أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

مقاتل بن عطيّة

أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد - ج ١

المؤلف:

مقاتل بن عطيّة


المحقق: الشيخ محمّد جميل حمّود
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٤٦
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ* نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)

(فصّلت : ٣٠ ـ ٣٢)

٥
٦

الإهداء

إلى سرّ الله في بقاع الأرض .. ونبراس أهل السماء ..

إلى أصفى الأصفياء وحبيب قلب خاتم الأنبياء ..

إلى من كان متوحّدا مع الطّهر محمّد في أصلاب الطاهرين .. ومن كان لرسول الله خير معين ..

إلى المتفرّد بجلال المنصب الإلهي والسرّ الأحمديّ ..

إلي من هو هو في أمّ الكتاب وياسين والذاريات ..

إلى من أقرّ له الكلّ بالصفاء والارتقاء ..

إلى من دان العلى لعلوّه .. وكان الخلق دون كماله وجلاله ..

إلى المستوحش بين قرنائه والمحزون بصلافة أهل هذا الزمان ..

إلى من ظاهره إمامة وباطنه غيب لا يدرك ..

سيّدي ومولاي .. مددي الخالد وإمامي القائد عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

مولاي ..

بضع وريقات .. ورسم قليل لكلمات اختزنها القلب وفاح بها الوجدان .. أهديها إليك يا نفس الرسول ويا قرّة عين البتول! .. وإلى من هو غريب العصر .. إمام الدّهر .. والحجّة على أهل الأرض أجمعين .. مبيد الطغاة .. وكاشف الغطاء باليد البيضاء .. حجّة الله المنتظر المهديّ عليه‌السلام وعجّل الله فرجه الشريف.

يا من عليه جمرة النور يتوقّد من شعاع ضياء القدس ..

يا خاتم الولاية الكبرى والمحجّة العظمى ..

أيّها الحبيب .. الملتفح بجلال الله والمستربل بعشق الحوراء ..

أرفع إلى مقامك السامي أجمل تحيّة وسلام ..

وإليك وإلى آبائك الميامين أقدّم هذه الباكورة ..

سادتي ..

إليكم أتضرّع وبكم أتشفّع فأسألكم المدد .. في الحاضر والأبد ..

عبدكم الراجي

محمّد

٧
٨

تمهيد

يقول المفتقر إلى لثم أقدام المعصومين العبد محمّد بن جميل بن عبد الحسين بن يوسف حمّود: إنّي لما رأيت ما آل إليه حال جمّ غفير من المسلمين وخاصّة ما انجرف وراءه أكثر من يدّعون التشيع لآل بيت الرسول ، فكان قولهم مخالفا لرأي أئمتهم ، ودينهم تهزّه الأهواء السياسية البحتة والتي مبدؤها العاطفة لا العقل والبرهان .. ولمّا لحظت ضعف الدّين واعتلاء الأكثر أكتف الحقّ بأرجل الباطل .. ولمّا كان ما كان على ساحات الإسلام وعلى وجه الخصوص ساحتنا اللبنانية من هرج ومرج صنّاعه بعض الحمقى من عبدة الاستعمار وعصرنة الشريعة السمحاء .. فردّا على أولئك السّادة الكبراء .. المطلقين لشعارات التشهير وحملات الرمي بالزندقة لمن لم يوالهم وكان لهم مترئسا في خندق الدفاع عن مذهب آل بيت العصمة .. فلمّا كان ذلك ، كان الردّ واجبا والبرهان أوجب ، فشمّرت عن ساعد الحقّ وأمسكت بقلم التشيّع البهيّ عليّ أسطّر بضع مواقف في وجه هؤلاء تكون لي نبراسا به استضيء يوم تسودّ وجوه وبه أنجو يوم تزلّ أقدام ..

