أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

ليقاتلهما حتى يفيئا إلى أمر الله تعالى ، تسمى من اتّبعه على ذلك بالشيعة ، فكان يقول : «شيعتي».

النظرية الخامسة :

ترجع أصل التشيّع إلى أيام شهادة الإمام الحسين عليه‌السلام وما أفرزته تلك الواقعة الفريدة من تطورات هامة في داخل الساحة الإسلامية ، ومن مؤيدي هذا الاتجاه : الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه «الصلة بين التصوف والتشيع» ج ١ ص ٢٢ ، وبروكلمان في كتابه «تاريخ الشعوب الإسلامية» ص ١٢٨.

النظرية السادسة :

ترجع أصل التشيّع إلى الأصول الفارسية ، ومن أنصار هذه النظرية كثير من المستشرقين حيث لهم تلميحات وإيحاءات تشير إلى ذلك ، وكذا أبو زهرة في كتابه «تاريخ المذاهب الإسلامية» وأحمد عطية في كتابه «القاموس الإسلامي».

النظرية السابعة :

ترجع أصل التشيّع إلى عهد الإمام الصادق عليه‌السلام حيث قام تلميذه هشام بن الحكم بوضع قواعد وأسس المذهب الشيعيّ ، ومن مؤيّدي هذه النظرية الدكتور محمد عمارة في كتابه «الإسلام وفلسفة الحكم» ص ١٥٨.

هذه أهمّ النظريات عن أصل التشيّع وكلها مردودة جملة وتفصيلا ، لأن التشيّع ـ وكما قلنا سابقا ـ أوّل حركته كانت منذ عهد النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الذي أصّل قواعده وثبّت دعائمه ، فمن خلال إلقاء نظرة تدبّرية على النصوص المحمديّة نجد بوضوح أنّ النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّل شيعيّ مناصر لعليّ عليه‌السلام ؛ ألم يصرّح النبي في غدير خم : «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» ، وما ورد عن أمّ سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : عليّ وشيعته هم الفائزون يوم القيامة(١).

والتشيّع برأي تلكم النظريات ، لا يحظى بجذور فكرية أصيلة ، فهو وإن كان

__________________

(١) ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ج ٢ / ٦١.

١٠١

في نشأته الأولى تيارا سياسيا محضا ـ وهو ما أكّد عليه عدد من المستشرقين منهم : برنار لويس وجولد تسيهر وغيرهما ـ إلّا أنه في تكوينه المذهبي اللاحق كان من وحي اليهودي المتأسلم عبد الله بن سبأ ، وهذا ما أكدته المصادر السّنية المتقدمة ، حيث صوّرت للآخرين إن هذا التشيع الذي بدأ سياسيا ـ نتيجة ظروف تاريخية ـ سرعان ما انتظم في تعاليم دخيلة انتحلها بشكل منتظم بعض الثوار على النظام الأموي أو هشام بن الحكم في بداية الحكم العباسي ، كما نصت عليه النظريتان الأخيرتان ، ومن خلال هذه المماحكة ، يحاول أعداء الشيعة لفت الأنظار إلى كون الأمة التي تفجّر منها ذلك الصراع السياسي الأول ، وبالتالي الموقف الشيعي من الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، يصعب الإمساك بها ، في حين لم تعد الجماعة التي ناصرت عليا عليه‌السلام تملك مشروعية ما ، غير أنّها ضالة ، وانتهى بها الإخفاق السياسي إلى مدّ الجسور مع القوى المتآمرة ضد السلطة السياسية القائمة ، وضد الإسلام بشكل عام.

نحن إذن ، أمام مشروعية زئبقية للموقف الشيعي ، مشروعية لم تبرح كونها في الزمن الأول ولاء سياسيا للإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام حيث تنطلي عليه اللعبة ، فلا يكون الإمامعليه‌السلام سيد الحملة التصحيحية التي يسميها بعضهم «الفتنة» بل كان الأمر هنا يتعلق بيهودي مجهول الأصل ، وظّف شخصية علي بن أبي طالب عليه‌السلام في مؤامرة يهودية.

زبدة المخض :

إنّ ما ذكره المفترون من كون مصدر التشيّع عبد الله بن سبأ يشكل عليه بالنقاط التالية :

أولا :

إنّ مبدأ التشيع كان سابقا على ظهور عبد الله بن سبأ ، ولكنّ أعداء الشيعة استغلوا دعوى اعتقاده بأحقية أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وبالبراءة من أعدائه ، حيث إن الرجل المذكور قد كاشف مخالفي الإمام عليه‌السلام وكفّرهم ، من هنا قال من

١٠٢

خالف الشيعة أن أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهود حسبما نقل الرجالي المرموق العلّامة الممقاني نقلا عن محمد بن قولويه القمي (١).

