نهاية الأفكار

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي

نهاية الأفكار

المؤلف:

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٥٥

تقرير أبحاث آية الله الشيخ آغا ضياء العراقي قدس سره
الجزء ١ و ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ - ١

الامارات اما من المجعول الادعائي أعني تتميم الكشف على فرض كفايته في تنجيز الواقع ، أو مما يستتبعه من الحكم الطريقي كما هو المختار ، هذا في الحجية بمعنى المعذرية والمنجرية.

( واما الحجية ) بمعني الوسطية للاثبات فهي وان كانت مجعولة في الامارات بنفس تكفل دليلها لتتميم كشفها وتطبيق عنوان العلم والاحراز عليها ، فتقوم بذلك مقام العلم الطريقي بل الموضوعي إذا كان اخذه في موضوع الحكم على الوجه الطريقي لا الصفتي ، وتصح أيضا حكومتها على أدلة الأصول المأخوذ فيها المعرفة غاية للحكم الظاهري ( ولكن ) الجعل فيها انما هو بمعنى الادعاء لا الجعل الحقيقي ، لما ذكرنا غير مرة من أن تمامية الكشف ليست من الحقايق الجعلية التي تشريعها عين تكوين حقيقتها ، وانما هي نظير الموت والحياة والفسق والعدالة من الأمور الواقعية غير القابلة للتحقق بالجعل والتشريع ( فمرجع ) الجعل فيها إلى نحو عناية وادعاء مستتبع لتطبيق عنوان العلم والاحراز عليها ، نظير سائر الأمور الادعائية ، ولذا لابد في صحة هذا الادعاء والتنزيل من اثر شرعي مصحح له ولو في طرف المنزل كسائر التنزيلات الشرعية.

( ومنها ) الملكية والزوجية ونحوهما من منشآءت العقود والايقاعات ( ولا شبهة ) في أن هذه العناوين بحقايقها من الاعتباريات القصدية التي تكون حقيقتها بجعل من ينفذ جعله واعتباره بحيث بعد تمامية جعلها يكون لها نحو تقرر في الواقع وكان الاعتبار الذهني طريقا إليها على نحو يلتفت إليها تارة ويغفل عنها أخرى ، نظير العلاقة والاختصاص الحاصل بين اللفظ والمعنى ، والملازمات الذاتية بين الأشياء المحفوظة في عالم تقررها ( لا انها ) من الاعتباريات الصرفة المتقومة بالاعتبار والمنقطعة بانقطاعه التي لا تكون لها واقعية حتى بعد انشاء النفس إياها ، كأنياب الأغوال والوجودات الادعائية التنزيلية ( فان ) كونها أمورا اعتبارية انما هو بمعنى ان الجعل منشأ لاحداثها في قبال الإضافات المقولية والنسب الخارجية الموجبة لنحو وجود هيئة عينية في الخارج لطرفيها كالفوقية والتحتية ونحوهما ، لا بمعنى كونها

١٠١

بذاتها متقومة بالاعتبار ، كالوجودات الادعائية التنزيلية ، وإلا لزم كونها تابعة لاعتبار معتبرها حدوثا وبقاء ، فيلزم انقطاعها بانقطاع الاعتبار ، بل وبانعدام شخص المعتبر لها ، لقيام اعتباره بشخصه ، الا بفرض اعتبار معتبر آخر لها كالمعتبر الأول.

( مع ) ان الوجدان قاض بخلافه ، إذ لا شبهة في بقاء هذه الأمور بعد جعلها بأسبابها في الوعاء المناسب لها وكونها مما له نحو تقرر في الواقع بحيث كان اللحاظ طريقا إليها حتى من شخص المعتبر لها ، لا انه مقوم ذاتها كالاعتبارات الصرفة ( ففي الحقيقة ) تكون هذه الأمور وسطا بين الوجودات الادعائية ، وبين الإضافات المقولية والنسب الخارجية ( فمن حيث ) عدم احداثها لتغيير هيئة خارجية لطرفيها من المالك والمملوك والزوج والزوجة ، تشبه الاعتباريات الصرفة ( ومن حيث ) ان لها واقعية بنحو كان اللحاظ طريقا إليها بعد جعلها ، وتشبه الإضافات المقولية ( وعليه ) فلا مجال لجعل مثل الملكية والزوجية واضرابهما من منشآت العقود والايقاعات من سنخ الوجودات الادعائية بمحض عدم كونها من الاعتبارات الذهنية ، ولا من الإضافات المقولية والنسب الخارجية ( بدعوى ) ان لمفهوم الملكية وأضرابها نحو ان من من الوجود ، وجود حقيقي ووجود ادعائي هو من منشآت العقود والايقاعات ( كما ) ان مجرد اختلاف العرف والشرع ، بل واختلاف أهل العرف في اعتبار الملكية في الموارد الخاصة لا يقتضى نفي واقعيتها ( إذ مرجع ) اختلافهم انما هو إلى تخطئة العرف بعضهم بعضا فيما يرونه منشأ لاعتبار الملكية ، بلحاظ ان ما يكون منشأ لصحة الجعل عند بعضهم ليس بمنشأ عند بعض آخر ( وكذلك ) في اختلاف العرف والشرع ( والا ) فعلى فرض التوافق على منشئية المنشأ لصحة الجعل لا اختلاف بينهم في اعتبار الملكية عند تحقق المنشأ ( وحينئذ ) فلا ينبغي الاشكال في مجعولية هذه الأمور وتقررها النفس الأمري في الوعاء المناسب لها عند حصول أسبابها على وجه تكون بحقايقها محفوظة قبل التكليف ( لا انها ) انتزاعية من التكليف الشرعي كما يظهر من الشيخ قدس‌سره ( إذ ذلك ) مضافا إلى كونه خلاف الوجدان وعدم تماميته في نحو ما دل على سببية الحيازة للملكية بمثل قوله من حاز ملك الا باتعاب النفس لاثبات حكم تكليفي

