تراثنا ـ العددان [ 73 و 74 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 73 و 74 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٦

هذا الاعتراض الذي أخذه الدهلوي ، وقلّده الجهلة ، في مقام الجواب عن الاستدلال بحديث الغدير ، طرحه الرازي بتفسير (هي مولاكم) ؛ إذ قال ـ بعد ذكر قول أئمّة اللّغة بأنّ المعنى : «أوْلى بكم» :

«واعلم أنّ هذا الذي قالوه معنىً وليس بتفسيرٍ للّفظ ؛ لأنّه لو كان «مولى» و «أولى» بمعنى واحد في اللّغة ، لصحّ استعمال كلّ واحد منهما في مكان الآخر ، فكان يجب أن يصحّ أن يقال : هذا مولى من فلان ، كما يقال : هذا أوْلى من فلان ... ولمّا بطل ذلك ، علمنا أنّ الذي قالوه معنىً وليس بتفسـير» (١).

ولكنّه فـي كتاب نهاية العقـول عـدل عن ذلك ؛ إذ قال : «إنّ المولى لو كان يجيء بمعنى الأوْلى لصحّ أنْ يقرن بأحدهما كلّ ما يصحّ قرنه بالآخر ، لكنّه ليس كذلك ، فامتنع كون المولى بمعنى الأوْلى ... إنّه لا يقال : هو مولى من فلان ، كما يقال : هو أوْلى من فلان ...» ثمّ قال في نهاية كلامه : «وهذا الوجه فيه نظر مذكور في الأُصـول» (٢).

والنيسابوري ـ الذي تبع الرازي في كثير من المواضع ـ قال هنا : بأنّ في ما ذكره بحثاً لا يخفى (٣).

أقـول :

وجه النظر والبحث : وجود موارد كثيرة من المترادفين لا يجوز في اللّغة قيام أحدهما مقام الآخر ، وأنّ بينهما فروقاً عديدة ..

____________

(١) تفسير الرازي ٢٩ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

(٢) نهاية العقول ـ مخطوط.

(٣) تفسير النيسابوري ٢٧ / ٩٧ ، هامش تفسير الطبري.

٢١

مثلاً : مدلول «حتّى» و «إلى» هو الغاية ، إلاّ أنّ الثاني يدخل على الضمير دون الأوّل.

و : مدلول «الواو» و «حتّى» العاطفتين واحد ، لكنّ بينهما فروقاً ذكرها ابن هشام في مغـني اللبيب.

وكذا الحال في «إلاّ» و «غير» ، و «هل» و «الهمزة» الاستفهاميّتين ، كما في الأشباه والنظائر لجلال الدين السيوطي.

حديث الغدير بلفظ : «مَن كنت أوْلى به ...» :

هذا ، وقد ورد حديث الغدير بلفظ : «مَن كنت أوْلى به من نفسه ...» في بعض المصادر المعتبرة ، وهذا أيضاً من جملة مثبتات مجيء «المولى» بمعنى «الأوْلى» ..

فـقد أخـرج الطبرانـي ، بإسـناده عـن زيد بن أرقم : «ثمّ أخذ بيد عليّ رضي الله عنه فقال : مَن كنت أوْلى به من نفسه فعليّ وليّه ، اللّهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه» (١).

حديث الغدير بلفظ : «مَن كنت وليّه فعليٌّ وليّه ...» :

وأخـرج أحـمد والنسائـي وابـن ماجـة والطبري والحاكم والذهبي وابن كثير وغيرهم ، بأسانيد صحيحة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال يوم غدير خمّ : «مَن كنت وليّه فهذا وليّه» (٢).

____________

(١) المعجم الكبير ٥ / ١٨٦ مسند زيد بن أرقم.

(٢) مسند أحمد ٥ / ٣٥٠ ، ٣٥٨ ، ٣٦١ ، الخصائص : ٩٣ ـ ٩٤ ، ١٠١ ، ١٠٣ ، سُـنن ابن ماجة ١ / ٤٣ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٠٩ ، كنز العمّال ١٣ / ١٠٤ ، ١٠٥ ، ١٣٥ ، تاريخ ابن كثير ٥ / ٢٠٩.

٢٢

وتلخّـص :

إنّ «المولى» يجيء بمعنى «الأوْلى». وقد اعترف بذلك أئمّة القوم في التفسير والحديث والكلام واللّغة والأدب ، وذكروا لذلك شواهد من الكتاب والسُـنّة والشعر ... فسقط الاِشكال على دلالة حديث الغدير من جهة تفسير «المولى» فيه بـ : «الأوْلى» ، وظهر كذب دعوى إجماع أهل العربية على عدم مجيء مفعل بمعنى أفعل في شيء من المواد فضلاً عن هذه المادّة!

بل لقد ثبت ورود حديث الغدير بنفس لفظة «الأوْلى» بأسانيد القوم في كتبهم المعتبرة.

