تراثنا ـ العددان [ 75 و 76 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 75 و 76 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٦

وفيك غلظة ، ونحن نهابك ، وما نقدر أن نردّك عن خلق من إخلاقك ; فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها؟! كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحقّ عليك».

انظر إلى كلام عمرو بن العاص ومخطّطه الجديد ، وهو الداهية ، كيف أراد بتلك الكلمات الخفيفة أن يخلق شيئاً من الرقّة المشوبة بالحسّ السياسي ليزجّها زجّاً في قساوة عمر ، وأن يستبدل أُمّ كلثوم بنت أبي بكر بأمّ كلثوم بنت عليّ؟! لأنّه لو حقّق ذلك لَما خاف على بنت عليّ بن أبي طالب كما كان يخاف على بنت أبي بكر ، بل لو سطا عمر على أُمّ كلثوم بنت عليّ لآذى عليّاً ، وكان في ذلك سرور أمثال : عمرو بن العاص و ...

ولا أدري كيف بعمرو بن العاص ، وعمر بن الخطّاب يخافان أن يخلفا أبا بكر في ولده بغير ما يحقّ عليهما ، ولا يخافان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بنته وبنت بنته؟!

وعلى أيّ شيء يمكن حمل هذه السريرة؟!

وهل إنّ ذكر هذه النصوص والمواقف في كتب القوم تعدُّ ميزة لأصحاب رسول الله؟!

بل كيف بأُمّ كلثوم بنت علي لو خالفت عمر ، وقد وقفت على عدم إطاقة أمثال عمرو بن العاص أن يردّوه عن خلق من أخلاقه؟!

نعم ، إنّ عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة قد استغلاّ علاقة عمر السياسية بأبي بكر ، ونفذا من هذه النافذة إلى فكره وعقله ، كي يبعداه عن هذا الزواج ; خوفاً من سطوته على أُمّ كلثوم بنت أبي بكر ..

فقال له المغيرة : إلاّ أنّك يا أمير المؤمنين رجل شديد الخلق على أهلك ، وهذه صبية ، حديثة السنّ ، فلا تزال تنكر عليها الشيء فتضربها ،

١٤١

فتصيح ، فيغمّك ذلك وتتألّم له عائشة ، ويذكرون أبا بكر ، فيبكون عليه ، فتجدّد لهم المصيبة في كلّ يوم.

وقد مرّ عليك كلام عمرو بن العاص : ولكنّها حدثة ، نشأت تحت كنف أُمّ المؤمنين في لين ورفق ، وفيك غلظة ...

ولمّا عاتب عمر عمراً بقوله : «فكيف بعائشة وقد كلّمتها؟!

قال] عمرو بن العاص] : أنا لك بها ، وأدلّك على خير منها : أُمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب ...».

فقول عمرو بن العاص : «أدلّك على خير منها» لم يأتِ اعتقاداً منه بكون أُمّ كلثوم بنت عليّ هي خير من أُمّ كلثوم بنت أبي بكر ، وإن كان ذلك من المسلّمات عند المسلمين ; لأنّها أقرب قرابة وألصق رحماً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بل في كلامه إشارة إلى أنّ أُمّ كلثوم بنت عليّ هي خير من بنت أبي بكر لتعهّد الخدمة في بيت عمر ; لأنّه لو ضربها أو سطا بها لكان في ذلك سرور لمخالفي عليّ (عليه السلام) وأعدائه ، أمثال : معاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، و ...

فعمرو حينما اقترح على عمر بأن يأخذ بنت عليّ (عليه السلام) كان يعلم بأنّها أرقّ وأوجب حقّاً من بنت أبي بكر ، وهي لا يمكنها أن تتحمّل ما لا يتحمّله داهية مثل عمرو بن العاص ; لقوله : «... وما نقدر أن نردّك عن خلق من أخلاقك ; فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها؟! ..».

وبعد كلّ هذا ; فقد اتّضح لك بأنّ هذا الاقتراح من عمرو بن العاص لم يأتِ عن حُسن نية بل جاء عن سوء نية!

نعم ، إنّ ابن العاص أطّر حقده الدفين ضدّ عليّ وبنيه بإطار الناصح الأمين ; إذ قال : «وأدلّك على خير منها» ، لكنّ هذا الأمر لا ينطلي على

١٤٢

المتدبّر الحكيم ، بل إنّ الباحث المحقّق ـ بل كلّ مطالع في النصوص ـ يعرف بأنّ عمرو بن العاص كان الموجّه والمنظّر لعمر بن الخطّاب للدخول إلى بيت وحرم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، أيّ أنّه رسم لعمر المنهج ، وأعطى له المبرّر كي يصل إلى هذا الزواج ، وبذلك خدم سيّده ونال من عدوه في آن واحد.

ونحن حينما قلنا قبل قليل بأنّ الجميع كانوا يهابون عمر ويخافون بطشه ، لا نعني بذلك عدم إمكان أن ينجو أحد من قراره ..

فقد نجت أُمّ أبان بنت عتبة.

وأُمّ كلثوم بنت أبي بكر.

وأُمّ سلمة المخزومية (١).

والقوم من قريش ، الّذين خطب منهم فردّوه.

لكنّ هذا الأمر لا يمكن تصوّره واحتماله في مخالف سياسي لعمر ابن الخطّاب كعليّ بن أبي طالب ; وخصوصاً لمّا علمنا بأنّ أُصول هذا المخطّط رسمه عمرو بن العاص أو المغيرة بن شعبة وأمثالهما ، ممّن يبغون من وراء مثل تلك المناورات هدفاً ، بل أهدافاً سياسية.

