تراثنا ـ العددان [ 75 و 76 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 75 و 76 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٦

وتؤنّث» (١).

وقال أبو علي الفارسي (ت ٣٧٧ هـ) : «هذه الصفات مشبّهة باسم الفاعل ، كما كان اسم الفاعل مشبّهاً بالفعل ... وتنقص هذه الصفات عن رتبه اسم الفاعل بأنّها ليست جارية على الفعل [المضارع] ، فلم تكن على أوزان الفعل كما كان ضارب في وزن الفعل وعلى حركاته وسكونه» (٢).

وقال الزمخشري (ت ٥٣٨ هـ) : الصفة المشبّهة : «هي التي ليست من الصفات الجارية ، وإنّما هي مشبّهة بها في أنّها تذكّر وتؤنّث وتثنّى وتجمع ; نحو : كريم ، وحسن ، وصعب ، وهي لذلك تعمل عمل فعلها ، فيقال : زيدٌ كريمٌ حسَبُه ، وحَسَنٌ وجهُهُ ، وصعبٌ جانبهُ ... وهي تدلّ على معنىً ثابت ، فإن أُريد الحدوثُ ، قيل : هو حاسنٌ الآن أو غداً» (٣).

وقال المطرّزي (ت ٦١٠ هـ) : «الصفة المشبّهة هي : ما لا يجري على (يفعلُ) من فعلها ; نحو : كريم ، وحسن ، وشبّهت باسم الفاعل في أنّها تثنّى وتجمع وتذكّر وتؤنّث ، ولذا تعمل عمل فعلها» (٤).

وإلى هنا يكون النحاة قد انتهوا إلى أنّ الصفة المشبّهة تخالف اسم الفاعل في أنّها لا توازي الفعل المضارع في الحركات والسكنات ، وفي أنّها تدلّ على معنىً ثابت ، ولا تدلّ على التجدّد والحدوث ، كما هي الحال في

____________

(١) أ ـ الإيضاح في علل النحو ، أبو القاسم الزجّاجي ، تحقيق مازن المبارك : ١٣٥.

ب ـ البسيط في شرح جمل الزجّاجي ، ابن أبي الربيع الإشبيلي ، تحقيق عيّاد الثبيتي ٢ / ١٠٦٧.

ج ـ شرح جمل الزجّاجي ، ابن الفخّار الخولاني ، مخطوط ص ١٣٦.

(٢) الايضاح العضدي ، أبو علي الفارسي ، تحقيق د. حسن شاذلي فرهود ١ / ١٥١.

(٣) المفصّل في علم العربية ، جار الله الزمخشري : ٢٣٠.

(٤) المصباح في علم النحو ، ناصر المطرّزي ، تحقيق عبد الحميد سيّد طلب : ٧٢.

٢٦١

الفعل المضارع واسم الفاعل ، وإنّما عملت عمل اسم الفاعل ; لأنّها شابهته في كونها تثنّى وتجمع وتذكّر وتؤنث.

وعرّف ابن الحاجب (ت ٦٤٦ هـ) الصفة المشبّهة بأنّها : «ما اشتقّ من فعل لازم ، لمن قام به ، على معنى الثبوت» (١) ..

وتابعه عليه غيره ، كالأردبيلي (ت ٦٤٧ هـ) في شرحه لأُنموذج الزمخشري (٢) ..

وقال الرضيّ الاسترابادي في شرحـه : «قوله : (من فعل) ، أي : مصدر ، قوله : (لازم) ، يخرج اسمي الفاعل والمفعول المتعدّيين. قوله : (لمن قام به) ، يخرج اسم المفعول اللازم المعدّى بحرف الجرّ ، كمعدول عنه ، واسم الزمان والمكان والآلة ، قوله : (على معنى الثبوت) ، أي : الاستمرار واللزوم ، يخرج اسم الفاعل اللازم ; كـ : قائم ، وقاعد ; فإنّه مشتقّ من لازم لمن قام به ، لكن على معنى الحدوث ، ويخرج عنه نحو : ضامر وشازب (٣) وطالق ، وإن كان بمعنى الثبوت ; لأنّه في الأصل للحدوث ; وذلك لأنّ صيغة الفاعل موضوعة للحدوث ، والحدوث فيها أغلب ، ولهذا اطّرد تحويل الصفة المشبّهة إلى فاعل ; كـ : حاسن ، وضائق ، عند قصد النصّ على الحدوث» (٤).