ثم أنّ مهمة الشروع بهذا البحث الكريم لم تكن بذاك الأمر السّهل .. كيف لا؟ وعلى ساحتنا من العقول المتصلبة ما يحيّر الألباب! .. عجبا! بالأمس القريب كان الأمر ليس بتلك الصعوبة التي آل إليها حالنا .. كان علماؤنا لم يبدوا أمرا أو صنّفوا كتابا إلّا وتهافت الناس إلى قبوله .. ليس قبولا أعمى ، بل بعقل نيّر عماده الحديث وسنّة الرسول والآل عليهم‌السلام .. أمّا الآن فعجب عجاب! .. إنك لترتبك في معرفة ما يحبّذه هؤلاء .. أيّ طريقة؟ .. وأيّ

٩

كلام؟ .. لا بل انك تعتصر ألما لقلّة ذوي الدين ممّن يهمهم أمر الحقّ ليحثّهم على التمعن والتدقيق ..

فلذاك .. ولعدة أسباب أخر سنتلوها عليك كان فرضا على العالم أن «يكلّم الناس على قدر عقولهم» فيأتي بكلام سهل وأسلوب مبسّط يشرح به عقيدة الحقّ .. عقيدة الإسلام الميتّمة على ساحة تتكالبها عامّة عمياء .. فذي حرب ضروس بين إسلام آل البيت ومزاعم أهل العامّة ومن والاهم من مدّعي التشيّع ..

وهكذا وقع الاختيار مجدّدا وبكل فخر على كتاب حقّ يزهو بين الأقران .. ألا وهو كتاب «مؤتمر علماء بغداد» فكان شرحه ب «أبهى المداد» .. ولعمري فقد سطّرته بطريقة يرضاها الله والرسول والآل .. فجاء كتابا جليلا فيه من أمر آل البيت ما تنفطر له القلوب الحري وترثي أحزانه العيون الدمعى ..

أما الداعي إلى إعادة النظر في هذا الكتاب ، والذي كنا قد أسلفنا فيما سبق الشيء القليل في شرح بعض مضامينه ، فأمور :

الأول : كونه وافيا بالمطالب التاريخية والفقهية والفلسفية ولا سيما أمر الخلافة التي طالما دار الجدال حولها بين المذاهب .. لا وبل داخل المذهب الواحد .. حتى انبرت إلى الساحة وجوه تقطر سمّا وتخفي الرّجس والبغضاء .. فمالأت أعداء آل الرسول لمكاسب دنيويّة ردّها الله نكالا على أصحابها ..

ليس هذا فحسب .. بل لقد وصل الحدّ بذلك البعض ممّن يحرم على قلمي رسم اسمه إلّا لوجوب التشهير به لإظهاره النصب لآل الرسول من خلال حسن الظنّ بأعدائهم والتشكيك بكراماتهم وفضائلهم .. لقد وصل به الحدّ إلى الاتهام بالعمالة كلّ من لم يكن له عبدا ولدرهمه سادنا .. وليت ذاك البعض كان المتجاسر الوحيد .. فلقد جنّد أناسا أغناهم الله بعقل استعبده مخلوق غير

١٠

سويّ ، فكانوا له جندا مجنّدة يجوسون خلال الديار لا يهمهم أمر سوى مولاهم ، أكان ذلك الأمر مراعاة عصمة آل الرسول أو مظلومية ابنته البتول أو .. أو .. وايم الحق ، فهؤلاء على استعداد للبطش والسّفك بأيد أثيمة بترها الله بسيف الحجّة عليه‌السلام عند الظهور ..

فخلافا لأولئك المتزلفين القائلين بزيف التاريخ وانعدام النفع في البحث في مظلومية أهل البيت وأحقيّتهم بالخلافة .. كان لزاما عليّ أن أظهر للقارىء الفطن ما كان عنه خافيا ، وللمنحرف ما كان عنه ينحرف حتى لا يصطدم بجدار الحقّ فيكمل سيره في أزقّة الجهل والعبودية ..

ثم إنّ هذا الكتاب قد حوى بين الدّفتين شئونا فقهية وفلسفية تداولتها في الفترة الأخيرة أعمّة تسربلها من لا دين له ولا اجتهاد .. فجاء اليراع ودسّ بين ما اخططّته من سطور التاريخ شمّة من تلك الشئون مدعّمة بآيات كريمة وأحاديث شريفة .. فكان الكتاب كشكول دين أدّخره ليوم ألقى فيه ربّ ديننا وأبتغي به المثوبة والنجاة ..

