نهاية الأفكار

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي

نهاية الأفكار

المؤلف:

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٥٥

تقرير أبحاث آية الله الشيخ آغا ضياء العراقي قدس سره
الجزء ١ و ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ - ١

كما يجرى الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف من الدليل الشرعي حتى فيما كان الموضوع مأخوذا في لسان الدليل على نحو التقييد كالماء المتغير والصدق الضار والكذب النافع ونحو ذلك لعدهم الخصوصيات المأخوذة فيه في لسان الدليل من الحالات غير المقومة للموضوع ( كذلك ) يجرى في الحكم المستكشف من الدليل العقلي ( واما الجزم ) بانتفاء الحكم العقلي حينئذ لعدم دركه فعلا مع الشك في مناط حكمه ، فغير ضائر بجريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف منه ، لما سيجيء من أن استتباع الحكم الشرعي للحكم العقلي انما هو في مقام الكشف والاثبات لا الثبوت ، وانما هو في هذا المقام تابع تحقق مناطه واقعا فيمكن بقاء الحكم الشرعي ثبوتا ببقاء مناطه وان انتفى كاشفه الذي هو الحكم العقلي ( فعلى كل تقدير ) لا مجال للتفرقة في جريان الاستصحاب بين كون دليل الحكم شرعيا وكونه عقليا ( نعم ) بناء على أن عموم لا تنقض مسوق بلحاظ ما يستفاد من لسان الدليل حسب فهم العرف في تشخيص موضوعات الاحكام وتحديد مفاهيم الألفاظ ومداليلها ، لا بلحاظ ما ارتكز في أذهانهم العرفية بما تخيلوه من الجهات والمناسبات ، لا بأس بالتفرقة في جريان الاستصحاب بين الاحكام بلحاظ اختلاف أدلتها ، فيفصل بين الثابت بالدليل اللفظي الظاهر في كون القيد من قيود الحكم كقوله : الماء إذا تغير ينجس والصدق إذا كان ضارا حرام ، وبين الثابت بالدليل العقلي المثبت للحكم لعنوان خاص كالصدق الضار والكذب النافع بجريان الاستصحاب في الأول عند الشك في انتفاء قيده المعلوم قيديته أو الشك في قيديته ما يعلم انتفائه ، لعدم تطرق الشك في أمثال ذلك إلى موضوع المستصحب ، وعدم جريانه في الثاني لعدم انفكاك الشك في بقاء الحكم المستكشف منه عن الشك في بقاء موضوعه ( ولكن ) لازم ذلك هو تعميم الاشكال المزبور من هذه الجهة في الاحكام المستكشفة من الاجماع والسيرة أيضا ، بداهة انه لا خصوصية لهذه الشبهة بالأحكام المستكشفة من الأدلة العقلية ، بل هي تجرى في كل حكم شرعي يكون طريق كشفه غير الأدلة اللفظية من اللبيات عقلا كان أو اجماعا أو سيرة ، فإذا ثبت حكم شرعي لموضوع خاص في حال من الأحوال باجماع أو سيرة قطعيه ، فعند الشك في زوال

٢١

ما يقطع بدخله في المناط أو القطع بزوال ما يحتمل دخله فيه تجرى فيه الشبهة المزبورة في الدليل العقلي ، لعدم انفكاك الشك في بقاء الحكم حينئذ عن الشك في بقاء موضوعه ، فلا وجه حينئذ للتفصيل بين الدليل الشرعي والعقلي وتخصيص الاشكال بخصوص الحكم المستكشف من الدليل العقلي ( هذا كله ) إذا كان مبنى المنع عن استصحاب الاحكام المستكشفة من الأدلة العقلية شبهة عدم احراز بقاء الموضوع ( وأما إذا كان ) مبنى المنع المزبور شبهة عدم تطرق الشك فيها من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية كما يقتضيه ظاهر بعض كلامه الاخر ، من أن الاحكام العقلية كلها من حيث المناط والموضوع تكون مبينة ومفصلة ، لأنه لا يحكم بشيء بالحسن أو القبح الا بعد درك موضوعه وتشخيصه بخصوصياته وتميز ما له الدخل في مناط حكمه مما لا دخل له فيه ، فلا يتطرق إليه الاهمال والاجمال ، وإذا كان مناط الحكم الشرعي وموضوعه هو المناط والموضوع في الحكم العقلي ، فلا يتصور فيه الشك أيضا حتى يجرى فيه الاستصحاب ( ففيه ) أولا منع لزوم كون حكم العقل بالحسن والقبح عن مناط محرز تفصيلي عنده ، بل كما يكون ذلك ، كذلك قد يكون عن مناط محرز اجمالي أيضا ( بداهة ) انه قد لا يدرك العقل دخل بعض الخصوصيات في مناط حكمه وموضوعه تفصيلا لعجزة عن تمييز ما له الدخل فيه واقعا مما لا دخل له فيه ، وانما يحكم بشيء واجد لبعض الخصوصيات بالحسن أو القبح كحكمه بقبح الكذب الضار وحسن الصدق النافع لمكان ان المشتمل على تلك الخصوصيات هو المتيقن في قيام مناط القبح والحسن به مع احتمال ان لا يكون لبعض الخصوصيات دخل في مناط الحسن والقبح ( ومن الواضح ) حينئذ امكان تحقق الشك في بقاء المناط ولو مع العلم بانتفاء بعض ما له الدخل في العلم بوجوده اجمالا فضلا عن الشك في انتفائه ( وفي مثله ) وان ارتفع الحكم العقلي فيه بالحسن أو القبح ويجزم بانتفائه فعلا ، لأنه فرع دركه المنوط بوجود جميع ما له الدخل في العلم بوجوده اجمالا ( ولكن ) ليس المقصود من الاستصحاب هو استصحاب الحكم العقلي كي ينافيه الجزم المزبور ، بل المقصود منه استصحاب الحكم الشرعي المستكشف منه بقاعدة الملازمة ، والجزم بانتفاء الحكم العقلي لا يضر