نعم ، إنّ أُمّ كلثوم بنت أبي بكر نجت ـ إن صحّت نجاتها ـ من الزواج من عمر بمسعى عمرو بن العاص أو المغيرة بن شعبة ، مع وقوفنا على خوف عائشة من عقبى مخالفة أُختها لهذا الزواج ; لقولها لأمّ كلثوم : «ترغبين عن أمير المؤمنين؟!».

هذا ، ومن الطبيعي أن لا تكون منزلة عليّ بن أبي طالب وفاطمة

____________

(١) فقد أقدم عليها بعد وفاة زوجها عقيب غزوة أُحد ، فردّته ; انظر : مسند أحمد ٦ / ٣١٣ ، السُنن الكبرى ـ للنسائي ـ ٣ / ٢٨٦ ، تاريخ بغداد ١١ / ٣٥٥.

١٤٣

الزهراء (عليهما السلام) عند عمر بن الخطّاب كمنزلة أبي بكر بن أبي قحافة وعائشة ابنته!! وهذا هو الذي جعل الداهيتين!! يدعوانه للإقدام على الزواج من بنت عليّ وأن يترك بنت أبي بكر.

ولو تدبّرت في نصوص زواج عمر من أُمّ كلثوم لرأيتها ذات مرام سياسية أكثر من كونها ذات أبعاد اعتقادية أو عاطفية!

ولرأيت أنّه لم يكن يبغي من زواجه من أُمّ كلثوم النسب والقرابة والصهر من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقدر ما كان يهدف إلى أُمور أُخرى ..

فلو كان عمر يريد القرابة حقّاً وكان يعتبر نفسه الوحيد «على ظهر الأرض يرصد من حسن صحابتها ما لا يرصده أحد» ، فهل يأتي حُسن صحبته لها بـ : الكشف عن ساقها ، أو ضمّها إلى صدره ، أو تقبيلها؟!

وهـل أنّ أُمّ كلثوم بـنت عليّ كانت من الإماء والوصائف اللواتي يُبتغى منهنّ غلظ السوق وصحّة الأبدان ليكُنّ أبلغ في المتعة وأقدر على الخدمة ، أم أنّها كانت كريمة بني هاشم ، وبنت رسول الله وعليّ الكرّار وفاطمة البتول ، وهي الحرّة الأبيّة التي ادّعى عمر أنّه يريد أن يتقرّب بزواجه منها إلى الله ورسوله؟!

وهل حقّاً أنّ عمر رصد بفعلته هذه ما لا يرصده أحد من الرجال؟!

وما يعني كلامه آنف الذكر إذاً لو قسناه مع ما فعله معها حسب النصوص المارة؟! وعلى أي شيء يدلّ؟

ولو أحبّ عمر أن يحفظ رسول الله في ولده ، وأراد التزويج ببنت فاطمة وعليّ ، فهل يجوز له اختيار الزواج بهذه الصورة المشينة؟!

بل هل يصحّ تزيين عليّ بنته وإرسالها إلى رجل أجنبي طامع فيها؟!

وعلى فرض أنّ عليّاً كان موافقاً على هذا الزواج ; فإنّ التزيين يأت

١٤٤

مع لحاظ كونها مؤهّلة للزواج ، وإنّ ذلك من شأن النساء لا الرجال ، ولذلك كلّف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) النساء بتجهيز فاطمة الزهراء (عليها السلام) والإصلاح من شأنها لعليّ (عليه السلام).

وإذا كان عليٌّ غير راغب ولا يرغب في تزويج ابنته لعمر ـ وفق النصوص ـ فهل يصحّ أن يزيّن ابنته ويرسلها إليه؟!

وبنظرنا أنّ عمر لو كان يريد القرابة ونيل شفاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآخرة حقّاً ، لَما أقدم على الزواج من طفلة صغيرة لم تبلغ الحلم ، بهذا الشكل المزري!!

لقد روى المسوّر بن مخرمة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : فاطمة شجنة منّي ، يبسطني ما بسطها ويقبضني ما قبضها ، وإنّه ينقطع يوم القيامة الأنساب والأسباب إلاّ سببي ونسبي (١).

ألا يكون في فعل عمر هذا ـ مع أُمّ كلثوم ، ومواقفه الأُخرى من فاطمة (عليها السلام) ـ ما يقبض ويغضب الله ورسوله وفاطمة؟!

وقد يكون في كلام الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ الذي سيأتي بعد قليل ـ تعريضاً ـ إن لم يكن تصريحاً ـ به وبأمثاله الّذين أساؤوا إلى القربى والعترة وخانوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ..

فعن أبي سعيد الخدري ، قال : سمعت رسول الله يقول : ما بال رجال يقولون : إنّ رحم رسول الله لا تنفع قومه ، بلى والله ، إنّها موصولة في الدنيا والآخرة ، وإنّي ـ يا أيّها الناس ـ فرطكم على الحوض ، فإذا جئتم قال

____________

(١) مسند أحمد ٤ / ٣٣٢ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٥٨ ; وفيه زيادة : وصهري ، الجامع الصغير ٢ / ٢٠٨ ح ٥٨٣٤ ، السُنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٧ / ٦٤ ، فضل آل البيت ـ للمقريزي ـ : ٦٤.