وقد أورد ابن الحاجب مضمون هذا التعريف مع تغيير ألفاظه في الوافية ; فقال : «ما اشـتقّ من فعل غير متعـدّ لفاعله على معنى الثبوت.

____________

(١) شرح الكافية ، ابن الحاجب ، تحقيق يوسف حسن عمر ٣ / ٤٣١.

(٢) شرح الأُنموذج في النحو ، عبد الغني الأردبيلي ، تحقيق حسني عبد الجليل يوسف : ١٢٩.

(٣) الشازب : الضامر اليابس من الناس وغيرهم ; لسان العرب ، مادة «شَزَب».

(٤) شرح الكافية ٣ / ٤٣١.

٢٦٢

وقال : (على معنى الثبوت) ; ليخرج اسم الفاعل من غير المتعدّي ; فإنّه كذلك ، إلاّ أنّه يفيد الحدوث ، والصفة إنّما تجيء على معنى الثبوت ; كـ : حسن ، وصعب ، وقبيح» (١).

وعرّف ابن عصفور (ت ٦٦٩ هـ) الصفة المشبّهة ، بأنّها : «كلّ صفة مأخوذة من فعل غير متعـدّ» (٢).

ونقطة الضعف في هذا التعريف عدم مانعيّته من دخول اسم الفاعل المشتقّ من الفعل اللازم ، كـ : قائم ، ونائم ; فإنّه صفة مأخوذة من فعل غير متعـدّ.

وعرّفها ابن مالك (ت ٦٧٢ هـ) في التسهيل بما لا يخلو من طول وتعقيد ; فقال : «وهي : الملاقية فعلا لازماً ، ثابتاً معناها تحقيقاً ، أو تقديراً ، قابلة للملابسة والتجرّد والتعريف والتنكير بلا شرط» (٣) ..

وقال السلسيلي في شرحه : «قوله : (الملاقية فعلاً) ... خرج [به] نحو : قرشيّ ، وقتّات ; لأنّها لم تلاقِ فعلاً ، قوله : (لازماً) ، خرج به [ملاقي] الفعل المتعدّي [نحو : عارف ، وجاهل] ، قوله : (ثابت معناه تحقيقاً) ، خرج [به] نحو : قائم ، وقاعد ... قوله : (أو تقديراً) ، دخل فيه نحو : (متقلِّب) ; فإنّه يكون صفة مشبّهة ، ولكن معناه غير ثابت ، لكن يقدّر ثبوته. قوله : (قابل للملابسة والتجريد) ، خرج [به] نحو : أب ، وأخ ، ممّا لا يقبل معناه الملابسة والتجرّد مع كونهما وصفين ، قوله : (والتعريف والتنكير) ، أي : قابلة للتعريف والتنكير ، (بلا شرط) ، خرج [به] أفعل

____________

(١) شرح الوافية نظم الكافية ، ابن الحاجب ، تحقيق موسى العليلي : ٣٢٩.

(٢) شرح جمل الزجّاجي ، ابن عصفور ، تحقيق صاحب أبو جناح ١ / ٥٦٦.

(٣) تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد ، ابن مالك ، تحقيق محمّد كامل بركات : ١٣٩.

٢٦٣

التفضيل ; فإنّه إِنّما يعرّف بشرط التجرّد من (مِن)» (١).