٢٢

بجريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف منه ( لان بقاء ) الحكم الشرعي ثبوتا تابع بقاء مناط القبح واقعا ، لا تابع بقاء نفس الحكم العقلي ، والملازمة المزبورة بينهما انما تكون في مقام الكشف والاثبات لا في مقام الثبوت أيضا بحيث يدور الحكم الشرعي حدوثا وبقاء مدار الحكم للعقلي بالحسن والقبح ( وحينئذ ) فإذا كان كان الشك في بقاء المناط العقلي مستتبعا للشك في بقاء الحكم الشرعي واقعا فلا محالة يجرى فيه الاستصحاب ( وثانيا ) على فرض لزوم كون الاحكام العقلية عن مناط محرز تفصيلي بخصوصياته ( نقول ) : ان غاية ، ما يقتضيه ذلك هو المنع عن تطرق الشك في المناط العقلي من جهة الشك في قيدية شيء فيه ( واما الشك فيه ) من جهة الشك في بقاء ما هو معلوم القيدية كالشك في بقاء الكذب على نافعيته والصدق على مضريته ، فهو امر ممكن ، بل كثيرا ما يقع مثل هذا الشك في المناطات العقلية ، وفى مثله وان يرتفع الحكم العقلي بالحكم العقلي بالحسن أو القبح فعلا ، ولكنه بالنسبة إلى الحكم الشرعي المستكشف منه لا محذور من استصحابه بعد استتباع الشك في بقاء المناط العقلي للشك في بقاء الحكم الشرعي ( مع امكان ) دعوى تطرق الشك في الحكم الشرعي في الأول أيضا ، نظرا إلى احتمال أوسعية مناط الحكم الشرعي من مناط الحكم العقلي بقيامه بالأعم من الواجد لبعض الخصوصيات والفاقد لها ، أو احتمال قيام مناط آخر مقام المناط الأول عند انتفائه الموجب لبقاء شخص الحكم الأول بلا اقتضاء تغيير المناط تغييرا لشخص الإرادة ، نظير تبدل عمود الخيمة بالنسبة إلى هيئتها الموجودة الشخصية ، فان حال المصالح والمناطات بالنسبة إلى الاحكام كحال عمود الخيمة بالنسبة إلى هيئتها الشخصية القائمة ، فكما لا يوجب تبدل عمود الخيمة تغييرا في شخص هيئتها القائمة ، كذلك تبدل المصالح والمناطات ( ومع ) امكان تطرق الشك في بقاء الحكم الشرعي المستكشف بأحد الوجهين يجري فيه الاستصحاب ولو مع القطع بزوال بعض ما له الدخل في الحكم العقلي فتدبر ( هذا كله ) في استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي بالحسن أو القبح بقاعدة الملازمة.

٢٣

( واما ) استصحاب نفس الحكم العقلي بالحسن أو القبح عند الشك في بقاء مناطه لشبهة حكميه أو موضوعيه ، فلا شبهة في أنه لا سبيل إلى استصحابه ، وذلك لا من جهة ما قيل من عدم ترتب اثر عملي على استصحابه الا باعتبار إرادة اثبات الحكم الشرعي من استصحابه وهو غير ممكن لكونه من أوضح افراد الأصل المثبت ، لأنه من استصحاب أحد المتلازمين لاثبات الملازم الآخر ( بل من جهة ) الجزم بانتفائه حينئذ وعدم امكان تطرق الشك في الاحكام العقلية الوجدانية التي منها باب التحسين والتقبيح العقليين ، فان حقيقة الحسن العقلي ليس الا عبارة عن ملائمة الشيء لدى القوة العاقلة كسائر ملائمات الشيء لدى سائر قواه من الذائقة والسامعة ونحوهما مما هو في الحقيقة من الآت درك النفس ، قبال ما ينافر لدى القوة العاقلة المسمى بالقبح ( ومن الواضح ) امتناع تطرق الشك في مثل هذه الادراكيات الوجدانية ، إذ هي تدور مدار حصول صفة الانبساط والاشمئزاز ، نظير سائر الحالات الوجدانية كالفرح والحزن ، فإذا انبسط العقل من شيء لكونه ملائما لديه يحكم بحسنه ، كما أنه باشمئزازه عنه لمنافرته لديه يحكم بقبحه ولا يمكن فيه تطرق الشك والاحتمال لامتناع خفاء الوجدانيات على الوجدان ( نعم ) ما هو المشكوك انما هو مناط حكمه من المصالح والمفاسد النفس الامرية ولكنه أجنبي عن الاحكام العقلية الوجدانية ( كما أن ) ما هو القابل لتطرق الشك والاحتمال فيه في العقليات هو الاحكام العقلية الاستكشافية في باب الملازمات ونحوها من الأمور الواقعية كحكمه بثبوت الملازمة بين الشيئين وحكمه باستحالة اجتماع النقيضين والضدين وامتناع التكليف بغير المقدور ( فان درك ) العقل فيها لما كان طريقا إلى الواقع لا مقوما لحكمه ، كاحكامه الوجدانية التي منها باب التحسين والتقبيح كان المجال لتطرق الشك والاحتمال فيها ، كالشك في استحالة الشيء أو الشك في الملازمة بين الشيئين ، بخلافه في احكامه الوجدانية التي يكون دركه وتصديقه مقوم حكمه ، فإنه يمنع تطرق الشك والاحتمال لاستحالة خفاء الوجدانيات على الوجدان ( وبهذه ) الجهة نفرق بين سنخي الحكم العقلي في باب التخطئة والتصويب أيضا ، حيث نقول ان باب التحسين والتقبيح العقليين الناشئين

٢٤

من ادراك العقل لما يلائمه وينبسط منه وما ينافره ويشمئز منه ليس مما يتطرق إليه التخطئة كالأحكام العقلية الاستكشافية ، بل لابد فيه من الالتزام بالتصويب المحض ، بخلاف الاحكام العقلية الاستكشافية في باب الملازمات ونحوها ، فان درك العقل وتصديقه فيها لما كان طريقا إلى الواقع لا مقوما لحكمه كان لتطرق التخطئة إليها مجال ( بل لا محيص ) من القول بها ، لان الملازمة الواقعية بين الشيئين وكذا الاستحالة الواقعية للشيء قد يدركها العقل فيحكم بها وقد لا يدركها أو يدرك عدمها ، وكذا المصلحة والمفسدة الواقعية والحسن والقبح الواقعيان قد يدركها العقل وقد لا يدركها أو يخطئ عنها فيحكم بعدمها ( وبالجملة ) المقصود من هذا التطويل بيان الفرق بين سنخي الحكم العقلي وان عدم جريان الاستصحاب في نفس الحكم العقلي بالحسن أو القبح انما هو من جهة الجزم بانتفائه عند الشك في المناط لعدم امكان تطرق الشك في الاحكام العقلية الوجدانية ، لا انه من جهة كونه من الأصول المثبتة كي يبتنى جريانه فيه على القول بالأصل المثبت ( نعم ) ما هو المشكوك حينئذ هو مناط حكمه من المصالح والمفاسد الواقعية ، ولكنه غير مرتبط بنفس الحكم العقلي بالحسن والقبح ( كما أن ) ما هو القابل لطرو الشك فيه هو الاحكام العقلية الاستكشافية في باب الملازمات ونحوها من مثل استحالة اجتماع الضدين والنقيضين واستحالة التكليف بغير المقدور من الحكيم تعالى مما يكون درك العقل وتصديقه طريقا لفهمه الاستحالة الواقعية لا مقوما لاستحالة الشيء ( وحينئذ ) فتسليم تطرق الشك في الحكم العقلي بالحسن أو القبح لا يكون الا من جهة الخلط بين سنخي الحكم العقلي وجعلهما على منوال واحد.