ثانيا :

ما جاء به الطبري وأتباعه ، من أن الرجل المذكور أغرى كبار الصحابة ما هو إلا أسطورة اختلقها أعداء الشيعة بغضا بهم ، إذ كيف يصدّق المرء أن يهوديا جاء من صنعاء استطاع أن يغري كبار الصحابة والتابعين ، ويحرّضهم على الخروج ضد أمرائهم في تلك الفترة القاسية ، وهل أغراهم بالمال والسلطة أم بشيء آخر؟ مع أنّ المذكورين من أهل التقوى والورع واليقين ، عرضت عليهم الدنيا بزخارفها منذ عهد النبي إلى خلافة عثمان فرفضوها ، هل يمكن إذن أن يغري هكذا رجل جماعة بهذا المستوى الإيماني؟ وهل كانوا سذّجا حتى يمكن أن يستميلهم عبد الله بن سبأ؟ ولو سلّمنا أنه حرّضهم على الخروج ضد أمرائهم ـ وفرض المحال غير محال ـ فما الضير في ذلك ما دام حكّام تلك الفترة لم يحكموا بمبادىء الإسلام ، لا سيما عثمان بن عفّان الذي تمادى كثيرا في ظلم شيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث نفى أبا ذر الغفاري إلى الربذة تلك المنطقة الصحراوية الجرداء حتى مات فيها وحيدا غريبا ، وضرب عمّار بن ياسر الصحابي الجليل حتى حصل له فتق في بطنه ، وضرب أيضا عبد الله بن مسعود سيد القراء ، إلى غير ذلك من أفعال نكراء صدرت منه ، حرّكت ضمائر أشراف المسلمين ، فنهضوا لقتاله ، والمرء يستغرب كيف يترك ابن سبأ المحرّض ضد السياسة العثمانية ، في حين كان الذين حرّضهم ابن سبأ قد وقعوا فريسة أنياب عثمان ، فشرّد من شرّد ، وقتل من قتل؟!

ولا يبعد القول : أن السبئية فكرة خيالية ، نسجتها أياد خبيثة طعنا بالشيعة واتهامهم بالرفض اليهودي ، ويؤكد هذا ما ذكره بعض كبار العامة كعبد ربه المالكي : قال : «بأنّ الرافضة ـ يعني الشيعة ـ يهود هذه الأمّة» (٢).

__________________

(١) لاحظ تنقيح المقال للممقاني ج ٢ / ١٨٤ ، ط / حجري.

(٢) الغدير في الكتاب والسنّة / الأميني ج ٣ / ٧٨ نقلا عن العقد الفريد.

١٠٣

وكعبد الله الجميّلي صاحب كتاب «بذل المجهود في إثبات مشابهة الرافضة لليهود» ط / مكتبة الغرباء الأثرية في المدينة المنورة.

قال الدكتور طه حسين :

«وأكبر الظن أن عبد الله بن سبأ ، وإن كان كل ما يروى عنه صحيحا إنما قال ودعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة ، وعظم الخلاف ، فهو قد استغل الفتنة ولم يثرها ، وإن خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين ، قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا ليشكّكوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته من ناحية ، وليشنّعوا على علي عليه‌السلام وشيعته من ناحية أخرى فيردوا بعض أمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيدا للمسلمين وما أكثر ما شنّع خصوم الشيعة على الشيعة» (١).

ثالثا :

على فرض أنّ الرجل حقيقة وليس أسطورة تاريخية لكن لا شكّ أنّ ما نقل عنه في ذلك المجال سراب وخداع ، لأننا نشك أن يكون لابن سبأ هذا الأثر الفكري العميق مؤثّرا على صحابة بلغوا القمّة في العلم والعمل ، عدا عن أنه أحدث انشقاقا عقائديا بين طائفة كبيرة من المسلمين.

رابعا :

إنّ الشيعة برمّتهم يتبرّءون من الرجل المذكور لغلوّه في أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام على فرض صحّة ما نسب إليه وأنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام استتابه ثلاثة أيام فلم يرجع فأحرقه بالنار.

وإذا راجعنا كتب الشيعة نرى أئمتهم وعلماءهم يتبرّءون منه. فقد روى الكشّي أحد كبار علماء الإمامية في علم الرجال وهو من علماء القرن الرابع ، قال : عبد الله بن سبأ كان يدّعي النبوّة ، وأنّ عليا هو الله ، فاستتابه ثلاثة أيام فلم يرجع ، فأحرقه بالنار في جملة سبعين رجلا (٢).

__________________

(١) الفتنة الكبرى / طه حسين ، فصل ابن سبأ.

(٢) رجال الكشّي ، ص ٩٨ ، رقم ٤٨.