ما الدليل على كون صلة «الأوْلى» هو «بالتصرّف»؟

ثمّ إنّهم بعدما اضطرّوا إلى التسليم والاعتراف بمجيء «المولى» بمعنى «الأوْلى» ، جعلوا يطالبون بالدليل على كون صلة «الأوْلى» هو «بالتصرّف» ، وإنّه لماذا لا تكون الصلة «بالمحبّة» مثلاً؟

فنقـول :

أوّلاً : قد ثبت أنّ «المولى» يجيء بمعنى «المتصرّف في الأمر» ؛ فقـد ذكر الرازي بتفسير قوله تعالى : (واعتصموا بالله هو مولاكم) (١) : «... هو مولاكم : سـيّدكم والمتصرّف فيكم ...» (٢).

____________

(١) سورة الحجّ ٢٢ : ٧٨.

(٢) تفسير الرازي ٢٣ / ٧٤.

٢٣

وقال النيسابـوري بتفسـير الآية : (ثمّ رُدّوا إلى اللهِ مولاهُـمُ الحقّ) (١) : «والمعنى : إنّهم كانوا في الدنيا تحت تصرّفات الموالي الباطلة ، وهي النفس والشهوة والغضب ، فلمّا ماتوا تخلّصوا إلى تصرّفات مولاهم الحـقّ» (٢).

وثانياً : قد ثبت مجيء «المولى» بمعنى «متولّي الأمر» (٣) ، ولا فرق بين «المتولّي» و «المتصرّف» كما لا يخفى.

ونكتفي بعبارة الفخر الرازي بتفسير قوله تعالى : (أنت مولانا فانْصُرنا على القوم الكافرين) (٤) ، قال : «وفي قوله : (أنت مولانا) ، فائدة أُخرى ، وذلك : إنّ هذه الكلمة تدلّ على نهاية الخضوع والتذلّل والاعتراف بأنّه سبحانه هو المتولّي لكلّ نعمة يصلون إليها ، وهو المعطي لكلّ مكرمة يفوزون بها ، فلا جرم أظهروا عند الدعاء أنّهم في كونهم متّكلين على فضله وإحسانه ، بمنزلة الطفل الذي لا تتمّ مصلحته إلاّ بتدبير قيّمه ، والعبد الذي لا ينتظم شمل مهمّاته إلاّ بإصلاح مولاه ، فهو سبحانه قيّوم السماوات والأرض والقائم بإصلاح مهمّات الكلّ ، وهو المتولّي في الحقيقة للكلّ على ما قال ، (نعم المولى ونعم النصير) (٥)» (٦).

____________

(١) سورة الأنعام ٦ : ٦٢.

(٢) تفسير النيسابوري ٧ / ١٢٨ ، وانظر : تفسير الفخر الرازي ١٣ / ١٧ ـ ١٨.

(٣) الكشّاف ١ / ٣٣٣ ، تفسير البيضاوي : ٧١٦ ، تفسير النسفي ١ / ١٤٤ ، البحر المحيط ٥ / ٥٢ ، تفسـير النيسابـوري ٣ / ١١٣ ، تفسـير الجـلالين : ٦٦ ، تفسـير أبي السـعود ـ على هامش تفسير الرازي ـ ٨ / ٧٣.

(٤) سورة البقرة ٢ : ٢٨٦.

(٥) سورة الأنفال ٨ : ٤٠.

(٦) تفسير الرازي ٧ / ١٦١.

٢٤

وثالثاً : قد ثبت مجيء «المولى» بمعنى «المليك» ، وهل «المليك» إلاّ «المتصرّف في الأُمور»؟!

لقد نصَّ على مجيء «المولى» بالمعنى المذكور البخاري في كتاب التفسير ؛ قال : «باب (ولكلٍّ جعلنا موالي ممّا ترك الوالدان والأقربون والّذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبَهم إنّ الله كان على كلِّ شيءٍ شهيداً) (١) : وقال معمر : موالي : أولياء ، ورثة. عاقد أيمانكم : هو مولى اليمين ، وهو الحليف. والمولى أيضاً : ابن العم ، والمولى : المنعم المعتق ، والمولى : المعتق ، والمولى : المليك ، والمولى : مولىً في الدين» (٢) ..

فالمولى يجيء بمعنى «المليك».

قال العيني والقسطلاني في شرحيهما على صحيح البخاري : «المولى : المليك ؛ لأنّه يلي أُمور الناس».

ورابعاً : قد ثبت مجيء «المولى» بمعنى «السـيّد» ، ومن الواضح أنّ «الاِمام» و «الرئيس» و «ولي الأمر» هو : «السـيّد» المطلق.

