تراثنا ـ العددان [ 73 و 74 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 73 و 74 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٦

١

محتويات العدد

* كلمة التحرير :

* النجف الأشرف حاضرة العلم والتراث.

................................................................. هيئة التحرير ٧

* تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات (٢٤).

................................................. السيّد علي الحسيني الميلاني ١٣

* عدالة الصحابة (١١).

.......................................................... الشيخ محمّد السند ٣٨

* مثابرة أعلام الإمامية في حفظ وإحياء تراث الطائفة .. الشيخ الهمداني نموذجاً ١٢٥

........................................ الشيخ محمّد باقر الأنصاري الزنجاني ١٢٥

* فهرس مخطوطات مكتبة أمير المؤمنين العامّة / النجف الأشرف (١٤).

........................................ السيّد عبدالعزيز الطباطبائي قدّس سّره ٢١٦

٢

* مصطلحات نحوية (٢٣).

...................................................... السيّد علي حسن مطر ٢٧٣

* من ذخائر التراث :

* الكواكب الدرّية في النصوص على إمامة خبر البرّية ـ للسيّد صلاح بن إبراهيم بن أحمد الحسني الزيدي ، المتوفّى أوائل القرن الثامن الهجري.

............................................ تحقيق : السيّد شهيد الخطيب ٣١١

* من أنباء التراث :

................................................................ هيئة التحرير ٤٠٧

* * *

* صورة الغلاف : نموذج من مخطوطة «الإفصاح عن أحوال رواة الصحاح» للشيخ المظفّر ، محمّد حسن بن محمّد بن عبدالله النجفي (١٣٠١ ـ ١٣٧٥ هـ) ، والذي تقوم مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث بتحقيقه.

٣
٤

٥
٦

كلمة العدد :

النجف الأشرف حاضـرة العلم والتراث

بسـم الله الرحمن الرحـيم

كانت الأيدي على القلوب طوال حكم الطاغية في العراق ، خوفاً على كلّ شيء نفيس .. أرواح الناس ، حرمة المقدّسات ، ووجود الحوزة والعلماء ، وذخائر التراث!

ورغم ذهاب عصر الطاغية بالكثير منها ، بقي الكثير والحمد لله ..

وقد بذلت المرجعية والغيارى من أهل الخير والشباب المخلص ، جهوداً لحفظ ما يمكن حفظه من مكتبات النجف ، وعدم إعطاء المبرّر للسلطة أن تضع يدها عليها ، وقاموا سرّاً بتصوير مجموعات من نفائس مخطوطاتها في أقراص ، لحفظ نسختها من عاديات الزمان!

ومع سقوط الطاغية ، تنفّست النجف ومراكز العلم الصعداء ، مع كلّ ذي روح في العراق ، وفرح الجميع بمن بقي من رجال العلم ، وما بقي تراثه الثمين ، لولا غارة أعداء الأُمّة على متحف بغداد ومكتباتها بالاِحراق والسرقة!

٧

فقد احتضنت هذه المدينة العريقة ، إضافة إلى ما عُرف باسمها من أماكن مقدّسـة وآثار قديمة ، وعلى مدى تاريخها المضيء ، عشرات المكتبات الخاصّـة والعامّـة ، التي حوت في رفوفها ـ وما زالت ـ أُلوف المخطوطات ومئات النفائس ، رغم أنّها تعرّضت من قديم الزمان وخاصّة في عصرنا إلى أنواع الحوادث ، وتضرّرت كثيراً أو قليلاً ..

وكنموذج لما في هذه المكتبات من نفائس نذكر فقرات بخصوص إحداها ، وهي : «خزانة الروضة الحيدرية» ، نقتطفها من مقدّمة فهرس مخطوطات خزانة الروضة الحيدرية ، الذي وضعه العلامّة السـيّد أحمد الحسيني ، من شأنها أن تلقي ضوءاً على وضع هذه الخزانة المهمّة ، ومثيلاتها في النجف ، علماً أنّ هذا الكلام كتب سنة ١٣٩١ هـ ـ ١٩٧٧ م ، حينما كانت المكتبات أحسن حالاً منها اليوم ..