وأما الدافع الثاني فكون طريقة المتن بتلك السلاسة التي تنساب إلى النفوس وتترك في ذهن القارئ أثرا خيّرا وبذرة طيّبة .. ولقد كثر الطلب على هذا الكتاب في طبعتيه الأولتين المختصرتين شرحا وتعليقا .. فكان هذا بنفسه أمرا يحثّ على التوسّع في شرح المتن بنفس الأسلوب خدمة لمن تعطّش للحق وابتغاه ..

والأمر الثالث المتفرّع عمّا سبق كون كثير من مطالب الكتاب بحاجة لتوسيع وزيادة .. وإذا كان الهدف في الماضي هو إبراز الكتاب إلى عالم الوجود من بين كتب تكاد تندثر وينمحي اسمها ، صار هدفي في هذا الحاضر المتصرّمة أيامه تنقيح القديم وتوسيعه لكثرة ما لمسته من حاجة جمّ غفير إلى

١١

ذلك رغم تكاثر المشاغل وجمعي بين التصنيف والتدريس والنظر في شئون السائل والمستفهم ، وتشوّش بالبال بأمور أخر ربّي أعلم بأمرها ..

ومن جملة تلك الأمور أمر تقشعرّ له الأبدان كان سببا رابعا دافعا إلى هذا الأمر وهو اندثار مادة التاريخ من حوزاتنا العلميّة دون ما اكتراث لأهمية حوادث الماضي وأثرها فيما نحن فيه من تخبّط على الساحة اللبنانية الفاسدة .. ولنا أن نسأل أولئك ممّن دعوا إلى نبذ التاريخ الماضي تحت عنوان الاجتهاد (الذي لفقوه لأنفسهم زورا ، وأغلبه يرتكز على الظنون الشخصية والاستحسانات والأقيسة العامية) وبحجة التقريب بين المذاهب والأديان ؛ أوليس للتاريخ صلة وطيدة بالفقه الاستنباطي؟! .. ومتى كان الدّين منقسما على نفسه تنهشه ببراثنها وحوش كاسرة اقتطع كلّ منها قطعة يغتذي بلحمها وشحمها! .. فبعض شغل ذاته الرجسة بالإفتاء الأعوج .. وآخر بالتاريخ المزيّف .. وآخر بالاثنين معا وبأبشع طريقة!! .. فلهؤلاء أن يعلموا أنّ الدين واحد ولا فصل بين مراتبه .. وأنّ الحق لا يتجزأ .. وأنّ الزيف زائل والبرهان سيسطع من سماء الأطهار عليهم‌السلام ليكون نورا به يهتدي من اهتدى وعنه يزيغ من فجر.

ويدخل في السبب السابق أمر خامس جهله أولئك السّوقة وهو كون التاريخ من دون إتقان علم الكلام والتمكّن منه وبالا على صاحبه يجرّ على الأمّة الويلات وعلى صاحبه غضب ربّ العباد ..

فلكون التاريخ لا يقوم له قوام دون التطعّم بمادة علم الكلام .. ولكون هذا الأمر لا يقوم إلّا على يد من له في الأمر دراية ولا يدرس إلّا على من ألقى الله الخشية في روعه .. كان لزاما عليّ ـ وأنا العبد القاصر ـ أن أظهر ما أمرت بحرمة كتمانه ففي الحديث : «إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه وإلا فعليه لعنة الله» .. والله أعلم بالنيّات ..

