نهاية الأفكار

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي

نهاية الأفكار

المؤلف:

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٥٥

تقرير أبحاث آية الله الشيخ آغا ضياء العراقي قدس سره
الجزء ١ و ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ - ١

١

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله وخير خلقه محمد واله الطيبين الطاهرين المعصومين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

( المقام الثاني من المقصد الثالث في الاستصحاب )

وتحقيق الكلام فيه يستدعي تقديم أمور ( الامر الأول ) في تعريف الاستصحاب وشرح حقيقته ( اعلم ) ان الاستصحاب استفعال من صحب ، وهو في اللغة اخذ الشيء مصاحبا ، ومنه استصحاب اجزاء مالا يؤكل لحمه في الصلاة ( وفي اصطلاح ) الأصوليين أطلق بالعناية على الأصل المعروف المقابل للأصول الثلاثة ( وقد عرفوه ) بتعاريف أسدها وأخصرها ما افاده العلامة الأنصاري ( قده ) من أنه ابقاء ما كان ( اما ) أخصريته فظاهرة ( واما ) أسديته فلكونه حاويا لجميع المسالك في الاستصحاب على اختلافها في وجه حجيته ( فان الابقاء ) الذي هو مدلول الهيئة عبارة عن مطلق الحكم بالبقاء والتصديق به أعم من حكم الشارع وتعبده بالبقاء ، أو حكم العقل وتصديقه الظني به ، أو حكم العقلاء وبنائهم ( والاستصحاب ) المصطلح المقابل للأصول الثلاثة عند القوم برمتهم على اختلاف انظارهم في وجه حجيته ، عبارة عن الحكم ببقاء ما كان من حيث إنه كان ( حيث إنه ) على التعبد واخذه من مضامين الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشك ، عبارة عن الحكم الانشائي من الشارع في مرحلة الظاهر وتعبده ببقاء ما علم حدوثه سابقا وشك في بقائه لاحقا ( وعلى اخذه ) ومن العقل ، عبارة عن ادراك العقل وتصديقه الظني ببقاء ما كان

٢

للملازمة الغالبية في الأشياء بين ثبوتها في زمان وبقائها في زمان لاحق عليه ، إذ لا نعنى من حكم العقل إلا دركه الوجداني وتصديقه قطعيا أو ظنيا ( كما ) انه بناء على اخذه من بناء العقلاء عبارة عن التزامهم على الجري العملي على بقاء ما كان بملاحظة كينونته في السابق ما لم يظهر لهم ارتفاعه ( فعلى جميع ) المسالك ينطبق التعريف المزبور على الأصل المذكور ، ويرد النفي والاثبات من الطرفين على معنى واحد ( نعم ) غاية ـ ما هناك اختلافهم في مصداقه ، ولكنه غير ضائل بوحدة المفهوم بعد كون نظر المثبتين طرا على اختلاف انظارهم إلى اثبات الجامع الذي ينفيه المنكرين ( نعم ) على ذلك يكون الاستصحاب المأخوذ من الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشك عبارة عما هو لازم مدلولها ، لا نفس مدلولها ، وهذا المقدار سهل في أمثال المقام « واما » كون البقاء حقيقيا بناء على اخذه من العقل ، وتعبديا بناء على اخذه من الاخبار على مسلك ارجاع النقض في لا تنقض اليقين إلى المتيقن ، لكونه على ذلك عبارة عن تصديق وجداني جزمي بالبقاء التعبدي « فغير ضائر » بوحدة المفهوم ، إذا لا يوجب مثله اختلافا في مفهوم الابقاء ، فإذا كان الظاهر من مدلول الهيئة في قوله ابقاء ما كان هو الحكم بالبقاء فلا جرم يكون ذلك بمفهومه الوجداني حاويا لجميع المسالك ولا يكون في التعريف المزبور من جهة لفظ الابقاء قصور عن إفادة حقيقة الاستصحاب « كما أن » التعبير بما كان أيضا مشعر بخروج الحكم بالبقاء لأجل تحقق علة وجوده في الزمان اللاحق ، أو لقيام الدليل على بقاء المستصحب في الزمان الثاني « كما أنه » لا قصور فيه أيضا في إفادة اعتبار الشك الذي هو أحد ركنية وهو الشك بالمعنى الأعم الشامل لمطلق خلاف اليقين ، بداهة ان حكم العقل ببقاء الشيء استنادا إلى وجوده سابقا ، وكذا حكم الشارع وتعبده في الظاهر أو بناء العقلاء وجريهم عملا على وجوده تعبدا لا يكون الا من جهة كونه مشكوك البقاء في الزمان اللاحق ، والا لما كن لحكم الشارع وتعبده ولا لحكم العقل به ظنا ، ولا لبناء العقلاء على الجري العملي على طبق الحالة السابقة مجال كما هو ظاهر « نعم » في اعتبار الشك الفعلي في حقيقة الاستصحاب بناء على عدم اخذه من الاخبار ، أو اخذه منها على مسلك

٣

توجيه حرمة النقض إلى المتيقن لا إلى اليقين كلام سيأتي التعرض له انشاء الله تعالى « وانما الكلام » في استفادة الركن الاخر وهو اليقين بالوجود السابق في زمان إرادة الحكم بالبقاء من التعريف المزبور « حيث إنه » بناء على اخذه من العقل بجعله من الاحكام العقلية غير المستقلة ، أو اخذه من بناء العقلاء ، يمكن ان يقال بعدم دخل الاحراز السابق في حقيقة الاستصحاب ، إذ الاستصحاب على ذلك عبارة عن مجرد حكم العقل وتصديقه الظني بالبقاء ، ومن الواضح انه لا يكون للاحراز السابق دخل في هذا الحكم ، وان كان يحتاج إليه في مقام احراز الحدوث ومرحلة تطبيق الحكم الاستصحابي على المورد ( واما ) بناء على اخذه من الاخبار ، فعلى مسلك توجيه النقض ، إلى نفس اليقين فلا اشكال في دخل الاحراز السابق في حقيقة الاستصحاب لكونه من أركانه كالشك اللاحق ، فلا بد من استفادته من التعريف المذكور « واما » على مسلك توجيه النقض إلى المتيقن بجعل اليقين فيه مأخوذا على نحو المرأتية إلى الواقع في مقام ايصال النهي إليه في يكون لليقين السابق دخل في حقيقته ، فان مفاد النصوص على ذلك عبارة عن مجرد تنزيل المشكوك منزلة المتيقن وترتيب آثار الواقع في مقام الجري العملي ، ومن الواضح عدم احتياج ذلك إلى الاحراز السابق وان كان مما يحتاج إليه في مقام احراز الحدوث وتطبيقه على المورد ، ولكنه غير مرتبط بمقام دخله في حقيقة الاستصحاب « بل على » هذا المسلك يمكن التشكيك في اعتبار الشك الفعلي فيه أيضا وجريانه مع الغفلة والشك التقديري كما سيجيء ، غاية الامر تكون الغفلة مانعة عن تنجزه كسائر الأحكام التكليفية ، بخلاف مسلك توجيه النقض إلى نفس اليقين كما هو المختار ، فإنه عليه لا محيص في حقيقة الاستصحاب من اليقين والشك الفعليين ( وربما يترتب ) على هذين المسلكين نتائج مهمه ( منها ) ذلك ( ومنها ) حكومة الاستصحاب على سائر الأصول العملية على المسلك المختار وعدمها على المسلك الاخر كما سيأتي ومرت الإشارة إليه في الكتاب غير مرة « ومنها » ما ، سيأتي انشاء الله تعالى من صحة التفصيل في حجية الاستصحاب بين الشك في المقتضى والشك