١٠٢

ينتزع عنه الملكية ، يلزمه عدم امضاء الشارع مضامين العقود على طبق ما يقصده المتعاقدان ( فلابد ) اما من جعل الأدلة كاشفة عن ارتباط خاص واقعي غير ما يقصده المتعاقدان بانشائهما ، أو حاكية عن إضافة خاصة ناشئة من التكليف الخاص المتوجه بالنسبة إلى المبيع أو الزوجة كإباحة التصرفات في المبيع للمشتري وبعوضه للبايع ، وإباحة الاستمتاعات للزوج عند تحقق الانشاء من المتعاقدين ( وهما ) كما ترى غير مرتبطين بما يقصده المتعاقدان في أبواب المعاملات من التوصل بانشائهما إلى تحقق هذه الأمور ( مع أن ) ما افاده قدس‌سره ينافي ظواهر الأدلة المأخوذ فيها تلك الإضافات موضوعا للتكليف ، من نحو ما دل على حرمة التصرف في مال الغير بدون اذنه ورضاه ، وسلطنة الناس على أموالهم ( إذ بعد ) ان يكون الموضوع للسلطنة والحرمة في نحو هذه الأدلة هو المال المضاف إلى الشخص أو الغير ، نقول : ان نشو هذه الإضافة والاختصاص ، اما ان يكون من نفس ذلك التكليف المتعلق بالموضوع المزبور ، واما ان يكون نشوها من تكليف آخر في الرتبة السابقة عن الإضافة المزبورة ، واما ان يكون نشوها من صرف جعلها قبل تعلق التكليف بها ( والأولان ) لا سبيل إليهما ، لكون الأول منهما مستحيل ذاتا ، واستلزام الثاني لاجتماع المثلين ، أحدهما محقق الإضافة المزبورة في المرتبة السابقة والآخر مترتب عليها في المرتبة اللاحقة فيتعين الثالث وهو المطلوب خصوصا في نحو قوله من حاز ملك الذي لا يكون في مورده حكم قابل لان ينتزع منه الملكية ( فتلخص ) انه لا وجه لانكار الجعلية في مثل الملكية ونحوها من مضامين العقود والايقاعات واتعاب النفس فيها بنحو من التكلفات للالتزام بانتزاعيتها من التكليف ( خصوصا ) بعد تداول تلك الاعتبارات بين العرف والعقلاء من ذوي الأديان وغيرهم ممن لا يلتزم بشرع ولا شريعة ، وكونها لديهم من الاعتبارات المتأصلة بالجعل والمتحققة بصرف جعلها بقول أو فعل ، نظير سائر اعتباراتهم الجعلية من التعظيم والتوهين وأمثالهما ( فالتحقيق ) في نحو هذه الاعتبارات العرفية ما ذكرناه من كونها أمورا مجعولة بالاستقلال ، قد أمضاها الشارع.

( واما القضاوة والولاية ) فهما أيضا من الاعتبارات المتأصلة بالجعل كالملكية ونحوها وليستا منتزعتين من التكليف ولا كانتا من الأمور الواقعية ، وقياسهما يمثل

١٠٣

النبوة والإمامة الثابتة لبعض الأشخاص لأجل مالهم من خصوصية كمال النفس كما ترى ( بداهة ) وضوح الفرق بين مثل النبوة والإمامة الناشئة من أقصى مرتبة كمال النفس ، وبين الولاية والقضاوة الجعلية.