وعرّف ابن مالك الصفة المشبّهة بـ : «العلامة» ; فقال في أُرجوزته الألفية :

صفة استحسن جـرُّ فـاعـلِ

معنى بها المشبهةُ اسمَ الفاعلِ

وشرحه ابن عقيل بقوله : «ذكر المصّنف أنّ علامة الصفة المشبّهة : استحسانُ جرّ فاعلها بها ; نحو : حَسَنُ الوجهِ ، ومنطلقُ اللسانِ ، وطاهرُ القلبِ ، والأصل : حسنٌ وجهُهُ ، ومنطلقٌ لسانُه ، وطاهرٌ قلبُهُ ، فـ(وجهُهُ) مرفوع بـ(حسنٌ) على الفاعلية ... وهذا لا يجوز في غيرها من الصفات ، فلا تقول : (زيدٌ ضاربُ الأبِ عمراً) تريد : ضاربٌ أبوهُ عمراً» (٢).

ثمّ انتهى ابن مالك في شرح عمدة الحافظ إلى أنّ : «الصفة المشبّهة هي ما اطّردت إضافتها إلى الفاعل» (٣) ..

وخلص إلى تعريفها في شرح الكافية بقوله : «هي [الصفة] المصوغة من فعل لازم ، صالحة للإضافة إلى ما هو فاعل في المعنى» (٤) ، مؤكّداً أنّ : «ضبطها بصلاحيتها للإضافة إلى ما هو فاعل في المعنى أوْلى من ضبطها بالدلالة على معنىً ثابت ، وبمباينة وزنها لوزنِ المضارع ; لأنّ دلالتها على معنىً ثابت غير لازمة لها ، ولو كانت لازمة لها لم تبنَ من : (عَرَضَ) ، و (طَرَأَ) ونحوهما ، ولو كان تباين وزنها ووزن المضارع لازماً لها ، لم يعدّ

____________

(١) شفاء العليل في إيضاح التسهيل ، السلسيلي ، تحقيق عبد الله البركاتي ٢ / ٦٣٣.

(٢) شرح ابن عقيل على ألفيّة ابن مالك ، تحقيق محمّد محي الدين عبد الحميد ٢ / ١٤٠.

(٣) شرح عمدة الحافظ وعدّة اللافظ ، ابن مالك ، تحقيق عدنان الدوري : ٦٨٥.

(٤) شرح الكافية الشافية ، ابن مالك ، تحقيق علي معوّض وعادل عبد الموجود ١ / ٤٧١.

٢٦٤

منها : (مُعْتَدِل القامةِ) ، و (مُنطلقُ اللسان) ... وإنّما يضبطها ضبطاً جامعاً مانعاً ما ذكرته من الصلاحية للإضافة إلى ما هو فاعل في المعنى» (١).

وأمّا ابن الناظم (ت ٦٨٦ هـ) فقد خالف أباه في تعريفه المتقدّم ، وعرّف الصفة المشبّهة بـ : «ما صيغ لغير تفضيل من فعل لازم لقصدِ نسبته الحَدَث إلى الموصوف به دون إفادةِ معنى الحدوث ...

وممّا تختصّ به الصفة المشبّهة عن اسم الفاعل : استحسان جرّها الفاعل بالإضافة ; نحو : طاهرُ القلبِ جميلُ الظاهرِ ، تقديره : طاهرٌ قلبُه جميلٌ ظاهرُه ... وهذه الخاصَّة لا تصلح لتعريف الصفة المشبّهة وتمييزها عمّا عداها ; لأنّ العلمَ باستحسان الإضافة إلى الفاعلِ موقوف على العلمِ بأنّ الصفة مشبّهة ، فهو متأخّر عنه ، وأنت تعلم بأنّ العلمَ بالمعرِّف يجب تقدّمه على العلمِ بالمعرَّف ، فلذلك لم أُعوِّل في تعريفها على استحسان إضافتها إلى الفاعل» (٢) ..