١٠٤

وقال الشيخ الطوسي (٣٨٥ ـ ٤٦٠) في رجاله في باب أصحاب أمير المؤمنين : عبد الله بن سبأ الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلوّ (١).

وقال الحلّي (٦٤٨ ـ ٧٢٦) : غال ملعون ، حرّقه أمير المؤمنين بالنار ، كان يزعم أنّ عليا إله وأنه نبي ، لعنه الله (٢).

وقال ابن داود (٦٤٧ ـ ٧٠٧) : عبد الله بن سبأ رجع إلى الكفر وأظهر الغلوّ (٣).

وقال الشيخ حسن (ت ١٠١١) في التحرير الطاوسي : غال ملعون ، حرّقه أمير المؤمنينعليه‌السلام بالنار (٤).

خامسا :

على فرض أن كل ما ساقوه في القصة صحيح ، ولكن لا ملازمة بين التصديق بها ، وبين أن ذلك الحدث هو منشأ مذهب الشيعة ، فإن التشيّع حدث ـ كما قلنا ـ في عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واعتنقته أمة مسلمة ورعة من الصحابة والتابعين ، وأما ما قام به ابن سبأ على فرض صحة وقوعه ، فإنه يعبّر عن موقف فردي ، وتصرّف شخصي خارج عن اطار المذهب ومن تبعه.

فالواجب على أصحاب الضمائر الحرّة عند علماء العامّة أن لا يقعوا في محذور إساءة الظن بالشيعة الذين تمسّكوا بالكتاب وسنّة النّبيّ وعترته الطاهرة الذين أمر النبيّ المسلمين بالتمسّك بهما ، وأن من تخلّف عنهما غرق وهوى.

__________________

(١) رجال الطّوسي ، باب أصحاب علي (ع) ، رقم ٧٦ ، ص ٥١.

(٢) الخلاصة للعلامة الحلي : القسم الثاني ، الباب الثاني ص ٢٣٦.

(٣) رجال ابن داود : القسم الثاني ص ٢٥٤ رقم ٢٧٨.

(٤) التحرير الطاوسي ، ص ١٧٣ ، رقم ٢٣٤.

١٠٥

أليس الشيعة هم فرقة من فرق (١) المسلمين؟!

____________________________________

كم هي الفرق الإسلامية؟

روى المحدّثون في مجامعهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه حدّث عما سيصيب أمته من الانقسام والتفرق ، ولن ينجو من هذا سوى طائفة أو فرقة واحدة هي على طريق الحق وهناك طائفتان من النصوص بشأن هذا الافتراق :

الطائفة الأولى :

الحديث الأول : ما رواه الترمذي في السنن باب الإيمان ح ٢٥٦٤ قال : حدّثنا الحسين بن حريث أبو عمّار ، حدّثنا الفضل بن موسى عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

«تفرّقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنين وسبعين فرقة ، والنصارى مثل ذلك ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة».

وفي نفس الباب : عن سعد وعبد الله بن عمرو ، وعوف بن مالك قال أبو عيسى : حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.

الحديث الثاني : أيضا روى الترمذي بطريق آخر حديث رقم ٢٥٦٥ قال : حدّثنا محمود بن غيلان ، حدّثنا أبو داود الجفريّ عن سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن زياد الافريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«ليأتينّ على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية ، لكان في أمتي من يصنع ذلك ، وإن بني إسرائيل تفرّقت على ثنتين وسبعين ملة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة ، كلّهم في النار إلّا ملّة واحدة.

١٠٦

قالوا : ومن هي يا رسول الله؟

قال : ما أنا عليه وأصحابي.

الحديث الثالث : ما أخرجه أبو داود في السنن حديث رقم (٣٩٨٠) قال : حدّثنا وهب بن بقية عن خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال :

قال رسول الله : «افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة ، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة».

كما أخرج الحديث نفسه الترمذي في سننه باب الإيمان حديث رقم (٢٥٦٤) وأخرجه ابن ماجه في الفتن رقم (٣٩٨١) عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن بشر عن محمد بن عمرو عن أبي هريرة عن النبي قال : «تفرّقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة».

كما أخرجه أحمد في باقي مسند المكثرين حديث رقم (٨٠٤٦) ونسب الشهرستاني في الملل والنحل ص ١٣ إلى النبي قال :

«ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، الناجية منها واحدة ، والباقون هلكى ، قيل : ومن الناجية؟

قال : أهل السنة والجماعة ، قيل : ما السنّة والجماعة؟

قال : ما أنا عليه اليوم وأصحابي.

لكن هذا الحديث ، وذيل الحديث الثاني عليهما آثار الكذب على رسول الله ، لأن مصطلح السنّة والجماعة لم يكن شائعا في عهد النبي الأكرم ، وإنما اشتهر في عصر بني أمية ، هذا مضافا إلى أن هناك أحاديث تذم بأكثر أصحابه صلوات الله عليه وآله فكيف يثبت هذان الحديثان صحة ما عليه أصحابه؟!