( وكذلك الوكالة والنيابة ) فهما أيضا من الاعتبارات العرفية الجعلية التي يقصد التوصل إليها بانشائها المخصوص ( فان ) مرجعهما إلى جعل نحو ولاية للغير على مال أو نفس ( على اشكال ) في الأخير لامكان دعوى خروج النيابة من الأحكام الوضعية وكونها من سنخ الحقايق الادعائية والوجودات التنزيلية بلحاظ رجوع حقيقتها إلى تنزيل النائب نفسه منزلة المنوب عنه بادعاء كونه هو هو بالنسبة إلى ما يصدر منه من الأمور الراجعة إلى المنوب عنه ، لا إلى جعل الولاية للغير بما هو غير وتفويض الامر إليه ( بخلاف ) الوكالة فان مرجعها إلى جعل الغير بما هو غير وليا وسلطنا على التصرف في مال الموكل أو نفسه ، ومن هنا لا يحتاج الوكيل في ايقاع العمل الموكل فيه إلى قصد وقوعه عن موكله بل هو بعد تحقق وكالته يستقل في ايقاع العمل الموكل فيه عقدا كان أو ايقاعا فيتصرف بما هو هو في مال موكله أو في نفسه بإجارة أو تزويج ونحو ذلك ( وبالجملة ) فرق واضح بين جعل الغير بما هو غير وليا وسلطانا على العمل الموكل فيه ، وبين جعله عناية منزلة المنوب عنه بادعاء كونه هو هو فيما يصدر منه من الأعمال كما في باب النيابة ( ومن المعلوم ) عدم ارتباط مثله بالأحكام الوضعية والاعتبارات الجعلية ( إذ مرجع ) الجعل فيها انما هو إلى تكوين حقيقتها المصطلحة عند الحكيم بالجعل ، بخلاف الأمور الادعائية ، فان الجعل فيها راجع إلى تكوين حقيقتها الادعائية المصطلحة في ألماني والبيان ( نعم ) نفس الادعاء والتنزيل فيها يكون متحققا بالجعل والانشاء بمثل قوله جعلتك نائبا ، ولكن مجرد ذلك لا يوجب كونها من الأحكام الوضعية ، والا لاقتضى عدم حصرها ، لان باب الادعاء والتنزيل واسع ، فيلزم ان يكون جميع التنزيلات الشرعية من الأحكام الوضعية وهو كما ترى ( هذا تمام الكلام في الأحكام الوضعية ).

١٠٤

( وينبغي التنبيه على أمور )

( التنبيه الأول ) قد تقدم سابقا انه يعتبر في الاستصحاب اليقين بثبوت المستصحب سابقا والشك في بقائه لاحقا ( اما الأخير ) فاعتباره ظاهر لكونه مما به قوام حقيقته ( وفي اعتبار ) خصوص الشك الفعلي أو كفاية الشك التقديري ، كلام قد تقدم تحقيق القول فيه وفيما تترتب عليه من الثمرة وقد ذكرنا ان المختار هو اعتبار خصوص الشك الفعلي فلا موجب لإعادته ( واما الأول ) وهو اليقين السابق ، فاعتباره أيضا في صحة جريانه مما لا اشكال فيه خصوصا على مبنى اخذه من الاخبار كما هو المختار ( وانما الكلام ) في أن اعتباره من جهة كونه مما به قوام حقيقة الاستصحاب ، أو من جهة كونه مما به قوام تطبيقه على المورد لا قوام حقيقته ( ولقد ) تقدم تحقيق القول فيه أيضا ، وانه على المختار من اخذ اليقين في لا تنقض على نحو العنوانية ولو بما هو طريق ، لا بما هو صفة خاصة يكون مما به قوام حقيقة الاستصحاب كالشك اللاحق زائدا عن دخله في مقام تطبيقه على المورد فلا نطيل الكلام بإعادته.

( التنبيه الثاني ) لا فرق في صحة الاستصحاب بين ان يكون المستصحب محرزا باليقين الوجداني أو بغيره من الطرق والامارات بل الأصول المحرزة أيضا كالاستصحاب ( اما ) على المختار في مفاد أدلة حجية الامارات من كونه ناظرا إلى تتميم الكشف واثبات الاحراز فظاهر ، حيث إنها بتكفلها لتتميم الكشف بعناية التنزيل يوسع دائرة اليقين المنقوض والناقض في الاستصحاب بما يعم الوجداني والتعبدي وبذلك يكون المستصحب عند قيام الامارة أو الطريق عليه محرزا باليقين التعبدي ، فمع الشك في بقائه في الزمان المتأخر يجري فيه الاستصحاب لا محالة لتمامية أركانه من الاحراز السابق والشك اللاحق ، قلنا ان اليقين في لا تنقض ملحوظ على نحو العنوانية كما هو المختار أو على وجه المرآتية للمتيقن.

١٠٥

( كما أنه ) بقيام الامارة على ارتفاع المستصحب في الزمان المتأخر تتحقق الغاية واليقين الناقض من غير احتياج إلى جعل اليقين في لا تنقض عبارة عن مطلق الاحراز كما أفيد ، لما عرفت من أن المطلوب يتم ولو بجعل اليقين في دليله عبارة عن اليقين الوجداني ( والا لاقتضى ) المصير إلى تقديم الامارة على الاستصحاب بمناط الورود ، وهو مما لا يلتزم به القائل المزبور ، لان بنائه انما هو على تقديمها عليه بمناط الحكومة ، فحفظ هذه الجهة لا يكون الا بابقاء اليقين في لا تنقض ناقضا ومنقوضا على ظاهره من اليقين الوجداني مع البناء على اقتضاء الامارة بمعونة دليل اعتبارها لليقين بثبوت مؤداها ( فإنه ) بذلك تتم حكومة الامارات على الاستصحاب ويرتفع الاشكال أيضا عن جريان الاستصحاب في مؤدياتها ( هذا ) على على المختار في مفاد أدلة الامارات من كونه ناظرا بعناية التنزيل إلى تتميم الكشف واثبات الاحراز.