وتابعه على هذا التعريف : المكودي (ت ٨٠٧ هـ) (٣) ، والأزهري (ت ٩٠٥ هـ) (٤) ، وابن طولون (ت ٩٥٣ هـ) (٥) ، وابن هشام (ت ٧٦١ هـ) في أحد تعريفاته (٦) ، وله تعريف ثان وافق فيه ابن مالك ، وهو : أنّها الصفة التي استحسن فيها أن تضاف لما هو فاعل في المعنى ، وردّ إشكال

____________

(١) شرح الكافية الشافية ، ١ / ٤٧٢.

(٢) شرح ابن الناظم على الألفيّة : ١٧٢ ـ ١٧٣.

(٣) شرح المكودي على الألفيّة ، ضبط وتخريج إبراهيم شمس الدين : ١٧٥.

(٤) شرح التصريح على التوضيح ، الشيخ خالد الأزهري ٢ / ٨٠.

(٥) شرح ابن طولون على ألفيّة ابن مالك ، تحقيق عبد الحميد الكبيسي ٢ / ١٨.

(٦) شرح قطر الندى وبلّ الصدى ، ابن هشام ، تحقيق محمّد محي الدين عبد الحميد : ٣٠٨ ـ ٣٠٩.

٢٦٥

ابن الناظم بقوله : «وقد تبيّن أنّ العلم بحسن الإضافة موقوف على النظر في معناها (١) ، لا معرفة كونها صفة مشبّهة ، وحينئذ فلا دور في التعريف المذكور ، كما توهّمه ابن الناظم» (٢).

وتكرّر هذا الردّ لدى الأشموني (ت ٩٠٠ هـ) في شرحه على الألفيّة ; إذ قال : «إنّ العلم باستحسان الإضافة موقوف على المعنى ، لا العلم بكونها صفة مشبّهة ، فلا دور» (٣) ..

فحاصل الدفع : «منع توقّف الاستحسان على العلم ، بل إنّما يتوقّف على النظر في معناها الثابت لفاعلها ، بحيثُ لو حُوِّل إسنادها عنه إلى ضمير الموصوف ، لا يكون فيه لبس ولا قبح ، فتحسن حينئذ الإضافة» (٤).

وعرّفها الفاكهي (ت ٩٧٢ هـ) بقوله : «ما اشـتقّ من فعل لازم ، مقصود ثبوت معناه» (٥).

وهو تابع فيه لتعريف ابن الحاجب المتقدّم.

* * *

____________

(١) وهو : نسبة الحدث إلى موصوفها على سبيل الثبوت.

(٢) أوضح المسالك إلى ألفيّة ابن مالك ، ابن هشام ، تحقيق محمّد محي الدين عبد الحميد ٢ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩.

(٣) شرح الأشموني على الألفيّة ، قدّم له ووضع فهارسه حسن حمد ٢ / ٢٤٦.

(٤) حاشية الصبّان على شرح الأشموني ٣ / ٣.

(٥) شرح الحدود النحوية ، الفاكهي ، تحقيق محمّد الطيب الإبراهيم : ١٤٤.

٢٦٦

من ذخائر التّراث

٢٦٧
٢٦٨

٢٦٩
٢٧٠

مقدمة التحقيق :

بسـم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الأوّل بلا أوّل كان قبله ، والآخر بلا آخر يكون بعده ، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين ، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين ، ثمّ الصلاة والسلام على العبد المؤيد ، والرسول الأمجد ، الذي سُمّي في السماء أحمد ، وفي الأرض بـ : أبي القاسم المصطفى محمّد صلّى الله عليه وعلى آل بيته الطيّبين الطاهرين ، واللعنة على أعدائهم أجمعين ، إلى قيام يوم الدين.

وبعد ..

قال الله عزّ وجلّ في محكم كتابه الكريم : (وإنّك لعلى خُلق عظيم) (١).