١٠٧

الطائفة الثانية :

ذكر البشاري المقدسي في «أحسن التقاسيم» متن حديث الافتراق بشكل آخر هكذا :

«تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، اثنتان وسبعون في الجنة ، وواحدة في النار».

ثم قال : هذا أصح إسنادا من النص الآخر «اثنتان وسبعون في النار ، وواحدة ناجية» وإن كان الأخير الأشهر.

أقول :

ليت شعري كيف يتجرأ هذا المذكور على رسول الله بالكذب ، فيطرح خبرا مشهورا ، ويأخذ بخبر واحد لغاية في نفس المقدسي قضاها لأنه يعلم يقينا أن كل فرق المسلمين مع ما تحمله كل فرقة من معتقدات سخيفة لا تمت إلى العقل والدين بصلة ، كل هؤلاء يقفون موقف رجل واحد ضد الشيعة الإمامية الاثنى عشرية ، لذا أراد أن يدخل كل هذه الفرق الجنّة ويدخل الشيعة الإمامية النار.

وليس في هذه الطائفة الثانية سوى هذا الحديث ، فكيف يؤخذ بخبر واحد مخالف للأخبار المشهورة على حد اعترافه بذلك؟!!

هذا مضافا إلى ما روى في الطائفة الأولى من أن الفرقة الناجية هي أصحابه مبني على النظرية القائلة إن كل أصحاب النبيّ عدول ، وهذا غير صحيح ، لما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أكثر أصحابه إلى النار ، فقد رووا في الصحاح أن النبيّ قال :

الحديث الأول : «إن من أصحابي من لا يراني بعد أن يفارقني» (١).

الحديث الثاني : وما رواه الخاصة والعامة من أن النبيّ صلوات الله عليه وآله قال في حجة الوداع لأصحابه :

__________________

(١) مسند أحمد ج ٦ / ٣٠٧.

١٠٨

«ألا وإنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ألا ليبلّغ الشاهد منكم الغائب ، ألا لأعرفنّكم ترتدون بعدي كفّارا ، يضرب بعضكم رقاب بعض ، ألا إني قد شهدت وغبتم» (١).

الحديث الثالث : ما ورد عن النبيّ أيضا قال لأصحابه :

«إنّكم محشورون إلى الله تعالى يوم القيامة حفاة عراة ، وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا رب أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، وأنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» (٢).

الحديث الرابع : ما ورد عنه صلوات الله عليه وآله ، قال :

«أيّها الناس ، بينا أنا على الحوض ، إذ مرّ بكم زمرا ، فتفرق بكم الطرق ، فأناديكم : ألا هلموا إلى الطريق ، فيناديني مناد من ورائي : إنّهم بدّلوا بعدك ، فأقول : ألا سحقا ، ألا سحقا»(٣).

الحديث الخامس : ما ورد أيضا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

«ما بال أقوام يقولون : إنّ رحم رسول الله لا تنفع يوم القيامة ، بلى ـ والله ـ إنّ رحمي لموصولة في الدنيا والآخرة ، وإني ـ أيّها الناس ـ فرطكم على الحوض ، فإذا جئتم ، قال الرجل منكم : يا رسول الله ، أنا فلان بن فلان ، وقال الآخر : أنا فلان بن فلان ، فأقول : أما النسب فقد عرفته ، ولكنكم أحدثتم بعدي فارتددتم القهقرى» (٤).

__________________

(١) الجامع الصحيح للترمذي ج ٤ / ٤٦١ ، ح ٢١٥٩ و ٤٨٦ ح ٢١٩٣ وصحيح البخاري ج ٧ / ١٨٢ وج ٨ / ٢٨٥ وصحيح مسلم ج ٣ / ٢٩ ـ ٣١ ح ١٣٠٥ وسنن أبي داود ج ٤ / ٢٢١ ح ٤٦٨٦ ومسند أحمد ج ١ / ٢٣٠ وسنن النسائي ج ٧ / ١٢٧ والدارمي ج ٢ / ٦٩ والإفصاح للمفيد ص ٥٠.

(٢) صحيح البخاري ج ٦ / ١٠٨ صحيح مسلم ج ٤ / ٥٨ ح ٢١٩٤ والجامع الصحيح للترمذي ج ٤ / ٦١٥ ح ٢٤٢٣ وسنن النسائي ج ٤ / ١١٧.

(٣) مسند أحمد ج ٦ / ٢٩٧.

(٤) مسند أحمد ج ٣ / ١٨ و ٦٢.

١٠٩

الحديث السادس : خاطب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه ، وقال :

«لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبرا بشبر ، وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبّ لا تبعتموهم ، فقالوا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى؟

قال : فمن إذن» (١).