١٤٥

رجـل : يا رسول الله! أنا فلان بن فلان ، وقال آخر : أنا فلان بن فلان ، فأقول : أمّا النسب فقد عرفته ، ولكنّكم أحدثتم بعدي وارتددْتم القهقرى. (رواه أبو يعلى ، ورجاله رجال الصحيح) (١).

بل إلى أيّ مدىً يمكن تصحيح ما قاله علماء مدرسة الاجتهاد والرأي وأنصار الخلفاء لتبرير فعلة عمر بن الخطّاب ، من أنّه لم يقصد من تقبيله لها وضمّها إلى صدره ، أو كشفه عن ساقها ، الريبة والجنس و ... لأنّها لم تكن في سنّ مَن يُطمع فيها ، ولم تبلغ بعد ، والخليفة أجلّ وأكرم من هذا الفعل القبيح (٢)؟!

فلو صحّ ذلك ، فماذا نقول عمّا أدركته السيّدة أُمّ كلثوم من فعل وقصد عمر ، حين تعامله معها وهي المعنيّة بالأمر؟!

وهل أنّ فهم أعلام العامّـة ـ وبعد ألف عام ـ هو الأقرب إلى الصواب أم فهم السيّدة أُمّ كلثوم ، وهي المعنيّة بالأمر ، والعارفة بلحن وقصد عمر ابن الخطّاب في الخِطاب؟!

وعلى أيّ شيء يدلّ قولها لأبيها : «أرسلتني إلى شيخ سوء»؟!

أو قولها لعمر نفسه : «لو لم تكن أمير المؤمنين للطمت عينك»؟!

____________

(١) مجمع الزوائد ١٠ / ٣٦٤ ، المستدرك على الصحيحين ٤ / ٧٥ ، مسند أحمد ٣ / ١٨ ، مسند أبي يعلى ٢ / ٤٣٣ ، وغيرها.

وفي المعجم الأوسط ٥ / ٢٠٣ : ما بال أقوام يزعمون أنّ رحمي لا تنفع ، ليس كما زعموا ، إنّي لأشفع وأُشفّع ، حتّى من أشفع له ليشفع فيشفع ، حتّى أنّ ابليس ليتطاول في الشفاعة والتوصية.

(٢) قال ابن حجر ٢ / ٤٥٧ : وتقبيله وضمّه لها على جهة الإكرام ; لأنّها لصغرها لم تبلغ حدّاً يشتهى حتّى يحرم ذلك ، ولولا صغرها لَما بعث بها أبوها.

انظر : ملحقات إحقاق الحقّ ١٨ / ٥٥١ ، والصوارم المهرقة : ٢٢٠.

١٤٦

ألا تدلّ هذه الفقرات على أنّ الصبية البريئة (أُمّ كلثوم) قد فهمت مطامع غريزية في نفس الخليفة ، حاول تبريرها والإغماض عنها والتعتيم عليها بُعيض الناس لاحقاً؟!

وهل تساءلتَ أخي القارئ عن سنّ هذه الطفلة في ذلك التاريخ؟!

وهل كانت ممّا يُطمع فيها أم لا؟!

فلو قبلنا بولادتها في آخر عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، يكون عمرها حينما أرسلها الإمام عليّ (عليه السلام) ـ حسب نصّ الطبري وغيره ـ في حدود السابعة ..

أمّا لو قلنا بولادتها في السنة السادسة من الهجرة ، فيكون عمرها حين الزواج إحدى عشرة سنة ، وهي ممّا يُطمع فيها ، ويصحّ الزواج منها (١).

وبنظرنا أن كلا الفرضين يسيئان إلى الخليفة عمر بأضعاف ما يسيئان إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ..

فلو قلنا ببلوغها ، وأنّ الإمام عليّاً أرسلها بعد البلوغ ، فذلك مخالف للشرع الأقدس ، فضلاً عن أنّ غيرة الإنسان العربي تأبى أن يزيّن رجل ابنته ويرسلها إلى مَن يطمع فيها ، ثمّ يستمع بعد ذلك إلى نقل البنت وهي تحكي عن الرجل ، وأنّه كشف عن ساقها ، وقبّلها ، وضمّها إلى صدره ، فألف ضربة على جسد مسلم غيور ، كعليّ بن أبي طالب ، أهون من القول بهذا الكلام المزري.

أمّا لو قلنا بأنّها كانت صبية (٢) ـ حسب ما قالته المصادر ـ فهي

____________

(١) سير أعلام النبلاء ٣ / ٥٠٠.

(٢) مرّ عليك كلام الإمام علي : «إنّها لم تبلغ» ، أو : «لأنّها صغيرة» أو : «إنّها صبية» ، إلى غيرها من النصوص الدالّة على صغرها.

١٤٧

الأُخرى لا تتّفق ; لأنّ التزيين ليس من مهامّ الرجال ، بل هو من مهمّة النساء فقط ، وهو يكون ـ حسبما عرفت ـ بعد حصول الموافقة على التزويج ، وبعد وقوع العقد ، لا مع الكراهية ، وقبل العقد ، على أنّها لو كانت صبية لا يُرغب في مثلها فلا معنى لتزيينها وإرسالها لمَن يرغب في نكاحها مزيّنة ، ناهيك عن أنّ الكشف عن ساق الصبية يدلّ على انحطاط فاعله بلا ريب.