( ومن التأمل فيما ذكرنا ) يظهر أيضا فساد ما توهم من ثبوت ايجاب الاحتياط العقلي عند الشك في المناط من المصالح والمفاسد المقتضية لحكم العقل بالحسن والقبح عند دركها ، بخيال انه لا يمكن ان يكون للعقل في موارد الشك في الموضوع حكم على خلاف حكمه على الموضوع الواقعي بالحسن أو القبح ، بل لا بد وأن يكون له عند الشك حكم طريقي آخر بقبح الاقدام على ما لا يؤمن ان يكون هو الموضوع للقبح ، ( بخلاف ) الأحكام الشرعية فان للشارع ان يجعل في رتبة الشك في الموضوع حكما مخالفا لما

٢٥

رتب على الموضوع الواقعي ( إذ فيه ) ان حكم العقل بايجاب الاحتياط في رتبة الشك في الموضوع الذي حكم بقبحه فرع امكان تطرق الشك في حكمه الوجداني بالحسن أو القبح ، وعلى ما بينا من امتناع ذلك لاستحالة خفاء الوجدانيات على الوجدان أين يتصور الشك في الحكم كي يبقى المجال لحكمه الطريقي بايجاب الاحتياط ( واما ) توهم كفاية مجرد الشك في الموضوع والمناط في حكمه بايجاب الاحتياط ( فمدفوع ) بان لازمه حكمه به في كل شبهة بدوية حكمية أو موضوعية ، وهو كما ترى ، فان مرجعه إلى القول بأصالة الحذر في الأشياء لدى العقل ( هذا ) في الاحكام العقلية الوجدانية ( واما احكامه ) الاستكشافية من مثل استحالة التكليف بغير المقدور وبما لا يطاق فتصور الشك فيها وان كان صحيحا ، ولكن لا يلزم ان يكون له عند الشك في الاستحالة حكم طريقي على وفق حكمه بالموضوع الواقعي ، والا يلزم حكمه بعدم التكليف مع الشك في القدرة ( مع أنه ) ليس كذلك قطعا ، بل العقل في مثله يحكم عند الشك بوجوب الاحتياط كما هو واضح ( وكيف كان ) فهذا كله في استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي بالحسن أو القبح بقاعدة الملازمة ، واستصحاب نفس الحسن والقبح العقليين.

( واما استصحاب ) الموضوع الذي حكم العقل بحسنه أو قبحه الشارع بوجوبه أو حرمته ( فإن كان ) الشك فيه لبعض الأمور الخارجية ، كالشك في بقاء وصف الاضرار في الكذب الذي حكم بقبحه ، فلا شبهة في جريان الاستصحاب فيه ( وان كان ) الشك فيه لأجل انتفاء بعض الخصوصيات التي يحتمل دخله في موضوعية الموضوع ، فالذي يظهر من بعض الاعلام نفى الاشكال عن جريان الاستصحاب فيه أيضا ( ولكن ) دقيق النظر وفاقا للشيخ قدس‌سره يقتضى المنع عن جريانه فيه ( فان ) الغرض من استصحاب الموضوع في مثل المقام الذي هو من الشبهات الحكمية ، ان كان استصحابه بوصف موضوعية للحكم ، فهو يرجع إلى استصحاب حكمه لان وصف الموضوعية منتزع عن حكمه فيغني استصحاب الحكم عن استصحابه ( وان كان ) الغرض استصحاب ذات الموضوع التي عرض عليها الحكم لا هي بوصف معروضيتها للحكم ، فمثل هذا الاستصحاب غير جار في كلية موضوعات الاحكام في الشبهات

٢٦

الحكمية ( لان ) مرجع الشك فيها إلى أن الموضوع خصوص الواجد للقيد المحتمل دخله أو هو الأعم من الواجد والفاقد ، وبذلك يدور امره بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ، ومن المعلوم انه لا يجري فيه الاستصحاب لانتفاء الشك في البقاء على كل تقدير فيكون استصحابه كاستصحاب الفرد المردد ( نعم ) ما هو مشكوك البقاء حينئذ انما هو عنوان ما هو المعروض للحكم بنحو الاجمال ، ولكنه بهذا العنوان الاجمالي لم يترتب عليه اثر شرعي حتى يجرى فيه الاستصحاب وإذا الأثر الشرعي انما رتب على ما هو معروض الحكم واقعا ومثله مما لا شك في بقائه لتردده بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع فتدبر.

( ثم انك عرفت ) وقوع الخلاف في حجية الاستصحاب بين الاعلام في جميع ما له من الأقسام باعتبار المستصحب ، وباعتبار الدليل الدال عليه ، وباعتبار الشك المأخوذ فيه ( الا انه يظهر ) من بعضهم كصاحب الرياض وغيره فيما حكى عنهم تخصيص النزاع في حجية الاستصحاب بالأمور الوجودية ، حيث نفي الخلاف في الاستصحابات العدمية وجعل الاستصحاب فيها مورد وفاق الجميع ( ولعل ) منشأ ذلك ملاحظة تسالمهم على بعض الأصول العدمية كاصالة عدم القرنية وأصالة عدم النقل وأصالة عدم المعارض والمزاحم ونحوها مما جرت السيرة على الاخذ بها ، فتخيل ان ذلك من جهة وفاقهم على حجية الاستصحاب في مطلق الأمور العدمية وان المذكورات من موارد الاستصحابات العدمية وصغرياتها ( ولكنه كما ترى ) لا ترتبط تلك الأصول العدمية بالاستصحاب المصطلح ، وانما هي أصول عقلائية برأسها جارية في الموارد الخاصة ( اما ) أصالة عدم القرينة فظاهرة ، إذ هي بناء على عدم ارجاعها إلى أصل وجودي تكون برأسها أصلا عقلائيا قد استقرت سيرة العقلاء على الاخذ بها في خصوص باب الألفاظ في مقام اثبات ظهور الكلام واستفادة مراد المتكلم منه عند احتمال احتفافه حين صدوره بما يوجب عدم ظهوره في معناه الموضوع له ، ولذا ترى بنائهم طرا على الاخذ بالأصل المزبور لاثبات ظهور اللفظ

٢٧

في معناه الموضوع له واستفادة مراد المتكلم من ظاهر لفظه حتى من لا يعتمد على الاستصحاب أصلا ومن لا يرى حجية مثبتات الأصول وينكرها أشد الانكار ( مع وضوح ) ان انعقاد ظهور الكلام واستقراره انما هو من اللوازم العادية لعدم احتفافه بالقرينة الصارفة ، ومثل هذه الجهة لا يكاد تثبت باستصحاب عدم القرينة الا على القول بالمثبت ( فاتفاقهم ) على الاخذ بالأصل المزبور لاثبات ظهور اللفظ مع مصير أكثرهم إلى رفض مثبتات الأصول وذهاب بعضهم إلى انكار حجية الاستصحاب مطلقا ، يكشف عن صدق ما ادعيناه من كونها أصلا عقلائيا برأسها غير مرتبطة بالاستصحاب ( نعم ) بناء على حجية الاستصحاب من باب الا مارية لا الأصلية ، يمكن دعوى اندراج الأصل المزبور في الاستصحاب المصطلح ، ولكن المبنى سخيف جدا ( هذا ) في القرائن المتصلة المانعة عن انعقاد ظهور اللفظ.