قال : «الخزانة العلوية ثرية بالغة الثراء بما تحويه من الأعلاق النفيسة التي لا تقدّر بثمن ، ذلك لأنّ مرقد الاِمام أمير المؤمنين عليّ بن أبيطالب عليه السلام كان ولا يزال مهوى أفئدة المسلمين ، فلا يخلو في وقت من الأوقات من الوافدين لزيارته من أنحاء العالم ، وكان الملوك والعظماء والأعيان وأرباب الثراء وسائر الطبقات المختلفة يتبارون في إهداء أنفس ما يملكونه من النوادر ، وأعزّ ما يجدونه من التحف للمشهد الشريف ، ومن هنا اجتمع في خزانة المشهد مع مرور السنين المتمادية ، ما يعجز عن تقييمه حتّى الخبراء.

وفي هذه التحف الشيء الكثير من المجوهرات والآثار الباقية من الشخصيات الكبيرة ، والمصنوعات اليدوية الثمينة ، وأنواع الفرش والستائر

٨

والمعلّقات والمصابيح وغيرها (١).

وبضمن هذه الخزانة الأثرية مكتبة فيها أكثر من سبعمائة وخمسين نسخة مخطوطة من القرآن الكريم ، وكتب الأدعية ، وبعض الكتب القديمة الأُخرى ، هي البقية الباقية من المكتبة الشهيرة التي عرفت عند المؤرّخين بـ : مكتبة الخزانة الغروية ، والتي وصفها بعض المؤرّخين بأنّ فيها عشرات الأُلوف من المخطوطات (٢).

وليس بين أيدينا ما يحدّد بالضبط المؤسّس الأوّل لهذه الخزانة وتاريخ تأسيسها ، إلاّ أنّ الذي يقال : إنّ عضد الدولة البويهي ، المتوفّى سنة ٣٧٢ هـ ، كان ممّن عني بها إلى جانب عنايته بعلماء النجف وفقهائها (٣).

وربّما قيل بأنّ تاريخ تأسيسها يرجع إلى القرن الثالث أو ما بعده على الظنّ القريب (٤).

ولعلّ أسبق من ذكر هذه الخزانة في مؤلّفاته هو السـيّد رضي الدين علي بن طاووس الحلّي ، المتوفّى سنة ٦٦٤ هـ ؛ فإنّه ذكر في عدّة موارد من كتبه بعض المصادر العتيقة التي رجع إليها مصرّحاً بأنّها توجد في الخزانة الغروية (٥).

وفي سنة ٧٥٥ هـ أُصيب المشهد العلوي بحريق ذهب على أثره كثير

____________

(١) وصفت الدكتورة سعاد ماهر جانباً من المنسوجات والسِجّاد والمعادن الثمينة الموجودة في الخزانة الحيدرية في كتابها مشهد الاِمام عليّ فيالنجف وما به من الهدايا والتحف ، المطبوع في القاهرة سنة ١٠٦٩ م.

(٢) موسوعة العتبات المقدّسـة ، قسم النجف ٢ / ٢٢٧.

(٣) موسوعة العتبات المقدّسـة ، قسم النجف ٢ / ٢٤١.

(٤) موسوعة العتبات المقدّسـة ، قسم النجف ٢ / ٢١٧.

(٥) راجع كتاب الطرائف والاِقبال وفلاح السائل وغيرها.

٩

من التحف ، وكان من جملة ما أصابه الحريق المكتبة الموجودة في الصحن الشريف ، ومن التحف النادرة التي أتى عليها الحريق المذكور مصحف في ثلاثة مجلّدات بخطّ الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام (١).

وهذا الحريق مع أنّه أتلف نفائس كبيرة الأهمّية ، إلاّ أنّه لم يأت على كلّ المكتبة ، فقد يوجد فيها الآن طائفة من الكتب أُوقفت عليها قبل هذا التاريخ ، ومن بينها كتب ابن كمونة التيأوقفت في القرن السابع الهجري.

للخزانة غرفة في الصحن الشريف وعمل لها مخازن ونضد الكتب وأصلح بعضها ، وحفظ بعمله هذا النتف الباقية من تلك الكتب النادرة (٢).

وقد سعى في فهرسة هذه الخزانة اثنان من الباحثين المعاصرين هما :

١ ـ المغفور له الشيخ آغا بزرك الطهراني ؛ فإنّ الخزانة فتحت له في حدود سنة ١٣٥٠ هـ ففهرس ما فيها من الكتب ليدرجها في كتابه القيّم الذريعة إلى تصانيف الشيعة ، وهناك بعض الكتب الموجودة في الخزانة ، ولم توجد في الذريعة ، وحدّثني صديق أنّه رأى عند الشيخ أوراقاً كان يكتبها داخل الخزانة ليوزّعها بعد ذلك في كتابه ، ولكن فاته توزيع بعض الأسماء الموجودة في تلك الأوراق في موسوعته.