فأسالك بالله : هل تقبل نفسك مثل هذا التصرّف ـ أي الكشف عن الساق والتقبيل والضمّ إلى الصدر قبل العقد والزواج ـ من شيخ في السابعة والخمسين من عمره أو التاسعة والخمسين مع صبية في السابعة من العمر «لم تبلغ بعد» بهذا الشكل المزري ، وخصوصاً لو عرفنا بأنّ هذا الرجل كانت له زوجة ، بل زوجات (١) ، وهو بمنزلة جدّ هذه الصبية؟!

فعمر هو أبو حفصة ، وحفصة زوجة رسول الله ، فيكون هو والِدُ زوجة جدّ هذه الصبية ، وهو رسول الله محمّد المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

فنحن لو قبلنا هذه النصوص وأردنا الاستدلال بها على التزويج للزمنا قبول تواليه الفاسدة ، وإن لم نقبلها انتفى التزويج والاستدلال به.

ولنا أن نتأمّل في ما نسب إلى الإمام علي (عليه السلام) في تلك النصوص

____________

(١) مثل : زينب بنت مظعون الجُمحية ، وأُمّ حكيم بنت الحارث بن هشام المخزومية ، التي تزوّجها بعد استشهاد خالد بن سعيد بن العاص بموقعة مرج الصفر ببلاد الشام ، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة ، التي تزوّجها بعد وفاة زوجها بطاعون عمواس ، وجميلة بنت ثابت الأنصارية ، وقد ذكر عبد السلام آل عيسى في كتابه : دراسة نقدية ١ / ٢٢٣ ـ ٢٤١ أسماء ١٤ امرأة تزوّجها عمر ، وأسماء بعض اللواتي ردَدْنَ خطبة عمر لهنّ.

١٤٨

وقوله لأُمّ كلثوم : «إنّه زوجكِ» ; ألم يكن نسبة هذا القول إليه (عليه السلام) هو للازدراء به وتصحيح موقف عمر ، والوصول إلى الأمرين معاً؟!

ولو قبلنا شرعية النظر قبل الزواج ، فهل التقبيل والكشف عن الساق والضمّ إلى الصدر بريبة هو ممّا جوّزه الشرع كذلك؟!

نعم ، يمكن تصحيح جزء من ذلك لو تنزّلنا وقلنا بصحّة صدور خبر التزويج ، وثبوت رضا الإمام عليّ بذلك ، لكن الأمر لم يكن كذلك ; لأنّ النصوص تشير إلى عدم رضاه ، وعدم رضا أهل بيته ، كعقيل (١) و ... بهذا الزواج.

وعلى فرض صحّـة الخبر ، فالإمام أرسلها إليه ، لقناعته بأنّ عمر لو رآها بهذا السنّ والصغر لاشمأزَّ من اقتراحه ، وممّن اقترح عليه التزويج بها ، ولَما رضي بالتزويج بطفلة ، كأُمّ كلثوم ، لم تبلغ الحلم بعد.

ولا أدري كيف يمكن تصديق صدور هذه النصوص على لسان الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، وهو المسلم الغيور والعربي الأبي ، وتصحيح مقولته : «إنّه زوجك»؟!

بل يتردّد السؤال على خاطري بشكل آخر : كيف يمكن الجمع بين كراهة الإمام عليّ (عليه السلام) في تزويج أُمّ كلثوم لعمر ، وبين تزيينه لها وإرسالها إليه؟! إنّها حقّاً من المتناقضات!

بل كيف يمكن تصديق هذا الأمر ، وكلاهما في المدينة؟! إذ كان يمكن لعمر أن يراها في طريقه إلى دار الإمارة أو بالعكس ، ولو تصوّر أنّ هناك عسراً في مشاهدتها في بيت عليّ بن أبي طالب ، أو في طريقه إلى

____________

(١) مجمع الزوائد ٤ / ٢٧١ ; عن المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ٣ / ٤٤ ، وفيه قول عمر : ويح عقيل! سفيه أحمق.

١٤٩

دار الإمارة أو السوق ، فإنّه كان بإمكانه إرسال ابنته حفصة ، أو غيرها من أُمّهات المؤمنين وسائر النساء للاطّلاع عليها ووصفها له ، وذلك هو الدأب الذي كان وما زال عليه المسلمون في الخطبة.

وهل أنّ هذه النقاط تعتبر نقاط قوّة في زواج عمر من أُمّ كلثوم ، أم هي نقاط ضعف؟!

أترك للقارئ وللسامع الحكم على النصوص بالوضع أو الكذب ، أو الصحّة والسقم ، أو أي شيء آخر يرتضيه.

وأنتقل به بعد ذاك إلى كلام المغيرة بن شعبة في مكّة وكيفية تعريضه بالخليفة عمر! وأنّه أراد بقوله إيقافنا وإيقاف الآخرين على حقائق كثيرة في هذا السياق ، وهي خافية لحدّ هذا اليوم على الكثير من الناس ، لكن قبل أن نأتي بكلامه نذكر خبره حينما كان أميراً على الكوفة من قبل عمر ، كمقدّمة لما نريد قوله ..

فقد كان المغيرة يخرج كلّ يوم من دار الإمارة نصف النهار ، وكان أبو بكرة يلقاه فيقول : أين يذهب الأمير؟

فيقول : في حاجة.

فيقول : إنّ الأمير يُزار ولا يزور.

قالوا : وكان يذهب إلى امرأة يقال لها : أُمّ جميل بنت عمرو ، وزوجها : الحجّاج بن عتيك بن الحارث الجشمي.