٤

في الرافع على المسلك الآخر وعدم صحته على المختار « وكيف كان » فالمقصود بالبيان هو قصور التعريف المزبور عن إفادة اعتبار اليقين والاحراز السابق في حقيقة الاستصحاب بناء على اخذه من الاخبار وارجاع النقض في لا تنقض إلى اليقين بجعله مأخوذا على نحو العنوانية لا المشيرية « الا ان يقال » : انه يستفاد ذلك من لفظ ما كان باعتبار ملازمة كونه كان مع اليقين الفعلي بوجوده سابقا حين الحكم بالبقاء « بل يمكن » استفادته من لفظ الابقاء أيضا باعتبار كونه اثباتا للازم الشيء من حيث إن الجزم بثبوت اللازم ملازم لجزم بثبوت الملزوم « ولئن » نوقش في الاستفادة المزبورة من دعوى عدم اقتضاء مجرد استلزام الابقاء ، أو الكينونة السابقة لليقين السابق لإفادة اعتباره في حقيقة الاستصحاب المأخوذ من الاخبار ، فلك ان تعرفه بما هو مضمون الاخبار ، وتقول. انه عبارة عن حرمة نقض اليقين بثبوت شيء سابقا بالشك في بقائه لاحقا ، فان الامر سهل في أمثال المقام « ثم انك عرفت » ان الاستصحاب بناء على اخذه من العقل عبارة عن ادراك العقل وتصديقه الوجداني الظني ببقاء ما ثبت تعويلا على ثبوته سابقا للملازمة الغالبية في الموجودات بين الحدوث والبقاء ، ومرجعه إلى كون اعتباره من باب الظن الشخصي لا الظن النوعي ، والا فلا دليل على حجيته الا السيرة وبناء العقلاء وهي فرض تحققها وتماميتها توجب خروج الاستصحاب من الأدلة العقلية لدخوله حينئذ فيما دلت عليه السيرة ، نظير ظواهر الألفاظ وغيرها من الامارات التعبدية فلا يناسب جعله حينئذ من الأدلة العقلية وعده من العقليات غير المستقلة كما هو ظاهر ( وعليه نقول ) انه يكفي في وهن هذا المسلك استلزامه حصول الظن الفعلي بطرفي النقيض في بعض الموارد حسب اختلاف الحالة السابقة ، كما في الماء البالغ إلى حد خاص الجاري فيه استصحاب القلة تارة والكثرة أخرى ، وهو كما ترى من المستحيل ( لا يقال ) الاشكال يتوجه إذا كان الاستصحابان جاريين فيه في زمان واحد ، وأما إذا كانا في زمانين فلا محذور من جريانهما فيه ، إذ لا يلزم منه اجتماع الظنين الفعليين بطرفي النقيض ( والمقام ) من هذا القبيل ، فان الماء الشخصي البالغ إلى نقطة كذا في ظرف يجرى فيه استصحاب

٥

القلة لا يجرى فيه استصحاب الكثرة لعدم كونه مسبوقا بالكثرة في ذلك الظرف ، وبالعكس في ظرف يجرى فيه استصحاب الكثرة لا يكون مسبوقا بالقلة حتى يجرى فيه استصحابها ، فمن أين ينتهي الامر إلى محذور لزوم حصول الظن الفعلي بطرفي النقيض في نحو المثال المزبور كي يجعل ذلك من الموهنات لهذا المسلك ( فإنه يقال ) نعم ولكن منشأ الظن الفعلي بكل من الكرية والقلة في الماء البالغ إلى حد خاص لما كان هي الملازمة بين الحدوث والبقاء ، يكون الاشكال في اعتقاد هذه الملازمة في الماء المزبور ، فان ملازمة بلوغ الماء الكذائي للظن الفعلي بالكرية تارة وبالقلة أخرى ولو في زمانين من المستحيل ، فلا محيص على هذا المسلك من المصير في أمثال هذه الموارد ، اما إلى عدم جريان أحد الاستصحابين ، أو دعوى الغفلة عن أحدهما حين حصول الظن الاستصحابي بالآخر « بل من لوازم » هذا المسلك أيضا عدم صحة اطلاق التعارض في الاستصحابات المتعارضة ، ولا حكومة الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسببي ، لاستحالة تحقق التعارض بين دليلين يكون حجيتها من حيث وصف الظن الفعلي ، لان اجتماع الظنين الفعليين بالمتنافيين محال فلا يمكن حصول الظن الفعلي بعدم اللازم في فرض حصوله بالملزوم وبالعكس « وهذا » بخلاف القول باعتباره من باب الاخبار ، فإنه لا محذور عقلا في التعبد بطرفي النقيض في زمانين ، فأمكن اجراء كلا الاستصحابين في نحو المثل المتقدم « كما أنه » عليه يصح اطلاق التعارض في الاستصحابات المتعارضة والمصير إلى الحكومة في الاستصحابات السببية « وكذا » يصح ذلك بناء على اعتباره من باب الظن النوعي ودخوله في أدلة السرة كظواهر الألفاظ وغيرها من الامارات المعتبرة من حيث إفادة نوعها الظن ، فإنه عليه أيضا لا يرد محذور في البين كما هو ظاهر.