( واما القرائن المنفصلة ) المانعة عن حجية ظهور اللفظ بعد انعقاده واستقراره ( فان قلنا ) بإناطة موضوع الحجية في الظهورات الصادرة بعدم قيام القرينة على إرادة خلاف الظاهر منها ، فلا باس بدعوى اندراج الأصل المزبور في الاستصحاب ، ولو بناء على اخذه من مضامين الاخبار : لكونه حينئذ من قبيل الموضوعات المركبة أو المقيدة المحرزة بعضها بالوجدان وبعضها بالأصل ، حيث إن أصل ظهور اللفظ تكون محرزا بالوجدان وقيده وهو عدم القرينة على الخلاف محرز بالأصل ، فيترتب عليه وجوب الاخذ بالظاهر ، مع امكان منع كون ذلك أيضا من باب الاستصحاب وانه أصل عقلائي استقرت على التمسك به سيرة العقلاء في باب الا لفاظ ( وان قلنا ) كما هو التحقيق ان موضوع الحجية فيها نفس ظهور اللفظ في المعنى ، وان رفع اليد عن الحقيقة والعموم والاطلاق عند قيام دليل منفصل على التجوز والتخصيص والتقييد انما هو بمناط الاخذ بأقوى الحجيتين ، لا بمناط خروج العموم والاطلاق عن موضوع الحجية ( بشهادة ) انه قد يقدم العام على الخاص والمطلق على المقيد إذا كان ظهورهما في العموم والاطلاق أقوى من ظهور دليل الخاص والمقيد في التخصيص والتقييد ، فيخرج مفروض البحث عن مجرى أصالة العدم رأسا فلا يتأتى الكلام فيه بأنه من باب

٢٨

الاستصحاب أو من باب كونه أصلا عقلائيا برأسه ( إذ ليس ) وجوب رفع اليد عن العموم والاطلاق حينئذ من لوازم قيام القرنية الواقعية على التخصيص أو التقييد وانما هو من لوازم وصول حجة أقوى على خلافه ، فمع عدم العلم بذلك يكون المتبع هو العموم والاطلاق بلا احتياج إلى احراز عدمها بالأصل ( ولذلك ) ترى بنائهم على الاخذ بظهور الخطابات في العموم الاطلاق عند اجمال القرينة المنفصلة ، والا كان اللازم هو التوقف وعدم الاخذ بالعموم والاطلاق مع الشك في قرينية الموجود لعدم أصل في البين يحرز به حال الموجود ( ومن هذا البيان ) يظهر الكلام في المعارض والمزاحم عند الشك في وجودهما ، فان حالهما حال القرائن المنفصلة في أن مانعيتهما انما هي بوجودهما الواصل إلى المكلف ، لا بوجودهما الواقعي النفس الأمري كي يحتاج إلى احراز عدمهما بالأصل.

( واما أصالة ) عدم النقل عند الشك في أصل النقل عن وضعه الأول ، أو الشك في تقدمه على الاستعمال وتأخره عنه مع العلم بأصل النقل وتاريخ الاستعمال ، فهي أيضا قاعدة برأسها مختصة بموردها غير مرتبطة بالاستصحاب ( والا ) فلا تخلو عن اشكال المثبتية : لان حمل اللفظ على المعنى المعلوم وضعة له في الأول ، وعلى المعنى المنقول منه في الثاني انما هو من لوازم ظهور اللفظ ، وظهوره في معناه الموضوع له أولا ، يكون من اللوازم العادية لعدم نقله إلى معنى آخر : والاستصحاب بناء على الأصلية والتعبد من الاخبار لا يثبت تلك اللوازم ( نعم ) لو قيل برجوعها إلى أصالة بقاء ظهور اللفظ في معناه الأول ، أمكن دعوى كونها من باب الاستصحاب على تأمل فيه واشكال ( ولكن ) على ذلك تخرج عن مفروض كلام القائل المزبور ، لكونها حينئذ من الاستصحاب الوجودي لا العدمي ، كخروجها أيضا عن مفروض كلامه في فرض ارجاعها إلى أصالة تشابه الأزمان بنحو الاستصحاب القهقري إلى زمان الاستعمال ( ولكن التحقيق ) فيها وفي غيرها هو ما ذكرناه من كونها أصولا عقلائية مخصوصة بباب الألفاظ.

( واما أصالة ) عدم الحائل التي تمسكوا بها في باب الوضوء والغسل عند الشك

٢٩

في وجود ما يمنع عن وصول الماء إلى البشرة من جص أو قير أو دم برغوث ونحوه ، فيمكن ان يقال : بعدم كونها أيضا من باب الاستصحاب ، بل ولا من باب قاعدة المقتضى والمانع ( وانها ) برأسها أصل عقلائي مدركها الغلبة من حيث إن الغالب هو خلو البشرة عن مثل هذه الموانع ، فعند الشك يلحق المشكوك بالغالب ، ولذلك يمنع عن جريان الأصل المزبور وتسالمهم عليه في الموارد التي تكون الغلبة على الخلاف ، كما في بعض ذي الصنائع المباشر للجص ونحو كالبناء ونحو ( والا ) فلو كان ذلك من باب الاستصحاب والتعبد بعدم نقض اليقين بالشك ، توجه إليه اشكال عدم اثباته وصول الماء إلى البشرة الا على المثبت الذي هو مرفوض عندهم ( واما توهم ) حجية المثبت بالخصوص في تلك الموارد بدليل اتفاقهم على الاخذ بالأصل المزبور عند الشك في وجود ما يمنع عن وصول الماء إلى البشرة ، فبعيد جدا ، لكونه خلاف اطلاق القول منهم بالمنع في مثبتات الأصول وعدم تعرضهم لخروج هذه الموارد عن عموم الحكم بالمنع ( كما أن دعوى ) كونه من باب خفاء الواسطة أبعد ، إذ عهدة اثباته على مدعيه ( وان أبيت ) الا عن كون ذلك من باب الاستصحاب ، فليكن من الاستصحاب الجاري في المسبب وهو أصالة بقاء الماء المصبوب على جريانه في محال الوضوء والغسل ، نظير الأصل الجاري في الأمور التدريجية ( حيث إنه ) بصب الماء على المرفق مثلا يعلم باتصافه بالجريان على البشرة ، ومن جهة الشك في وجود الحائل في عضو خاص يشك في بقاء جريانه على البشرة ، فيستصحب بقائه ، وبذلك يتم الحكم المزبور ويندفع اشكال المثبتية أيضا ( ولكن ) يدخل حينئذ في الاستصحاب الوجودي لا العدمي الذي هو فرض كلام القائل المزبور ( نعم ) لازم ذلك هو الالتزام بجريان الأصل المزبور حتى في موارد غلبة وجود الحاجب على البشرة وهو أيضا مشكل ( وبالجملة ) المقصود من هذا التطويل مجرد ابطال ما زعمه المستدل في تشبثه بهذه الأصول العدمية لا ثبات اتفاق الأصحاب على اعتبار الأصحاب في مطلق الأمور العدمية ، بابداء الاشكال في كون تلك الأصول المسلمة من باب الاستصحاب ،

٣٠

لا ان المقصود نفى هذه الأصول برمتها عن كونها من باب الاستصحاب بنحو السلب الكلى ( ومن الواضح ) انه يكفي هذا المقدار من التشكيك في المنع عن التشبث بهذه الأصول العدمية لاثبات الاتفاق المزبور ، مضافا إلى وجدان الخلاف منهم في اعتبار الاستصحابات العدمية.