وخامساً : إنّ صلة «الأوْلى» هي لفظة «التصرّف» أو نحوها من الألفاظ الدالّة على وجوب الاِطاعة والامتثال والانقياد ... ممّا هو مقتضى الولاية العامّة ، ولقد فهم الشيخان أبو بكر وعمر من لفظ حديث الغدير الأولويّة «بالاتّباع والقرب» كما اعترف بذلك ابن حجر المكّي في مقام الجواب عن حديث الغدير ؛ إذ قال :

«سلّمنا إنّه (أوْلى) لكنْ لا نسلّم أنّ المراد أنّه أولى بالاِمامة ، بل

____________

(١) سورة النساء ٤ : ٣٣.

(٢) تفسير ابن كثير ٢ / ٣٠٩ ، الكشّاف ١ / ٣٣٣ ، تهذيب الأسماء واللّغات ٤ / ١٩٦ ، النهاية ـ لابن الأثير : مادّة «ولي» ، المرقاة في شرح المشكاة ٥ / ٥٦٨ ، وغيرها.

٢٥

بالاتّباع والقرب منه ، فهو كقوله تعالى : (إنّ أوْلى الناس بإبراهيم للّذين اتّبعوه) ، ولا قاطع بل ولا ظاهر على نفي هذا الاحتمال ، بل هو واقع إذ هو الذي فهمه أبو بكر وعمر ، وناهيك بهما في الحديث ، فإنّهما لمّا سمعاه قالا له : أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كلّ مؤمن ومؤمنة. أخرجه الدارقطني ..

وأخرج أيضاً أنّه قيل لعمر : إنّك تصنع بعلي شيئاً لا تصنعه بأحدٍ من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه [وآله]؟ فقال : إنّه مولاي» (١).

ولقد فُسّر «المولى» في قوله تعالى : (ولكلٍّ جعلنا موالي ...) بـ : «الوارث الأوْلى» ضمن وجوهٍ عديدة ؛ قال الرازي : «وكلّ هذه الوجوه حسنة محتملة» (٢).

وسادساً : إنّه قد جوّز غير واحدٍ من كبار علماء القوم أن يكون «بالتصرّف» صلة للفظة «الأوْلى» ، إلاّ أنّهم توهّموا أن ذلك يستلزم أن يكون الاِمام عـليه السلام متصـرّفاً فـي حـياة رسـول الله صلّى الله عليه وآلـه وسلّم ؛ فقال القاري بشرح حديث الغدير : «في شرح المصابيح للقاضي : قالت الشيعة : المولى هو المتصرّف ، وقالوا : معنى الحديث أنّ عليّاً رضي الله عنه يستحقّ التصرّف في كلّ ما يستحقّ الرسول صلّى الله عليه [وآله] وسلّم التصرّف فيه ، من ذلك أُمور المؤمنين ، فيكون إمامهم. قال الطيّبي : لا يستقيم أن يحمل الولاية على الاِمامة التي هي التصرّف في أُمور المؤمنين ؛ لأنّ المتصرّف المستقلّ في حياته صلّى الله عليه [وآلهج وسلّم هو لا غير ، فيجب أن يحمل على المحبّة وولاء الاِسلام

____________

(١) الصواعق المحرقة : ٢٦.

(٢) تفسير الرازي ١٠ / ٨٨.

٢٦

ونحوهما» (١).

أقـول :

وحاصل هذا الكلام : وجود المقتضي لأن تكون الصلة «بالتصرّف» ، بل إنّ الحديث ظاهر في ذلك ، وهذا هو المطلوب ، لكنّ استقلال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتصرّف مانع من الأخذ بالظاهر ؛ قال : «فيجب أن يحمل على المحبّة وولاء الاِسلام ونحوهما». وسيأتي الجواب عن هذا.

وهل ذكر المحبّة والعداوة دليل على الحمل المذكور؟

وقد يُدّعى أنّ قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذيل الحديث : «اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه ...» دليل على عدم إرادة «الأوْلى بالتصرّف» من «المولى» ، وعلى هذا «فيجب أنْ يحمل على المحبّة وولاء الاِسلام ونحوهما».

فنقـول :

أوّلاً : هذا الاستدلال ممّن يقلِّد ابن تيميّة في أباطيله عجيبٌ للغاية ، وذلك لأنّ ابن تيمية يكذّب بهذه الفقرة من حديث الغدير ؛ إذ يقول (٢) في وجوه الجواب عنه : «الوجه الخامس : إنّ هذا اللفظ ـ وهو قوله : «اللّهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله» ـ كذبٌ باتّفاق أهل المعرفة بالحديث ...» (٣).

____________

(١) المرقاة في شرح المشكاة ٥ / ٥٦٨.

(٢) منهاج السُـنّة ٤ / ١٦ الطبعة القديمة.

(٣) لكنّ الفقرة هذه ثابتة بالأسانيد المعتبرة على أُصولهم؛ راجع : مسند أحمد بن

٢٧

وقد عرفت الكاذب!!

وثانياً : إنّ في جملةٍ من ألفاظ هذا الدعاء في حديث الغدير كلمة «والِ من والاه ...» وكلمة «أحب من أحبّه ...» معاً ، وهذا من الشواهد على أنّ «المولى» وكذا «والِ من ولاه» ليس بمعنى «المحبّة» وإلاّ لزم عطف الشيء على نفسه ..