هذه نبذة من النصوص رواها الثقات من أصحاب الآثار ، دلت على ماهية أصحاب النبي وكشفت الزيف الذي كانوا عليه ، وهذه الطائفة تؤكد ما ذكره الله في كتابه مخاطبا أصحاب النبي :

(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (٢).

فأخبر تعالى عن ردتهم بعد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على القطع والثبات.

عود على بدء :

إذن فلا يعتمد على الطائفة الثانية لعدم وفرة النصوص فيها إلا ما رواه المقدسي ، هذا بالإضافة إلى تفرده بنقل هذه الرواية ، وتفرده ليس حجّة على الثبوت ، فلا يمكن حينئذ الاعتماد على رواية ، وطرح روايات دلت عليها الطائفة الأولى. هذا وقد شكّك بعض العامة بالطائفة الأولى ، منهم ابن حزم إمام المذهب الظاهري حيث حكم بعدم صحة حديث الافتراق وحديث لعن القدرية والمرجئة ، وقال :

«هذان حديثان لا يصحّان أصلا عن طريق الإسناد ، وما كان هكذا فليس بحجة عند من يقول بخبر الواحد فكيف بمن لا يقول به» (٣).

__________________

(١) مسند أحمد ج ٢ / ٥١١. سنن ابن ماجه ج ٢ / ١٣٢٢ ح ٣٩٩٤. صحيح البخاري ج ٤ / ٣٢٦ / ٢٤٩.

(٢) سورة آل عمران : ١٤٤.

(٣) الفصل ج ٣ / ٢٤٨.

١١٠

وعارضه جماعة من العامة أمثال الترمذي الذي نقل عن أبي عيسى الذي صرّح بصحة الحديث.

هذا بالإضافة إلى أن الواقع الخارجي للأمّة الإسلامية ينبئك عن صحة الحديث ، واعتبار مضمونه.

والحديث رواه الشيخ الصدوق من الإمامية بطريقين في كتابه الخصال ج ٢ ص ٥٨٤ أبواب السبعين وما فوق.

١١١

قال الرجل : كلا ، إنهم لا يعترفون بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان.

قال الملك : وهل هناك مسلم لا يعترف بخلافة هؤلاء الثلاثة؟

قال الرجل : نعم ، هؤلاء هم الشيعة.

قال الملك : وإذا كانوا لا يعترفون بإمامة هؤلاء الصحابة ، فلما ذا يسميهم الناس مسلمين؟

قال الرجل : ولذا قلت لك إنهم كفّار.

فتفكّر الملك مليا ثم قال :

لا بدّ من إحضار الوزير «نظام الملك» لنرى جليّة الحال.

أحضر الملك «نظام الملك» وسأله عن الشيعة ، هل هم مسلمون؟

قال نظام الملك : اختلف أهل السنة ، فطائفة منهم يقولون : إنّهم مسلمون ، لأنهم ـ أي الشيعة ـ يشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدا رسول الله ويصلون ويصومون ، وطائفة منهم يقولون : إنهم كفّار.

قال الملك : وكم عددهم؟

فقال نظام الملك : لا أحصي عددهم كاملا ، ولكنهم يشكّلون نصف المسلمين تقريبا.

قال الملك : فهل نصف المسلمين كفار؟

قال الوزير : إن بعض أهل العلم يعتبرونهم كفارا وإني لا أكفّرهم.

قال الملك : فهل لك أيها الوزير أن تحضر علماء الشيعة وعلماء السنة لنرى جليّة الحال؟

١١٢

قال الوزير : هذا أمر صعب ، وأخاف على الملك والمملكة.

قال الملك : لما ذا؟

قال الوزير : لأن قضية الشيعة والسّنّة ، ليست قضية بسيطة ، بل هي قضية حق وباطل قد أريقت فيها الدماء ، وأحرقت فيها المكتبات ، وأسرت فيها نساء ، وألفت فيها كتب وموسوعات ، وقامت لأجلها حروب!!

تعجب الملك الشاب من هذه القضية العجيبة ، وفكّر مليا ثم قال :

أيها الوزير ، إنك تعلم أن الله أنعم علينا بالملك العريض ، والجيش الكثيف ، فلا بد أن نشكر الله على هذه النعمة ، ويكون شكرنا أن نتحرى الحقيقة ، ونرشد الضّال إلى الصراط المستقيم ، ولا بد أن تكون إحدى هاتين الطائفتين على حق ، والأخرى على باطل ، فلا بد أن نعرف الحق فنتبعه ، ونعرف الباطل فنتركه ، فإذا هيأت ـ أيها الوزير ـ مثل هذا المجلس بحضور العلماء من الشيعة والسنّة ، بحضور القوّاد والكتّاب ، وسائر أركان الدولة ، فإذا رأينا أن الحق مع السنّة ، أدخلنا الشيعة في السنّة بالقوة.

