٦١ ح ٤٤٣١ ، وصحيح مسلم ج ١١ / ٧٥ ح ١٦٣٧ كتاب الوصية.

(٢) صحيح البخاري ج ٨ / ٥١٦ ح ٧٣٦٦ وصحيح مسلم ج ٢٢ وشرح النووي على صحيح مسلم ج ١١ / ٧٦ ح ١٦٣٧ ، كتاب الوصية.

١٥٧

ومما يدعو للاستغراب ما ذكره النووي في شرحه على صحيح مسلم حيث (جعل اعتراض عمر على رسول الله واتّهامه إياه بالهجر من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره لأنه ـ بحسب نظر النووي ـ خشي أن يكتب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمورا ربما عجزوا عنها واستحقّوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها فقال عمر : حسبنا كتاب الله لقوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) وقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ، فعلم أنّ الله أكمل دينه فأمن الضلال على الأمة وأراد الترفيه على رسول الله فكان عمر أفقه من ابن عبّاس وموافقيه) (١).

يرد عليه :

أنّ هذا الكلام مخالف لصريح العقل والنقل ، وما هو إلّا شنشنة (٢) بغض لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وموافقيه ، وهل من الفقه أن ينسب عمر إلى رسول الله محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الهذيان والخبل ، مع أنّ الله اصطفاه وطهّره من كل نقص ورذيلة ، أو ليس الهذيان والهجر من علائم النقص في شخصية النبي الذي لا يتحرّك إلّا بوحي من الله؟!

وهل كان عمر ـ حسب هذا الكلام ـ أفقه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى يكون حريصا على أمة محمد من نفس نبيّ الرحمة محمّد بن عبد الله؟!!

هذا مضافا إلى أنّ عدم كتابتهم للكتاب من أجل عجزهم عن تحقيق مضمونه خوف استحقاق العقاب لأنها منصوصة ، هذا الكلام دونه خرط القتاد ، وخلاف ظواهر لغة العرب ؛ أليس أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المنصوص الذي لا مجال للاجتهاد فيه؟! وأيّ ترفيه على رسول الله وقد زجرهم وامتعض منهم حتى قال لهم : دعوني.

فهل هناك أبلغ للقوم من هذا التصريح ، ولو كان ما يقوله صحيحا لشكره

__________________

(١) شرح النووي على صحيح مسلم ج ١١ / ٧٦ ، كتاب الوصية.

(٢) الشنشنة : السجية أو الطبيعة.

١٥٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك وقرّبه بدلا من أن يغضب عليه ويقول لهم : قوموا عنّي ، لا ينبغي عندي التنازع.

ولما ذا لم يتهموه بالهجر عند ما طردهم من الحجرة؟ ألأنهم نجحوا بمخططهم في منع الرسول من الكتابة ، فلا داعي بعد ذلك لبقائهم.

أنسي أو تناسى عمر وتبعه النووي أنّ النبيّ لا ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحي يوحى ، حتى ولو كان على فراش الموت ، فلا يؤثّر فيه المرض كما اتهمه عمر ، أيحق له أن يعترض على رسول الله والله يقول :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (١).

ولقد تعدّى عمر وأصحابه حدود رفع الأصوات والجهر بالقول إلى رميه بالهجر والهذيان.

ولعمري فلقد كان عمر ومن جرى على منواله أحقّ بالهذيان والهجر ، والخبل ، من أن يتّهم به سيد العالمين رسول الرحمة محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو خصمه على الحوض ، وسيعلم الذين ظلموا رسول الله وآل بيته أيّ منقلب ينقلبون.

كما إنّا لنا ملاحظات أخر على مقالة عمر بن الخطاب هي كما يلي :

أولا :

إن نسبة الهجر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إساءة أدب معه بل كفر بمقامه ، لأنّ الهجر يعني الهذيان وهو ممتنع عقلا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صحته ومرضه ، لأن من جاز عليه الهجر ولم يؤمن عليه الهذيان والخطأ ، أمكن التشكيك في أقواله وأفعاله ، فلا يكونان حجة وهو مناف لمنزلة النبوة ومناف لفائدة البعثة لاستلزامه التنفير عن قبول الأحكام.

__________________

(١) سورة الحجرات : ٢.

١٥٩

ثانيا :

إنّ الله سبحانه وتعالى أطلق طاعة النبي في حال الصحة والمرض بقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (١) وقوله أيضا (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ) (٢) وقوله تعالى (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (٣).

وقوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ* مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ* وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) (٤) ولقوله تعالى : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (٥).

ونسبة الهجر إلى النبيّ مناف لهذا الإطلاق بالطاعة وبالأخذ منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخلاف كونه أمينا.

وقوله تعالى (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) إشارة إلى بعض أصحابه الذين قذفوهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالهجر لأن من وقع عليه الهجر كان مجنونا ، لأن الجنون حالة في الإنسان يستتر فيها العقل ، وكل ذلك ينافي فائدة البعثة.

ومما ذكر يعلم أنه لا فائدة فيما قصدوا به إصلاح هذه الغلطة إذ بدّلوا في بعض أخبارهم لفظ الهجر إلى «غلبه الوجع» لأن النتيجة بهما واحدة وهي إثبات الهذيان للنبي «حاشاه» صلوات الله عليه وآله.

ثالثا :

لما ذا لم ينسب عمر بن الخطّاب إلى أبي بكر «الهذيان» عند ما أوصى بالخلافة إلى عمر نفسه وكان قد أغمي على أبي بكر أثناء تحرير الاستخلاف فأتمّ

__________________

(١) سورة النساء : ٥٩.

(٢) سورة الحشر : ٧.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٦.

(٤) سورة التكوير : ٢١.

(٥) سورة النجم : ٢.

١٦٠