( الامر الثاني ) هل المسألة من المسائل الأصولية ، أو القواعد الفقهية ، أو من المبادئ التصديقية ، فيه وجوه ( والتحقيق ) كونها من المسائل الأصولية ، لوضوح ان الغرض من هذا العلم بعد أن كان تنقيح ما يصلح ان يقع وسطا لاثبات الاحكام الكلية الفرعية ، أو ما تنتهي إليه الفقيه عند عدم انكشاف الواقع لديه بعلم أو

٦

علمي من الوظائف العملية المقررة عقلية أو شرعية ، فلا جرم يكون المقياس في أصولية المسألة بكونها من القواعد التي لها دخل في الغرض الداعي إلى تدوين هذا العلم ( وحيث ) ان مسائله يرجع إلى صنفين صنف منها لوحظ فيه الحكاية والكشف عن الواقع ولونا قصا وكان من شأنه الوقوع في طريق استنباط الاحكام الكلية والوظائف النفس الامرية كالأمارات ، وصنف آخر منها لم يلاحظ فيه هذه الجهة ، بل كان مما ينتهي إليه الفقيه في مقام العمل في ظرف الجهل بالواقع واستتاره كالقواعد العملية شرعية أو عقلية وكان لكل من الصنفين دخل في الغرض الذي لأجله دون هذا العلم ، كان الاستصحاب لا محاله على جميع المسالك معدودا من مسائل علم الأصول بل من أهم مباحثه ( وكذلك الامر ) على ما افاده العلامة الأنصاري قده من الميزان في أصولية المسألة بما يكون تطبيقه على موارده مخصوصا بالمجتهد ، حيث إنه من جهة احتياجه إلى الفحص عن الأدلة في تطبيقه على موارد الشبهات الحكمية يكون داخلا في مسائل العلم ، لاختصاص امر تطبيقه بيد المجتهد « وان كان » ما افاده قده من الميزان لا يخلو من اشكال ، لاندراج كثير من القواعد الفرعية تحت الميزان المزبور كقاعدة الطهارة في الشبهات الحكمية ونفوذ الصلح والشرط وعدم نفوذهما باعتبار كونهما مخالفين للكتاب والسنة أو غير مخالفين لهما ، حيث إن تطبيق عنوان مخالفة الكتاب والسنة وتشخيص موارد نفوذ الصلح والشرط عن موارد عدم نفوذهما يكون مختصا بالمجتهد وليس للمقلد فيه نصيب « واما بناء » على جعل ميزان المسألة بما يكون وسطا لاثبات حكم المتعلق كما يقتضيه التعريف المعروف بأنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الكلية الظاهرية من جهة لفظ الاستنباط في إرادة وقوع القواعد طريقا ووسطا لاستنباط الأحكام الشرعية الكلية « فبناء » على اخذه من بناء العقلاء من باب الا مارية لا الأصلية لا اشكال أيضا في كونه من المسائل الأصولية « وكذلك الامر » بناء على اخذه من العقل الظني المنتهى اعتباره إلى مقدمات الانسداد بمناط الكشف « واما بناء » على التعبد من جهة اخذه من الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشك ، ففي كونه من المسائل الأصولية اشكال خصوصا على مسلك

٧

توجيه النقض فيها إلى المتيقن ، فان مضامينها حينئذ لا تكون الا قاعدة فقيهة ظاهرية منطبقة على مواردها كسائر القواعد الفقهية ، كقاعدتي الضرر والحرج ، وقاعدة الطهارة ونحوها ، واستفادة الاحكام الجزئية منها في مواردها انما يكون من باب التطبيق لا الاستنباط ، هو غير مرتبط بوقوعها وسطا لاثبات الحكم الشرعي الكلي في مقام الاستنباط « ولكن الاشكال » كله في التعريف المزبور لما فيه من اقتضائه خروج مسائل الأصول العملية طرا عن مباحث هذا العلم ، وكذا مسألة حجية الظن بملاك الانسداد على حكومة العقل ، بل وخروج الامارات عنها أيضا بناء على تنزيل المؤدى وجعل حكم المماثل في مرحلة الظاهر « فان » نتيجة دليل اعتبارها حينئذ حكم شرعي كلي ينحل إلى احكام كلية أصولية وفرعية مطابقة لمؤديات الامارات ، لا انها تكون وسطا لاثبات حكم كلي شرعي فرعى واقعي في مقام استنباطه ، مع أنه كما ترى ، فان هذه المسائل من أهم مباحث هذا العلم ، ولأجل ذلك قلنا في مبحث تعريف علم الأصول ان الجري ، هو ان يقال في تعريفه انه هي القواعد الخاصة التي تعمل في استخراج الاحكام الفرعية الواقعية ، أو الوظائف العملية عند التحير وعدم انكشاف الواقع بعلم أو علمي عقلية كانت أم شرعية وان كان الامر سهلا.

( الامر الثالث ) لا اشكال في مباينة الاستصحاب مع قاعدة اليقين. فان المعتبر في القاعدة ان يكون الشك فيها متعلقا دقة بعين ما تعلق به اليقين بنحو يكون معروض الوصفين واحدا بالدقة العقلية وجودا وحدا ومرتبة ، ولذلك لا بد فيها من اختلاف زمان الوصفين مع اتحاد زمان المشكوك والمتيقن لاستحالة طروهما على محل واحد في زمان كذلك ( بخلاف الاستصحاب ) فان فيه يختلف معروض الوصفين دقة في عالم عروضهما ، حيث إن معروض اليقين فيه هو أصل ثبوت الشيء في زمان ، ومعروض الشك هو حيث بقائه في ثاني زمان حدوثه بحيث يكون المتحقق في هذه المرحلة قضيتان قضية متيقنة أبدية وقضية مشكوكة أزلية بلا ارتباط بينهما من جهة الحدوث والبقاء الا من جهة الذات التي هي منشأ انتزاعهما في مرحلة الاتصاف في الخارج ( وبذلك ) يكون الاستصحاب على عكس القاعدة ، فان يعتبر فيه اختلاف

٨

زمان معروض الوصفين لا زمان الوصفين نفسهما ، لجواز اتحاد زمانهما فيه ، كما لو علم يوم الجمعة بعدالة زيد يوم الخميس وشك في يوم الجمعة أيضا في عدالته فيه ، بل المعتبر في الاستصحاب هو اجتماع اليقين والشك حين الحكم بالبقاء سواء كان مبدء حدوث اليقين قبل حدوث الشك ، أو بعده ، أم كان حدوثهما متقارنين زمانا كالمثال المتقدم ( والا ) فبدونه لا يصدق الشك في البقاء ، بل الشك يكون ساريا فيخرج عن موضوع الاستصحاب كما هو ظاهر.