( واما ) بناء على استفادة كونه ناظرا إلى تنزيل المؤدى والامر بالمعاملة معه معاملة الواقع ، بلا نظر منه إلى تتميم كشف الامارة واثبات احراز الواقع بها ( فان ) قلنا ان النقض في لا تنقض اليقين متعلق بالمتيقن واقعا وان اليقين فيه ملحوظ عبرة ومرآة للمتيقن ( فيمكن ان يقال ) : انه بقيام الامارة على الحالة السابقة يجري الاستصحاب ، لان مقتضى الامارة السابقة بمعونة دليل اعتبارها وجوب ترتيب آثار الواقع على المؤدى ، ومن جملتها حرمة نقض اليقين به بالشك فيه اللهم الا ان يقال : ان تعلق حرمة النقض بعد أن كان بغير هذه الحرمة من سائر آثار وجود الشيء فلا جرم مع الشك في وجوده يشك في هذه الحرمة أيضا فلا يصح تطبيق الاستصحاب على المورد ، وعليه فلا يكون المحرك الفعلي على حرمة نقض آثار المتيقن الا الامارة لا نفس حرمة النقض فتدبر ( نعم ) على ذلك يشكل الامر في تقديم الامارة اللاحقة على الاستصحاب بمناط الحكومة كما أشرنا إليه غير مرة ( وان قلنا ) ان حرمة النقض متعلق بنفس اليقين وان اليقين ملحوظ فيه مستقلا على نحو العنوانية ولو على الوجه الطريقي لا الصفتي ، فيشكل الاكتفاء بالامارة السابقة في صحة الاستصحاب ، نظرا إلى انتفاء الكاشف وعدم تحققه لا وجدانا ولا تعبدا ( واشكل ) منه ، ما إذا قلنا في دليل الامارة بكونه ناظرا إلى مجرد جعل الحجية المستتبعة لتنجيز

١٠٦

الواقع عقلا على تقدير ثبوته بلا نظر إلى تنزيل المؤدى والتعبد بكونه هو الواقع ، ولا إلى اثبات العلم بالواقع كما هو مختار الكفاية ، فإنه على المسلكين في مفاد حرمة النقض لا مجال للاستصحاب في مؤديات الامارات ( اما ) على مسلك رجوع التنزيل فيه إلى المتيقن فظاهر ، للشك الوجداني حينئذ في كون المؤدى هو الواقع ، وعدم تكفل دليل الامارة حسب الفرض لتنزيل المؤدى منزلة الواقع ولا لاثبات العلم به ، ومع الشك المزبور يشك لا محالة في توجيه التكليف بحرمة النقض إلى المكلف ( ومجرد ) استتباع جعل الحجية تنجيزا للواقع المحتمل على فرض ثبوته لا يقتضى اثبات ان المؤدى هو الواقع ولا ترتيب آثار الواقع عليه الا من باب الاحتياط ، نظير ما إذا وجب الاحتياط على المكلف عند احتمال مطابقة الامارة للواقع ( ومن الواضح ) ان مثل هذا الحكم الاحتياطي أجنبي عن الحكم الاستصحابي الذي هو من آثار الواقع ، لأنه حكم في ظرف الشك في وجوب ترتيب آثار الواقع وفي مرتبة متأخرة عنه ( نعم ) على تقدير مطابقة الامارة للواقع يكون التكليف الاستصحابي أعني حرمة النقض منجزا عليه بمقتضى جعل الحجية ( ولكن ) الشك في مطابقة الامارة بعد أن كان شكا في ثبوت موضوع حرمة النقض فلا مجال لتطبيق حرمة النقض على المورد ( هذا ) على تقدير تعلق حرمة النقض بنفس المتيقن واقعا ( واما ) على تقدير تعلقه بنفس اليقين فالاشكال أوضح ، إذ حينئذ يقطع بعدم توجيه التكليف بحرمة النقض إليه في الواقع ونفس الامر ، لانتفاء موضوعه الذي هو اليقين وعدم تحققه لا بالوجدان ولا بالتعبد.

( لا يقال ) : انه كذلك إذا كان اليقين في لا تنقض ملحوظا من حيث الكاشفية عن الواقع ( واما ) لو كان مأخوذا من حيث المنجزية والقاطعية للعذر فلا محذور في الاستصحاب ، لان مفاد كبرى المزبورة حينئذ هو ان ما قام عليه المنجز يحرم نقضه بالشك ، دليل الامارة حسب اقتضائه لجعل الحجية موجب لقيام الامارة مقام العلم من حيث منجزيته فيرتفع بذلك الاشكال المزبور ( فإنه يقال ) : ان موضوع حرمة النقض انما هو التكليف الذي قام عليه المنجز ، فمع الشك الوجداني

