أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

ومن الآيات أيضا قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (١).

هنا ، أوجب سبحانه طاعة أولي الأمر وهم أئمتنا عليهم‌السلام على الوجه الذي أوجب طاعته تعالى وطاعة رسوله بمقتضى العطف الموجب لإلحاق حكم المعطوف بالمعطوف عليه ، ومن المعلوم ضرورة عموم طاعته تعالى وطاعة رسوله في كل الأزمنة والأمور فليست طاعته تعالى وطاعة رسوله منحصرة أو مقيّدة بزمن دون آخر بل هي عامة إلى يوم القيامة ، فيجب مثل ذلك لأولي الأمر بموجب الأمر ، وذلك يقتضي توجّه الخطاب ب : «أولي الأمر» إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام لأنه لا أحد قال بعموم طاعة أولي الأمر إلّا خصّ بها عليا أمير المؤمنين والأئمة من ذريّته عليهم‌السلام ، وإذا عمّت طاعته الأمّة والأزمان والأمور ثبت كونه معصوما لاجتماع الأمة على إمامة من كان كذلك وعدم استحقاقه لغيره.

ومن الآيات قوله تعالى :

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٢).

اتفق الخاصّة والعامة على نزول الآية المباركة بأهل الكساء الخمسة في بيت أم المؤمنين «أم سلمة» ، فقد أخرج ابن كثير في تفسيره عن أحمد بن حنبل ، بسند معنعن عن أم سلمة ، قالت : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيتي ، فأتته فاطمة (رضي الله عنها) ببرمة فيها خزيرة أو عصيدة ، تحملها على طبق ، فوضعتها بين يديه فقال لها : «ادعي زوجك وابنيك» قالت : فجاء عليّ والحسن والحسين رضي الله عنهم ، فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون من تلك العصيدة ، وكان تحته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كساء خيبري ، قالت : وأنا في الحجرة أصلي ، فأنزل الله عزوجل الآية ، قالت أم سلمة : فأخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضل الكساء فغطاهم به ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء ، ثم قال :

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ٥٩.

(٢) سورة الأحزاب ، آية : ٣٣.

١٢١

«اللهم هؤلاء هم أهل بيتي وخاصتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا» قالت : فأدخلت رأسي ، فقلت : وأنا معكم يا رسول الله؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّك إلى خير ، إنك إلى خير».

وعن أحمد بن حنبل بإسناده إلى أنس بن مالك أنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول : الصلاة يا أهل البيت ، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا» (١).

والآية المباركة تشير إلى عصمة أهل البيت الذين كانوا تحت الكساء ، وقد اعترض جمهور علماء العامة في مصادرهم بأنّ الآية نزلت لبيان فضل النبي محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، ولا يراد من إذهاب الرجس والتطهير سوى العصمة ، فإذا ثبتت عصمتهم عليهم‌السلام ثبتت قيادتهم للمجتمع ، وإنهم أئمة وقادة ، فمن كان معصوما فهو جدير بأن يكون خليفة ، يأخذ بيد البشرية إلى غايتها المنشودة ، فقياس المعصوم على غيره قياس مع الفارق ، حيث إن المعصوم يستحيل أن يتطرق إلى ساحته خطأ ، بعكس غيره ، فإن جلّ تصرفاته تكون مشوبة بالخطر والخطأ والسهو والنسيان ، فتقديم غير المعصوم على المعصوم في إدارة شئون المجتمع بعد رحيل النبي يعتبر تنكيسا لحكم العقل القائل بقبح تقديم الجاهل على العالم ، والظلمة على النور ، قال تعالى مقرّعا هؤلاء : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٢) (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) (٣).

وهناك آيات كثيرة دلت على فضائل العترة الطاهرة فوق المائة آية ، ولكن من أراد المزيد فليراجع «نهج الحق» للعلّامة الحلّي قدّس سره.

وأما الأخبار : الدالة على إمامة الأئمة الطاهرين عليهم‌السلام فكثيرة ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٣ / ٤١٣ ، ط / دار القلم.

(٢) سورة الزمر ، آية : ٩.

(٣) سورة فاطر ، آية : ١٩.

١٢٢

منها : ما رواه الطرفان : أن الأئمة عليهم‌السلام اثنا عشر خليفة إلى يوم القيامة. فعن جابر ابن سمرة قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا ؛ ثم تكلم النبي بكلمة خفيت عليّ ، فسألت أبي : ما ذا قال رسول الله؟ قال : كلّهم من قريش» (١).

وبسند آخر عن جابر بن سمرة قال :

قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يزال الأمر عزيزا إلى اثني عشر خليفة. قال : ثم تكلّم بشيء لم أفهمه ، فقلت لأبي : ما قال؟ فقال : كلهم من قريش» (٢).