ومن التأمل ، فيما ذكرنا يظهر انه لابد في الاستصحاب من اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة بحسب الموضوع والمحمول ، والمراد بالوحدة المزبورة انما هو وحدتهما وجودا خارجيا كي يصدق تعلق الشك بما تعلق به اليقين السابق ويصدق على القضية المشكوكة انها بقاء للقضية المتيقنة ، لا مجرد وحدتهما بحسب الذات والحقيقة ولو مع تعددهما في الخارج وجودا ( بداهة ) انه لا يكفي في الاستصحاب مجرد الاتحاد في الحقيقة والماهية ولو مع تعدد الوجود خارجا ، والا يلزم جريان الاستصحاب عند اليقين بوجود فرد والشك في فرد آخر وهو كما ترى ( ولذا ) كان بناء المحققين على عدم جريان الاستصحاب في القسم الثالث من اقسام الشك في وجود الكلى كما سيجيء تحقيقه انشاء تعالى ( ولا ان المراد ) هو وحدتهما وجودا وحدا ومرتبة ، والا فلا يتصور فيه الشك في البقاء وينطبق على قاعدة اليقين لا الاستصحاب ( لا يقال ) على هذا يشكل تطبيق الاستصحاب على الأحكام الشرعية ، فان موضوعاتها لما كان عبارة عن الموجودات الذهنية ولو بما هي مرأت إلى الخارج وكان ظرف محمولاتها محضا بكونه ذهنيا لا خارجيا ، لان الخارج ظرف اتصافها بها لا ظرف عروضها ، فلا جرم في ظرف عروض محمولاتها لا يتصور لموضوع القضيتين وحدة خارجية لا فعلية ولا فرضية كي يصدق تعلق الشك في القضية المشكوكة بما تعلق به اليقين ( بل الواحدة ) المتصورة بينهما في هذا الصقع لا تكون الا ذاتية ، والا فموضوع كل قضية لا يكون الا موجودا ذهنيا مغايرا لما هو الموضوع في القضية الأخرى ( فإذا كان ) المفروض عدم كفاية الوحدة الذاتية في جريان الاستصحاب وكان الخارج

٩

أجنبيا عن صقع عروض هذه المحمولات ، فمن أين يتصور الشك في البقاء في القضايا الشرعية التكليفية حتى يجرى فيها الاستصحاب ( فإنه يقال ) ان ظرف عروض هذه المحمولات وان كان ذهنيا وبالنسبة إلى هذا الظرف لا يتصور لموضوع القضيتين وحدة خارجية ولو فرضية ولا يتوارد اليقين والشك على محل واحد من حيث الحدوث والبقاء ، لان ما هو معلوم كان معلوما إلى الأبد وما هو مشكوك كان مشكوكا من الأزل ( الا انه ) يكتفى بوحدة منشأ انتزاعهما في مرحلة الاتصاف في الخارج في صدق البقاء والنقض في موضوع القضايا التكليفية ، حيث يصدق على القضية المشكوكة في هذه المرحلة انها بقاء للقضية المتيقنة فيشملها دليل حرمة النقض لكونه مقصورا إلى مرحلة اتصاف الموضوع بحكمه في الخارج ، لا إلى مرحلة العروض كما هو ظاهر.

( ثم إن ) في استصحاب الاحكام الكلية مطلقا وان كان مدركها النقل اشكالا آخر ، وحاصله ان الشك في بقاء الحكم الكلى لا جل اختلاف الحالات وتبادلها راجع إلى الشك في بقاء موضوعه ، لان موضوع الاحكام الكلية انما هو المفاهيم الكلية وباختلاف القيود وتبادل الحالات يختلف المفهوم المأخوذ موضوعا للحكم بعين اختلافه في مرحلة كونه معروضا للحسن والقبح والمصلحة والمفسدة ، فإذا شك في بقاء الحكم الكلي ، اما للشك في بقاء القيد المعلوم قيديته ، أو لفقد ما يشك في قيديته أو لغير ذلك ، يرجع هذا الشك لا محالة إلى الشك في بقاء موضوعه فلا يجرى فيه الاستصحاب ( ومنشأ ) هذا الاشكال هو تخيل رجوع جميع القيود التي تؤخذ في القضية بحسب اللب إلى الموضوع وان كان بحسب ظاهر القضية راجعا إلى الحكم ( اما لقضاء الوجدان ) بدخل القيود المأخوذة في القضايا الطلبية في مصلحة موضوع الحكم وعدم تعلق الاشتياق والإرادة الفعلية الناشئة عن العلم بالمصلحة في الذات الا في ظرف تحقق جميع القيود ( أو البرهان ) من لا بدية كون موضوع الاحكام بعينه هو معروض المصالح ( فان ) لازمه في جميع موارد دخل القيد في مصلحة التكليف هو رجوعه إلى ما هو موضوع التكليف ، والا فبدونه يلزم اطلاق مصلحة الموضوع لعدم الواسطة بين الاطلاق والتقييد واستحالة الاهمال النفس الأمري ، ولازم الاطلاق المزبور هو تحقق المصلحة في الذات ولو مع عدم وجود القيد وهو مساوق