١٢

ولمّا أدرجت ما أدرجت في هذا الكتاب الجليل من مختلف المشارب خرجت به موسوعة فيها ما يغني اللبيب ويسدّ جزءا من ثغرة في مكتبتنا الإسلامية المفتقرة إلى الكتابة الموسوعية .. ولا نعني بالموسوعية أسلوب الحشو الذي درج عليه البعض ، بل نعني بها تلك الكتابة العلمية الوافية الشافية التي قوامها التحقيق والتدقيق والبعد عن الأهواء والنزعات السياسية والتعصّبات المذهبية .. بل إنّ غاية ما أردته من هذه التحقيقات هو إجلاء الحقيقة عن غواشي القلوب وظلمات النفوس التي تكدّرت بغبار المعاصي والنزوات فكانت للدرهم عبدا ولسادة ذلك الدرهم كلابا عاوية تستجدي بعض الفتات! .. فلله درّك يا أمير المؤمنين وسيد الخلائق أجمعين حين قلت في صنم هؤلاء : «أحلب حلبا لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا» .. وعليك سلام الحنّان حين قلت يا سيد الشهداء وخضيب الدماء : «الناس عبيد الدنيا والدّين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت به معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قلّ الدّيانون» .. فيا سيدي يا حسين .. ويا سندي يا علي .. ها هو زماننا يفسّر ما قلتما .. وأنتما .. حين انمحى ذكركما عن شفاه أولئك المتصلّبين .. ترثيان الدين بدموع عبرى وآهات تؤز أزّا .. مولاي ، يا أمير المؤمنين .. مولاتي يا زهراء .. أسألكما المدد والمداد ..

مولاي ..

بالأمس .. ما كدت أرقد من وطأة رواكد الزمن إذ انبرى البعض الآخر يشكّك بهذا الكتاب .. لم؟ .. بأي دافع؟ .. وبأيّ برهان؟ .. لا أدري! .. وحجّة ذلك البعض أمور قد أبرمتها يا مولاي برما وفللتها من عقدها التي قد يتوهم السّاذج أنها حجج وبراهين وهي بحقّ لا تستحق الذكر لاعتمادها على الاحتمالات والاستحسانات ..

١٣

فيا مولاي ..

لا يفلّ الحديد إلا الحديد .. فأمركم صعب وأصعب منه الذبّ عنه والثبات عليه .. فكن لي يا مولاي خير معين ومعين لذة للشاربين ..

.. اللهم إنّي أطعتك في أحبّ الأشياء إليك وهو التوحيد ، ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك وهو الكفر ، فاغفر لي ما بينهما ، يا من إليه مفرّي آمنّي ممّا فزعت منه إليك. اللهم اغفر لي الكثير من معاصيك ، واقبل مني اليسير من طاعتك. يا عدّتي دون العدد ويا رجائي والمعتمد ، ويا كهفي والسّند ، ويا واحد يا أحد ، يا قل هو الله أحد ، الله الصّمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، أسألك بحقّ من اصطفيتهم من خلقك ولم تجعل في خلقك مثلهم أحدا ، أن تصلّي على محمّد وآله وتفعل بي ما أنت أهله. اللهم إني أسألك بالوحدانيّة الكبرى ، والمحمّدية البيضاء ، والعلوية العليا ، وبجميع ما احتججت به على عبادك ، وبالاسم الذي حجبته عن خلقك فلم يخرج منك إلّا إليك ، صلّ على محمد وآله واجعل لي من أمري فرجا ومخرجا وارزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب إنك ترزق من تشاء بغير حساب.

اللهم ربّ السماوات الأرفعة ، وربّ الأرضين الممرعة ، وربّ محمّد والثلاثة المحاميد معه ، ورب العليّين الأربعة ، وربّ الحسن والحسين البرعة ، ورب موسى وجعفر تبعه ، وربّ فاطمة البضعة ، درسة الأناجيل ، ومحاة الأباطيل ، وعدد النقباء من بني إسرائيل صلّى الله عليهم أجمعين ، واجعلنا ممّن ختمت له بالحسنى ، ودفعت عنه مكاره الأولى والعقبى ، إنك بالإجابة جدير ، وعلى كل شيء قدير. اللهم نجّنا من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا ، واغفر لنا ذنوبنا ، وتوفّنا مع الأبرار ، والحمد لله وحده والصلاة على من لا نبيّ بعده ، محمّد رسول الله وآله الطاهرين ..