وفي طريق آخر عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص ؛ قال : كتبت إلى جابر بن سمرة ، مع غلامي نافع : أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : فكتب إليّ : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الجمعة ، عشية رجم الأسلمي ، يقول : لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش» (٣).

وبلفظ آخر رواه البخاري عن جابر بن سمرة قال : سمعت النبي يقول : يكون اثنا عشر أميرا .. (٤).

والمقصود من الاثني عشر خليفة أو أمير : هم النقباء الذين عيّنهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته بدءا بعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه‌السلام وانتهاء بالإمام المهدي عليه‌السلام.

وقد فشلت كل المحاولات التي قام بها بعض العامة لتطبيق الحديث المذكور على خلافة الأربعة وأطلقوا عليهم اسم الخلفاء الراشدين ، مرورا ببعض

__________________

(١) صحيح مسلم ج ١٢ / ١٧٠ ح ٦ ـ ٧.

(٢) نفس المصدر ح ٨.

(٣) نفس المصدر ج ١٠ رقم ١٨٢٢.

(٤) صحيح البخاري ج ٨ / ٤٧٢ ح ٧٢٢٢ باب الأحكام ، ورواه الترمذي في الصحيح ج ٢ / ٣٥ وأحمد بن حنبل في المسند ج ٥ / ٩٢.

١٢٣

خلفاء بين أمية وبني العباس ، ولنا على هذه المحاولة ملاحظات تبطل ما ذهب إليه القوم منها :

إن العدد ١٢ لا يستغرق تاريخ الخلافة الأموية والعباسية ولا تاريخ الخلفاء الراشدين الأربعة أو الخمسة بانضمام الإمام الحسن بن عليّ عليهما‌السلام لكونهم أقل عددا أو خلافة في سواهم لكونهم أكثر عددا.

هذا مضافا إلى أن بني أمية وبني العبّاس أغلبهم من أهل الفسق والفجور قد قضوا أعمارهم بشرب الخمور والملاهي والمحرّمات ، فكيف يصح أو يجوز أن يكونوا خلفاء رسول الله ، مع أن الخلافة منصب رباني يعتبر في الخليفة أن يكون القدوة في الإيمان والصالحات ، كما لا بدّ أن يكون الخليفة المرجع في كل الأمور لا سيّما العلمية منها ، في حين نرى كل هؤلاء الخلفاء ليست فيهم صفة واحدة من صفات العترة الطاهرة. هذا بالغض عن أن هؤلاء تربّعوا على سدنة الخلافة بالقهر والقوة.

كما أن الحديث المزبور لا ينطبق أيضا على ما تعتقده سائر فرق الشيعة من الزيدية والإسماعيلية والفطحية والواقفية وغيرهم لكون أئمتهم أقل ، فينحصر انطباقها على ما يعتقده الشيعة الاثنا عشرية من إمامة الأئمة الاثنى عشر الذين هم عترة النبي أوّلهم عليّ بن أبي طالب وآخرهم المهدي الحجة ابن الحسن العسكري عليه‌السلام.

ومما يؤكد هذا ما رواه القندوزي الحنفي عن جابر بن سمرة قال : كنت مع أبي عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمعته يقول : بعدي اثنى عشر خليفة ثم أخفى صوته فقلت لأبي : ما الذي أخفى صوته؟

قال أبي : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّهم من بني هاشم (١).

ورواه بطريق آخر عن سماك بن حرب.

__________________

(١) ينابيع المودة ، ص ٣٨ ، ط / قم.

١٢٤

ومما يزيد الأمر جلاء وأن الخلفاء هم أناس مخصوصون بالتطهير والكرامة ، ما رواه القندوزي بطريقين عن الشعبي عن عمر بن قيس قال : كنا جلوسا في حلقة فيها عبد الله بن مسعود ، فجاء أعرابي فقال : أيكم عبد الله بن مسعود؟

قال : أنا عبد الله بن مسعود ، قال : هل حدّثكم نبيكم كم يكون بعده من الخلفاء؟

قال : نعم ، اثني عشر عدد نقباء بني إسرائيل (١).

وعن الشعبي عن مسروق قال : بينما نحن عند ابن مسعود نعرض مصالحنا عليه إذ قال له فتى : هل عهد إليكم نبيكم كم يكون من بعده خليفة؟

قال : إنّك لحديث السن ، وإنّ هذا شيء ما سألني أحد قبلك ، نعم ، عهد إلينا نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه سيكون بعده اثنا عشر خليفة بعدد نقباء بني إسرائيل (٢).

وعن جرير عن أشعث عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الخلفاء بعدي اثنى عشر خليفة بعدة نقباء بني إسرائيل (٣).

وفي لفظ آخر : يكون بعدي عدد نقباء موسى عليه‌السلام قال الله عزوجل : (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) (٤).