وقد فسّرت هذه الآية بأقوال مختلفة ، منها :

(١) أعظمية دين الإسلام.

____________

(١) سورة القلم ٦٨ : ٤.

٢٧١

(٢) إنّك متخلّق بأخلاق الإسلام ، وعلى طبع كريم.

(٣) سمّى خلقه عظيماً ; لاجتماع مكارم الأخلاق فيه.

وممّا يؤيّد هذا القول قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إنّما بعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق» (١) ، وكذلك ; لأنّ الله أدّب نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) على محبّته وأحسن في تأديبه فقال له : (خُذ العفوَ وأمُر بالعُرْف وأعرِض عن الجاهلين) (٢) ، ولمّا كان هذا تأديب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل الله عزّ وجلّ حتّى أنزل الله بحقّه هذه الآية المباركة.

(٤) الخُلق العظيم : وهو الصبر على الحقّ ، وسعة البذل ، وتدبير الأُمور على مقتضى العقل بالصلاح والرفق والمداراة وتحمّل المكاره في الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى ، والتجاوز والعفو ، والجهد في نصرة المؤمنين ، وترك الحسد والحرص.

وإليك شرح بعض النصوص.

عظمة الإسلام :

يمتاز الدين الإسلامي عن سائر الأديان بأنّ كلّ ما جاء فيه يوافق العقل المجرّد عن الوساوس الشيطانية ، غير الملوّث بالمعاصي والآثام ، وقد أعطى الدين الإسلامي للعقل قيمة سامية ، وجعله آلة للتمييز بين الصواب والخطأ ; فقد قال تبارك وتعالى : (فبشّر عبادِ * الّذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنهُ أُولئك الّذين هداهم الله وأُولئك هم أُولوا الألباب) (٣).

____________

(١) بحار الأنوار ١٦ / ٢١٠.

(٢) سورة الأعراف ٧ : ١٩٩.

(٣) سورة الزمر ٣٩ : ١٧ و ١٨.

٢٧٢

فهل يمكن للإنسان المجرّد عن العقل أن يتّبع القول الجيّد عن القول الرديء؟!

كلاّ لا يمكن له أن يميّز بينهما ، فهنا الله تبارك وتعالى أعطى قيمة للعقل في تشخيص أحسن القول حتّى لا يلوّث النفس ويوبقها ويرديها ; لأنّ النفس أمّارة بالسوء ..

فقد روي عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : «ولمّا خلق الله العقل استنطقه ثمّ قال : أقبِل. فأقبَل ، ثمّ قال : أدبِر. فأدبَر ، ثمّ قال : وعزّتي وجلالي ما خلقتُ خلقاً هو أحبّ إليّ منك ، ولا أكملتك إلاّ في من أحبّ ، أما أنّي إيّاك أنهي وإيّاك أُعاقب وإيّاك أُثيب» (١).

نرى في هذا الحديث ، ومن قوله (عليه السلام) : «أقبل فأقبل ... فأدبَر» ، أنّ العقل يطيع أوامر الله تعالى بصورة فطرية وطبيعية ; لأنّ أوامر الله منطقية وطبيعية ولا تخالف الفطرة ، وإنّ الإطاعة صفة غريزية في العقل وهذا معنى الفطرة ، وبه أتمّ الله الحجّة على عباده ، وذلك لقوله تعالى : (إنّ الله لا يغفرُ أن يُشركَ به ويغفرُ ما دون ذلك لمَن يشاء ومَن يُشركْ بالله فقد افترى إثماً عظيماً) (٣).

وترى في الحديث السابق عبارة أُخرى ، وهي : «ولا أكملتك إلاّ في مَن أُحبّ».

أي : إنّ الله لا يكمل العقل إلاّ في مَن أحبّه ، وهنا سؤال ، وهو : كيف يمكن الحصول على هذه المحبّة؟

في الإجابة عليه يمكن القول : إنّ الطريق الوحيد للوصول إلى هذه

____________

(١) الكافي ١ / ٨ ح ١.