١٠

عدم دخله في مصلحة التكيف وهو خلف ( ولكن فيه ) ما لا يخفى من الفرق بين قيود الحكم وقيود الموضوع ( فان ) مرجع كون الشيء قيدا للوجوب والحكم كما أوضحناه في مبحث المقدمة في شرح الواجبات المشروطة إلى دخله بنحو العلية لأصل الاحتياج إلى الشيء الذي به يصير الشيء متصفا بكونه ذات مصلحة كالزوال والاستطاعة بالنسبة إلى الصلاة والحج في قبال قيود الواجب الراجعة إلى دخلها في تحقق المحتاج إليه ووجود ما هو المتصف بالمصلحة فارغا عن الاتصاف بكونه صلاحا كالطهور والستر بالنسبة إلى الصلاة ( ومن الواضح ) عدم صلاحية رجوع مثل هذه القيود في لب الإرادة إلى الذات المعروضة للمصلحة ( لان ) كون الشيء من الجهات التعليلية للحكم ومن علل اتصاف الشيء بكونه ذات مصلحة وان كان موجبا لضيق قهري في طرف الحكم والمصلحة ويمنع عن اطلاقهما ، لاستحالة ان يكون للشيء اطلاق يشمل حال عدم علمه ويستتبع ذلك أيضا نحو ضيق فرضي في طرف الذات التي هي معروض هذه المصلحة ، لامتناع أوسعية دائرة الموضوع عن حكمه ، ولكن لا يكاد يقيد به الذات ، لأنه من المستحيل تقيد الموضوع بحكمه أو بما هو من علله ( بل الموضوع ) في نحو هذه القضايا عبارة عن الذات العارية عن حيثيتي الاطلاق والتقييد ، كما هو الشأن في كل معروض بالنسبة إلى عرضه في الاعراض الخارجية وغيرها ( حيث ) ان كل عرض بعروضه على الذات يوجب ضيقا في ذات معروضه بنحو لا يكون لها اطلاق يشمل حال عدم عارضه ومع ذلك لا تكون مقيدة به أيضا وانما هي حصة من الذات التوئمة مع الحكم على نحو القضية الحينية لا مطلقة ولا مقيدة به ( وبعد ذلك ) نقول انه إذا كان مثل هذا الضيق الناشئ عن ضيق العارض في مرحلة عروضه غير مأخوذ في نفس معروض الحكم والمصلحة ، ففي موارد ظهور القضية في رجوع القيد المأخوذ فيها إلى كونه قيدا للوجوب لا للواجب لا مجال للاشكال في استصحاب الحكم الكلي من الجهة المزبورة ، فإنه على ما بيناه يكون الموضوع في أمثال هذه القضايا عبارة نفس الذات القابلة للبقاء حتى مع اليقين بانتفاء قيد حكمه فضلا عن الشك في انتفائه ، فإذا شك في قيدية ما علم انتفائه للحكم أو في بقاء ما علم قيديته له

١١

يجري فيه الاستصحاب ، كما يجري فيه عند الشك في بقاء سائر اعراضه الخارجية لأجل الشك في بقاء عللها ، فيقال : ان هذه الذات في ظرف تحقق قيد كذا كانت متصفة بالمرادية وبعد الشك في بقاء القيد يشك في بقائها على الاتصاف المزبور ، فيجري فيه الاستصحاب ولو مع البناء على كون مدار الوحدة في القضيتين على الأنظار الدقية فضلا عما هو التحقيق من كفاية الوحدة العرفية فإنه عليه ربما يجري الاستصحاب ولو كان القيد بحسب الدقة من قيود الموضوع ومن مقوماته ، لأنه ربما يرى العرف بحسب ما هو المرتكز في أذهانهم من مناسبة الحكم والموضوع كون الموضوع للحكم هو نفس الذات وان القيد من الأمور غير المقومة له أو من الجهات التعليلية لطرو الحكم عن ذات الموضوع ( نعم ) لو قلنا ان عموم لا تنقض مسوق بلحاظ ما يستفاد من لسان الدليل ويفهم منه العرف في تشخيص موضوعات الاحكام وتحديد مفاهيم الألفاظ ومداليلها ، لا بلحاظ ما يفهمه بلحاظ ما ارتكز في ذهنه في نظائره من الاحكام العرفية ومناسبات الحكم والموضوع ، كان اللازم التفصيل في جريان الاستصحاب بين الاحكام حسب اختلاف أدلتها من حيث اللسان ، فيفرق بين ان يكون القيد المشكوك دخله ولو بقاء مأخوذا في ظاهر القضية على نحو التوصيف كقوله : الماء المتغير نجس ، أو مأخوذا على نحو التعليل للحكم كقوله : الماء إذا تغير نجس باجراء الاستصحاب في الثاني دون الأول.

( لا يقال ) ان موضوع الحكم بما هو موضوع وان كان غير مقيد بقيود الحكم ولكنه لا اطلاق له أيضا يشمل حال عدم القيد ، لان ملازمة الحكم لموضوعه وعدم تخلفه عنه موجبة لضيق قهري في ذات الموضوع بنحو لا يكاد ينطبق الا على حصته من الذات الملازمة مع القيد لا مقيدة به ( ومعه ) يتوجه الاشكال المزبور ، إذ يقال : ان موضوع الحكم بوصف كونه موضوعا غير معلوم البقاء في الآن الثاني مع الشك في بقاء ما علم قيديته للحكم أو العلم بانتفاء ما شك في قيديته له ولا ( يندفع ) ذلك الا بالبناء على كفاية الأنظار العرفية في وحدة القضيتين وتعددهما ، والا فبناء على اعتبار الأنظار العقلية لا محيص من الاشكال حيث يكفي فيه مجرد عدم اطلاق

١٢

الموضوع بما هو موضوع الشامل لحال عدم القيد ( فإنه يقال ) : ان الغرض من لزوم اتحاد الموضوع بنحو الدقة في باب الاستصحاب ليس الا ذات الموضوع المحفوظ في الحالتين لا بوصف معروضيته ، فلا بد من تجريد متعلق اليقين والشك عن هذه الجهة كي يصدق تعلق الشك بعين ما تعلق به اليقين ، والا فمع عدم التجريد من هذه الجهة لا يتصور اجتماع اليقين والشك في زمان واحد ، ويلزمه انطباقه على قاعدة اليقين لا الاستصحاب ، ولازمه المنع عن استصحاب الاعراض الخارجية أيضا كسواد الجسم وبياضه وهو كما ترى ، فلا محيص حينئذ من تجريد متعلق الشك واليقين من الحيثية المزبورة بجعله عبارة عن ذات الموضوع المحفوظة في حالتي اليقين بعروض العارض وشكه حتى يصدق تعلق الشك بما تعلق به اليقين ، وعليه كما يجري الاستصحاب في الاعراض الخارجية ، كذلك يجري في الاحكام الكلية ، إذ لافرق بينهما من هذه الجهة ( نعم ) غاية ما هناك من الفرق بينهما هو ان القيود بوجوداتها الخارجية في الاعراض علل عروضها على محالها وفى الاحكام علل اتصاف الموضوعات بأحكامها ، لا علل عروضها عليها ، إذ في ظرف عروضها لا تحتاج إلى وجود قيودها خارجا وانما المحتاج إليه في هذه المرحلة هو وجودها لحاظا وتصورا كما أوضحناه في مبحث المقدمة في شرح الواجبات المشروطة.

( ثم إن العجب ) من المحقق الخراساني قدس‌سره انه كيف يصدق هذا الاشكال في المقام في استصحاب الاحكام الكلية ويلتجى في الجواب عنها إلى دعوى كفاية الأنظار العرفية في اتحاد القضيتين في الاستصحاب ، مع أنه على ما افاده في مبحث المقدمة من تصوير الواجب المشروط في فسحة من هذا الاشكال وحيث إن له تصوير جريان الاستصحاب فيها بنحو ما ذكرناه ولو مع البناء على لزوم اتحادهما بالنظر الدقي العقلي ( نعم ) يتجه هذا الاشكال على مسلك مثل الشيخ قدس‌سره فيما سلكه من عدم تصوير الواجبات المشروطة وارجاعها طرا بحسب اللب إلى المعلقة.