قال الوزير : وإذا لم يقبل الشيعة أن يدخلوا مذهب السنّة ، فما ذا تفعل؟

قال الملك الشاب : نقتلهم!

فقال الوزير : وهل يمكن قتل نصف المسلمين؟

قال الملك : فما هو العلاج والحل؟

١١٣

قال الوزير : أن تترك هذا الأمر.

انتهى الحوار بين الملك ووزيره الحكيم العالم (١) ، ولكن الملك بات تلك الليلة متفكرا قلقا ، ولم ينم إلى الصباح ، فكيف يستعصي عليه هذا الأمر المهم.

وفي الصباح الباكر دعا نظام الملك وقال له :

حسنا ، نستدعي علماء الطرفين ، ونرى نحن من خلال المحادثات والمناقشات التي تدور بينهما أن الحق مع أيهما ؛ فإذا كان الحق مع مذهب السنة ، دعونا الشيعة بالحكمة والموعظة الحسنة ، ورغّبناهم بالمال والجاه ، كما كان يفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المؤلفة قلوبهم(٢) ..

____________________________________

(١) فبقرينة «الحكيم العالم» يعرف أن الملك الشاب كان متسرّعا بحكمه بقتل الشيعة في بغداد أو من كان تحت سيطرة الملك ؛ والتسرّع سكرة الشباب.

(٢) «المؤلفة قلوبهم» قوم يراد تأليف قلوبهم ، وجمعها على الإسلام لدفع شرها ، أو ليستعين بهم المسلمون في الدفاع عنهم وعن مبادي الدين الحنيف ، فيعطى هؤلاء من الزكاة المفروضة بنص الكتاب المجيد لقوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ) (سورة التوبة : ٦٠).

ويوجد خلاف بين الفقهاء ، على لفظ «المؤلفة» في باب الزكاة : هل هم قوم أظهروا الإسلام على شك منه أم خاص بمن لم يظهر الإسلام؟

المشهور قال بالتعميم ، بمعنى : أن لفظ المؤلفة قلوبهم يشمل الكفّار وضعاف العقول من المسلمين.

__________________

(١) سورة التوبة : ٦٠.

١١٤

قال العلّامة الطباطبائي قدس‌سره في كتابه العروة الوثقى فصل الزكاة :

«المؤلفة قلوبهم من الكفّار ، الذين يراد من إعطائهم ألفتهم وميلهم إلى الإسلام ، أو إلى معاونة المسلمين في الجهاد مع الكفّار أو الدفاع ، ومن المؤلفة قلوبهم الضعفاء من المسلمين لتقوية اعتقادهم أو لإمالتهم إلى المعاونة في الجهاد أو الدفاع».

وسهم المؤلفة قلوبهم باق إلى يومنا هذا عند الإمامية ، أما الأحناف فذهبوا : إلى أن هذا الحكم قد شرّع في بداية الإسلام لضعف المسلمين ، أما اليوم ، وقد أصبح الإسلام قويّا فذهب الحكم بذهاب سببه.

أجاب الشيعة :

إنّ الحكم باق ما دام على وجه الأرض غير مسلم ومناوئ للإسلام إذ محال أن يسقط المسبب ، مع بقاء سببه ، ويرتفع المعلول مع وجود علّته.

ووافقهم بعض الفرق الإسلامية ، وأنّ السهم المذكور باق حكمه يعطى للمسلم وغيره على شريطة أن يعود العطاء بالخير والمصلحة على الإسلام والمسلمين ، وقد أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صفوان بن أميّة وهو مشرك ، كما أعطى أبا سفيان وأمثاله بعد أن أظهروا الإسلام خشية من شرّهم وكيدهم للدين والمسلمين.

١١٥

وبذلک نتمکن من خدمة الإسلام والمسلمين.

فقال الوزير : رأيك حسنّ ، ولكني أتخوف من هذا الحوار (المؤتمر)!

قال الملك : ولماذا الخوف؟

فقال الوزير : لأني أخاف أن يتغلب الشيعة على السنّة ، وترجّح احتجاجاتهم علينا ، وبذلك يقع الناس في الشك والشبهة!

فقال الملك : وهل يمكن ذلك؟

قال الوزير نعم : لأن الشيعة لهم أدلة قاطعة ، وبراهين ساطعة من القرآن والأحاديث الشريفة على صحة مذهبهم وحقيقة عقيدتهم (١)!

____________________________________

(١) الأدلة على صحة عقيدة الشيعة :

إنهم ـ أي الشيعة الإمامية ـ يعتقدون طبقا للأدلة القرآنية والأحاديث النبويّة الصحيحة والصريحة على أنّ الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام هو الخليفة الحقّ بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل ، وأنّ من نازعه في ذلك فقد أخذ ما ليس له ونازع الله تعالى ورسوله.