كما أنّنا نجد كتباً يصرّح الشيخ بأنّها توجد فى الخزانة وهي غير موجودة الآن ، وظنّنا أنّها تلفت بعد اطّلاع الشيخ على محتويات الخزانة.

٢ ـ الدكتور حسين علي محفوظ ؛ فإنّه زار الخزانة في سنة ١٣٧٧ هـ ساعات قليلة وسجّل بعض المعلومات عن مخطوطات ٨٢ كتاباً في مجلّة معهد المخطوطات المجلّد الخامس الجزء الأوّل ص ٢٣ ـ ٣٠ بتاريخ شهر

____________

(١) موسوعة العتبات المقدّسـة ، قسم النجف ٢ / ٢٢٥.

(٢) ماضي النجف وحاضرها ١ / ١٥٢.

١٠

ذي القعدة ١٣٧٨ هـ ، وصرّح بأنّه استعان بما كتبه الشيخ آغا بزرك الطهراني في الذريعة».

ومن المناسب أن نذكر نموذجين من مخطوطات النجف الأشرف : كتاب مشكاة الأنوار في غرر الأخبار ، وكتاب ضياء العالمين ..

وعن الأوّل قال العلاّمة الطهراني ؛ في الذريعة ٢١ / ٥٤ : «للشيخ أبي الفضل علي ابن الشيخ رضي الدين أبي نصر الحسن بن أبي علي المفسّر الطبرسي ، الملقّب بـ : أمين الاِسلام الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي ، وهو ممّا ينقل عنه في البحار ... يوجد عند الميرزا محمّـد علي الأُردوبادي في النجف ...». انتهى.

وقد حقّقت الكتاب ونشرته مؤسّـسة آل البيت : لاِحياء التراث.

١١

وعن الثاني قال ؛ في الذريعة ١٥ / ١٢٤ : «في الاِمامة ، للشريف العدل المولى أبي الحسن بن محمّـد طاهر الفتوني النباطي العاملي الأصفهاني الغروي ، المتوفّى حدود ١١٤٠ ... في مجلّدين في أكثر من ٦٥٠٠٠ بيت ، يوجد في مكتبة الاِمام أمير المؤمنين العامّة بالنجف ، والمكتبة الجعفرية في كربلاء ، ومكتبة آل كاشف الغطاء ، والمكتبة (التسترية) ، وهو مرتّب على مقدّمة ومقصدين وخاتمة ...». انتهى.

والكتاب قيد التحقيق في مؤسّـسة آل البيت : لاِحياء التراث.

١٢

تشـييد المـراجَعـات

وتفنيد المكابَـرات

(٢٤)

السـيّد عليّ الحسـيني الميلاني

دلالة حديث الغدير

قال الخصم :

بعد الوجوه التي ذكرها في مناقشة سند حديث الغدير ، والتي قد تقدّم الجواب عنها وبيان واقع الحال فيها :

«خامسها : وعلى فرض ثبوت هذه الألفاظ وصحّتها ، فإنّه لا دلالة لها على ما ذهب إليه الموسوي ...» فذكر الأُمور التالية بعين ألفاظه :

١ ـ «لأنّ المولى لا تأتي بمعنى الأوْلى بالتصرّف عند أهل اللّغة» ونقل عن العلاّمة الدهلوي : «أنكر أهل العربية قاطبة ...».

٢ ـ «إنّ المولى لو كان بمعنى الأوْلى لا يلزم أن تكون صلته بالتصرّف ...».

٣ ـ «ذِكر المحبّة والعداوة دليل صريح على ...».

٤ ـ «قال الشيخ الدهلوي : وفي هذا الحديث دليل صريح على اجتماع الولايتين في زمانٍ واحدٍ ... وفي اجتماع التصرّفين محذورات كثيرة ...».

١٣

أقول :

هذا عمدة ما عندهم ، والأصل في كلام الخصم هو ابن تيمية ثمّ الدهلوي ، وسيظهر أنّ الفخر الرازي ـ المشكّك في الثابتات ـ هو المروّج لهذه الشبهات ، وسيكون بحثنا مع هؤلاء وعدادهم في العلماء ، لا مع أتباعهم الجهلاء!