فبينما أبو بكرة في غرفة مع إخوته ـ وهم : نافع ، وزياد ، وشبل بن معبد ، والجميع أولاد سميّة ، فهم إخوة لأُمّ ـ وكانت أُمّ جميل المذكورة في غرفة أُخرى قبالة هذه الغرفة ، فضربت الريح باب غرفة أُمّ جميل ففتحته ، ونظر القوم فإذا هم بالمغيرة مع المرأة على هيئة الجماع ، فقال أبو بكرة :

١٥٠

هذه بلية قد ابتليتم بها فانظروا ، فنظروا حتّى أثبتوا.

فنزل أبو بكرة فجلس حتّى خرج عليه المغيرة من بيت المرأة فقال له : إنّه قد كان من أمرك ما قد علمت ، فاعتزلنا.

قال : وذهب المغيرة ليصلّي بالناس الظهر ، ومضى أبو بكرة فقال : لا والله ، لا تصلّي بنا وقد فعلت ما فعلتَ.

فقال الناس : دعوه فليصلّ فإنّه الأمير ، واكتبوا بذلك إلى عمر.

فكتبوا إليه ، فأمرهم أن يقدموا عليه جميعاً ، المغيرة والشهود ، فلمّا قدموا عليه جلس عمر فدعا بالشهود والمغيرة.

فتقدّم أبو بكرة ، فقال له [عمر] : رأيته بين فخذيها؟

قال : نعم ، والله لكأنّي أنظر إلى تشريم جدري بفخذيها.

فقال له المغيرة : قد ألطفت في النظر.

فقال أبو بكرة : لم آلُ أن أُثبت ما يخزيك الله به.

فقال عمر : لا والله ، حتّى تشهد لقد رأيته يلج فيها ولوج المِرْوَد في المكحلة.

فقال : نعم ، أشهد على ذلك.

فقال : فاذهب عنك مغيرة ذهب ربعك.

ثمّ دعا نافعاً ، فقال له : علامَ تشهد؟

قال : على مثل شهادة أبي بكرة.

قال : لا ، حتّى تشهد أنّه ولج فيها ولوج الميل في المكحلة.

قال : نعم ، حتّى بلغ قذذه ـ وهي ريش السهم ـ.

قال له عمر : اذهب مغيرة فقد ذهب نصفك.

ثمّ دعا الثالث ، فقال له : على ما تشهد؟

١٥١

فقال : على مثل شهادة صاحبيّ.

فقال له عمر : اذهب عنك مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك.

ثمّ كتب إلى زياد وكان غائباً فقدِم ، فلمّا رآه جلس له في المسجد ، واجتمع عنده رؤوس المهاجرين والأنصار ، فلمّا رآه مقبلاً قال : إنّي أرى رجلاً لا يخزي الله على لسانه رجلاً من المهاجرين. ثمّ إنّ عمر رفع رأسه إليه فقال : ما عندك يا سلح الحُباري؟

فقيل : إنّ المغيرة قام إلى زياد فقال : لا مخبأَ لعطر بعد عروس.

فقال له المغيرة : يا زياد! اذكر الله تعالى ، واذكر موقف يوم القيامة ، فإنّ الله تعالى وكتابه ورسوله وأمير المؤمنين قد حقنوا دمي ، إلاّ أن تتجاوز إلى ما لم ترَ ممّا رأيت ، فلا يحملنّك سوء منظر رأيتَهُ على أن تتجاوز إلى ما لم ترَ ، فوالله لو كنت بين بطني وبطنها ما رأيت أن يسلك ذكري فيها.

قال : فدمعت عينا زياد واحمرَّ وجهه وقال : يا أمير المؤمنين! أما أنّ أحقّ ما أحقَّ القومُ فليس عندي ، ولكنيّ رأيت مجلساً ، وسمعت نفساً حثيثاً وانتهازاً ، ورأيته مستبطنها.

فقال عمر : رأيته يدخل كالميل في المكحلة؟

قال : لا ، رأيته رافعاً رجليها ، فرأيت خصيته تتردّد إلى بين فخذيها ، ورأيت حفزاً شديداً ، وسمعت نَفَساً عالياً.

فقال عمر : رأيت يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة؟

فقال : لا.

فقال عمر : الله أكبر ، قم إليهم فاضربهم.

فقام إلى أبي بكرة فضربه ثمانين ضربة ، وضرب الباقين ، وأعجبه قول زياد ، ودرأ الحدّ عن المغيرة.

١٥٢

فقال أبو بكرة بعد أن ضُرِبَ : أشهد أنّ المغيرة فَعَلَ كذا وكذا ، فهمَّ عمر أن يضربه حدّاً ثانياً ، فقال له عليّ بن أبي طالب : إن ضربته فارجم صاحبك. فتركه.

واستتاب عمر أبا بكرة ، فقال : إنّما تستتيبني لتُقبل شهادتي؟

فقال : أجل.

فقال : لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا.

فلمّا ضُربوا الحدّ قال المغيرة : الله أكبر ، الحمدُ لله الذي أخزاكم.

فقال عمر : بل أخزى الله مكاناً رأوك فيه.

وأخرج عمر بن شبة في كتاب أخبار البصرة : أنّ أبا بكرة لمّا جُلِد ، أمرت أُمُّه بشاة فذبحت وجعلت جلدها على ظهره ، فكان يقال : إن ذاك إلاّ من ضرب شديد.