والروايات من مصادرنا كثيرة دلت على أن الأوصياء بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اثنى عشر وصيا ، ذكرهم النبيّ بأسمائهم منها ما رواه القندوزي :

عن الأصبغ بن نباتة عن عبد الله بن عباس قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهرون معصومون (٥).

__________________

(١) ينابيع المودة ص ٣٠٧ المودة العاشرة.

(٢) نفس المصدر ص ٣٠٧.

(٣) نفس المصدر ص ٣٠٨.

(٤) الغيبة للطوسي ص ٩١.

(٥) ينابيع المودة ص ٣٠٨.

١٢٥

وعن عباية بن ربعي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أنا سيد النبيّين وعلي سيّد الوصيين ، إن أوصيائي بعدي اثنى عشر ، أولهم عليّ وآخرهم القائم المهدي (١).

فحديث نقباء بني إسرائيل دالّ على انحصار الخلافة في اثني عشر إماما ، وأنهم خلفاء بالنص من الله تعالى كعدة نقباء بني إسرائيل لقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) (٢).

وقد عرفت ـ أخي القارئ ـ بما تقدم من أن الخلفاء بعد النبي اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل كخبر جرير وابن مسروق المروي في الينابيع ومسند أحمد بن حنبل ج ١ / ٣٩٨ وغيره من مصادر القوم.

إذن حديث النقباء دلالة واضحة على انحصار الخلافة في اثني عشر وأنهم خلفاء بالنص لقوله صلوات الله عليه وآله «كعدة نقباء بني إسرائيل» فإنّ نقباءهم خلفاء بالنص لقوله تعالى : (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) وسؤال الصحابة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما كان عن خلفائه بالنص ، وليس سؤالا عن تأمير الناس ، ولا تغلّب السلاطين على الأمة الإسلامية ، لأن تأمير الناس وتغلّب السلاطين لا يبتني عادة على الدين حتى يهمّ الصحابة بالسؤال عنه ، ولأن السلاطين بلا نص ، لا يحتاج إلى السؤال عنهم ، وعن عددهم ، لأن العادة جرت على وجود مثلهم ، وأنهم لا ينحصرون بعدد ، فظهر أن السؤال إنما هو عن الخلفاء بالنص ، وعنهم أجاب النبيّ ، ولا قائل بأن الخلفاء اثنى عشر بالنص غير أئمتنا عليهم‌السلام فيكونون هم المراد بالاثنى عشر في هذا الحديث.

ومن الأخبار : على إمامة الأئمة عليهم‌السلام ما رواه الفريقان عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

«النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ،

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) سورة المائدة ، آية : ١٢.

١٢٦

فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس» (١).

قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ، كما صحّحه ابن حجر في صواعقه.

وقد روي الحديث بطرق وألفاظ متعددة منها ما أخرجه محمد بن المنكدر عن أبيه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه خرج ذات ليلة وقد أخّر صلاة العشاء حتى ذهب من الليل هنيهة أو ساعة ، والناس ينتظرون في المسجد ، فقال :

ما تنتظرون؟ فقالوا : ننتظر الصلاة ، فقال : إنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتموها ، ثم قال : أما إنها صلاة لم يصلها أحد ممن كان قبلكم من الأمم ، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال : النجوم أمان لأهل السماء ، فإن طمست النجوم أتى السماء ما يوعدون (إلى أن قال) وأهل بيتي أمان لأمتي ، فإذا ذهب أهل بيتي أتى أمتي ما يوعدون (٢).

ورواه القندوزي عن أحمد في المناقب عن الإمام عليّ كرّم الله وجهه قال : قال رسول اللهعليه‌السلام :

النجوم أمان لأهل السماء ، فإذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض.

ثم قال القندوزي : «أيضا أخرجه ابن أحمد في زيادات المسند والحمويني في فرائد السمطين عن عليّ كرّم الله وجهه ، أيضا أخرجه الحاكم عن محمد الباقر عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنهم» (٣).

__________________

(١) مستدرك الصحيحين ج ٣ / ١٤٩ وفضائل الخمسة من الصحاح السنة ج ٢ / ٥٩ وابن حجر في الصواعق ص ١٤٠.

(٢) الفضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ٢ / ٥٩ نقلا عن مستدرك الصحيحين ج ٣ / ٤٥٨ وكنز العمال ج ٦ / ١١٦ والصواعق المحرقة ص ١١١ وذكره الهيثمي في المجمع ج ٩ / ١٧٤ وقال : رواه الطبراني. كما ذكره المناوي في فيض القدير ج ٦ / ٢٩٧ والمتقي الهندي في كنز العمال ج ٧ / ٢١٧ وذخائر العقبى للطبري ص ١٧.

(٣) ينابيع المودة ص ٢١ الباب الثالث.