١٠٧

في مطابقة الامارة للواقع يشك لا محالة في ثبوت موضوع الحرمة ( وبعد ) عدم تكفل دليل الامارة لاثبات العلم بالواقع ، ولا لاثبات ان المؤدى هو الواقع ، لا مجال لتطبيق حرمة النقض على المورد ( فلا يفرق ) حينئذ في المنع عن جريان الاستصحاب على هذا المسلك بين ان يكون اليقين في لا تنقض ملحوظا على نحو المرآتية للمتعلق ، أو العنوانية ( ولا في الثاني ) بين ان يكون ملحوظا من حيث كاشفيته وطريقيته للواقع ، أو من حيث منجزيته له ، فعلى جميع هذه الفروض لا يصح تطبيق حرمة النقض على المورد ( اما ) للقطع بانتفاء موضوع الحرمة ، أو للشك في ثبوته وتحققه واقعا ( فما عن بعض الأعاظم قده ) حينئذ من صح الاستصحاب في فرض كون اليقين في لا تنقض ملحوظا من حيث منجزيته ولو مع عدم تكفل دليل الامارة لتتميم الكشف منظور فيه ( وهكذا ) الكلام فيما لو كان دليل الامارة بلسان مجرد ايجاب العمل على طبق المؤدى بلا تكفله لاثبات كونه هو الواقع ولا لاثبات العلم به ، فإنه على جميع المسالك في مدلول حرمة النقض لا مجال لتطبيق الاستصحاب في موارد الامارات.

( وبما ذكرنا ) ظهر ان ما افاده المحقق الخراساني قده من الاشكال في صحة الاستصحاب في المقام على مسلكه في باب الطرق والامارات من أن المجعول فيها هي الحجية في غاية المتانة ، وانه لا يمكن الذب عنها الا بما افاده من كفاية الشك في البقاء على تقدير الثبوت في صحة الاستصحاب وجريانه بلا احتياج إلى احراز ثبوت المستصحب واقعا ( لان ) شأن الاستصحاب انما هو مجرد اثبات البقاء التعبدي للشيء على تقدير ثبوته الراجع إلى جعل الملازمة الظاهرية بين ثبوت الشيء وبقائه ( ولكن ) الاشكال كله في أصل هذا المبني ( فان التحقيق ) في مفاد أدلة الطرق والامارات ما أشرنا إليه غير مرة من كونه بنحو تتميم الكشف واثبات الاحراز التعبدي للواقع ، لا بنحو تنزيل المؤدي ، ولا جعل الحجية ، وعليه فلا قصور في استصحاب الاحكام التي قامت الامارات على ثبوتها قلنا ان اليقين في لا تنقض اليقين ملحوظ على نحو العنوانية ، أو المرآتية ( لان ) دليل الامارة بعناية تكفله لاثبات العلم والاحراز

١٠٨

يوسع دائرة اليقين الناقض والمنقوض في الاستصحاب وبذلك يجري الاستصحاب في مؤديات الامارات لكونها محرزة حينئذ بالاحراز التعبدي ، كما أنه به يتم حكومتها عليه عند قيامها على بقاء الحالة السابقة أو ارتفاعها ، بلا احتياج إلى جعل اليقين في لا تنقض كناية عن مطلق الاحراز كي يلزم تقدم الامارة عليه بمناط الورود لا الحكومة ، ولا إلى دعوى كفاية الشك في البقاء على تقدير الثبوت في صحة الاستصحاب.

ثم إن بعض الأعاظم قده أورد على المحقق الخراساني قده على ما في التقرير تارة على كلامه بان المجعول في الطرق والامارات انما هو الحجية المستتبعة لتنجيز الواقع لا الاحراز والوسطية ، بما حاصله امتناع جعل التنجيز والمعذرية ( بتقريب ) ان التنجيز انما تدور مدار وصول التكليف إلى المكلف ولو بطريقه فالتكليف ان كان واصلا إلى المكلف ولو بطريقه لا يمكن ان لا يكون منجزا ، وان لم يكن واصلا إليه بنفسه أو بطريقه لا يمكن ان يكون منجزا ، بل المكلف كان معذورا لا محالة ، فالتنجيز والمعذورية مما لا تناله يد الجعل الشرعي لكونهما من اللوازم العقلية المترتبة على وصول التكليف وعدمه ( وأخرى ) على ما افاده في دفع الاشكال عن جريان الاستصحاب في مؤديات الطرق والامارات من كفاية الشك في البقاء على تقدير الحدوث في صحة الاستصحاب ( بان ذلك ) لا يحسم مادة الاشكال ، لان حقيقة الاستصحاب وان كان هو التعبد بالبقاء الا ان التعبد انما هو ببقاء ما ثبت عند الشك فيه ولا معنى لتعبد بالبقاء على تقدير الحدوث ، لان الملازمة كالسببية مما لا تناله يد الجعل الشرعي ( فان ) الذي يقبل الجعل هو التعبد بوجود الشيء على تقدير آخر فينتزع من ذلك السببية والملازمة ، فصحة الاستصحاب يتوقف على احراز الحدوث ليصح التعبد ببقاء الحادث عند الشك في بقائه ، ولا معنى للتعبد ببقاء ما شك في حدوثه الا ان يرد أولا التعبد بالحدوث ليكون الحدوث محرزا بوجه ثم يرد التعبد بالبقاء.

( أقول ) ولا يخفى عليك ما في هذين الاشكالين ( اما الأول ) فان كان المقصود من تبيعية التنجيز والمعذورية لوصول التكليف وعدمه عدم قابليتهما بنفسهما للوقوع تحت الجعل بدوا فهو مما لا يدعيه المحقق الخراساني أيضا.