( الامر الرابع ) لا شبهة في أنه على المختار من تعلق النقض باليقين يعتبر في الاستصحاب فعلية اليقين والشك لأنهما مما به قوام حقيقته فلا استصحاب مع الغفلة

١٣

لعدم حصولهما معها ( واما ) بناء على مسلك توجيه حرمة النقض إلى الواقع بجعل اليقين المأخوذ في دليله طريقا لمجرد ايصال النهي إلى الواقع من دون دخل لليقين فيه أصلا ، فقد عرفت انه لا مجال لدعوى ركنية اليقين والشك الفعليين في الاستصحاب والتعبد ببقاء الواقع ( نعم ) غاية ، هناك دخلهما في مقام احراز الحدوث ومرحلة تطبيقه على المورد ، ونتيجة ذلك هي جريان الاستصحاب والتعبد بالبقاء مع الغفلة والشك التقديري أيضا ، غاية الامر تكون الغفلة مانعة عن تنجزه كسائر الاحكام الفعلية الواقعية ، لا عن أصل فعليته.

( وقد رتب ) على ذلك ثمرة مهمة في من كان متيقنا بالحدث ثم غفل وصلى فشك بعد الفراغ من الصلاة في تطهره قبل الصلاة ( فقيل ) في الفرض المزبور بصحة الصلاة وعدم وجوب اعادتها بناء على اعتبار فعليه الشك واليقين في الاستصحاب ، لقاعدة الفراغ الحاكمة على استصحاب بقاء الحدث الجاري بعد الصلاة عند الالتفات إلى حاله المقتضى لترتب اثر البطلان على المأتى به من حيث وجوب الإعادة والقضاء ، لان المقدار الذي ينفع الاستصحاب المزبور انما هو بالنسبة إلى الصلوات الآتية ، واما بالنسبة إلى الصلاة المأتى بها في حال الغفلة ، فالقاعدة تكون حاكمة عليه ( واما بناء ) على كفاية الشك التقديري ، فلا بد من الحكم بالبطلان ووجوب الإعادة والقضاء عند الالتفات إلى حاله ، لجريان استصحاب الحدث قبل الصلاة في حال الغفلة واقتضائه محكومية الصلاة بالفساد.

( أقول ) : ولا يخفى عليك ما في الابتناء والتفريع المزبور فان كل طريق أو أصل معتبر عقليا كان أو شرعيا عند قيامه على شيء انما يجب اتباعه ويترتب عليه الأثر من المنجزية أو المعذرية في ظرف وجوده وبقائه على حجيته لا مطلقا حتى في ظرف انعدامه أو خروجه عن الحجية ( والا ) فلا يكفي مجرد وجوده وحجيته في زمان في ترتب الأثر عليه للتالي حتى في أزمنة انعدامه أو خروجه عن الحجية ( وبعد ذلك نقول ) انه بناء على كفاية الشك التقديري وان كان يجرى استصحاب الحدث في ظرف الغفلة قبل الصلاة ولكنه لا يترتب عليه الا بطلان الصلاة سابقا ، واما وجوب

١٤

الإعادة أو القضاء في ظرف بعد الفراغ فلا يترتب على الاستصحاب المزبور ، لأنه من آثار الاستصحاب الجاري في ظرف بعد الفراغ لا من آثار استصحاب الحدث الجاري في ظرف الغفلة قبل الصلاة ، وانما اثر ذلك هو عدم جواز الدخول في الصلاة وجواز قطعها في فرض دخوله فيها غفلة ، فإذا كان الاستصحاب الجاري في ظرف بعد الفراغ محكوما بالقاعدة فمن حين الفراغ لا بد من الحكم بالصحة للقاعدة لا البطلان لعدم جريان الاستصحاب من ذلك الحين ولا اثر للحكم بالبطلان سابقا بعد كون العمل محكوما بالصحة من الحين بمقتضى القاعدة ( نعم ) لو كانت القاعدة في جريانها منوطة بعدم كون المصلى محكوما بالمحدثية سابقا ، كان لاخذ الثمرة مجال ، ولكن الامر ليس كذلك قطعا ، لعدم كون هذا القيد شرطا في القاعدة ( وانما ) الشرط فيها مجرد كون الشك في الصحة حادثا بعد الفراغ من العمل ، ومن هنا لا تجري فيما لو حدث الالتفات والشك قبل الفراغ ولو لم يجر استصحاب الحدث ولا كان المكلف محكوما بالمحدثية حين الشروع في الصلاة ، كما في موارد توارد الحالتين التي لا يجري فيها الاستصحاب ، اما لعدم جريانه في نفسه مع العلم الاجمالي ، أو من جهة سقوطه بالمعارضة.

( وبذلك ) ظهر اندفاع توهم اقتضاء البيان المزبور للحكم بصحة الصلاة وعدم وجوب اعادتها حتى في فرض اليقين بالحدث والشك الفعلي في الطهارة قبل الصلاة ، لفرض عدم انقضاء محكومية الصلاة بالفساد حال الاتيان بها بالاستصحاب الجاري قبل الصلاة لبطلانها بعد الفراغ ، وحكومة القاعدة على استصحاب الحادث الجاري في ظرف الفراغ : وهذا مما لا يلتزم به أحد من الأصحاب ( توضيح الاندفاع ) هو ان بنائهم على بطلان الصلاة ووجوب اعادتها في مفروض النقض انما هو لأجل عدم كون المورد مجرى لقاعدة الفراغ ، لاختصاصها بالشك الحادث بعد الفراغ وعدم شمولها لما إذا حدث الالتفات والشك قبله ، إذ حينئذ يجري استصحاب الحدث في ظرف بعد الفراغ لسلامته عما يقتضى صحة العمل ومقتضاه هو الحكم بالبطلان ووجوب الإعادة ، لا ان ذلك من جهة مجرد استصحاب الحدث الجاري

١٥

قبل الشروع في الصلاة واشتراط القاعدة في جريانها بعدم كون الصلاة حال الاتيان بها محكومة بالبطلان ( كيف ولازمه ) هو الحكم بالصحة للقاعدة في فرض طرو الغفلة حين الشروع في الصلاة ، كما لو تيقن بالحدث وشك في الطهارة قبل الصلاة ثم غفل فصلى فتجدد له الشك في الطهارة بعد الفراغ مع القطع بعدم تطهره من الحدث الاستصحابي قبل الصلاة ( لوضوح ) انه لا يكون له حكم ظاهري بتحصيل الطهارة حين الشروع في الصلاة ، فان الاستصحاب وظيفة عملية للشاك بما هو شاك فيكون متقوما بالشك حدوثا وبقاء ، فمن حين طرو الغفلة يرتفع الحدث الاستصحابي بارتفاع شكه : فلا استصحاب حين الشروع في الصلاة يقتضى محكومية المصلى بالمحدثية حتى يمنع عن جريان قاعدة الشك بعد الفراغ ، مع أن ذلك كما ترى.