ولعلّ العمدة من بين الأُمور المذكورة هو الأمر الأوّل ، فنقول :

هل أنكر اللغوّيون مجيء «المولى» بمعنى «الأوْلى»؟

إنّ دعوى إجماع أهل العربية قاطبة مجيء «المولى» بمعنى «الأوْلى» لا تصدر إلاّ عن جهلٍ شديد أو من متعصّب عنيد!!

وكلام المولوي عبـد العزيز الدهلوي الهندي موجود في كتابه التحفة الاثنى عشرية بالفارسية (١) ، وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية ملخّصاً باسم مختصر التحفة الاثنى عشرية ، وهذا نصّ ما جاء فيه في ردّ دلالة حديث الغدير :

«أمّا الأحاديث التي تمسّك بها الشيعة على هذا المدّعى فهي اثنا عشر حديثاً :

الأوّل : حديث غدير خمّ المذكور عندهم بشأنٍ عظيم ، ويحسبونه نصّاً قطعيّاً في هذا المدّعى ، حاصله : إنّ بريدة بن الحصيب الأسلمي روى أنّه صلّى الله عليه [وآله] وسلّم لمّا نزل بغدير خمّ حين المراجعة عن حجّة الوداع ـ وهو موضع بين مكّة والمدينة ـ أخذ بيد عليّ وخاطب جماعة

____________

(١) التحفة الاثني عشرية : ٢٠٨ ـ ٢١٠ ، ط پاكستان.

١٤

المسلمين الحاضرين فقال :

يا معشر المسلمين! ألست أوْلى بكم من أنفسكم؟! قالوا : بلى. قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه.

قالت الشيعة في تقرير الاستدلال بهذا الحديث : إنّ المولى بمعنى الأوْلى بالتصرّف ؛ وكونه أوْلى بالتصرّف عين الاِمامة.

ولا يخفى : إنّ أوّل الغلط في هذا الاستدلال هو إنكار أهل العربية قاطبةً ثبوت ورود المولى بمعنى الأوْلى ، بل قالوا : لم يجىَ قطّ المفعل بمعنى أفعل في موضعٍ ومادّةٍ أصلاً ، فضلاً عن هذه المادّة بالخصوص ...» (١).

أقـول :

إنّه ـ بغضّ النظر عمّا في هذا الكلام ، كإيهامه انفراد «بريدة بن الحصيب» برواية حديث الغدير مع أنّ رواته من الصحابة يبلغون العشرات ـ يدّعي إجماع أهل العربية على عدم مجيء «المولى» بمعنى «الأوْلى» ..

ونحن ننقل هنا نصوص جماعةٍ من أعيان الحديث والتفسير واللّغة ، الصريحة في مجيء «المولى» بمعنى «الأوْلى» ، في جملةٍ من أشهر كتبهم في تلك العلوم :

* قال الفخـر الرازي بتفسـير قوله تـعالى : (هي مـولاكم وبئس المصـير) (٢)

«وفي لفظ المولى ها هنا أقوال : أحدها ...

____________

(١) مختصر التحفة الاثني عشرية : ١٧٩ ـ ١٨٠ ، ط الهند.

(٢) سورة الحديد ٥٧ : ١٥.

١٥

والثاني : قال الكلبي : يعني : أوْلى بكم. وهو قول الزجّاج والفرّاء وأبي عبيدة ...» (١).

* وقال أبو حـيّان الأندلسـي بتفسـير قوله تعالى : (قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكّل المؤمنون) (٢) :

«... وقال الكلبي : أوْلى بنا من أنفسنا في الموت والحياة. وقيل : مالكنا وسـيّدنا ، فلهذا يتصرّف كيف شاء ، فيجب الرضا بما يصدر من جهته ...» (٣).

فهـذا رأي «محمّـد بـن السائـب الكلبـي» و «الفـرّاء» و «الزجّـاج» و «أبي عـبيدة» ..

أمّا «الكلبي» فمفسّـر مشـهور ، توفّي سنة ١٤٦.

وأمّا «الفرّاء» فهو «أبرع الكوفيّـين وأعلمهم بالنحو واللّغة وفنون الأدب» (٤) ، توفّي سنة ٧٠٢.

وأمّا «الزجّاج» فهو «الاِمام في العربية» (٥) ، توفّي سنة ١١٣.