١٤

تقديم

بقلم : المرجع الكبير الحجّة

العلّامة السيد شهاب الدين المرعشي النجفي الحسيني (قدس‌سره)

بسمه تعالى شأنه العزيز

الحمد لله على أفضاله ونواله ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، ومقدام السّفراء الإلهيين سيّدنا أبي القاسم محمّد وعلى آله مصابيح الحوالك والظلم والسرج المضيئة في الدّياجي البهم.

وبعد ..

لا يخفى على من ألقى السّمع وهو شهيد أنّ مسألة الخلافة بعد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهمّ ما دارت حوله رحى البحث والنظر بين علماء الإسلام وفطاحل أهل القبلة وقام التشاجر والتنازع بينهم على رجل واحد.

فمن ثمّ جالت جياد أقلام مؤلّفي الفريقين في هذا المضمار ، وهي بين مجلّ ومصلّ وما يتلوهما فمنهم من أخذ السّبق في السباق في ذلك المصافّ الذي التفّت السّاق فيه بالسّاق إلى أن يتحقّق الفوز والفلاح والنجاح ، فترشّحت من يراعاتهم الجوّالة مئات وألوف من الزّبر والأسفار كالحسنيّة وغيرها. وأنّ أحسنها وأجودها في سلاسة العبارة وجزالة القوالب ورصانة المطالب ، ومتانة المآرب واتقان الأدلّة والمستندات كتاب : «مؤتمر علماء بغداد» فإنه مع صغر حجمه وخفّة جرثومته وقلّة وزنه حاو لأمور هامّة مهمّة من مناظرة جرت بين عالم شريف علويّ شيعي ، وعالم قرشيّ عباسي سنّي في بغداد بمحضر «السلطان ملكشاه السلجوقي» ، مع نظارة وزيره الفاضل المؤرّخ المتتبع المضطلع «الخواجه نظام الملك أبي علي الحسن الخراساني المتوفى سنة ٤٨٥»

١٥

مؤسس المدرسة النظاميّة بتلك البلدة ، وفي آخر الأمر كانت الغلبة للعلويّ.

ولعمري لو دقّق النظر المتوهّبون وأبناء السنّة والجماعة وأرباب الفضل منهم في هذا البحث بعين الإنصاف ، لوجدوه شفاء للعليل ورواء للغليل ؛ ثم ليعلم أنّ مقاتل اسم جماعة من العلماء ؛ منهم :

مقاتل بن حسّان النّبطي البلخي. ومنهم : مقاتل بن بشير العجليّ الكوفي الرّاوي عن شريح بن هاني. ومنهم مقاتل بن سليمان الأزدي الخراساني المفسّر الشهير المتوفى سنة ١٥٠ بالبصرة ، المذكور آرائه وأقواله في كتب التفسير وهو أشهر من سمّي بهذا الاسم بحيث لو أطلق انصرف إليه.

ومؤلّف هذا الكتاب غير هؤلاء ، فإنّه المؤرّخ الجليل الثّقة النقّاد البحّاث : «أبو الهيجاء شبل الدولة مقاتل بن عطية بن مقاتل البكريّ نسبا والحنفيّ مذهبا من علماء المائة الخامسة ، ختن الخواجه نظام الملك المذكور ، يرثيه لمّا قتل بقوله :

كان الوزير نظام الملك لؤلؤة

نفيسة صاغها الرحمن من شرف

عزّت فلم تعرف الأيام قيمتها

فردّها غيرة منه إلى الصّدف

كما ذكر المؤرّخ الجليل ابن خلكان في الوفيات.

وكان نزيل بغداد عاصمة السّلطة العباسية وكان حاضرا في المجلس حيث دارت المشاجرة ، والملك يحكم بين الباحثين والوزير يصدّق حيث استفهمه الملك.