( وتوهم ) ان المانع عن صحة الصلاة وعن جريان القاعدة حينئذ هو الحدث الاستصحابي السابق على طرو الغفلة ( فمدفوع ) بان الصالح للمنع عن الصحة انما هو الحدث الباقي إلى حين الشروع في الصلاة ، لا الحدث مطلقا ، فمانعية الحدث الاستصحابي عن صحة الصلاة انما تكون في فرض بقائه على الالتفات إلى حين الشروع فيها ، والا فمع زواله بطرو الغفلة قبل الشروع في الصلاة لا يصلح الحدث الاستصحابي السابق للمانعية عن صحة الصلاة وعن جريان قاعدة الفراغ حين الشك المتجدد بعد الفراغ ، فينحصر المنع عن صحة الصلاة وعن جريان قاعدة الشك بعد الفراغ في الفرض المزبور بما ذكرنا من اختصاص القاعدة في جريانها بصورة الشك الحادث بعد الفراغ من العمل بحيث لا يكون مسبوقا بالالتفات والشك قبل العمل وان غفل حين الشروع فيه ( وعليه ) نقول : في المقام انه لا مجال لمثل هذا التفريع واخذ الثمرة المزبورة بين القولين ، فإنه بعد أن كان الشك في الحدث ممحضا بكونه بعد الفراغ من الصلاة فمن حين الفراغ تجري فيها قاعدة الشك بعد الفراغ المقتضية لصحتها والحاكمة على أصالة فسادها بعد الصلاة ، قلنا باعتبار الشك الفعلي في جريان الاستصحاب ، أو بكفاية الشك التقديري ( ولعمري ) ان ذلك واضح لا سترة عليه ، وانما أطلنا الكلام في ذلك لما يظهر من العلامة الأنصاري قده من تسليم الثمرة

١٦

المزبورة وتعليل بطلان الصلاة وعدم جريان قاعدة الشك بعد الفراغ بسبق الامر بالطهارة والنهى عن الدخول في الصلاة بدونها ( نعم ) يمكن ان يفرض وجود الثمرة بين القولين في عكس المسألة فيما لو علم بالطهارة فشك فيها قبل الصلاة ثم غفل وصلى وبعد الفراغ من الصلاة حصل له شك مقرون بعلم اجمالي بتوارد الحالتين عليه قبل الصلاة ، حيث إنه بناءا على كفاية الشك التقديري في الاستصحاب يحكم عليها بالصحة وعدم وجوب الإعادة ( واما بناء ) على اعتبار الشك الفعلي ، فلا طريق إلى احراز صحة صلاته وفسادها ، لأنه حين حصول الشك المقرون بالعلم الاجمالي بتوارد الحالتين لا مجال لجريان الاستصحاب اما لعدم جريانه في نفسه مع العلم الاجمالي المزبور ، واما لسقوطه بالمعارضة ( واما قاعدة الشك ) بعد الفراغ فهي أيضا غير جارية لاختصاص جريانها بصورة الشك الحادث بعد الفراغ من العمل فيه فتأمل.

( الامر الخامس )

ينقسم الاستصحاب باعتبار اختلاف المستصحب والدليل الدال عليه وباعتبار الشك المأخوذ فيه إلى اقسام ( اما أقسامه ) بالاعتبار الأول ، فلان المستصحب تارة يكون وجوديا ، وأخرى عدميا ( وعلى التقديرين ) تارة يكون حكما شرعيا ، وأخرى موضوعا ذا حكم شرعي ( وعلى الأول ) تارة يكون حكما كليا ، وأخرى حكما جزئيا ( وعلى التقديرين ) فتارة يكون من الأحكام التكليفية ، وأخرى من الأحكام الوضعية ( واما أقسامه ) بالاعتبار الثاني فلان الدليل الدال على ثبوت المستصحب ، تارة يكون عقليا وأخرى شرعيا ( وعلى الثاني ) فتارة يكون لفظيا كالكتاب والسنة ، وأخرى لبيا كالاجماع ( واما أقسامه ) بالاعتبار الثالث « فلان » الشك في بقاء المستصحب تارة يكون من جهة الشك في المقتضى وقابلية المستصحب في نفسه للبقاء ، وأخرى يكون من جهة الشك في الرافع مع القطع باستعداد المستصحب للبقاء « وعلى الثاني » تارة يكون الشك في وجود الرافع ، وأخرى في رافعية الموجود « اما من

١٧

جهة » عدم تعين المستصحب لتردده بين ما يكون الموجود رافعا له ومالا يكون كذلك ، كفعل الظهر المشكوك كونه رافعا للاشتغال بالصلاة المكلف بها قبل العصر يوم الجمعة لتردده بين كونها هي الظهر أو الجمعة ، وكالوضوء المشكوك كونه رافعا للحدث المردد بين الأصغر والأكبر « واما » للجهل بصفة كون الموجود رافعا كالمذي ، أو الجهل بكونه مصداقا للرافع كالرطوبة المرددة بين البول والوذي « فهذه » اقسام متصورة للاستصحاب بالاعتبارات الثلاثة المتقدمة « والظاهر » هو وقوع الخلاف بين الاعلام في كل واحد من هذه الأقسام « حيث » انهم بين قائل بحجيته مطلقا ، وقائل بعدم حجيته كذلك « وثالث » بالتفصيل بين الوجودي والعدمي باعتباره في الأول دون الثاني ( ورابع ) عكس ذلك ( وخامس ) بالتفصيل بين الأحكام التكليفية والوضعية « وسادس » مفصل بين الأمور الخارجية والأحكام الشرعية « وسابع » بالتفصيل بين الاحكام الجزئية والكلية « وثامن » بين الشك في المقتضى والشك في الرافع « وتاسع » مفصل بين كون الدليل المستصحب عقليا أو شرعيا « وعاشر » بين ثبوت المستصحب بدليل لفظي كالكتاب والسنة ، وثبوته بدليل لبي كالاجماع إلى غير ذلك من التفاصيل التي استقصاها الشيخ قدس‌سره في فرائده « ولكن الأقوى » هو حجية الاستصحاب في جميع هذه الأقسام باعتبار المستصحب والدليل الدال عليه والشك المأخوذ فيه ، وسيتضح تحقيق ذلك أن شاء الله تعالى عند التعرض لذكر أدلة الاستصحاب.