والأدلة على صحة عقيدة الشيعة أصولا وفروعا كثيرة ، نذكر بعضا منها على صحّة عقيدتنا بالإمامة المتمثلة أوّلا بأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وانتهاء بالإمام الغائب المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) ؛ ولن نستغرق هنا بالبحث في إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام لأنّ ذلك يطيل بالبحث وهذا ما نتجنّبه دوما للاختصار (إلّا أننا سنذكر بعضا منها في الصفحات الآتية) ، ونكتفي بإقامة الأدلة على إمامة الأئمة بشكل عام ، وهو عبر طريقين :

١١٦

* الطريق الأول : ويتمثّل بالأدلة العقلية.

* الطريق الثاني : ويتمثّل بالأدلة النقليّة.

أما الأدلة العقلية فمفادها :

أولا :

إنّ الإمامة واجبة عقلا بمقتضى قاعدة اللطف التي هي عبارة عمّا يقرّب العبد إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية من باب الرحمة والكمال المطلق لله تعالى ، وهي تماما كالنبوّة : لطف منه تعالى بعباده حيث يرسل إليهم الرسل ليرشدوهم إلى منافعهم ومصالحهم ويبعّدوهم عن المضارّ في الدنيا والآخرة ، لأنّ العقل محدود في تفكيره فلا يكفي إرشادهم إلى ما ينفعهم وما يضرّهم ؛ كما أنّ التجريبيّات الحاصلة للبشر طوال التاريخ لم تكن وافية بذلك. هذا مضافا إلى أن حاجات الإنسان لا تنحصر بالعالم المادي المشهود ، وأنّ ما وراءه لا يكشف عادة بالعقل ولا يكون في حيطة الحسّ والتجربة ، والوجدان غير كاف للكشف عمّا وراء الطبيعة بشكل تفصيليّ ، لأنّ الكشف عن الأمور التفصيلية عما وراء الطبيعة بحاجة إلى عوامل مساعدة تحيط بذاك العالم ، وهذا لا يكون إلا بواسطة الأنبياء والأولياء والرسل ، ولو أهمل سبحانه الإنسان مع ما له من العقل والوجدان ولم يرسل لهم الأنبياء والأولياء لكان لهم العذر والحجّة على الله تعالى لعدم تمكّنهم من نيل السعادة بدون وساطة الأنبياء ، ولكنّ إرسال الرسل يقطع عذرهم وتكون الحجّة عليهم آكد ، وذلك لقوله تعالى :

(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (١).

إذن فائدة بعثة الأنبياء والأولياء إرشاد العباد إلى الخير والصّلاح وإبعادهم عن الشرّ والفساد. وهناك فوائد أخر لبعثتهم وهي تزكية النفوس البشرية المركّبة من

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ١٦٥.

١١٧

عقل وشهوة ، وبما أنّ طبيعة المخلوق الأرضيّ ونزوعه نحو المادّة سوف تطغى عليه عوامل الشرّ والفساد فيزيغ عن الصراط السويّ وفي ذلك فساد كبير ونقض للغاية التي خلق لأجلها الإنسان وهي المعرفة والعبادة (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، وحتى تنتظم عوامل الخير عند الإنسان أرسل سبحانه المبشّرين والمنذرين لتنال البشرية حظها الأوفر من المعرفة الإلهية.

ومن فوائد بعثة الأنبياء (عليهم‌السلام):

ضبط الروابط الاجتماعية من الانحراف نحو الظلم والفحشاء والمنكرات بردع الظّالم عن ظلمه ، وحفظ الشريعة من الانحراف والزيادة والنقصان ؛ وإزالة الشبهات التي تعترض معتنقيها.

هذه أهم الفوائد لبعثة الأنبياء وهي بنفسها وظائف للإمام أو الإمامة ، لأنّ الإمامة خلافة عن النبوّة ، قائمة مقامها إلّا في تلقي الوحي ، فكما أن البعثة واجبة على الله تعالى بحكم العقل كذلك الإمامة واجبة عليه تعالى بحكم العقل وطبقا لقاعدة اللطف.

وعلى هذا فالإمامة استمرار للنبوّة على طول خط الزمن ، فكما أنّ زمنا ما لم يخل من نبيّ منذ آدم عليه‌السلام إلى نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كذلك لن يخلو زمن بعد خاتم الأنبياء من وجود إمام يزيل الشبهات ويفسّر الكتاب ويبيّن ويوضّح المتشابهات ، خصوصا وأنّ شريعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناسخة لكل الشرائع فلا بدّ لها أن تعطي لكلّ حادثة متجددة حلا لها ، وهذا لا يمكن حصره في فترة زمنية قصيرة فيتعيّن إيجاد أشخاص وأفراد كاملين بمنزلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّنون ما خفي على الناس من معرفة دينهم ويشرحون لهم ما عجزوا عن حلّه ، وهذا ما يتكفّله المعصوم الذي ينوب عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا لم يبعث الله تعالى للناس من يبيّن لهم ما خفي عليهم مع حاجتهم إلى ذلك ، دلّ على خلوّ الزمان من إمام ، وهو فاسد.