ونسخة الكتاب كانت مفقودة الأثر إلى أن وفّق الله بعض الأفاضل بنشره على أحسن نمط وخير أسلوب. ثم لمّا نفدت النسخ قام العلويّ الجليل ناصر أجداده الميامين ومروّج مذهبهم المتين ، النشيط في بثّ فضائلهم ومناقبهم :

حجّة الإسلام الحاج السيّد هدايت الله المسترحمي دام مجده وفاق سعده

١٦

بتكثير الكتاب بالأفست على نفقة بعض المؤمنين من الأخيار ، عباد الله الصالحين جزاهم المولى سبحانه خير الجزاء ، وهنّأهم بالكأس الأوفى يوم لا يروى إلا من أتى الله بقلب سليم.

وفي الختام ، أرجو من إخواني شيعة آل الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سيّما المحصّلين والمشتغلين منهم بمطالعته والاستنارة من أنواره ، حرسهم الرب الكريم من كلّ آفة وعاهة ، وأدام توفيقهم في تحصيل العلوم الدينية والأحكام الشرعيّة.

آمين آمين لا أرضى بواحدة

حتى يضاف إليها ألف آمينا

ويرحم الله عبدا قال آمينا.

حرّره بقلمه وبنانه ، وفاه به بفيه ولسانه العبد الكئيب المستكين ، خادم علوم أهل البيتعليهم‌السلام : أبو المعالي شهاب الدين الحسيني المرعشي النّجفي حشره الله في الآخرة مع أسلافه الطاهرين من آل طه وياسين ورزقه في الدنيا زيارة مراقدهم الشريفة في سحر ليلة السبت لسبع مضين من شهر صفر الخير سنة ١٣٩٩ ه‍ بمشهد الستّ الكريمة فاطمة المعصومة روحي فداها في بلدة قم عشّ آل محمد عليهم‌السلام.

١٧

مقدّمة المحقّق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الواحد الأحد ، الذي تفرّد بالكبرياء والعظمة ؛ المستكنّ في حجاب العماء ، والمستتر في غيب الصّفات والأسماء ، فلا يظهر منها إلّا على قدر القابليّات ، فحجبها عن قلوب الأغيار ، وأشرق نورها على قلوب الأولياء الأبرار ، وصلاته الكاملة على نبيّه الأكمل أصل الأنوار وحقيقة الغفّار ، المستغرق في غيب الهويّة الإلهية ، السّالك إليه تعالى بقدم العبوديّة ، المنمحى عنه التعيّنات الماديّة ، محمّد الأمين لبّ الحقيقة ، وسرّ الطريقة ، المستتر في حجاب عزّ الجلال ، والمخمّر بيدي العظمة والكمال والجمال ، وعلى آله شموس الظلام ، وأفلاك الأنام ، والبدور المنيرة ، سلاطين الولاية الرّبانية ، والهيبة الأحديّة ، عيون الله في خلقه ، سيّما خليفته القائم مقامه في عالمي الملك والملكوت ، المتّحد بحقيقته في حضرت الجبروت واللاهوت ، أصل شجرة طوبى وحقيقة سدرة المنتهى ، الرفيق الأعلى في مقام أو أدنى ، معلّم الروحانيين لا سيّما الكروبيين ، ومؤيّد الأنبياء والمرسلين ، عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين ، وقائد الغرّ المحجّلين صلوات الله وملائكته ورسله عليه وعليهم أجمعين.

وبعد ...

لقد أحببت ـ بعد أن طلب مني وبإلحاح شديد ـ أن أعلّق بإيجاز على كتاب «مؤتمر علماء بغداد» الذي طالما تناولته الأيدي ، وتقبّلته النفوس ، فهو على الرغم من ضآلة حجمه يعدّ من أعظم الكتب التي تعطينا صورة واضحة المعالم عن الصّراع العنيف الذي كان بين الشيعة والسنة ؛ هذا الصراع الذي

١٨

قسّم الأمة الإسلامية إلى فرق وجماعات ؛ حيث كانت بدايته بعد رحيل النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة عند ما اجتمع الأنصار والمهاجرون في سقيفة بني ساعدة الأنصاري ، فاختلفوا في تعيين الخليفة ، فقال قوم : منّا أمير ومنكم أمير. وكأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنظر المجتمعين لم يوص بأنّ الخليفة من بعده الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ، فكلّ تلكم الآيات الرّبّانية ، والنصوص المحمّدية التي طرقت مسامعهم ، صارت في طيّ النّسيان ، وفي خبر كان ؛ كأنهم خشب مسنّدة يحسبون كلّ صيحة عليهم ، فلا يفقهون ولا يطيعون ، ولا لأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتّبعون.