١٢٧

وهذا الحديث المبارك شاهد صدق على إمامة الأئمة عليهم‌السلام إذ لا يكون المكلّف أمانا لأهل الأرض إلّا لكرامته على الله تعالى ، وامتيازه في الطاعة والمزايا الفاضلة مع كونه معصوما ، فإنّ العاصي لا يأمن على نفسه فضلا عن أن يكون أمانا لغيره.

فإذا كانوا أفضل الناس باعتبار كونهم أمانا لأهل الأرض فإن ذلك دليل على بقائهم ما دامت الأرض ، وهذه حجّة على المخالفين الذين أنكروا ولادة الإمام المهديّ المنتظر عجّل الله فرجه الشريف وادّعوا أنه سيولد.

والسرّ في كون الأئمة عليهم‌السلام أمانا لأهل الأرض هو أنهم منزهون مقدّسون مطهرون عنده سبحانه ، هذا مضافا إلى إحاطتهم لصفات الجمال والكمال الرباني وعبادتهم لله وحده ؛ وهذه المكرمة التي اختصهم بها المولى سبحانه تماما كمكرمة نبيّه الأعظم الذي به دفع العذاب عن العباد ما دام بين ظهرانيهم وما داموا يستغفرون قال تعالى :

(وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (١) والأئمة عليهم‌السلام هم نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقوله تعالى : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) (٢).

ومثل حديث الأمان حديث السفينة المروي عند الفريقين أيضا بسند صحيح عن حنش الكناني قال : سمعت أبا ذر يقول وهو آخذ باب الكعبة : أيها الناس من عرفني فأنا من عرفتم ، ومن أنكرني فأنا أبو ذر ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق (٣).

__________________

(١) سورة الأنفال ، آية : ٣٣.

(٢) سورة آل عمران ، آية : ٦١.

(٣) مستدرك الصحيحين ج ٢ / ٣٤٣ وكنز العمال ج ٦ / ٢١٦ والهيثمي في المجمع ج ٩ / ١٩٨ والطبراني في الكبير والأوسط والصغير ، وفضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ٢ / ٥٦ ـ ٥٧.

١٢٨

وفي تاريخ بغداد ج ١٢ / ١٩ روى بسنده عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنما مثلي ومثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق.

كما رواه القندوزي (١) بطرق متعددة :

وورد في مستدرك الصحيحين حديث رقم (٤٧٢٠) زيادة «وهوى» في ذيل الحديث هكذا :

«مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى».

ودلالة الحديث واضحة على أن من يتخلّف عن ركب سفينة الأئمة عليهم‌السلام فهو هالك لا محالة ، لأن سفينتهم هي خشبة الخلاص من أمواج الكفر والضلال والشبهات ، فتصور ـ أخي المسلم ـ أنك على شاطئ تريد السفر ، وأمامك ثلاث وسبعين سفينة ، كلها ستغرق إلّا واحدة ستصل بأمان ، وكل أصحاب السفن ينادون : نحن الناجون ، وأثناء حيرتك جاءك خبير السفن ـ وكنت تعرف صدقه ـ وقال لك : إذا ركبت السفينة رقم اثني عشر نجوت وإذا تخلّفت عنها غرقت. بعد هذا هل ستترك السفينة رقم اثني عشر وتعدل إلى غيرها؟!!

ـ لا نعتقد أن عاقلا يفعل ذلك.

ونحن هنا في سفينة الحياة يحدّد لنا سيد الخلق السفينة الناجية من بين ثلاث وسبعين سفينة ، وعلى المعتقد بخبير السفن أن لا يعدل عنه إلى غيره ، لأن هذا الخبير ـ أي سيد الرحمة محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ نصح بركوبها ، فما لنا لا نقبل إرشاده ونصحه؟ ألا يحب أحد النجاة؟!

لقد نادى نوح ابنه ليركب سفينته (يا بنيّ اركب معنا) شفقة عليه ، وهكذا

__________________

(١) ينابيع المودة ص ٣٠.

١٢٩

رسول الله ينادي أمته التي علم بتفرقها يناديها «مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق» ، فلنذكر هذا ولا نكن كابن نوح الذي قال (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)(١).

هذا مضافا إلى أن الحديث دالّ على وجودهم ما دام وجود الناس لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث «فيكم» المروي في الينابيع ص ٣٠ نقلا عن الأوسط قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له (٢).

ومن الأخبار : حديث الثقلين.

وقد رواه الفريقان بأسانيد صحاح وطرق متعددة ، فهو من الأحاديث المتواترة التي لا خدشة فيها.

روى الترمذي بسنده عن أبي سعيد والأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن زيد بن أرقم قالا :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ؛ أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما (٣).

وأورد في كنز العمال ج ١ / ٩٦ قال : عن محمّد بن عمر بن علي عن أبيه عن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله سبب بيد الله ، وسبب بأيديكم ، وأهل بيتي».