١٠٩

( فان تمام نظره ) إلى أن الحجية كالملكية من الاعتباريات الجعلية التي تستتبع جعلها عقلا للتنجيز والمعذورية ، لا ان المجعول بدوا هو نفس التنجيز والمعذورية ، وليس في الاشكال المزبور أيضا ما يقتضي امتناع جعل الحجية ( وان كان ) المقصود ان التكليف الواقعي لا يكون منجزا على المكلف بنحو يستتبع العقوبة على مخالفته الا بوصوله إلى المكلف ولو بطريقه ، فهذا مما لا اشكال فيه ( ولكن ) المدعى انه يكفي في وصول الشيء بطريقه وصول الحجة عليه ولو جعلية وهي أيضا على مسلكه حاصلة ( وان كان ) المقصود انه لا يكون التنجز الا بالاحراز الوجداني أو الجعلي وبدونهما لا يعقل التنجز ، فهو مع أنه مصادرة محضة ، مناف لما افاده في أول هذا التنبيه بقوله إذا اخذ العلم موضوعا من حيث اقتضائه للتنجيز والمعذورية تقوم مقامه الطرق والأصول المحرزة وغير المحرزة ( إذ على هذا ) البيان أي أصل غير محرز يقوم مقام العلم من حيث التنجيز ( وان كان ) المقصود غير ذلك فلابد من بيانه ( واما الاشكال ) الثاني ، فان كان المقصود منه ان في التعبد بالبقاء يحتاج إلى احراز الحدوث وانه لا يكفيه الشك في البقاء على تقدير الحدوث ، ففيه انه مصادرة محضة يطالب بالدليل ( فان ) شأن الاستصحاب على مرامه قده ، في لا تنقض من اخذ اليقين فيه مرآة إلى المتيقن ووصلة لإيصاله النقض إليه انما هو اثبات الملازمة الظاهرية بين ثبوت الشيء واقعا وبقائه ، وفي هذا المقدار لا يحتاج فعليه التعبد بالبقاء إلى احراز الحدوث ، نعم في مرحلة محركية التعبد المزبور لابد من احراز الحدوث اما بالعلم الوجداني أو بقيام الحجة عليه حيث كان الحجة على الملزوم حجة على لازمه التعبدي ( وان كان ) المقصود هو عدم جعلية الملازمة المزبورة وانها كالسببية من الأمور الواقعية التي لا تنالها يد الجعل والرفع ، ففيه انه كذلك في الملازمة الحقيقية الواقعية بين حدوث الشيء وبقائه واقعا ( واما الملازمة ) الظاهرية بين ثبوت الشيء وبقائه التعبدي فجعليتها بمكان من الامكان ( كيف ) وان شأن الاستصحاب على مسلكه ومرام كل من عرفه بابقاء ما كان بعد أن كان اثبات البقاء التعبدي للواقع يلزمه قهرا كون البقاء التعبدي من آثار الواقع ( ولازم ) ذلك صيرورة الملازمة المزبورة كملازمة كل حكم لموضوعه مجعولة بعين جعل الحكم لموضوعه ( وان كان )

١١٠

المقصود هو توقف صحة التعبد بالبقاء على احراز المستصحب لأجل انه بدونه لا ينتهى التعبد المزبور إلى العمل فيلزم لغوية التعبد بالبقاء ( ففيه ) ان اللغو انما هو التعبد بشيء لا ينتهى امره إلى احراز صغراه رأسا ، والا فمع الانتهاء إلى احراز صغراه أحيانا فلا قصور في صحة التعبد به ( فإنه ) يكفي هذا المقدار في خروجه عن اللغوية ، كما هو الشأن في التعبد بجميع الطرق المنوط صحته على احراز الطريق لدى المكلف ، فكون خبر الواحد أو البينة حجة بنحو القضية الحقيقية لا يقتضى الا إناطة فعلية التعبد بوجودهما واقعا غير المنفك كثيرا عن الجهل بهما ، وبالعلم بالصغرى يصير التعبد بالخبر والبينة منتهيا إلى العمل ومحركا فعليا نحوه وخارجا عن اللغوية ( وفي المقام ) تكون الامارة على حدوث المستصحب حجة على لازمه الشرعي من الابقاء التعبدي ، فيترتب عليه عند الشك فيه آثار البقاء من نحو وجوب الإطاعة ونحوه كما هو ظاهر فتدبر.