وانجرّت الويلات على بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واضطهد آله فردا فردا ابتداءً بعلي أمير المؤمنين والزهراء الصدّيقة عليهما‌السلام ثم تدرّجا بالشهيدين الحسن والحسين عليهما‌السلام ، انتهاء باختفاء الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف).

فالخلاف على الإمامة ليس خلافا هامشيا كما يصوّره البعض ، بل هو خلاف يدخل في عمق الإسلام.

لذا كان حصيلة هذا الخلاف ـ الذي منشأه سلب الخلافة من أصحابها الشّرعيين ـ هدر الدّماء كما فعل أبو بكر بمالك بن نويرة لأنه رفض إعطاء الزكاة لغير الإمام الحقّ ، فسلّط عليه خالد بن الوليد الذي به افتروا على الله تعالى وسمّوه سيف الله المسلول فاعتدى على زوجة مالك بزناه بها كما زنى زميله ضرار بإحدى النساء الجميلات عند ما قتل أهلها.

ولعظم الخلاف قال الشهرستاني : «وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذ ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كلّ زمان» (١).

ونحن نسأل :

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ، ج ١ ص ٢٤.

١٩

هل يعقل لإنسان كالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيّد الحكماء ـ بالغضّ عن كونه نبيّا ـ أن يرتحل من عالم الوجود المادّي وهو يعلم أنّ النفوس بعد لم ترو أحشاؤها من معارف الإسلام ولم تتربّ على نضارة الخلق وطهارة الذات فيتركها بلا راع ومرشد وهي في أمسّ الحاجة إلى ذلك؟!

أو أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يقول العامّة ترك أمر تعيين الخليفة إلى الناس يختارونه عليهم قائدا.

هل يعقل ذلك حيث إنّ الناس الذين هم بحاجة إلى من يقوّمهم ويصلح شأنهم ويرشدهم إلى ما ينفعهم ويبعّدهم عمّا يضرّهم ، أمثل هؤلاء يعيّنون الإمام الراعي الحافظ لحدود الله تعالى المقيم لأحكامه المفسّر لكتابه ، المحلّ للمعضلات ، الطاهر ، المنزّه ، الأمين ، المؤمن؟. مثل هكذا شخص هل بمقدور الناس أن تطّلع عليه وعلى خفاياه ، فإذا انتخبوه صار مرهونا بانتخابهم له ، فإذا زاغ قوّموه وإذا أطاع أعانوه ، فصار بذلك الإمام مأموما والمأموم إماما ، وهذا قبيح لا يصدر من حكيم فضلا عن نبيّ.

لذا تعتقد الشيعة الإماميّة أنّ قيادة المسلمين المعبّر عنها ب «الخلافة» منوط أمرها بيده تعالى إذ هي منصب إلهي أو واسطة فيض بينه تعالى وبين عباده ، لأن منصب الخلافة أثر من آثار الإمامة ، فلا تفترق الإمامة عن النبوة إلا بالوحي التشريعيّ.

... ولو درست الظروف السياسية التي كانت سائدة في منطقة الجزيرة العربية ، لوجدت أنّ تلك الظروف كانت توجب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعيّن الخليفة قبل رحيله ، والسرّ في ذلك أنّ المنطقة يوم ذاك كانت مهدّدة بالسقوط أمام أضخم امبراطوريّتين ـ الفرس والروم ـ أكلتا الأخضر واليابس في جزيرة العرب ، عدا عن الأخطبوط الأكثر خطرا من امبراطورية الفرس والروم ، هذا الأخطبوط المتثمل بخطّ المنافقين المتغلغلين في أوساط المسلمين ، وهؤلاء

٢٠