(٢) سورة النساء ٤ : ٤٨.

٢٧٣

المحبّة هي إطاعة الله في أوامره واجتناب نواهيه ; لأنّ أقرب الناس إلى الله أكملهم عقلا ، والعكس صحيح أيضاً ; أي أنقصهم عقلا هو أبعدهم عن الله سبحانه ; لأنّ العقل هو : ما عُبد به الرحمان واكتسب به الجنان ، كما في الحديث (١).

القرآن يدعو الناس إلى التعقّل ، ويخاطب العقل في كثير من آياته ولا يريد بالناس أن يقبلوا شيئاً من دون تعقّل وبرهان ، والدليل على هذا : قوله تعالى : (وقالوا لن يدخل الجنّةَ إلاّ مَن كان هوداً أو نصارى تلك أمانيُّهُم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) (٢).

نعم ، هناك آيات كثيرة في القرآن تأمر بالتعقّل وتحذّر العباد من عدم التعقّل والتفكّر ، مثل قوله تعالى : (ومنهم مَن يستمعون إليكَ أفأنتَ تُسمِع الصُمَّ ولو كانوا لا يعقِلون) (٣) ، ثمّ أنّه يمدح المتفكّرين بقوله تعالى : (وأوحى ربُّكَ إلى النحل أن اتّخذي من الجبال بيوتاً ... إنّ في ذلك لآيةً لقوم يتفكّرونَ) (٤).

فطريقة القرآن في الدعوة إلى الحقّ هي طريقة العلوم الطبيعية الحاضرة وهي التي تستند إلى التجربة والمشاهدة والاستقراء والاستنتاج (٥).

نعم ، إن موضوع الآيات الكريمة المتقدّمة وكثير من آيات أُخرى هو موضوع العلم الطبيعي نفسه بأوسع معانيه ، ما عرفه الإنسان وسيعرفه ; لأنّ العلم الطبيعي يبحث عن الأشياء الكونية ، طبائعها وخواصها والعلاقات التي

____________

(١) الكافي ١ / ٨ ح ٢.

(٢) سورة البقرة ٢ : ١١١.

(٣) سورة يونس ١٠ : ٤٢.

(٤) سورة النحل ١٦ : ٦٨ و ٦٩.

(٥) كما قاله محمّد أمين في كتابه : التكامل في الإسلام ١ / ٢٣.

٢٧٤

بينها ، ولكنّها لا تصل إلى حقيقتها ، لأنّ العلم الطبيعي موضوعه آيات الله المودعة في الأشياء كلّها.

وقد أمر القرآن باتّباع العلم الصحيح ، وأثنى على العلماء ، وقد مدحهم في كتابه المجيد بقوله : (وهو الذي جعل لكم النجومَ لتهتدوا بها في ظلمات البرّ والبحر قد فصّلنا الآياتِ لقوم يعلمونَ) (١) ..

وكذلك قوله : (ومن آياته خَلْقُ السماوات والأرضِ واختلافُ ألسنَتِكم وألوانِكم إنّ في ذلك لآيات للعالِمينَ) (٢).

وممّا يؤيّد التجربة والمشاهدة واستعمال الحواس الخمس ولزوم استعمال البصر مع العقل قوله تعالى : (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخَلْق) (٣).

وقوله تعالى : (أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافّات ويقْبِضْنَ) (٤).

وقوله تعالى : (أفلا ينظرون إلا الإبل كيف خُلقت * وإلى السماء كيف رُفعت) (٥).

ويقول عزّ من قائل في استعمال السمع مع العقل : (أفلم يسيروا في الأرض فتكونَ لهم قلوبٌ يعقلون بها أو آذانٌ يسمعون بها) (٦).

ويقول تبارك وتعالى في لزوم استعمال السمع والبصر مع العقل :

____________

(١) سورة الأنعام ٦ : ٩٧.