قال : أخرجه ابن جرير في تهذيب الآثار وصحّحه ، انتهى.

__________________

(١) سورة هود ، آية : ٤٣.

(٢) أيضا رواه الهيثمي في المجمع ج ٩ / ١٦٨.

(٣) صحيح الترمذي ج ٢ / ٣٠٨.

١٣٠

كما أخرجه الهيثمي في المجمع ج ٩ / ١٦٤ بطريقين عن حذيفة بن أسيد وعن زيد بن أرقم.

وأورده ابن حجر في الصواعق المحرقة ص ٧٥ فقال : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في مرض موته : أيها الناس يوشك أن أقبض قبضا سريعا فينطلق بي وقد قدّمت إليكم القول معذرة إليكم ، ألا إني مخلّف فيكم كتاب ربي عزوجل ، وعترتي أهل بيتي ، ثم أخذ بيد عليّ عليه‌السلام فقال : هذا عليّ مع القرآن ، والقرآن مع عليّ لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض فاسألوهما ما خلّفت فيهما.

ثم قال ابن حجر : «اعلم أنّ لحديث الثقلين طرقا كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابيا».

فسنده في غاية الاعتبار ، ويكفي أن أجلّاء الصحابة ومشاهيرهم قد رووه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كمولانا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأبي ذر ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، وزيد بن أرقم ، وأبي سعيد الخدري ، وزيد بن ثابت ، وحذيفة بن أسيد الغفاري ، وعبد الله بن حنطب وغيرهم.

وأما دلالة الحديث على إمامة أئمتنا عليهم‌السلام فمن وجوه :

الأول : كون الكتاب والعترة ، لا يفترقان أبدا إلى يوم القيامة ، لوجود التلازم بينهما ، وقد أكد هذا التلازم بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

الثاني : إنّ المتمسك بهما لن يضلّ أبدا ، ولا يكفي التمسك بالكتاب دون العترة ، لأن في الكتاب محكمات ومتشابهات لا يمكن الأخذ بواحد منها من دون الرجوع إلى من عنده علم الكتاب في توضيح مراد الكتاب.

الثالث : إن اقتران العترة بالكتاب دليل على علمهم بما في الكتاب ، وأنهم لا يخالفونه أبدا ، وعلمهم به ، دليل فضلهم على غيرهم ، وأما عدم مخالفتهم للكتاب فدليل على عصمتهم.

١٣١

وبحديث الثقلين نثبت خلافة مولانا علي عليه‌السلام ووصايته على الأمة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل ، بل لو لم يكن للشيعة دليل على خلافة علي عليه‌السلام سوى حديث الثقلين لكفاهم ذلك حجة على المخالف.

وكل ما ثبت لأمير المؤمنين هو بعينه ثابت لبقية الأئمة الطاهرين ، مع سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء عليها‌السلام التي هي أم الأئمة الأطهار ، والمطهّرة بنص الكتاب ، إذ لا أحد يدّعي أنها ليست من العترة ، والحديث دال على حجية أقوال وأفعال العترة الطاهرة ومن ضمنهم سيدتنا الزهراء عليها أفضل التحية وأشرف الصلوات.

ومما يزيدك في المقام توضيحا وأنّ المتعيّن من بين أهل البيت عليهم‌السلام ـ الذين استخلفهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعلهم عدلا للقرآن المجيد وشريكا له ـ هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام وأولاده الميامين خاصة ، ما أفاده ابن حجر الهيثمي في صواعقه فإنّه ـ مع شدّة تعصّبه على الشيعة حتى سمّى كتابه ب : الصواعق المحرقة في الردّ على أهل البدع والزندقة ـ يعني بهم الشيعة ـ له كلام في المقام قد أدّى به حقّه ، وها نحن نذكره بعينه لنرى كيف قد أجرى الله تعالى الحقّ على لسانه.

قال في صواعقه ص ١٥١ : تنبيه :

سمّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن وعترته ـ وهي بالمثناة الفوقيّة الأهل والنسل والرهط الأدنون ـ ثقلين لأن الثقل كل نفيس خطير مصون ، وهذان كذلك إذ كلّ منهما معدن للعلوم اللدنيّة ، والأسرار والحكم العليّة ، والأحكام الشرعية ولذا حثّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الاقتداء والتمسّك بهم ، والتعلّم منهم ، وقال : الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت (وقيل) سمّيا ثقلين لثقل وجوب رعاية حقوقهما ، ثم الذين وقع الحثّ عليهم منهم إنّما هم العارفون بكتاب الله وسنّة رسوله إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض. ويؤيّده الخبر السابق (ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم) وتميزوا بذلك عن بقية العلماء لأن الله أذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا ، وشرّفهم بالكرامات الباهرة والمزايا المتكاثرة ، وقد مرّ بعضها ، وسيأتي