قال ابن كثير «قال الطبراني : ثنا أحمد بن إبراهيم بن عبـدالله بن كيسان المديني سنة ٢٩٠ ، ثنا إسماعيل بن عمرو البجلي ...

ورواه أبو العبّـاس ابن عقدة الحافظ الشيعي ، عن الحسن بن علي بن عفّان العامري ، عن عبيدالله بن موسى ، عن فطر ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ذي مر وسعيد بن وهب ، وعن زيد بن بثيع ، قالوا : سمعنا عليّاً يقول في الرحبة : فذكر نحوه. فقام ثلاثة عشر رجلاً فشهدوا إنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه ، وأحب من أحبّه وابغض من أبغضه ، وانصر من نصره واخذل من خذله.

قال أبو إسحاق ـ حين فرغ من هذا الحديث : : يا أبا بكر! أيّ أشياخ هم؟» (١).

ورواه المتّقي عن البزّار وابن جرير والخلعي في الخلعيّات ، وقال : قال الهيثمي : رجال إسناده ثقاة. قال ابن حجر : ولكنّهم شيعة» (٢).

____________

حنبل ١ / ١١٨ ، ٤ / ٣٦٨ ، ٣٧٠ ، ٣٧٢ ، المصنّف ٢ / ٦٧ ، ٧٨ ، الخصائص ـ للنسائي : ١٠٠ ، سُـنن ابن ماجة ١ / ٤٣ ، تاريخ ابن كثير ٧ / ٣٤٧ ، كنز العمّال ١٣ / ١٦٨ ، مشكل الآثار ٢ / ٣٠٨ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ١١٦ ، وغيرها.

(١) البداية والنهاية ٧ / ٣٤٨.

(٢) كنز العمّال ١٣ / ١٥٨.

٢٨

وثالثاً : إنّه قد استبعد بعض أكابر القوم هذا الحمل ، كالحافظ محبّ الدين الطبري الشافعي ؛ إذ قال : «قد حكى الهروي عن أبي العبّـاس : إنّ معنى الحديث : من أحبّني ويتولاّني فليحبَّ عليّاً وليتولّه.

وفيه عندي بُعد ؛ إذ كان قياسه على هذا التقدير أن يقول : من كان مولاي فهو مولى عليّ ، ويكون المولى ضـدّ العدو ، فلمّا كان الاِسناد في اللفظ على العكس بعُد هذا المعنى ...» (١).

ورابعاً : إنّ قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : «اللّهمّ والِ من والاه ...» دعاء دعا به بعد الفراغ من الخطبة ، ولو كانت لفظة «المولى» بحاجةٍ إلى تبيين ، فإنّ الجملة السابقة على «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» ، وهي : «ألست أوْلى بكم من أنفسكم؟!» أو : «ألست أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم؟!» وخاصّةً ما اشتمل من ألفاظ الحديث على «فاء» التفريع ؛ إذ قال : «فمن كنت مولاه ...» ، هي القرينة المعيّنة للمعنى والرافعة للاِبهام المزعوم في الكلام.

ومـن رواة تلك المقدّمة في حديث الغدير :

أحمد بن حنبل ، وأبو عبـد الرحمن النسائي ، وأبو عبـد الله ابن ماجة ، وأبو بكر البزّار ، وأبو يعلى الموصـلي ، وأبو جعفر الطبري ، وأبو القاسـم الطبراني ، وأبو الحسـن الدارقطني ، وأبو موسـى المديني ، وأبو العبّـاس الطبري ، وابن كثير الدمشـقي ..

وقد أشار النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيها إلى قوله تعالى : (النبيّ أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم ...) (٢) ، الذي نصّ المفسّرون على

____________

(١) الرياض النضـرة في مناقب العشـرة ١ / ٢٠٥.

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ٦.

٢٩

دلالته على أولويّة النبيّ بالمؤمنين من أنفسهم في التصرّف (١).

ومن رواة حديث الغدير «بفاء التفريع» : أحمد والنسائي وابن كثير عن أبي يعلى والحسن بن سفيان ، والمتّقي عن ابن جرير والمحاملي والطبراني (٢).

وصاحب التحفة الاثنا عشرية ، الذي قلّده الخصم ، قد روى الحديث بهذا اللفظ ، كما تقدّم.

وخامساً : إنّه قد ورد في بعض ألفاظ الحديث كلمة : «بعدي» مع تهنئة عمر بن الخطّاب ..

قال ابن كثير : «قال عبـد الرزّاق : أنا معمر ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب ، قال : نزلنا مع رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم عند غدير خم ، فبعث منادياً ينادي ، فلمّا اجتمعنا ، قال : ألست أوْلى بكم من أنفسكم؟! قلنا : بلى يا رسول الله! قال : ألست؟ ألست؟ قلنا : بلى يا رسول الله! قال : من كنت مولاه فإنّ عليّاً بعدي مولاه ، اللّهمّ والِ من ولاه وعادِ من عاداه.