وحكى عبد الرحمن ابن أبي بكرة : أنّ أباه حلف أن لا يكلّم زياداً ما عاش ، فلمّا مات أبو بكرة كان قد أوصى أن لا يصلّي عليه زياد ، وأن يصلّي عليه أبو برزة الأسلمي ، وكان النبيّ آخى بينهما ، وبلغ ذلك زياداً ، فخرج إلى الكوفة ، وحفظ المغيرة بن شعبة ذلك لزياد وشكره.

ثمّ إنّ أُمّ جميل وافقت عمر بن الخطّاب بالموسم ، والمغيرة هناك ، فقال له عمر [معرّضاً به] : أتعرف هذه المرأة يا مغيرة؟

قال : نعم ، هذه أُمّ كلثوم بنت عليّ. [معرّضاً بعمر لتفكيره بها وإصراره على الزواج منها].

فقال عمر : أتتجاهل عَلَيَّ؟! والله ما أظنّ أبا بكرة كذب عليك ، وما رأيتكَ إلاّ خفت أن أُرمى بحجارة من السماء (١).

____________

(١) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٢ / ٢٣٨ ، وفيات الأعيان ٦ / ٣٦٤

١٥٣

وهذا النصّ يرشدنا إلى أُمور كثيرة ، منها : مكان وتاريخ هذه المقولة ; فهي في مكّة أيام موسم الحجّ ، وقد تكون قبل الزواج المدّعى لعمر من أُمّ كلثوم.

وسواء كان هذا الكلام من المغيرة قبل التزويج أم بعده ، ففيه تعريض بعمر والإمام عليّ (عليه السلام) معاً ; لأنّ تشبيه أُمّ كلثوم بنت عليّ بأُمّ جميل الفاحشة! فيه ما لا يخفى من الانتقاص لأمير المؤمنين (عليه السلام).

وفيه أيضاً أكبر التعريض بعمر بن الخطّاب ; لأنّ المشاجرة كانت بينه وبين المغيرة ، ولمّا عرّض عمر بالمغيرة أراد المغيرة أن يجيبه بـ : إنّك لم تكن بأقلّ منّي في مثل هذه الأُمور ; لتفكيرك الدائم في أُمّ كلثوم بنت عليّ مع أنّها صغيرة وبمنزلة حفيدتك ..

وإنّ إصرارك الزائد على التزويج بها يشكّك الجميع في حسن نواياك ومقاصدك التي تدعيها ; لأنّك لو أردت التزويج بها فإنّ ذلك سوف لن يكون إلاّ بالقوّة والإكراه ، خصوصاً حينما كان غطاؤك ودعواك هو الحصول على القربى ..

ولو كنت محّقاً في ما تدّعيه لكان عليك أن تحقّقه بالعقد فقط دون الدخول والإيلاد ، وأن تكتفي بسببيتك من خلال ابنتك حفصة لرسول الله ; إذ بذلك حُزت السبب والصلة معاً.

كانت هذه قراءة سريعة لما في كتب العامّـة ، وهي ترجع الأمر إلى طلب عمر الجنس بدعوى القربى ، وإن كان وراءها أُمور سياسية أُخرى ، وهي إن صحّت تسجّل ظلامة أُخرى لأهل البيت (عليهم السلام) تضاف إلى قائمة

____________

ـ ٣٦٧ ; والنصّ من عنده ، وهو أيضاً في الإيضاح ـ لابن شاذان ـ : ٥٥٢ ، والصراط المستقيم ٣ / ٢٤٨.

١٥٤

ظلامات الظالمين ..

فلو أراد الباحث دراسة مسألة الزواج من أُمّ كلثوم كان عليه دراسة ظروف هذا الزواج وملابساته ; إذ أنّ فتح هذا الملف سيكلّف الخليفة وأنصاره الكثير ، فقد وقفت على بعض أهدافه ، وقد تكون هناك أهداف سياسية أُخرى سيقف عليها المطالع في مطاوي كلمات الشيعة.

ومجمل ما تقوله الشيعة الإمامية بهذا الصدد : أنّ الذي ذهب منهم إلى وقوع الزواج ، قد علّل وقوعه بأنّه كان عن جبر وإكراه ، لا عن طيب خاطر ، واستدلّ لكلامه بأدلّة ..

ما رواه أبو القاسم الكوفي : أنّ عمر بعث العبّاس إلى عليّ يسأله أن يزوّجه بأُمّ كلثوم ، فامتنع.

فأخبره بامتناعه ، فقال : أيأنف من تزويجي؟! والله ، لئن لم يزوّجني لأقتلنّه.

فأعلم العبّاس عليّاً (عليه السلام) بذلك ، فأقام على الامتناع.

فأعلم عمر بذلك ، فقال عمر : احضَرْ في يوم الجمعة في المسجد ، وكن قريباً من المنـبر لتسـمع ما يجري ، فتعلم أنّي قادر على قتله إن أردت.

فحضر ، فقال عمر للناس : إنّ ها هنا رجلاً من أصحاب محمّد وقد زنى ، وقد اطّلع عليه أمير المؤمنين وحده ، فما أنتم قائلون؟

فـقال الناس من كلّ جانب : إذا كان أمير المؤمنين اطّلع عليه فما الحاجة إلى أن يطّلع عليه غيره؟! ليمضِ في حكم الله.