١٣٢

الخبر الذي في قريش (وتعلّموا منهم فإنّهم أعلم منكم) فإذا ثبت هذا العموم لقريش فأهل البيت أولى منهم بذلك لأنهم امتازوا عنهم بخصوصيات لا يشاركهم فيها بقيّة قريش ، وفي أحاديث الحثّ على التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة ، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك ، ولهذا كانوا أمانا لأهل الأرض ويشهد لذلك الخبر السابق : (في كل خلف من أمّتي عدول من أهل بيتي ... إلخ) ، ثم أحقّ من يتمسّك به منهم إمامهم وعالمهم عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه لما قدمنا من مزيد علمه ودقائق مستنبطاته ومن ثم قال أبو بكر : عليّ عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي الذين حثّ على التمسّك بهم فخصّه لما قلنا. وكذلك خصّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما مرّ يوم غدير خم ، (انتهى).

ومن الأخبار : الخبر المتواتر الوارد عن مولانا الإمام المهديّ عليه‌السلام عن جدّه الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من مات ولم يعرف إمام زمانه ، مات ميتة جاهلية (١).

ومن طريق أبي صالح عن معاوية مرفوعا : من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية.

ومن طريق عبد الله بن عمر ، وزاد : ومن نزع يدا من طاعة جاء يوم القيامة لا حجة له(٢).

وهذا الحديث معتضد بألفاظ أخرى من طرق شتى منها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية (٣).

واستدل بهذا اللفظ شاه ولي الله في كتابه «إزالة الخفاء» ج ١ ص ٣ على وجوب نص الخليفة على المسلمين إلى يوم القيامة وجوبا كفائيا.

__________________

(١) كمال الدين ج ٢ / ٤١٢ والكافي ج ١ / ٣٧٦ وغيبة النعماني ص ٣٣٠ وحلية الأولياء ج ٣ / ٢٢٤ ، مسند أحمد ج ٤ / ٩٦ ومجمع الزوائد ج ٥ / ٢١٨ والإفصاح ص ٢٨ والغدير ج ١٠ / ٣٥٩ وبحار الأنوار ج ٢٣ / ٩٢.

(٢) أخرجه ابن داود الطيالسي في مسنده ص ٢٥٩.

(٣) أخرجه ابن كثير في تفسيره ج ١ / ٤٤٤ ومسلم في الصحيح ج ٦ / ٢٢.

١٣٣

والحديث دال على وجود إمام في كل عصر ، لأن لكل زمان حجة من الله تعالى على العباد ، بحيث إذا مات المرء ولم يعرفه ويعتقد بإمامته مات ميتة ضلال مما يعني الدخول في النار وبئس القرار.

وهناك أخبار كثيرة تدل على أحقية مذهب أهل البيت عليهم‌السلام وبطلان عقيدة من تمسك بغير أذيالهم.

إذن مقتضى الأخبار المتواترة أن الأئمة عليهم‌السلام هم اثنا عشر إماما عترة النبيّ محمّد ، أوّلهم ابن عمه وأخيه وصهره ووصيه ووزيره وحبيبه عليّ بن أبي طالب روحي فداه وآخرهم الإمام المفدّى الحجّة بن الحسن العسكري عجّل الله فرجه الشريف لا ينقصون واحدا ، ولا يزيدون ، ولازم هذا بطلان من اعتقد الأزيد كالزيدية حيث ذهبوا إلى مبايعة كل رجل من نسل النبي ، بشرط أن يخرج بالسيف على الظالمين ؛ كما أن لازمه بطلان من اعتقد الأقل كالكيسانية الذين قالوا بإمامة ابن الحنفية وأنه الإمام المهدي وهو مستتر ـ بزعمهم ـ إلى الآن في جبل رضوى قرب المدينة.

ويتبع في البطلان عقيدة الواقفية ؛ ومهما شرّق المرء وغرّب فلن يجد إلا عترة رسول الله محمّد حيث يدور الحق معهم حيثما داروا ، إلهي فبحقّهم الذي أوجبت لهم عليك أسألك أن تدخلني في جملة العارفين بهم وبحقّهم وفي زمرة المرحومين بشفاعتهم إنك أرحم الراحمين.

* * * * *

١٣٤

فلم يقتنع الملك بهذا الجواب من وزيره «نظام الملك» وقال له : لا بدّ من إحضار علماء الطرفين ، لينكشف لنا الحق ونميّزه عن الباطل ، فاستمهل الوزير الملك إلى شهر لتنفيذ الأمر ، ولكنّ الملك الشاب لم يقبل ذلك.