فقال عمر بن الخطّاب : هنيئاً لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت اليوم وليّ كلّ مؤمن» (٣).

فلو كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أراد «المحبّة» لَما كان للتقييد

____________

(١) انظر : تفسير البغوي ٥ / ١٩١ هامش تفسير الخازن ، الكشّاف ٣ / ٥٢٣ ، تفسير البيضاوي : ٥٥٢ ، تفسير النسفي ٣ / ٢٩٤ ، تفسير النيسابوري ٢١ / ٧٧ ـ ٧٨ هامش تفسير الطبري ، تفسير الجلالين : ٥٥٢ ، إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري ٧ / ٢٨٠ كتاب التفسير ، الدرّ المنثور ٥ / ١٨٢.

(٢) مسند أحمد ٤ / ٢٨١ ، ٣٦٨ ، الخصائص : ٩٥ ، البداية والنهاية ٧ / ٢١٠ ، كنز العمّال ١٥ / ٩١ ، ٩٢ ، ١٢٢ ـ ١٢٣ ، وغيرها.

(٣) البداية والنهاية ٧ / ٣٤٩.

٣٠

بقوله : «بعدي» وجه ، ولَما صحّ لعمر أن يقول : «أصبحت اليوم ...».

وسادساً : إنّه لو كان المراد هو «المحبّة» فأيّ معنىً لقول بعض الصحابة ـ لمّا سمع عليّاً عليه السلام يناشدهم حديث الغدير : : «فخرجت وفي نفسي شيء»؟!

أخرج أحمد بإسناده عن أبي الطفيل : «فخرجت وكأنّ في نفسي شيئاً ، فلقيت زيد بن أرقم فقلت له : إنّي سمعت عليّاً يقول كذا وكذا. قال : فما تنكر؟! قد سمعت رسول الله يقول ذلك له» (١).

وأخرجه النسائي من حديث حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي الطفيل (٢).

وسابعاً : إنّه لو كان المراد «المحبّة» فلماذا سلّم أبو أيوب وجماعته على الاِمام بالولاية ، استناداً إلى ما سمعوه من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم غدير خم ؛ ورواه الأئمّة بالأسانيد الصحيحة :

«جاء رهط إلى عليّ بالرحبة فقالوا : السلام عليك يا مولانا. قال : وكيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب؟ قالوا : سمعنا رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يقول يوم غدير خم : من كنت مولاه فهذا مولاه.

قال : فلمّا مضوا تبعتهم وسألت من هم؟

قالوا : نفر من الأنصار فيهم أبو أيّوب الأنصاري» (٣).

وهكذا .. القرائن والقضايا الأُخرى التي ذكرناها سابقاً ، والتي لم نذكرها ، كنزول الآية : (يا أيّها الرسول بلّغ ...) (٤) قبل الخطبة ، ونزول

____________

(١) البداية والنهاية ٧ / ٣٤٦.

(٢) خصائص عليّ : ١٠٠.

(٣) مسند أحمد ٥ / ٤١٩ ، المعجم الكبير ٤ / ١٧٣ ، الرياض النضرة ٢ / ٢٢٢ ، البداية والنهاية ٧ / ٣٤٧ ـ ٣٤٨ ، المرقاة في شرح المشكاة ٥ / ٥٧٤.

(٤) ونزولها في يوم الغدير رواه كلٌّ من : ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وابن عساكر ،

٣١

الآية : (اليوم أكملت لكم دينكم ...) (١) بعد الخطبة ، ونزول : (سأل سائل بعذاب واقع ...) (٢) لمّا اعترض الأعرابي على الخطبة ..

وكقضيّة مناشدة أمير المؤمنين عليه السلام الصحابة بحديث الغدير (٣) ، وشعر حسّان بن ثابت في ذلك اليوم (٤) ، وشعر قيس بن سعد ابن عبادة (٥) ... وغيرها.

وبقي محذور اجتماع التصرّفين :

وهو ما أشار إليه شرّاح الحديث وعلماء الكلام ، من أنّ الأخذ بظاهر حديث الغدير يستلزم القول باجتماع الولايتين في آنٍ واحد ، «وفي اجتماع التصـرّفين محـذورات كثيرة» ، والحال أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم

____________

وأبي نعيم ، والثعلبي ، والواحـدي ، والفخـر الرازي ، والنيسابوري ، والعيني ، والسيوطي ..

وقد تقدّم الكلام عنها في الحلقة (١٢) المنشورة في العدد (٥٥ ـ ٥٦) من تراثنا الصادر سنة ١٤١٩ هـ ؛ وللتفصيل راجع : نفحات الأزهار ٨ / ١٩٥ ـ ٢٥٧.

(١) ونزولها في يوم الغدير رواه كلٌّ من : ابن مردويه ، وأبو نعيم ، وجماعة آخرون ..