فلمّا انصرف عمر قال للعبّاس : امضِ إلى عليّ فأعلمه بما قد سمعته ، فوالله ، لئن لم يفعل لأفعلن.

١٥٥

فأعلم العبّاس عليّاً بذلك ، فقال (عليه السلام) : أنا أعلم أنّ ذلك ممّا يهون عليه ، وما كنتُ بالذي يفعل ما يلتمسه أبداً ..

فأقسم عليه العبّاس أن يجعل أمرها إليه ، ومضى العبّاس إلى عمر فزوّجه إيّاها (١) ..

وقد ورد في نصّ آخر : أنّه أمر الزبير أن يضع درعه على سطح عليّ ، فوضعه بالرمح ; ليرميه بالسرقة (٢).

وقال في إعلام الورى : قال أصحابنا : إنّما زوّجها منه بعد مدافعة كثيرة ، وامتناع شديد ، واعتلال عليه بشيء بعد شيء ، حتّى ألجأته الضرورة إلى أن ردّ أمرها إلى العبّاس بن عبد المطّلب ، فزوّجها إيّاه (٣).

وعن كتاب الحسين بن سعيد : عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) : لمّا خطب عمر إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال له (عليه السلام) : إنّها صبية.

قال : فأتى العبّاس ، فقال : ما لي؟ أبي بأس؟!

فقال له : وما ذاك؟

قال : خطبتُ إلى ابن أخيك فردَّني ...

ـ وفي نصّ المرتضى : فدافعني ومانعني وأنف من مصاهرتي ، والله ، لأعوّرن زمزم ، ولأهدمنّ السقاية ، ولا تركت لكم يا بني هاشم منقبة إلاّ وهدمتها ، ولأُقيمنّ عليه شهوداً يشهدون عليه بالسرق ، وأحكم عليه بقطعه.

____________

(١) انظر : الاستغاثة : ٧٨ ، الصراط المستقيم ٣ / ١٣٠ ، شرح الأخبار ٢ / ٥٠٧.

(٢) الصراط المستقيم ٣ / ١٣٠.

(٣) إعلام الورى ١ / ٣٩٧ ; وعنه في بحار الأنوار ٤٢ / ٩٣.

١٥٦

فأتاه العبّاس فأخبره ، وسأله أن يجعل الأمر إليه ، فجعله إليه (١).

وعن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم وحمّاد ، عن زرارة ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، في تزويج أُمّ كلثوم ، فقال : إنّ ذلك فرج غُصبناه (٢).

كانت هذه بعض النصوص التي استدلّ بها من ادّعى وقوع الزواج من أُمّ كلثوم ، لكن في إطار الجبر والإكراه ، وعن تقيّة لا غير ..

ونكون قد انتهينا من البحث التاريخي في هذه القضية ، لنشرع في بحث الجانب الفقهي والعقائدي لاحقاً.

للبحث صلة ...

____________

(١) النوادر ـ لأحمد بن عيسى الأشعري ـ : ١٣٠ ، الكافي ٥ / ٣٤٦ ، وسائل الشيعة ٢٠ / ٥٦١ ، مرآة العقول ٢٠ / ٤٤ و ٤٥ ، مجموعة رسائل المرتضى / المجموعة الثالثة : ١٤٩.

(٢) الكافي ٥ / ٣٤٦ ; وعنه في وسائل الشيعة ٢٠ / ٥٦١ ح ٢٦٣٤٩ ، بحار الأنوار ٤٢ / ١٠٦ ; وراجع : الاستغاثة : ٧٨ ; عن عبد الله بن سنان.

١٥٧

تجليات الزهد

في«نهج البلاغة»

كاظم حمد المحراث

جامعة واسـط / العراق

بسـم الله الرحمن الرحيم

من واجب الباحث المُحلّل لمضامين نهج البلاغة الفكريّة أن يولي نصيباً وافراً من عنايته لإدراك تميُّز شخصيّة الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) منتج هذا الكنز ، وأن يُعطي اهتماماً خاصّاً للبيئة وللظروف التي أُنتِج فيها ، إذ يجد في هاتين المعرفتين شتّى مظاهر غنى هذا النتاج ، ويقع بفهمهما الكشف عن أهمّ مكوّناته في فلسفة الدين والحياة.

فعـن شخصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام) يكفي أن نعرف أنّ إجماع المؤرخّين قائم على أنّه لم ينشغل بمتاع الدنيا ووجاهتها قطّ ; إنّه وُلِد فقيراً ، وعاش فقيراً ، ومات ولم يكنْ في تَركَته شيء ماديّ ، مع أنّ كنوز الدولة الإسلاميّة كلّها كانت بيده قبل موته ، لم يُقرِّب قريباً ولم يُبعِدْ غريباً إلاّ بالحقّ ، ولم تشهدْ سـيرتُه انحرافاً أو خطأً ما ، ولم يوظّف حياته إلاّ لخدمة الإسلام والمسلمين.

١٥٨

وهو أوّل الناسِ إسلاماً (١) ، وأوّلهم صلاةً مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (٢) ..

كما أنّه الوحيد الذي قَبِلَ أن يكون أخاً للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من بين بني عبد المطّلب حين جمعهم الرسول وقال لهم : «مَنْ يُؤازِرُني على ما أنا عليه ويجيبني على أن يكون أخي وله الجنّة؟» (٣) ..

وهو نفسُه الذي كان يكرّر أنّه عبد الله وأخو رسوله على مرأى المسلمين ومسمعهم ..