( ثم انه ) قد يقرب الاستصحاب بوجه آخر يسلم عن الاشكال المزبور ولو مع البناء على استفادة جعل الجية من دليل الامارات ( وحاصله ) تطبيقه على كلي الوجوب أو الحرمة الجامع بين الواقعي والظاهري ( بتقريب ) انه بقيام الامارة على وجوب شيء يقطع بمطلق وجوبه على تقدير مطابقة الامارة للواقع ومخالفته له ( حيث ) انه على تقدير يكون المتحقق هو الوجوب الواقعي ، وعلى تقدير آخر يكون المتحقق هو الوجوب الظاهري ، فإذا شك في ارتفاعه يجري فيه الاستصحاب ( وفيه ) انه لو تم ذلك فإنما هو على القول بالسببية والموضوعية في الطرق والامارات ، والا فعلى ما هو المشهور والمختار من الطريقية فيها ، فلا يصح ذلك ( لان ) مرجع الحكم الطريقي إلى كونه ايجابا حقيقيا على تقدير ، وصوريا على تقدير آخر ، وبعد عدم تصور جامع ذاتي بين الايجاب الحقيقي والصوري يندرج الاستصحاب المزبور لا محالة في استصحاب الفرد المردد بين ما له الأثر وما ليس له الأثر ، لا في استصحاب الكلى ( ومثله ) لا يجرى فيه الأصل ، لعدم تعلق اليقين والشك فيه بموضوع له الأثر ، لان ما له الأثر انما هو الوجوب الواقعي وهو مما يشك في ثبوته من الأول لاحتمال

١١١

مخالفة الامارة للواقع.

( وقد يقرب ) الاستصحاب بوجه ثالث ، وهو تطبيقه على الحكم الظاهري الذي هو مفاد دليل التعبد بالامارة ( بتقريب ) انه بقيام الامارة أو البينة على وجوب شيء أو طهارته ونجاسته يقطع بثبوت الكم الظاهري ووجوب ترتيب آثار الواقع من الطهارة أو النجاسة ، فإذا شك بعد ذلك في نجاسة ما قامت الامارة على طهارته لاحتمال ملاقاته مع النجاسة في الزمان الثاني يستصحب تلك الطهارة الظاهرية لتحقق أركانه جميعا من اليقين السابق والشك اللاحق ، ولا يحتاج إلى احراز الطهارة الواقعية التي هي مؤدى الامارة كي يشكل عليه بعدم احراز الحدوث ( وفيه ) انه يتجه ذلك إذا لم يكن منشأ احتمال مخالفة الامارة للواقع منحصرا بجهة مخصوصة ، والا فمع حصره بجهة مخصوصة ، فلا مجال للاستصحاب ، للقطع بانتقاء الحكم الظاهري حينئذ من غير تلك الجهة ، مثلا لو فرضنا انه شك في طهارة ماء ونجاسته في الصبح من جهة احتمال ملاقاته مع الدم بحيث يكون منشأ الشك في نجاسته منحصرا بالاحتمال المزبور ، فقامت البينة على طهارته في الصبح ، فلا شبهة في أن ما يقتضيه التعبد بالبنية من الطهارة الظاهرية للماء المزبور انما هو طهارته من الجهة المزبورة لا مطلقا ولو من غير تلك الجهة ( إذ لازم ) حصر منشأ الشك في نجاسته عند الصبح بالجهة المزبورة هو اليقين بعدم نجاسته من الجهات الاخر ، ومع هذا اليقين يمتنع اقتضاء التعبد بالبنية طهارة الماء حتى من الجهة المعلومة ، فلو شك في بقاء طهارته من غير تلك الجهة المشكوكة أولا في ثاني الزمان بل من جهة احتمال ملاقاته مع البول أو غيره من النجاسات فلا يجري فيه الاستصحاب للقطع بانتفاء الحكم الظاهري من الأول من غير الجهة المشكوكة أولا ( وحينئذ ) فلولا اجراء الاستصحاب في الحكم الواقعي الذي هو مؤدي البنية لا مجال لاجرائه في الحكم الظاهري الذي هو مفاد دليل التعبد بها كما هو ظاهر ( هذا كله ) في استصحاب مؤديات الطرق والامارات ، وقد عرفت نفى الاشكال عن جريانه فيها على المختار في مفاد أدلة الامارات من كونه على نحو تتيمم الكشف واثبات الاحراز التعبدي حتى على القول بتعلق حرمة النقض في لا تنقض بنفس المتيقن

١١٢

فضلا عما هو المختار من تعلقه بعنوان اليقين.

( واما الاستصحاب ) في مؤديات الأصول المحرزة كالاستصحاب وقاعدة الطهارة على وجه قوى ، ففي جريانه فيها اشكال أقواه العدم ، وذلك لا من جهة عدم احراز ثبوت المستصحب فيها ، لأنه على المختار في لا تنقض من تعلقه بنفس اليقين ، لا قصور في قيامه مقام القطع الطريقي ( بل من جهة ) حصر الغاية فيها باليقين بالخلاف في قوله (ع) ولكن انقضه بيقين آخر ( فان لازم ) غائية اليقين بالخلاف فيها هو بقاء الحكم المجعول بالأصل واستمراره إلى حين اليقين بالانتقاض ، فمع عدم اليقين بالخلاف لا وجدانا ولا تعبدا كان الحكم المجعول بالاستصحاب السابق باقيا ، ومع بقائه لا يبقى المجال لاجراء الاستصحاب بالنسبة إلى مؤدياتها ، لان الغرض من استصحابها انما هو اثبات الحكم الظاهري وترتيب آثار البقاء عليها وهو حاصل بالاستصحاب السابق الجاري أولا.