وقد تقدّم الكلام عنها في الحلقة (١٢) المنشورة في العدد (٥٥ ـ ٥٦) من تراثنا الصادر سنة ١٤١٩ هـ ؛ وللتفصيل راجع : نفحات الأزهار ٨ / ٢٦١ ـ ٢٨٧.

(٢) ونزولها في القصّة رواه جماعة من المفسّرين والمحدّثين ..

وقد تقدّم البحث عنها في الحلقة (١٣) المنشورة في العدد (٥٧) من تراثنا الصادر سنة ١٤٢٠ هـ ؛ وللتفصيل راجع : نفحات الأزهار ٨ / ٣٢٥ ـ ٣٨١.

(٣) من رواة المناشدة : عبـد الرزّاق ، أحمد ، البزّار ، النسائي ، أبو يعلى ، الطبراني ، الخطيب ، ابن الأثير ، ابن كثير ، ابن حجر العسقلاني ، السمهودي ، السيوطي ، وغيرهم؛ راجع : نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار ٨ / ٧ ـ ٣٧.

(٤) من رواة شعر حسّان : ابن مردويه ، أبو نعيم ، سبط ابن الجوزي ، السيوطي ، وجماعة؛ راجع : نفحات الأزهار ٨ / ٢٩٠ ـ ٣٠٩.

(٥) راجع : نفحات الأزهار ٨ / ٣١٣ ـ ٣١٦.

٣٢

هو وحـده الأوْلى بالتصرّف ما دام حيّاً ..

وهذه الشبهة أهون الشُبه في المسألة ؛ وذلك لأنّا نقول بثبوت الولاية للاِمام عليه السلام في حياة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم على حدّ ولايته ، كما هو مقتضى حديث الغدير وغيره ، وليس في «اجتماع الولايتين» أيّ محذور ، نعم ، في «اجتماع التصرّفين» محاذير ـ كما ذكر صاحب التحفة وغيره ـ لكنّ هذا إن كان هناك تصرّف ، ولا ينبغي الخلط بين «الولاية» و «التصرّف» ؛ لأنّ ثبوت الولاية لا يستلزم فعلية التصرّف ، على أنّ محذور اجتماع التصرّفين إنّما هو في حال كون تصرّفه عليه السلام على خلاف إرادة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وهذا ما لم يتّفق صدوره منه ، لا في حياته ولا بعد وفاته.

وهكذا تندفع الشبهات ـ التي أوردها المعتزلة على حديث الغدير ، وأخذها منهم الفخر الرازي ، ثمّ تبعه عليها المتكلّمون والمحدّثون الكبار ـ على الاحتجاج بحديث الغدير المتواتر سـنداً ، والثابت دلالةً .. والتي ردّ عليها علماؤنا في مختلف الأدوار.

ويرى القارىَ الكريم أنّا لـم ننقل إلاّ عن كتب القـوم ، ولـم نعتمد إلاّعلى أعلام علمائهم .. في التفسير والحديث واللّغة.

ولا بُدّ من التنبيه على أنّ ما أوردناه في حديث الغدير ملخّص من كتابنا الكبير (١) ، فمن شاء المزيد فليرجع إليه .. والله ولي الهداية.

* * *

____________

(١) نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار ـ في الردّ على التحفة الاثنى عشرية ـ قسم حديث الغدير ، الأجزاء ٦ ـ ٩.

٣٣

المراجـعة (٦٢ ـ ٦٤)

أربعـون نصّـاً

قال السـيّد :

«عندنا من النصوص التي لا يعرفها أهل السُـنّة صحاح متواترة ، من طريق العترة الطاهرة ، نتلو عليك منها أربعين حديثاً» ..

وقال ـ رحمه الله ـ بعد ذكرها :

«إنّما أوردنا هذه النصوص لتحيطوا بها علماً ، وقد رغبتم إلينا في ذلك».

أقـول :

ولأنّ ما تصادق عليه الطرفان ، وتوافق عليه الفريقان ، حجّةٌ على الكلّ ، ولا محيص عن الأخذ به واتّباعه ..

ولأنّ بعض الجهلة قد توهّموا أنّ الاِمامية في إثبات إمامة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام عيالٌ على أهل السُـنّة ، وليس لهم رواية ولا كتاب يستندون إليه في عقائدهم ، والحال أنَّ استدلال علمائنا بكتب أهل السُـنّة إنّما هو من باب الاِلزام لهم ؛ عملاً بقاعدة المناظرة ، وإلاّ فإنّ المذهب الحقّ في أُصوله وفروعه في غنىً بالكتاب والسُـنّة الثابتة من طريق العترة الطاهرة عن أيّ كتاب أو رواية من سائر الفرق .. ولذا خاطب السـيّد أهل السُـنّة بقوله :

«وحسبنا حجّةً عليكم ما أسلفناه من صحاحكم».