قال العلّامة النّراقي قدس‌سره :

١١٨

«إن رتبة الإمامة قريب من رتبة النبوّة إلّا أنّ النبي مؤسس للتكاليف والأحكام الشرعية بمعنى أنه جاء بالشريعة والأحكام والأوامر والنواهي من جانبه ابتداءً والإمام يحفظها ويبقيها بعنوان النيابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

«فالإمام هو الرابط بين الناس وبين ربّهم في إعطاء الفيوضات الباطنية وأخذها كما أنّ النبي رابط بين الناس وبين ربّهم في أخذ الفيوضات الظاهرية وهي الشرائع الإلهية تنزل بالوحي وتنتشر منه وبتوسّطه إلى الناس وفيهم ، والإمام دليل هاد للنفوس إلى مقاماتها كما أن النبيّ دليل يهدي إلى الاعتقادات الحقّة والأعمال الصالحة» (٢).

ولا يخفى أنّ ما ذكره العلّامة الطباطبائي قدّس سره في تعريف وظائف الإمام وأنها باطنية لا يناقض وظائفه الظاهرية التي كانت من مختصّات النبي إذ لا فرق بين النبي والإمام إلا في تلقّي الوحي.

ثانيا :

يجب أن يكون الإمام «الذي ثبتت حاجة الناس إليه» معصوما عن الخطأ وبما أنّ غير الأئمة عليهم‌السلام ليسوا معصومين إجماعا فتعيّنت العصمة لهم وإلّا لزم خلوّ الزمان من المعصوم وهو مستحيل لما تقدّم من فائدة بعثة الأنبياء والأولياء وأنها لطف ، وكون وجود الإمام لطفا من وجوه :

أحدها : إنّ الإمام يحفظ الشرائع ويحرسها من الزيادة والنقصان.

ثانيها : إنّ اعتقاد المكلّفين بوجود الإمام وتجويز إنفاذ حكمه عليهم في كل وقت سبب لردعهم عن الفساد ولقربهم من الصلاح وهذا معلوم بالضرورة.

ثالثها : إنّ تصرّفه لا شك أنه لطف وذلك لا يتم إلا بوجوده فيكون وجوده بنفسه لطفا ، وتصرّفه يعدّ لطفا آخرا.

__________________

(١) أنيس الموحّدين ، ص ١٢٧.

(٢) تفسير الميزان ج ١٤ / ٣٠٤ ، ط / مؤسسة الأعلمي.

١١٩

ثالثا :

إنّ الكمالات النفسانية والبدنية بأجمعها موجودة في كل واحد من أئمتنا عليهم‌السلام ، ومن كان كاملا في نفسه كذا هو مكمّل لغيره وذلك يدلّ على استحقاقه الرئاسة العامّة لأنه أفضل أهل زمانه ، وحيث يقبح تقديم المفضول على الفاضل ، يقبح تقديم غيرهم عليهم ، فيثبت كون كل واحد منهم إماما وهو المطلوب.

وأما الأدلة النقليّة :

فمن الكتاب ، قوله تعالى :

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (١).

بتقريب :

إنّ الله سبحانه هو الجاعل للناس خليفة ولا يحقّ لغيره أن ينتخب خليفته سبحانه ، وحيث إنّ حيثية الخلافة لم تكن مقيّدة بجهة معيّنة. يفهم من ذلك أن الخلافة ظاهرة في كون هذا الخليفة نائبا عن المستخلف له في جميع شئون ما استخلف عليه ، فلا تختصّ خلافته ببعض دون بعض وفي مورد دون آخر بل هي عامة لمختلف الشئون الخاصّة والعامّة ، وهذا يدلّ على أنّ الخليفة يفرض له أن يتحلّى بكل الأسماء الإلهية والصّفات الربانية لأنه نائب عنه سبحانه فيها ، وحيث إنّ تعبيره سبحانه ب «إني جاعل» ولم يقل «سوف أجعل» أو «جعلت» يدلّ على استمرار هذا الجعل في أمد الزمان من أوّل خلقه آدم إلى يوم القيامة ، فأوّل فرد من أفراد الإنسان يكون كذلك ، وإلّا لم يكن جاعلا في الأرض خليفة ، ويدوم ذلك كذلك إلى آخر الزمن ، فوجود الإنسان الكامل الخليفة لا يختصّ بزمان دون زمان.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٣٠.

١٢٠