وأخيرا تقرر أن تكون المدة خمسة عشر يوما. وفي هذه الأيام جمع الوزير «نظام الملك» عشرة رجال من كبار علماء السنّة الذين يعتمد عليهم في التاريخ والفقه والحديث والأصول والجدل ، كما أحضر عشرة من علماء الشيعة ، وكان ذلك في شهر شعبان في المدرسة النظامية ببغداد ، وتقرّر أن ينعقد الاجتماع على الشروط التالية :

أولا : أن يستمر البحث من الصباح إلى المساء باستثناء وقت الصلاة والطعام والراحة.

ثانيا : أن تكون المحادثات مستندة إلى المصادر الموثوقة والكتب المعتبرة لا عن المسموعات والشائعات.

ثالثا : أن تكتب المحادثات التي تدور في هذا المؤتمر (١).

وفي اليوم المعيّن ، جلس الملك ووزيره وقواد جيشه وجلس علماء السنّة عن يمينه ، كما جلس علماء الشيعة عن يساره.

____________________________________

(١) ذكرنا في المقدمة أن مصطلح «مؤتمر» أدخل على الكتاب في القرون المتأخرة عن تاريخ صدوره ، ولا علاقة لمقاتل بن عطية بهذه التسمية أصلا فما تمسك به بعض من أن تعنون الكتاب بها قرينة على افتراضيته ، دونه خرط القتاد.

١٣٥

وافتتح الوزير «نظام الملك» المؤتمر (١) باسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة على محمّد وآله وصحبه ، ثم قال : لا بدّ أن يكون الجدال نزيها ، وأن يكون طلب الحق هو رائد الجميع ، وأن لا يذكر أحد صحابة (٢) الرسول بسبّ أو سوء.

____________________________________

(١) الأصح استبدالها بكلمة : «محاورة» لأنها الأصل في الكتاب كما أفاد مقاتل بن عطية.

(٢) مفهوم الصحبة عند الشيعة الإمامية :

إن صحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنفس المهام التي يمكن بواسطتها أن يتكامل الفرد المستصحب ، وأن يعرج بنفسه إلى أفق الكمال والفضيلة ، لما يكتسبه من حكمة وعلم نتيجة الرفقة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبما أن مفهوم الصحبة واسع يمكن أن يندرج تحته مصاديق صالحة وطالحة ، أحببنا أن نوضّح شيئا من مفهوم الصحبة عند الخاصة والعامة.

المعنى اللغوي للصحبة :

لقد عرّف اللغويون كلمة «صحابي» أنه الملازم للشيء ، والملازم تارة : يكون إنسانا أو حيوانا أو مكانا أو زمانا. وجمعه : صحب وأصحاب ، وصحاب وصحابة. ويطلق «الصاحب» على كل من تقلّد مذهبا ، فيقال : أصحاب الإمام علي عليه‌السلام وأصحاب فلان وفلان. ويقال : «اصطحب القوم» : أي انقاد لهم (١).

إذن ، مفهوم الصحبة يقع بين العاقل وبين البهيمة وغيرها ، ولو كان مطلق الصحبة وسام شرف للمصاحب ، لكانت البهيمة أشرف من الإنسان الذي لم يدرك صحبة النبيّ.

__________________

(١) لاحظ مجمع البحرين ج ٣ / ٩٨.

١٣٦

وقد أجاد أدباء العرب بتصويرهم للصحبة ، حيث سمّوا الحمار صاحبا فقالوا :

إنّ الحمّار مع الحمار مطية

فإذا خلوت به فبئس الصاحب

وأيضا فقد سمّوا السيف صاحبا فقالوا :

جاورت هندا وذاك اجتنابي

ومعي صاحب كتوم اللسان

يعني السيف.

وعند تتبع آيات القرآن الكريم يجد المرء عدة منها توضّح صورا مختلفة عن الصحبة ، سواء أكانت خيّرة أم شريرة ، فقد تكون الصحبة بين ولد ووالدين مختلفين بالاعتقاد كقوله تعالى :

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) (١).

وقد تكون بين مؤمن ومؤمنة كقوله تعالى :

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٢).

وقد تكون بين جارين قريبين أو بعيدين وبين رفيقي السفر لقوله تعالى :

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) (٣).

فالجيرة من أبرز مصاديق الصحبة ، بحكم تلاصق البيوت والنفوس مع بعضها البعض ، لذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الجيران ثلاثة : جار له ثلاثة حقوق : حق الجوار ، وحق القرابة ، وحق الإسلام ، وجار له حقان : حق الجوار وحق الإسلام ،

__________________

(١) سورة لقمان : آية ١٥.

(٢) سورة التوبة : آية ٧١.

(٣) سورة النساء : آية ٣٦.

١٣٧

وجار له حق الجوار : المشرك من أهل الكتاب.

والمراد بالصاحب الجنب إما : الرفيق في السفر أو الزوجة ، أو المنقطع إليك يرجو نفعك أو الخادم يخدمك.

والأولى حمله على الجميع (١).