٣٤

فقـيل :

«إنّ الأحاديث الأربعين التي أوردها الموسوي كلّها أحاديث هالكة وموضوعة باتّفاق أهل العلم بالحديث ، وما هي إلاّ بعض ما وضعه الرافضة من أحاديث نصرةً لمذهبهم وتأييداً لباطلهم ، والدليل على ذلك من وجوه :

الأوّل : إنّها أحاديث لا سند لها صحيح ، ونحن نطالب أتباع الموسوي إثبات صحّة إسناد هذه الأحاديث ، فإنّهم قوم لا يعرفون الاِسناد وأجهل الناس به.

الثاني : إنّها أحاديث لا يعرفها أهل العلم بالحديث ، ولم يخرجوها في كتبهم ، لا الصحاح ولا الكتب السـتّة ولا المسانيد.

الثالث : إنّها من رواية كذّابٍ قد حكم عليه الموسوي بأنّه صدوق ؛ لأنّه على عقيدته ومذهبه.

والقمّي إنّما هو أحد أعلام الرافضة الّذين اتّفق أهل العلم على ردّ روايتهم ؛ لأنّهم أصحاب بدعة كفريّة ، ولأنّهم يستحلّون الكذب نصرةً لمذهبهم ، كما سبق بيانه في الجزء الأوّل من كتابنا ، فكيف تقبل هذه الأحاديث وهي من مرويّاته؟

والقمّي هذا إنّما هو من سلالة القمّيّين الروافض الّذين لقبّوا أبو لؤلؤة المجوسي قاتل عمر بن الخطّاب بلقب بابا شـجاع الدين ، واخترعوا له عيداً سـمّوه : عيد بابا شجاع الدين ، وهو اليوم التاسع من ربيع الأوّل بزعـمهم ..

وأوّل من نادى بهذا اليوم عيداً هو أحمد بن إسحاق بن عبـدالله بن سعد القمّي الأحوص ، شيخ الشيعة القمّيّين ، وأطلق عليه يوم العيد الأكبر

٣٥

ويوم المفاخرة ويوم التبجيل ويوم الزكاة العظمى ويوم البركة ويوم التسلية. انظر : ص ٩٠٨ ـ ٢٠٩ من مختصر التحفة الاثني عشرية.

والقمّي هذا إنّما هو من أحفاد الشريف القمّي الذي والى التتار ، ووقف بجانبهم يوم غزوهم ديار المسلمين. انظر : البداية والنهاية ١٤ / ٩».

أقـول :

هذا كلام من لا يعقل ما يتفوّه به ... فقد ذكر السـيّد ـ رحمه الله ـ أنّ : «عندنا من النصوص التي لا يعرفها أهل السُـنّة صحاح متواترة ، من طريق العترة الطاهرة ، نتلو عليك منها أربعين حديثاً» ..

فهذه النصوص :

أوّلاً : لا يعرفها أهل السُـنّة ؛ فالردّ عليه بأنّها : «أحاديث لا يعرفها أهل العلم بالحديث» ما معناه؟!!

وثانياً : هي متواترة في معناها ، وهذه الأربعون طرفٌ منها ؛ فما معنى المطالبة بصحّة الأسانيد؟!

وأمّا دعوى أنّ : «أهل العلم بالحديث» هم «أهل السُـنّة» والشيعة «قوم لا يعرفون الاِسناد وأجهل الناس به» ، فهي في الأصل من ابن تيميّة على غرار سائر أكاذيبه ودعاويه الفارغة وافتراءاته الفاضحة.

وأمّا تهجّمات هذا المقلّد المفتري على علماء الشيعة ـ وخاصّةً القمّيّين منهم ـ فهي دليلٌ آخر على عجزه عن الجواب العلمي ، وجهله بآداب البحث وقوانين المناظرة.

وأمّا رميه الشيخ ابن بابويه القمّي الملقّب بـ : «الصدوق» بالكذب ، فمن آيات نصبه العداء للنبيّ وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام.

٣٦

وإنّ من أقبح أباطيل هذا الرجل وأوضح أكاذيبه قوله : «والقمّي هذا إنّما هو من أحفاد الشريف القمّي الذي والى التتار ووقف بجانبهم يوم غزوهم ديار المسلمين» ..

ففي أيّ سنة كان غزو التتار ديار المسلمين؟

ومَن هو «الشريف القمّي» الذي والاهم؟

وكيف يكون الصدوق القمّي المتوفّى سنة ٣٨١ هـ من أحفاده؟

فليجب المغفّلون الجهلة عن هذه الأسئلة!!

للبحث صلة ...

٣٧

عـدالة الصـحابة

(١١)

الشـيخ محمّـد السـند

محطّة الفتوحات الاِسلامية

لتي وقعت على يد الخلفاء الثلاثة

وهو الأمر الثاني ممّا يتّصل بالخلاف في عدالة الصحابة ..