وأمّا «أبو عبيدة» فهو «معمر بن المثنّى التيمي البصري اللّغوي العلاّمة الأخباري ، صاحب التصانيف ، وكان أحد أوعية العلم» (٦) ، توفّي سنة ٢١٠.

____________

(١) تفسير الرازي ٢٩ / ٢٢٧.

(٢) سورة التوبة ٩ : ٥١.

(٣) البحر المحيط ٥ / ٥٢.

(٤) وفيات الأعيان ٥ / ٢٢٥؛ وانظر : تذكرة الحفّاظ ١ / ٣٧٢ ، مرآة الجنان ، العبر ، وغيرهما.

(٥) تهذيب الأسماء واللّغات ٢ / ١٧٠.

(٦) العبر : حوادث ٢١٠ ، تذكرة الحفّاظ ١ / ٣٧١ ، المزهر في اللّغة ٢ / ٢٤٩.

١٦

* وقال الفخر الرازي : «إنّ أبا عبيدة قال في قوله تعالى : (مأواكم النار هي مولاكم) : معناه : هي أوْلى بكم ؛ وذكر هذا أيضاً : الأخفش والزجّاج وعلي بن عيسى ، واستشهدوا ببيت لبيد ...» (١).

و «الأخفش» هو «من أئمّة العربية» (٢) ، توفّي سنة ٥١٢.

و «علي بن عيسى» هو «الرمّاني» : «شيخ العربية» (٣) ، توفّي سنة ٣٨٤.

* وقال الحسين بن أحمد الزوزني (٤) بشرح بيت لبيد :

فغدت كلا الفرجين تحسب أنّهمولى المخافة خلفها وأمامها

«قال ثعلب : إنّ المولى في هذا البيت بمعنى الأوْلى بالشيء ، كقوله تعالى : (مأواكم النار هي مولاكم) أي : هي الأوْلى بكم ...» (٥).

وهذا رأي ثعلب ؛ قال الذهبي : العلاّمة المحدّث شيخ اللّغة والعربية (٦) ، المتوفّى سنة ١٩٢.

* وقال الجوهري بشرح قول لبيد :

«يريد : إنّه أوْلى موضع أن يكون فيه الخوف» (٧) ..

قال الذهبي بترجمته : «والجوهري ـ صاحب الصحاح : أبو نصر

____________

(١) نهاية العقول في الكلام ودراية الأُصول ـ مخطوط.

(٢) وفيات الأعيان ٢ / ١٢٢ ، مرآة الجنان : حوادث ٢١٥ ، وغيرهما.

(٣) العبر : حوادث ٣٨٤ ، وفيات الأعيان ٢ / ٤٦١ ، بغية الوعاة ٢ / ١٨٠.

(٤) قال السيوطي بترجمته في بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة ١ / ٥٣١ : «الحسين بن أحمد الزوزني القاضي ، أبو عبـدالله ، قال عبـد الغافر : إمام عصره في النحو واللّغة والعربية. مات سنة ٤٨٦».

(٥) شرح المعلّقات السبعة : ٩١.

(٦) تذكرة الحفّاظ ٢ / ٦٦٦ ، تاريخ بغداد ٥ / ٢٠٤ ، وفيات الأعيان ١ / ٨٤.

(٧) صحاح اللّغة وتاج العربية ، مادّة «ولي».

١٧

إسماعيل بن حمّاد التركي اللّغوي ، أحد أئمّة اللسان ...» (١).

ووصف السيوطي كتابه الصحاح بقوله : «فهو في كتب اللّغة نظير صحيح البخاري في كتب الحديث ، وليس المدار في الاعتماد على كثرة الجمع بل على شـرط الصحّة» (٢).

* وقال البغوي بتفسير الآية : (مأواكم النار هي مولاكم) :

«صاحبتكم وأوْلى بكم ؛ لِما أسلفتم من الذنوب» (٣).

* وقال الزمخشري بتفسيرها :

«قيل : هي أوْلى بكم ، وأنشد بيت لبيد ...» (٤).

وقال في أساس البلاغة في مادّة «ولي» :

«ومولاي : سيدي وعبـدي ، ومولى من الولاية : ناصر ، وهو أوْلى به» (٥).

* وقال أبو الفرج ابن الجوزي بتفسير الآية :

«قال أبو عبيدة : أي أوْلى بكم» (٦).