( ثم إن في قبال ذلك ) توهم آخر ، وهو دعوى مفروغية عدم جريان الاستصحاب في الأمور العدمية والاعدام الأزلية الناشئة من عدم تحقق علل وجودها ( بتقريب ) انه لا بد في جريان الاستصحاب من كون المستصحب اثرا شرعيا أو موضوعا لاثر شرعي حتى يكون التعبد بالبقاء بلحاظ ذلك الأثر ، والا فلا يجرى الاستصحاب بمحض كون الشيء متيقنا سابقا ومشكوكا لاحقا ، والاعدام الأزلية كعدم الوجوب والحرمة وعدم الجعل كلها من هذا القبيل ، لان العدم بما هو عدم ليس اثرا شرعيا تناله يد الجعل والرفع فلا يجرى فيه الاستصحاب ، ومن غير فرق بين القول برجوع مفاد حرمة النقض إلى جعل المماثل أو إلى الامر بالمعاملة مع المشكوك أو الشك معاملة الواقع أو اليقين به ، فعلى كل تقدير يحتاج التعبد بالبقاء إلى اثر شرعي وبدونه لا يجرى الاستصحاب ( ولكنه توهم فاسد ) فان العدم بما هو وان لم يكن اثرا شرعيا ، الا انه بقاء واستمرارا يكون من الأمور التي تنالها يد الجعل والرفع التشريعي ( لان ) للشارع ابقاء ذلك العدم وله رفعه وقبله بالنقيض ولو يجعل ما يقتضى الوجود ( ومن الواضح ) انه يكفي هذا المقدار من الشرعية في جريان الاستصحاب ، إذا لا نعني من شرعية الأثر في باب الاستصحاب وغيره الا ما يكون امر رفعه ووضعه بيد الشارع ولو ابقاء واستمرارا ، فإذا كان عدم الجعل وعدم الوجوب والحرمة بهذا الاعتبار أمرا شرعيا يجرى فيه الاستصحاب لا محالة.

( وقد يظهر من بعض الاعلام ) التفصيل في الاعدام بين ان يكون المستصحب هو عدم الجعل الأزلي السابق على تشريع الاحكام ، وبين ان يكون غيره ، فمنع عن جريان الاستصحاب في الأول دون الثاني ( وأفاد ) في وجه التفصيل المزبور بما محصله

٣١

ان عدم الجعل وان كان من الأمور التي تنالها يد الجعل والرفع التشريعي فيكون المستصحب شرعيا بهذا الاعتبار ، الا انه لا يكفي مجرد شرعية المستصحب في جريان الاستصحاب ما لم ينته إلى اثر عملي ، فان الأثر العملي مما لا بد منه في صحة التنزيل والتعبد بعدم نقض اليقين بالشك ، ولا اثر لاستصحاب عدم الجعل الا باعتبار ما يستتبعه من عدم المجعول واثبات عدمه باستصحاب عدم الجعل يكون من المثبت المرفوض عند المحققين ، إذ ليس ترتب المجعول على الجعل ترتبا شرعيا وانما هو ترتب عقلي محض ، فمن هذه الجهة لا يجرى الاستصحاب في عدم الجعل ( بخلاف غيره ) من الاعدام كعدم المجعول ، فإنه يجرى فيه الاستصحاب عند احراز الجعل والشك في تحقق ما أنيط به المجعول ( وفيه ) مضافا إلى عدم ثمرة عملية لهذا التفصيل بعد جريان الأصل باعترافه في المجعول الذي هو المسبب ، لأنه ما من مورد يشك فيه في الجعل الا ويشك فيه في تحقق المجعول فيجرى استصحاب عدمه ( والى ) ما يأتي من اباء الأحكام التكليفية بمراتبها عن تطرق الجعل التشريعي إليها ( ان الجعل والمجعول ليسا في الخارج الا أمرا وجدانيا ، فان مرجع الجعل بعد أن كان إلى لحاظ الشيء وجعله واجبا أم جزء أو شرطا لواجب فلا محالة يكون التغاير بينهما ممحضا بصرف الاعتبار نظير الايجاد والوجود ، فباعتبار اضافته إلى الجاعل جعل وباعتبار لحاظ نفسه مجعول ، وفي مثله لا محذور من استصحاب عدم الجعل وترتيب ما للمجعول عليه من الآثار ( وعلى فرض ) تسلم المغايرة الخارجية بينهما ولو بدعوى ان الجعل عبارة عن انشاء الوجوب والحرمة والمجعول عبارة عن المنشأ بهذا الانشاء ، نظير الانشاء في الاحكام الوضيعة والحقائق الاعتبارية في أبواب العقود والايقاعات ( نقول ) : ان الاشكال انما يرد إذا كان نسبة الجعل إلى المجعول من قبيل العلية والمعلولية نظير العلل الخارجية بالنسبة إلى معاليها ، والا فبناء على كون النسبة بينهما من قبيل نسبة مناشئ الاعتبار للأمور الاعتبارية كالانشاء في أبواب العقود والايقاعات « فلا قصور في استصحاب عدم الجعل ولا يرتبط المقام بالأصول المثبتة ، إذا عدم جعل الوجوب حينئذ واقعيا أو

٣٢

ظاهريا مستتبع لعدم الوجوب كذلك ، فكان عدم الوجوب الظاهري من لوازم عدم الجعل الظاهري وهو الاستصحاب لا من لوازم نفس المستصحب واقعا حتى ، يتوجه محذور المثبتية ، فإذا كان عدم الجعل مما امر رفعه ووضعه بيد الشارع ويكتفى في شرعية الأثر في باب الاستصحاب وغيره بهذا المقدار من الشرعية ، فلا محالة يجرى فيه الاستصحاب ، ويترتب باستصحاب عدمه عدم الوجوب الظاهري فتدبر « وكيف كان » فالمهم هو عطف الكلام إلى ذكر الأدلة التي استدلوا بها على حجية الاستصحاب وتنقيح دلالة المختار منها على وجه يتضح ما هو المختار من الحجية مطلقا.