إنّ من الأُمور التي تسترعي اهتمام كلّ مؤمن ومسلم هو حال الدين الاِسلامي من حيث الانتشار في بلاد الأرض من جهة ، وحاله من حيث إقامة أحكامه ومعالمه في البلدان الاِسلامية نفسها من جهة أُخرى ..

فلماذا لم ينتشر في كلّ أو سائر أرجاء الكرة الأرضية؟! ولماذا لايقام الحكم العادل القويم للدين الاِسلامي بتمام أركانه وأُصوله وسائر جوانبه؟! إذ لم يقم حكم العدل منذ عهد النبيّ صلى الله عليه وآله إلى الآن ، سوى خمس سنين ، هي مدّة حكومة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ، مع مواجهته للعديد من الموانع التي خلّفتها السنن الجائرة التي شـيّدها مَن سبقه في الخلافة.

فهذان السؤالان يتحرّى كلّ طالب للحقيقة ، وكلّ ذي وجدان وضمير

٣٨

ديني الجواب عنهما ، فلماذا لا تنعم البشرية جمعاً بربيع الاِسلام؟! ولماذا لا ينعم المسلمون بجميع ثمار الدين؟!

وتقف بنت المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليهما وآلهما ـ مجيبة الأجيال عن السبب في ذلك ، وترسم لنا موطن العجز الذي أصاب المسلمين وبسببه لم يتمكّنوا من نيل هذه المنى ..

هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الدين قد بدأ وتولّد في المشيئة الاِلهية برعاية سـيّد النبيّين صلى الله عليه وآله وجهود عليّ عليه السلام ، وببركتهما ترعرع وبني صرح نظام المسلمين ، ملّةً ومجتمعاً ودولةً ، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلم لعليّ : «إنّي وأنت أبوا هذه الأُمّة ، فمن عقّنا فلعنه الله عليه ، ألا وإنّي وأنت موليا هذه الأُمّة ، فعلى من أبق عنّا لعنة الله ، ألا وإنّي وأنت أجيرا هذه الأُمّة ، فمن ظلمنا أُجرتنا فلعنة الله عليه» (١).

وقال صلى الله عليه وآله : «أنا وعليّ أبوا هذه الأُمّة ، ولَحقّنا عليهم أعظم من حقّ أبوي ولادتهم ؛ فإنّا ننقذهم إن أطاعونا من النار إلى دار القرار ، ونلحقهم من العبودية بخيار الأحرار» (٢).

وقالت فاطمة عليها السلام : «أبوا هذه الأُمّة : محمّـد وعليّ ، يقيمان أودهم وينقذانهم من العذاب الدائم إن اطاعوهما ، ويبيعانهم النعيم الدائم إن وافقوهما» (٣) ..

كما يؤخذ بعين الاعتبار أيضاً الوعد الاِلهي : (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليُظْهِرَه على الدين كلّه ولو كرِه

____________

(١) بحار الأنوار ٤٠ / ٤٥ ، عن روضة الكافي والفضائل ـ لابن شاذان ـ.

(٢) بحار الأنوار ٢٣ / ٢٥٩ ح ٢٣.

(٣) بحار الأنوار ٢٣ / ٢٥٩ ح ٢٣.

٣٩

المشركون) (١).

وقوله تعالى : (أمّن يُجيبُ المضْطَرَّ إذا دعاهُ ويكشفُ السوءَ ويجعَلُكم خلفاءَ الأرض) (٢).

وقوله : (ونُريدُ أن نَمُنّ على الّذين استُضْعِفوا في الأرض ونجعَلَهم أئمّةً ونجعَلَهم الوارثينَ * ونُمكّنَ لهم في الأرض) (٣).

هذا الوعد الاِلهي الذي روى الفريقان متواتراً أنّه سينجزه الباري تعالى على يد المهدي من ولد فاطمة عليها السلام ، وهو من أهل البيت عليهم السلام ، فالدين قد بدأ بهم ، وآخره مآلاً يطبق على الأرجاء بهم أيضاً ، إلاّ أنّ السؤالين المتقدّمين يطرحان بشأن الحقب المتوسطة بين البداية والنهاية.

ونكاد نلمس الاِجابة في قول فاطمة عليها السلام في خطبتها على رؤوس المسلمين أيام السقيفة :

«وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ... فأنقذكم الله تبارك وتعالى بأبي محمّـد ، بعد اللتيا واللتي ، وبعد أن مُني ببهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب ، (كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله) (٤) ، أو نجم قرن للشيطان ، أو فغرت فاغرة من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفىَ حتّى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، مجتهداً في أمر الله ، قريباً من رسول الله ، سـيّداً في أولياء الله ، مشمّراً ، ناصحاً ، مجدّاً ، كادحاً ، لا تأخذه في الله لومة لائم ،

____________

(١) سورة الصفّ ٦١ : ٩.

(٢) سورة النمل ٢٧ : ٦٢.

(٣) سورة القصص ٢٨ : ٦.

(٤) سورة المائدة ٥ : ٦٤.

٤٠