* وقال النيسابوري :

«قيل : المـراد أنّها تتوّلى أُموركم كما تولّيتم في الدنيا أعمال أهل النار. وقيل : أراد هي أوْلى بكم ؛ قال جار الله : حقيقته هي محراكم ومقمنكم ، أي مكانكم الذي يقال فيه : هو أوْلى بكم ، كما قيل : هو مئنة

____________

(١) العبر : حوادث سنة ٣٩٨ ، بغية الوعاة ١ / ٤٤٦.

(٢) المزهر في اللّغة ١ / ٦٢.

(٣) تفسير البغوي ـ معالم التنزيل ٨ / ٢٩.

(٤) الكشّاف ٤ / ٤٧٦. يراجع

(٥) أساس البلاغة ، مادّة «ولي».

(٦) زاد المسير في التفسير ٨ / ١٦٧.

١٨

للكرم ، أي : مكان لقول القائل : إنّه لكريم» (١).

وبتفسير الآية : (والله مولاكم) (٢) :

«متولّي أُموركم ، وقيل : أوْلى بكم من أنفسكم ، ونصيحته أنفع لكم من نصائحكم لأنفسكم» (٣).

* وقال القاضي البيضاوي بتفسير الآية : (هي مولاكم) :

«هي أوْلى بكم ، كقول لبيد ... حقيقته : محراكم ، أي مكانكم الذي يقال فيه : أوْلى بكم» (٤) ..

* وقال النسفي كذلك بالنصّ بتفسيرها في تفسيره الشهير (٥).

* وكذا بتفسير الجلالين (٦) ..

* وبتفسير أبي السـعود (٧).

ولا يخفى : أنّ هؤلاء أئمّة التفسير عند القوم ، وكتبهم أشهر التفاسير المعتمدة في ما بينهم ..

* واعترف بذلك كبار علماء الكلام ، كالسـعد التفتازاني والعلاء القوشجي وغيرهما ؛ فقد جاء في شـرح المقاصـد وفي شـرح التجريد ، وهما من أشهر كتبهم في العقائد ما نصّه : «ولفظ (المولى) قد يراد به : المعتق ، والحليف ، والجار ، وابن العم ، والناصر ، والأوْلى بالتصرّف ..

____________

(١) تفسير النيسابوري ـ غرائب القرآن ٢٧ / ١٣١ ، هامش تفسير الطبري.

(٢) سورة التحريم ٦٦ : ٢.

(٣) تفسير النيسابوري ٢٨ / ١٠١.

(٤) تفسير البيضاوي ـ أنوار التنزيل : ٧١٦.

(٥) تفسير النسفي ـ مدارك التنزيل ٤ / ٢٢٦.

(٦) تفسير الجلالين : ٧١٦.

(٧) تفسير أبي السعود العمادي ـ هامش تفسير الرازي ـ ٨ / ٧٢.

١٩

قال الله تعالى : (مأواكم النار هي مولاكم) أي : أوْلى بكم ؛ ذكره أبو عبيدة.

وقال النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : أيّما امرأة نكحت بغير إذن مولاها ... أي : الأوْلى بها ، والمالك لتدبير أمرها.

ومثله في الشعر كثير.

وبالجـملة ، اسـتعمال المولى بمعـنى : المتولّي ، والمالك للأمر ، والأوْلى بالتصرّف ، شائع في كلام العرب ، منقول عن كثير من أئمّة اللّغة. والمراد : إنّه اسم لهذا المعنى لا أنّه صفة بمنزلة الأوْلى ، ليعترض بأنّه ليس من صيغة أفعل التفضيل وأنّه لا يستعمل استعماله» (١).

أقـول :

وفي هذا الكلام فوائد :

١ ـ مجيء «المولى» بمعنى «الأوْلى» في الكتاب والسُـنّة الصحيحة والشعر الكثير.

٢ ـ إنّه منقول عن كثير من أئمّة اللّغة.

٣ ـ عدم ورود الاعتراض بأنّ «المولى» لا يستعمل استعمال «الأوْلى».

وقد أشار التفتازاني والقوشجي بذلك إلى اعتراض الفخر الرازي على تلك الاستعمالات الفصيحة الشائعة ، بأنّه إذا كان «المولى» يجيء بمعنى «الأوْلى» ، فلماذا لا يصحّ أن يقال : «فلان مولى منك» بدلاً من : «أوْلى منك»؟!

____________

(١) شـرح المقاصـد ٢ / ٢٩٠ ، شـرح التجريد : ٣٦٣.

٢٠