( وهي أمور )

« فمنها » الاجماع المحكى في كلام جماعة كالمبادئ والنهاية « وفيه ما لايخفى » إذ لا وجه لدعوى الاجماع في هذه المسألة التي كثر فيها الاختلاف والأقوال خلفا عن عن سلف ، لاعلى ثبوت الحجية ولا على عدمها « نعم » لا بأس بدعوى قيام الشهرة أو ما يقرب من الاجماع على اعتبار الاستصحاب في الجملة ولو في خصوص باب الطهارة في الشبهات الموضوعية مع كون الشك في الرافع ، بل يمكن دعوى اتفاقهم على ذلك ، لأنه من البعيد جدا إرادة القائل بعدم الحجية النفي المطلق حتى في الموارد المذكورة في الأسئلة الواردة في الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشك.

« ومنها » بناء العرف والعقلاء من ذوي الأديان وغيرهم على الاخذ بالحالة السابقة عند الشك في انتقاضها في الأمور الراجعة إلى معاشهم ومعادهم ، بل قد يقال : ان عليه بناء ذوي الشعور من كافة أنواع الحيوان من الوحوش والطيور ونحوهما في رجوعها إلى أوكارها ومآويها « وفيه أيضا ما لا يخفى » اما دعوى كون الاخذ بالحالة السابقة من فطريات ذوي الشعور من كافة الحيوان ، فلا ترجع إلى محصل ، بداهة ان ما جرى عليه ديدن الحيوانات من الرجوع إلى مساكنها انما هو من جهة

٣٣

الاعتياد أو الغفلة عن الجهات المزاحمة لقصورها عن درك هذه الجهات ، لا انه من جهة الاستصحاب والبناء على الجري العملي على طبق الحالة السابقة مع الالتفات والشك في انتقاضها « واما السيرة » العقلائية والطريقة العرفية الارتكازية فهي وان كانت على الاخذ بالحالة السابقة ، ولكن يمنع كون ذلك من باب الاستصحاب والاخذ بأحد طرفي الشك تعبدا ، بل ذلك منهم انما هو من جهة الغفلة عما يوجب زوال الحالة السابقة كما هو الغالب ، أو من جهة حصول الاطمينان لهم بالبقاء ، أو من جهة مجرد الاحتياط ورجاء البقاء كما في المراسلات ونحوها من الأمور غير الخطيرة « وعلى فرض » ثبوت البناء المزبور منهم يمنع تحققه في مطلق الأمور حتى الراجعة إلى معادهم وما يتدينون به من احكام دينهم ، بل المتيقن منه كونه في الأمور الراجعة إلى معاشهم وأحكامهم العرفية.

( كيف ) وثبوت هذا البناء الارتكازي منهم حتى في الأمور الدينية ينافي هذا الخلاف العظيم بين الأعاظم من الاعلام خلفا عن سلف وذهاب جمع منهم إلى عدم الحجية إذ المنكرين للحجية أيضا من العقلاء بل كل واحد منهم بمثابة الف عاقل ، فثبوت هذا الخلاف العظيم بينهم قديما وحديثا يكشف عن عدم ثبوت بنائهم على الاخذ بالحالة السابقة تعبدا في الأمور الدينية والأحكام الشرعية ( وعليه ) فلا يكاد ينفع مثل هذا البناء للاستدلال به على حجية الاستصحاب ولو مع اليقين بعدم ورود ردع من الشارع بنحو العموم أو الخصوص عن البناء المزبور ( إذ بعد ) عدم ثبوت بنائهم على الاخذ بالحالة السابقة تعبدا في الأمور الدينية ، لا يحتاج إلى الردع عن بنائهم لو فرض كونه غير مرضى عند الشارع من جهة كونهم بأنفسهم مرتدعين بالنسبة إليها هذا ( ولكن الانصاف ) ان المناقشة الأولى في غير محلها ، فان ثبوت بنائهم على الاخذ بالحالة السابقة من باب الاستصحاب والشك الوجداني في انتقاضها وتساوي احتمال البقاء والارتفاع مما لا سبيل إلى انكاره ، لما يرى منهم بالوجدان والعيان في ترتيبهم آثار البقاء على الشيء عملا مع الشك في ارتفاعه من حيث ارسالهم

٣٤

المكاتيب والبضايع المهمة إلى من هو في البلاد البعيدة بلا وثوق منهم ببقائه على ما كان من الحياة والعقل والغنى مع مالهم من الاغراض المهمة ، ومن غير تحقيق عن حال من يرسل إليه البضايع من كونه حيا أو ميتا ومن حيث بقائه على عقله وأمانته كل ذلك بمقتضى ارتكازهم وجبلتهم التي أودعها فيهم بارئهم كما يشير إلى ذلك بعض الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشك ، كقوله (ع) : لزرارة لا ينبغي ان تنقض اليقين بالشك الظاهر في كون الاخذ بالحالة السابقة مع الشك في انتقاضها من الارتكازيات العرفية والطريقة العقلائية ( ولا ينافي ) ذلك ما يرى من مداقة بعض الأشخاص وعدم اخذه بالحالة السابقة الا بعد الوثوق والاطمئنان العادي بالبقاء ، فان ذلك منهم نحو احتياط لحفظ أغراضهم وعدم تضييع أموالهم ، ولذلك لا يكون الآخذ بالحالة السابقة بلا تحصيل الوثوق ملوما عندهم ولو مع انكشاف الخلاف ( نعم ) المناقشة الثانية في محلها ، لما ذكرنا من عدم ثبوت تحقق البناء المزبور منهم حتى في الأمور الدينية والاحكام ، الشرعية ، لولا دعوى وضوح انه لا يكون لهم طريقة خاصة في الأمور الدينية وراء ما يسلكونه بارتكازهم في أمورهم الدنيوية مما يرجع إلى معاشهم ونظامهم ، وانه بمقدمات عدم الردع يستكشف امضاء الشارع لتلك الطريقة المألوفة الارتكازية فتكون دليلا على حجية الاستصحاب ( ولكن الشأن ) في اثبات هذه الجهة ، والا فبدونه يكفي في المنع عنه مجرد الشك في ذلك ( وعلى فرض ) ثبوت البناء المزبور منهم في الأمور الدينية لا مجال للتشبث بمقدمات عدم الردع لكشف امضاء الشارع ( إذا يكفي ) في الردع عن بنائهم العمومات الناهية عن العمل بما وراء العلم ( وتوهم ) عدم صلاحية هذه النواهي للرادعية عن بنائهم ، لمكان مضادتها مع أصل وجود هذا البناء والسيرة المزبورة ولاستحالة تحقق هذه السيرة حتى من المتدينين منهم مع ثبوت ردع الشارع عنها ( فمن وجود ) هذه السيرة وتحققها بالوجدان بضميمة المضادة المزبورة يستكشف عدم صلاحية العمومات الناهية للرادعية عن بنائهم ( مدفوع ) بان بناء العقلاء من المسلمين على شيء تارة يكون بما انهم مسلمون ومتدينون بشرايع الاسلام ، وأخرى يكون ذلك منهم لا بما هم مسلمون ومتدينون بها ، بل بما هم