(٢) سورة الروم ٣٠ : ٢٢.

(٣) سورة العنكبوت ٢٩ : ٢٠.

(٤) سورة الملك ٦٧ : ١٩.

(٥) سورة الغاشية ٨٨ : ١٧ و ١٨.

(٦) سورة الحج ٢٢ : ٤٦.

٢٧٥

(واللهُ أخرجكم من بطون أُمّهاتِكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكمُ السمعَ والأبصارَ والأفئدةَ لعلّكمْ تشكُرونَ) (١).

وكذلك قوله تعالى : (ولا تقفُ ما ليس لك به علمٌ إنّ السمعَ والبصرَ والفؤادَ كلّ أُولئكَ كان عنه مسؤولا) (٢).

ويقول الحقّ في لزوم استعمال جميع الحواس مع القرآن : (أوَ لم ينظروا في ملكوت السماواتِ والأرضِ وما خَلَق اللهُ من شيء) (٣).

وعلى هذه الأمثلة حثّ القرآن على استعمال جميع الحواس والمواهب للوصول إلى أحسن سبل الهداية ; لقوله تعالى : (فبشّر عبادِ * الّذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أُولئك الّذين هداهم الله وأُولئك هم أُولوا الألباب).

فالدين الإسلامي خاطب العقل وحثّه على التمسّك بالبرهان والدليل ، ونهاه عن الظنّ والتخيّل والخرافات ، وأمره باستعمال طرق المشاهدة والتجربة وحُسن الاستنتاج ، ونهاه عن المغالطة والتدليس ، ولا أعلم ديناً أو مبدأً أو مسلكاً جعل البرهان شعاراً ، والتجربة طريقاً ، والمشاهدة معياراً ، والفرار من الظنّ والخيال دثاراً ; عدا الدين الإسلامي والشريعة الإسلامية السمحاء.

طباع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على أخلاق الإسلام والكرم :

نكتفي في هذا المجال بقوله تعالى : (فبما رحمة من الله لِنْتَ لهم

____________

(١) سورة النحل ١٦ : ٧٨.

(٢) سورة الإسراء ١٧ : ٣٦.

(٣) سورة الأعراف ٧ : ١٨٥.

٢٧٦

ولو كنتَ فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولكَ فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمتَ فتوكّلْ على الله إنّ الله يُحبّ المتوكِّلينَ) (١).

الخطاب في هذه الآية المباركة موجّهٌ إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أي : إنّ لينك لهم ممّا يوجب دخولهم في الدين ، ولو كنت جافياً وسيّء الخلق وقاسي الفؤاد وغير رحيم لتفرّق أصحابك عنك واعفُ عنهم ما بينك وبينهم ، ثمّ أمره بالمشاورة معهم ; فإن قلت : فما هي فائدة هذه المشورة؟

قلت :

فائدة المشورة ـ كما قيل ـ هي :

(١) أن تقتدي الأُمّة به في المشاورة ; حتّى تكون أُمورهم شورى بينهم.

(٢) تطييب نفوسهم ، وتآلف قلوبهم ، وترفيع شأنهم.

(٣) اختبار لمعرفة الناصح من الغاش.

(٤) أنّ المشاورة تكون في الأُمور الدنيوية ، ومكائد الحرب ، ولقاء العدو ; وفي مثل هذه الأُمور يجوز أن يستعين بآرائهم.

وإذا عقدت قلبك على الفعل وإمضائه فاعتمد على الله ، وثق به ، وفوّض أمرك إليه.

وفي الآية دلالة على تخصيص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال ..

____________

(١) سورة آل عمران ٣ : ١٥٩.