« وقبل الخوض » فيها لا بأس بالتعرض لما افاده الشيخ قدس‌سره من التفصيل في جريان الاستصحاب بين ان يكون دليل المستصحب عقليا أو شرعيا بجريانه في الثاني دون الأول « حيث قال » الثاني من حيث إنه اي المستصحب قد يثبت بالدليل الشرعي وقد يثبت بالدليل العقلي ، ولم أجد من فصل بينهما الا ان في تحقق الاستصحاب مع ثبوت الحكم بالدليل العقلي وهو حكم العقل المتوصل به إلى حكم شرعي تأملا ، نظرا إلى أن الاحكام العقلية كلها مبينة ومفصلة من حيث مناط الحكم الشرعي ، والشك في بقاء الحكم المستصحب وعدمه لا بد وان يرجع إلى الشك

١٨

في موضوع حكم العقل لان الجهات المقتضية للحكم العقلي بالحسن والقبح كلها راجعة إلى قيود فعل المكلف الذي هو الموضوع ، فالشك في حكم العقل حتى لأجل وجود الرافع لا يكون الا للشك في موضوعه ، الموضوع لابد ان يكون محرزا معلوم البقاء في الاستصحاب كما سيجيء « ولا فرق » فيما ذكرنا بين ان يكون الشك من جهة الشك في وجود الرافع وبين ان يكون لأجل الشك في استعداد الحكم ، لان ارتفاع الحكم العقلي لا يكون الا بارتفاع موضوعه ، فيرجع الامر بالآخرة إلى تبدل العنوان ، الا ترى إذا حكم العقل بقبح الصدق الضار فحكمه يرجع إلى أن الضار من حيث إنه ضار حرام ، ومعلوم ان هذه القضية غير قابلة للاستصحاب عند الشك في الضرر مع العلم بتحققه سابقا ، لان قولنا المضر قبيح حكم دائمي لا يحتمل ارتفاعه ابدا ولا ينفع في اثبات القبح عند الشك في بقاء الضرر ، ولا يجوز ان يقال ان هذا الصدق كان قبيحا سابقا فيستصحب قبحه ، لان الموضوع في حكم العقل بالقبح ليس هذا الصدق ، بل عنوان المضر ، والحكم له مقطوع البقاء ( وهذا ) بخلاف الأحكام الشرعية فإنه قد يحكم الشارع على الصدق بكونه حراما ولا يعلم أن المناط الحقيقي فيه باق في زمان الشك أو مرتفع فيستصحب الحكم الشرعي ، انتهى كلامه قدس‌سره ( أقول ) : ولا يخفى ما فيه ، فان الاشكال المزبور ان كان راجعا إلى شبهة عدم احراز بقاء الموضوع في استصحاب الاحكام المستكشفة من الاحكام العقلية ، بدعوى ان القيود في الاحكام العقلية بأجمعها راجعة إلى نفس الموضوع الذي هو فعل المكلف ، فالشك في بقاء الحكم المستكشف من الحكم العقلي حتى لأجل الشك في وجود الرافع يرجع إلى الشك في بقاء موضوعه ، كما لعله هو الظاهر بل الصريح من بعض كلامه ( ففيه ) ( أولا ) منع الكلية المزبورة ، لا مكان دخل بعض القيود في الاحكام العقلية بكونه من الجهات التعليلية لطرو الحسن أو القبح على نفس الذات ، كما لعله من هذا القبيل عنوان المضرية للصدق والنافعية للكذب في الحكم عليهما بالقبح والحسن ( فان الظاهر )

١٩

من مثل هذه العناوين كونها من الجهات التعليلية لطرو الحسن والقبح على نفس الذات ، لا من الجهات التقييدية المأخوذة في الموضوع ، نظير عنوان المؤثرية في الاضرار والانتفاع الذي هو من الجهات التعليلية لطرو الحسن والقبح على ما هو المؤثر وهو الذات ، وعنوان المقدمية التي هي جهة تعليلية لطرو الوجوب على ما هو مصداق المقدمة من دون ان يكون لعنوان المقدمية دخل في موضوع الحكم ( وعليه ) فلا قصور في استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي لان موضوع الحكم حينئذ عبارة عن نفس الذات ومثله مما يقطع ببقائه في الزمان الثاني حتى مع القطع بانتقاء قيد حكمه فضلا عن صورة الشك فيه.

( وثانيا ) على فرض تسلم الكلية المزبورة في القيود المأخوذة في الاحكام العقلية ( نقول ) انه يتوجه الاشكال المزبور بناءا على اعتبار وحدة الموضوع في القضية المشكوكة والمتيقنة بالأنظار العقلية الدقية ( ولكن ) يلزمه المنع عن جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف من الدليل الشرعي أيضا ، لقيام احتمال تغاير الموضوع في كل مورد يكون الشك في بقاء الحكم الشرعي من جهة الشك في انتفاء ما له الدخل في موضوع الحكم قطعا أو احتمالا سواء في الشبهة الحكمية أو الموضوعية ، فإذا حكم الشارع على الصدق الضار بكونه حراما واحتمل مدخلية الوصف المزبور في موضع الحكم فعند الشك في بقائه على مضريته لا يجري فيه الاستصحاب لعدم احراز بقاء الموضوع في الزمان الثاني ( بل يلزمه ) سد باب الاستصحاب في الاحكام رأسا الا في الموارد النادرة لأنه ما من مورد يشك في بقاء الحكم الشرعي لأجل الشك في انتفاء بعض الخصوصيات حتى الشك في وجود الرافع أو رافعية الموجود الا ويحتمل مدخلية الخصوصية المشكوكة وجودا أو عدما في موضوع الحكم الشرعي ومناطه ولو بحسب لب الإرادة ، ومع قيام احتمال تغاير الموضوع لا يجري فيه الاستصحاب ( واما ) على ما هو التحقيق من كفاية الوحدة بالأنظار العرفية حسب ما هو المرتكز في أذهانهم في نظائره من أحكامهم العرفية بمناسبات الحكم والموضوع كما هو مختاره قده أيضا فلا قصور في جريان الاستصحاب ، فإنه

٢٠