٣٥

من العقلاء ، ومن أهل العرف ، والذي يضاد وجوده مع الردع الشرعي بحيث يستحيل تحققه مع ثبوته انما هو الأول ( واما الثاني ) فلا يكون ردع الشارع عنه مضادا مع أصل وجوده ، بل هو انما يكون مانعا عن حجيته ( وحيث ) ان المقصود من السيرة المزبورة هي سيرة العقلاء الذين منهم المسلمون فلا بد في تتميمها من التشبث بمقدمات عدم الردع لاثبات امضاء الشارع لها ، فينتهي المجال حينئذ إلى دعوى صلاحية الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم للرادعية عنها ( نعم ) انما لا ينتهي المجال إلى ذلك فيما لو قررت السيرة المزبورة بسيرة المسلمين بما هم كذلك لا بما هم من أهل العرف والعقلاء ( ولكن ) الكلام حينئذ في أصل الصغرى ( واما توهم ) خروج جميع موارد السيرة العقلائية عن العمل بما وراء العلم بالتخصص كما عن بعض الأعاظم قده ، بدعوى اقتضائها لخروج مواردها عن موضوع تلك النواهي ( ففيه ) انه من الغرابة بمكان ، إذ ذلك مخصوص بباب الطرق والامارات كظواهر الألفاظ ونحوها ، حيث إنها باقتضائها لتتميم الكشف واثبات العلم بالواقع تكون واردة على الآيات الناهية ومخرجه لموردها عن موضوع تلك النواهي بالتخصص ، لا فيمثل المقام الذي هو من الأصول المعمولة عند العقلاء في ظرف استتار الواقع والجهل به ، فان بنائهم حينئذ على الاخذ بالحالة السابقة لا يخرج مورده عن كونه عملا بغير العلم ( نعم ) لو كان بنائهم على الاستصحاب والجري العمل على طبق الحالة السابقة من باب الا مارية نظير ظواهر الألفاظ وباب حجية خبر الواحد ، لا من باب الأصلية ، كان لدعوى ورود السيرة في المقام على العموميات الناهية وخروج موردها عن موضوعها مجال « ولكن ذلك » مع أنه لا طريق إلى اثباته ، يلزم دخول الاستصحاب في الامارات ، وهو مما لا يلتزم به القائل المزبور ، فان المختار عنده كونه من الأصول لا الامارات.

« وبما ذكرنا » يظهر اندفاع ما أورده من الاشكال على الكفاية من منافاة ما افاده في المقام من صلاحية الآيات الناهية للرادعية عن السيرة العقلائية لما تقدم منه في مبحث حجية خبر الواحد من عدم صلاحية تلك النواهي للرادعية عن الطريقة

٣٦

العقلائية « وجه الاندفاع » ما عرفت من الفرق بين المقام وباب حجية خبر الواحد ، حيث إن عدم رادعية الآيات هناك انما هو من جهة قيام السيرة العقلائية على تتميم الكشف واثبات العلم بالواقع الموجب لخروج موردها عن موضوع تلك النواهي ، ( بخلاف ) المقام ، فان بنائهم على الاخذ بالحالة السابقة لا يكون من باب الا مارية وانما هو من باب الأصلية في ظرف الجهل بالواقع ، فلا يلازم القول بعدم صلاحية الآيات للرداعة عن بنائهم هناك للقول به في المقام أيضا « فما افاده » المحقق الخراساني قده في كفايته من التفكيك بين المقامين في صلاحية الآيات الناهية للرادعية عن الطريقة العقلائية في المقام دون ما هناك في غاية المتانة « نعم » لو كان المراد من عدم العلم في تلك النواهي هو عدم العلم بمطلق الوظيفة أعم من الواقعية والظاهرية ، لا عدم العلم بخصوص الواقع ، لأمكن المصير إلى عدم الرادعية في المقام أيضا « ولكنه » خلاف الظاهر جدا ، فان الظاهر المتبادر من نحو قوله سبحانه : لا تقف ما ليس لك به علم هو عدم العلم بالوظيفة الواقعية ، لا بمطلق الوظيفة ولو ظاهرية « فالأقوى » حينئذ ما افاده المحقق الخراساني من عدم اعتبار السيرة العقلائية في المقام على الاخذ بالحالة السابقة ، وان فرض كونها أقوى من بنائهم على العمل بالخبر الواحد ، إذ لا اثر لحيث اقوائيتها ما لم تنته إلى كشف امضاء الشارع لها ولو بمعونة مقدمات عدم الردع ، ومع صلاحية الآيات الناهية للرادعية عنها لا مجال لكشف امضاء الشارع لها كما هو ظاهر ( ثم انه من التأمل ) فيما ذكرنا يظهر انه لا مجال للتشبث بالحكم العقلي الظني ببقاء ما ثبت ولو بضميمة اندراجه في صغريات الانسداد بالنسبة إلى الاحكام التي في دائرة الاستصحابات ، إذ ذلك أيضا مخدوش صغرى وكبرى.

( ومنها )

الأخبار الكثيرة البالغة حد الاستفاضة ، وهي العمدة في الباب ( فمنها ) صحيحة زرارة ولا يضر بها الاضمار بعد كون مضمرها مثل زرارة الذي لا يروى الا

٣٧

عن الإمام (ع) ، قال قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء أيوجب الحفقة والحفقتان عليه الوضوء ، قال (ع) : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نام القلب والاذن فقد وجب الوضوء ، قلت : فان حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم ، قال (ع) : لا حتى يستيقن انه قد نام حتى يجئ من ذلك امر بين ، والا فإنه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين ابدا بالشك ، ولكن تنقضه بيقين آخر ( وتقريب ) الاستدلال بها على حجية الاستصحاب مطلقا انما هو بتجريد اليقين في قوله (ع) : والا فإنه على يقين من وضوئه عن خصوصية اضافته إلى الوضوء وعدم دخلها في الحكم بحرمة النقض لتكون اللام في كبرى القياس وهي قوله (ع) : ولا ينقض اليقين بالشك للجنس لا للعهد.