٢٧٧

ومن عجيب أمره أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أجمع الناس لدواعي الترفّع ، ثمّ كان أدناهم إلى التواضع ; فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) أوسط الناس نسباً ، وأوفرهم حسباً ، وأسخاهم ، وأشجعهم ، وأزكاهم ، وأفصحهم ، وهذه كلّها من دواعي الترفّع ، ثمّ ترى من تواضعه أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يرقع الثوب ، ويخصف النعل ، ويركب الحمار ، ويجيب دعوة المملوك ، ويجلس ويأكل على الأرض ، وكان يدعو الله تبارك وتعالى من غير زبر ولا كهر ولا زجر ، ولقد أحسن مَن مدحه بقوله :

فما حملتْ من ناقة فوق ظهرها

أبرّ وأوفى ذمّةً من محمّد (١)

* * *

____________

(١) انظر : بحار الأنوار ١٦ / ١٩٨.

٢٧٨

حياة المؤلّف (١)

هو : الشيخ سليمان بن محمّد الجيلاني التنكابني ، من العلماء والأُدباء والمتابعين ، وله معلومات كافية ووسيعة في العلوم العقلية والنقلية.

ولد (رحمه الله) في مدينة تنكابن ، وهي مدينة تقع في شمال إيران ، ولم نظفر بتاريخ دقيق لولادته ، رغم تتبّع مصادر التاريخ وتراجم الرجال.

ذهب (رحمه الله) إلى مدينة أصفهان لتكميل دراسته في العلوم الدينية ; لأنّها كانت آنذاك مركز إشعاع علمي ، ومأوى طلاّب العلم.

مؤلّفاته :

له مؤلّفات كثيرة ، باللغتين : العربية والفارسية ، منها :

١ ـ التوحيد.

٢ ـ العلم.

٣ ـ الرجعة.

٤ ـ المعاد.

٥ ـ شرح الصحيفة السجّادية.

٦ ـ الحركة والسكون والزمان ; وهو بحث فلسفي في الحركة والسكون والزمان ، تعرّض فيه لذكر آراء الفلاسفة في الموضوع.

٧ ـ رسالة في الوجود.

____________

(١) نقلاً من كتب : علماء تنكابن ، وتراجم الرجال ١ / ٣٩٢ ، ومستدركات أعيان الشيعة ٣ / ٨٨ ; بتصرّف.

٢٧٩

٨ ـ رسالة في العقل.

٩ ـ رسالة في النفس.

١٠ ـ رسالة في استحالة رؤية الباري عزّ وجلّ.

١١ ـ رسالة في آداب المؤمنين وأخلاقهم ; وهي هذه الرسالة.

وغيرها من المؤلّفات الأُخرى.

وصف الرسالة :

رسالة تشتمل على مجموعة من الأحاديث والروايات الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) في مكارم الأخلاق وآداب المؤمنين وحسن المعاشرة بينهم ، والحثّ على التمسّك بها ، واتّخاذها طريقةً وسلوكاً في مسير الحياة الدنيوية للمؤمنين ، فرداً وجماعة ; لنيل رضا وثواب الله سبحانه وتعالى ، في الدنيا والآخرة ..

رتّبها المؤلّف في ٢٦ باباً ، مبتدئاً بباب زيارة المؤمنين ، ومنتهياً بباب الحكم ، ثمّ ذكر أحاديث شتّى ، متعلّقة بالصبر والتفكّر وحُسن الظنّ بالله والورع وترك المعصية ، و ... حتّى نهاية الرسالة.

ثمّ زيّن (رحمه الله) معظم الأبواب ، بل أغلبها ، بإضافة أحاديث وروايات وتعليقات منه في حواشي الصفحات ; تعضيداً وتوضيحاً لما أورده في كلّ باب منها ، وليكمل المعنى إلى القارئ الكريم.

وفاته :

لم نتمكّن من العثور على تاريخ دقيق لوفاة المصنّف (رحمه الله) ، ولكن يمكننا القطع بأنّه كان حيّاً سنة ١١٢٥ هـ ; وذلك من خلال قرينة عثرنا

٢٨٠