وهو الذي جعله الرسول منه بمنزلة هارون من موسى (٤) ..

والذي قال فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) : لأُعطِيَنّ الراية غداً إلى رجل يحبّ الله ورسولَه ، ويحبّه الله ورسولُه ، ويفتح عليه (٥).

مات الشيخان وهما مقدّران مكانته ، ومعترفان بمنزلته وشدّة تقواه ، وهو نفسُه لم يبخلْ عليهما بمشوَرة أو نصيحة.

____________

(١) فضائل الصحابة (فضائل عليّ (عليه السلام)) ـ لأحمد بن حنبل ـ ٢ / ٥٨٩ ح ٩٩٧ و ٥٩٠ ح ١٠٠٠ و ٥٩١ ح ١٠٠٣ ، سنن الترمذي ٥ / ٦٤٢ ح ٣٧٣٥ ، خصائص أمير المؤمنين ـ للنسائي ـ : ٢٢ ح ٣ و ٤.

(٢) فضائل الصحابة (فضائل عليّ (عليه السلام)) ـ لأحمد بن حنبل ـ : ٢ / ٥٩٠ ح ٩٩٩ و ٥٩١ ح ١٠٠٣ و ٥٩٢ ح ١٠٠٤ ، سنن الترمذي ٥ / ٦٤٢ ح ٣٧٣٤ ، خصائص أمير المؤمنين ـ للنسائي ـ : ٢١ ح ٢ و ٢٢ ح ٥

. (٣) الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ١ / ١٨٧ ، خصائص أمير المؤمنين ـ للنسائي ـ : ٨٣ ح ٦٦ ، المناقب ـ لابن مردويه ـ : ٢٨٧ ـ ٢٩٠ ح ٤٥٥ ـ ح ٤٥٧.

(٤) صحيح مسلم ٤ / ١٨٧٠ ـ ١٨٧١ ح ٢٤٠٤ وما بعده ، فضائل الصحابة (فضائل عليّ (عليه السلام)) ـ لأحمد بن حنبل ـ ٢ / ٥٦٦ ح ٩٥٤ و ٥٦٧ ح ٩٥٦ و ٥٦٨ ح ٩٥٧ و ٥٦٩ ح ٩٦٠ ، سنن الترمذي ٥ / ٦٤٠ ح ٣٧٣٠ و ٦٤١ ح ٣٧٣١.

(٥) المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ١٤ / ٤٥٩ ـ ٤٦٠ ح ١٨٧٢٠ و ٤٦٢ ح ١٨٧٢٥ ، صحيح مسـلم ٤ / ١٨٧١ ـ ١٨٧٣ ح ٢٤٠٥ ـ ح ٢٤٠٧ ، سنن التـرمذي ٥ / ٦٣٨ ح ٣٧٢٤.

١٥٩

وهو الذي تمـثّلت له الدنيا في هيئة جميلة ، فقال لها : غرّي غيري (١).

تتلمذ ـ منذ طفولته ـ على يد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ونشأ في كنفه (٢) ، ولا يسع المتأمّل لطبيعة هذه التلمذة ، وللظروف المحيطة بتلك النشأة إلاّ أن يستنتج أنّها أكسبت عليّاً (عليه السلام) سمات راقية في العلم ، وفي البيان ، وفي التديّن الزاهد ، وفي الحقوق والقضاء ، حتّى غدا بعمله وفصاحته وتديّنه صورة قريبة من فصاحة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلمه وتديّنه.

وتمكّن من سبر أغوار علوم القرآن وتفسير آياته ، وامتلك عبقريّة فريدة في القضاء والفقه ، وحاز على مَلَكَة بلاغيّة ارتقت إلى الدرجة الثالثة في الفصاحة العربية ، بعد القرآن الكريم ، والقول النبويّ الشريف.

وكان تقشّفه في الحياة ، وزهده بها ، وإعراضه عن مباهجها ، وهروبه منها ، مثار إعجاب المسلمين الأوائل ، وغدا مضرب الأمثال عند السلف (٣).

ولم تقِلّ تجربته الاجتماعية عن تجاربه في التديّن والعلم والقضاء والبيان ، بل لعلّها ـ أُسوة بتجاربه الأُخرى ـ جعلته أقرب الناس إلى الله ، وصيّرته لا يأبه في أمتعة الدنيا ، والذي يبدو أنّ عليّاً (عليه السلام) كان يعرف قدر

____________

(١) فضائل الصحابة (فضائل عليّ (عليه السلام)) ـ لأحمد بن حنبل ـ ١ / ٥٣١ ح ٨٨٢ ، الاستيعاب ـ لابن عبد البرّ ـ ٣ / ١١١٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لمحمّد عبده ـ ٢ / ١٨٢ ، ضمن الخطبة ١٨٧ ، المسمّاة بـ : القاصعة.

(٣) للاطّلاع على صلة الإمام عليّ (عليه السلام) بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وعلى مكانته بين أصحابه ، وعلى اجتهاده في تثبيت أركان الإسلام ، وعلى نفحات من سيرته وشذرات من علمه ; ينظر : الطبقات الكبرى : الجزء الخاص بالفهارس لمعرفة مواضع ذكر عليّ (عليه السلام) ، تاريخ الأُمم والملوك ـ المسمّى : تاريخ الطبري ـ ٤ / ٥٢٤ وما بعدها ، وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء ١ / ٦١ وما بعدها.

١٦٠