وقد تكون بين مؤمن وكافر كقوله تعالى :

(قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) (٣٧) (٢).

وقد تكون الصحبة اضطرارية كدخول يوسف على النسوة فقطّعن أيديهنّ ، وكصحبته لزوجة العزيز ولفتيا السجن كقوله تعالى :

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (٣).

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٤).

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً) (٥).

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) (٦).

__________________

(١) مجمع البيان ج ٣ / ٦٣.

(٢) سورة الكهف : آية ٣٧.

(٣) سورة يوسف : آية ٣١.

(٤) سورة يوسف : آية ٢٣.

(٥) سورة يوسف : آية ٣٦.

(٦) سورة يوسف : آية ٤١.

١٣٨

فإذا كان اسم الصحبة يقع بين المؤمن والكافر وبين العاقل وبين البهيمة ، وبين الحيوان والجماد فأي حجة لأصحابنا الأشاعرة الذين يتفاخرون بصحبة أبي بكر وعمر وغيرهما للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

وأما المعنى الاصطلاحي للصحبة :

فقد عرّفها ابن حجر العسقلاني بقوله :

«الصحابي من لقي النبي مؤمنا به ، ومات على الإسلام ، فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت ، ومن روى عنه أو لو يرو ، ومن غزا معه أو لم يغز ، ومن رآه ولو لم يجالسه ، ومن لم يره لعارض كالعمى» (١).

والتدبر في تعريف ابن حجر «للصحابي» يتمخض عنه :

أولا : إنّ الالتقاء بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوجب شرف الصحبة حتى لو كان الملاقي طفلا رضيعا ، لأن المشاهدة لا تنسب له إنما تنسب للنبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويصدق على الطفل أنّه لاقى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثانيا : الإيمان بالنبيّ أنه نبي حقيقة ، وهذا لو أخذنا به بحسب تعريف ابن حجر لزم علينا أن نتأكد من حقيقة هذا الإيمان ، وهذا أمر خارج عن قدرة البشر ، وكان الأجدر لابن حجر أن يعرّفه هكذا :

«... مؤمنا به أو متظاهرا بالإيمان به» لأنّ كثيرا من الصحابة آمنوا بالنبي بألسنتهم دون قلوبهم ، ويلزم على تعريف ابن حجر أن يقال :

إن كل أهل المدينة يوم ذاك يعدّون من صحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع وجود المؤمن والمنافق فيها لقوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) (٢).

من هنا وقع الخلاف بين أتباع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأتباع

__________________

(١) الإصابة ج ١ / ١٠ مقدمة الإصابة الفصل الأول.

(٢) سورة التوبة : آية ١٠١.

١٣٩

الشيخين في مسألة : هل أن كل الذين رأوا النبي محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصاحبوه عدول ، أم أنّ الصحبة بالمعنى الحقيقي هي الناتجة عن إتباع بإحسان بحيث يصدق عليهم أن الله سبحانه رضي عنهم ورضوا عنه؟

اختار العامة (١) الأول ، والخاصة الثاني. وبالغ العامة في تعديلهم لكل الصحابة ، فقال ابن الأثير في مقدمته لكتاب أسد الغابة ص ١١٠ :

«ولأنّ السنن التي عليها مدار تفصيل الأحكام ومعرفة الحلال والحرام إلى غير ذلك من أمور الدين ، إنما ثبتت بعد معرفة رجال أسانيدها ورواتها ، وأولهم والمقدّم عليهم أصحاب رسول الله ، فإذا جهلهم الإنسان كان بغيرهم أشدّ جهلا وأعظم إنكارا ، فينبغي أن يعرفوا بأنسابهم وأحوالهم هم وغيرهم من الرواة ، حتى يصح العمل بما رواه الثقات منهم ، وتقوم به الحجة ، فإن المجهول لا تصح روايته ، ولا ينبغي العمل بما رواه ، والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلّا في الجرح والتعديل ، فإنهم كلّهم عدول لا يتطرق إليهم الجرح لأن الله عزوجل ورسوله زكياهم وعدّلاهم ..».

وقال النّوري :

«الصحابة كلّهم عدول ، من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتد به» (٢).

وقال الخطيب البغدادي في «الكفاية» ص ٤٦ مبوبا على عدالتهم :

«ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة ، وأنه لا يحتاج إلى سؤال عنهم ، وإنما يجب فيمن دونهم كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبيّ لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله ، ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم ، وإخباره

__________________

(١) مصطلح «العامة والخاصة» يقصد به السنّة والشيعة لأن الشيعة الإمامية هي الفرقة الوحيدة التي تقف بوجه الحملات المستعرة من قبل بقية الفرق الأشعرية.

(٢) المنهج الحديث في علوم الحديث ص ٦٣ نقلا عن السنة قبل التدوين.

١٤٠