( ولتوضيح الكلام ) في ذلك لا بأس بالتعرض لبيان فقه الحديث الشريف ( فنقول ) : الظاهر من السؤال الواقع في الفقرة الأولى من كلام الراوي هو كونه سؤالا عن مفهوم النوم الناقض من أنه بحد يدخل فيه الحفقة والحفقتان أو بحد لا يدخلان في مفهومه ، فان احتمال كونه سؤالا عن ناقضية الخفقة والخفقتان مستقلا بعيد في الغاية ولا يناسب قوله : الرجل ينام ، ولذلك اجابه الإمام (ع) بخروجهما عن مفهوم النوم الناقض ، ببيان ان النوم الناقض هو خصوص نوم القلب والاذن لا مطلق مراتبه الشامل لنوم العين وحدها ، بل المستفاد من جوابه (ع) ان المدار في الناقضية على خصوص نوم القلب الذي هو سلطان الجوارح وان نوم الاذن انما اعتبر لكونه امارة على نوم القلب ، لا لخصوصيته فيه « واما السؤال » الثاني وهو قوله فان حرك الخ ، فظاهره كونه سؤالا عن الشبهة الموضوعية بناء على ما فهمه من امارية نوم الاذن لنوم القلب الذي عليه مدار الناقضية ، حيث إنه يشك حينئذ في تحقق نوم القلب بهذه المرتبة من النوم الغالب على الاذن ، فاجابه الامام (ع) : بما هو نتيجة الاستصحاب بقوله : لا حتى يستيقن أنه قد نام « ويحتمل » كونه سؤالا عن حكم الشبهة المصداقية من أنه مع الشك في تحقق النوم هل يجب عليه الوضوء أم لا « ويحتمل » أيضا كونه سؤالا عن الشبهة المفهومية بناء على فهمه من كلام الامام (ع) موضوعية

٣٨

نوم الاذن لا اماريته لنوم القلب فيكون السؤال عن حد النوم الناقض وصدقه على تلك المرتبة من نوم الاذن نظير سؤاله الأول الراجع إلى كونه عن صدقه على الحفقة التي هي نوم العين وحدها « ولكن » الظاهر ما عرفت من كونه سؤالا عن الشبهة المصداقية أو عن حكمها ، لا عن الشبهة المفهومية : كيف ولازمه تكفل الامام (ع) لرفع الشك عنه ببيان الواقع كما في الفقرة الأولى ، لا ابقاء السائل على شكه والتعرض لحكم الشبهة الموضوعية بقوله : لا حتى يستيقن انه قد نام ( نعم ) الذي يبعد كونه سؤالا عن الشبهة المصداقية هو تطبيق الامام الاستصحاب على الوضوء الذي يكون الشك في بقائه مسببا عن الشك في تحقق النوم ، فان من اللازم حينئذ تطبيقه على عدم النوم ، لما قرر في محله من عدم جريان الأصل المسببي مع جريان الأصل السببي ( ولا يرد ) هذا الاشكال على الفرض الأخير ، إذ عليه يكون تطبيق الاستصحاب على الوضوء على القاعدة ، بملاحظة عدم جريانه حينئذ في طرف السبب الذي هو النوم ، لان استصحابه يكون من قبيل الاستصحاب الفرد المردد بين ما هو مقطوع الوجود وما هو مقطوع العدم ، فإنه على تقدير صدقه على تلك المرتبة من نوم الاذن يقطع بتحققه وعلى تقدير كونه عبارة عن المرتبة الأخرى المنطبقة على نوم القلب يقطع بعدم بتحققه ، فعلى كل تقدير لاشك فيه حتى يجرى فيه الاستصحاب « واما المفهوم منه فهو وان كان مشكوكا ، ولكن لا يكون بنفسه موضوعا للأثر كي يجرى فيه الاستصحاب ، لان الأثر الشرعي وهو وجوب الوضوء انما يكون ترتبه على واقع النوم ومصداقه الذي يحكى عنه هذا المفهوم ، وبعد تردده بين ما يقطع بتحققه وما يقطع بعدم تحققه لا يجري فيه الاستصحاب ، كما هو الشأن في جميع المفاهيم المجملة المرددة بين الأقل والأكثر « ولذلك » نقول : في مسألة الرضاع انه لا مجرى لأصالة عدم تحقق الرضاع المحرم فيما لو تحقق عشر رضعات وشك في تحقق الرضاع المحرم به ، لعدم ترتب اثر شرعي على المفهوم منه ( تردد ) ما له الأثر الشرعي بين ما يقطع بتحققه وما يقطع بعدم تحققه ( ولا مجال أيضا ) لمقايسته أمثال المقام بباب الكلى المردد بين الفردين أحدهما مقطوع الارتفاع والاخر مقطوع البقاء ، كالحدث المردد

٣٩

بين الأصغر والأكبر « فان جريان » الاستصحاب هناك في الكلى وهو الحدث لعد الاتيان بالوضوء انما هو باعتبار ان لنفس الكلى والجامع اثر شرعي وهو عدم جواز الدخول في الصلاة ، وهذه الجهة مفقودة في المفاهيم المجملة المرددة بين الأقل والأكثر كما في المقام ومسألة الرضاع وباب الغناء ونحوها ، لعدم ترتب اثر شرعي على عنوان النوم ومفهومه ولا على عنوان الرضاع المحرم ولا على عنوان الغناء بما هي هذه العناوين ( وحينئذ ) فعلى كل تقدير سواء كان السؤال عن الشبهة المفهومية أو المصداقية لا محيص من أحد الاشكالين « نعم » قد يدفع الاشكال الأول ، تارة بمنع تطبيق الاستصحاب في الرواية على الوضوء الذي هو المسبب ، بدعوى ان المستفاد من قوله (ع) : لا حتى يستيقن انه قد نام انما هو تطبيقه على عدم النوم ببيان انه لا يرفع اليد عن اليقين بعدم النوم الا باليقين بوجوده ، فيكون قوله (ع) : بعد ذلك والا فإنه على يقين منطبقا على عدم النوم بجعل عدم وجوب الوضوء عليه كناية عن عدم تحقق سببه وهو النوم لما بينهما من شدة الملازمة ولو في خصوص المورد « وأخرى بمنع السببية والمسببية بينهما حقيقة ، بدعوى ان الطهارة والحدث أمران وجوديان عرضيان غير مسبب أحدهما عن عدم الاخر ، غايته انه يلازم ارتفاع أحدهما مع وجود الاخر من جهة ما كان بينهما من التمانع والتعاند بحسب الوجود « وفيه » اما الوجه الأول ، فهو خلاف ظاهر الرواية جدا ، لوضوح ظهور قوله (ع) حتى يستيقن في كونه في مقام تطبيق الاستصحاب على الوضوء ، لاعلى عدم النوم ، فإنه بعد أن سئل الراوي عن وجوب الوضوء عليه بهذه المرتبة من نوم الاذن ، اجابه (ع) بما هو نتيجة الاستصحاب من أنه لا يرفع اليد عن اليقين بالوضوء ما لم يعلم بتحقق رافعة الذي هو النوم والحدث ( واما الوجه الثاني ) فلكونه خلاف ما تقتضيه الأدلة الدالة على وجوب الوضوء عند تحقق هذه الاحداث الظاهرة في كونها بنفسها من موجبات الوضوء ، ولذلك جرى عليه ديدن الأصحاب أيضا حيث جعلوها من موجبات الوضوء كما هو ظاهر ( وكيف كان ).

فقوله (ع) : والا فإنه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك ابدا

٤٠