( واشكل ) من ذلك استصحاب مؤديات الأصول غير المحرزة كقاعدة الحلية والطهارة على وجه آخر ، بلحاظ عدم كون مؤدياتها الا مجرد اثبات الطهارة أو الحيلة الظاهرية للشيء في ظرف الشك فيهما بلا نظر منها إلى اثبات ان المؤدى هو الواقع ( واما ) استصحاب الحكم الظاهري المجعول في موردها ، فهو أيضا مما لا مجرى له ، لانتفاء الشك الذي هو من أركانه ، للقطع ببقاء الحكم الظاهري المجعول في مواردها ما دام بقاء الشك وعدم حصول الغاية التي هي العلم بالخلاف.

التنبيه الثالث

المستصحب اما ان يكون كليا أو شخصيا ، ( وعلى الثاني ) اما ان يكون فردا معينا قد شك في بقائه ، أو يكون فردا مرددا من طبيعة واحدة أو طبيعتين أو طبايع ، كما أنه على الأول ( تارة ) يكون الشك في بقاء الكلي من جهة الشك في بقاء الفرد الذي كان الكلي متحققا في ضمنه ( وأخرى ) من جهة تردد الخاص الذي كان

١١٣

الكلي في ضمنه بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء ، كالحدث المردد بين الأصغر والأكبر مع فعل ما يوجب رفع الحدث الأصغر ، والحيوان المردد بين كونه قصير العمر أو طويله مع مضى زمان يقطع عادة بعدم بقاء القصير في طول هذا الزمان ( وثالثة ) من جهة احتمال وجود فرد آخر للكلي غير الفرد الذي علم بحدوثه وارتفاعه ، ( وهذا ) أيضا على قسمين ، فان الفرد الآخر المحتمل ، تارة يحتمل وجوده في زمان الفرد الآخر ، وأخرى يحتمل حدوثه مقارنا لارتفاعه ، وذلك أيضا ( تارة ) في الافراد المتواطئة ( وأخرى ) المشككة ( ثم ) الأثر الشرعي في فرض كون المستصحب من الموضوعات ( تارة ) مترتب على نفس الكلى والجامع بين الفردين ( وأخرى ) على أحد الفردين بلا ترتبه على عنوان الجامع ( وثالثة ) على كل منهما ، فهذه جهات وصور لهذا التقسيم.

ولنقدم الكلام في الاستصحاب الشخصي ( فنقول ) : أما إذا كان المستصحب شخصا معينا فلا اشكال في صحة استصحابه لتمامية أركانه جميعا من اليقين السابق والشك اللاحق ( واما ) إذا كان شخصا مرددا بين الشخصين كأحد الفردين أو الانائين في مثال العلم الاجمالي بوجوب أحدهما أو نجاسته ( فتارة ) يكون الشك في بقاء المعلوم بالاجمال من جهة ارتفاع أحد الفردين أو خروجه عن الابتلاء ( وأخرى ) من غير تلك الجهة ( فان كان ) الشك في البقاء من جهة ارتفاع أحد فردي الترديد ، فلا يجري فيه الاستصحاب ( لا لتوهم ) عدم اجتماع أركانه فيه من اليقين بالوجود والشك في البقاء ( بل لعدم ) تعلق اليقين والشك بموضوع ذي اثر شرعي ( لأنه ) يعتبر في صحة التعبد بالشيء تعلق اليقين والشك به بالعنوان الذي يكون بذلك العنوان موضوعا للأثر الشرعي ، والا فلا يكفي تعلق الشك بغيره من العناوين التي لم يكن كذلك ( والأثر الشرعي ) في أمثال المقام انما هو لمصداق الفرد بما له من العنوان التفصيلي ، كصلاة الظهر والجمعة ، والقصر والتمام ، ونجاسة هذا الاناء وذاك الآخر بواقعه وعنوانه التفصيلي ، ومثله مما اختل فيه أحد أركانه وهو الشك في البقاء ، لكونه بين ما هو مقطوع البقاء وبين ما هو مقطوع الارتفاع ، بل ويختل فيه كلا ركنيه

١١٤

جميعا ( واما العنوان ) الاجمالي العرضي ، كعنوان أحد الفردين أو الفرد المردد ، أو ما هو موضوع الأثر ونحوها من العناوين العرضية الاجمالية ، فهي وان كانت متعلقة لليقين والشك ، ولكنها بأسرها خارجة عن موضوع الأثر ( إذ لم يترتب ) اثر شرعي في الأدلة على شيء من هذه العناوين العرضية ، فلا يجرى الاستصحاب حينئذ لا في العنوان الاجمالي ، ولا في العناوين التفصيلية ، لانتفاء الأثر الشرعي في الأول ، وانتفاء الشك في البقاء في الثاني.

( وبهذه ) الجهة منعنا عن جريان الاستصحاب في المفاهيم المجملة المرددة بين المتباينين أو الأقل والأكثر ، كالشك في مفهوم زيد المردد بين زيد بن عمرو وزيد ابن خالد ، والشك في أن النهار تنتهي بغياب القرض أو بذهاب الحمرة المشرقية ، والشك في مفهوم الرضاع الموجب لنشر الحرمة في أنه ما بلغ عشر رضعات ، أو خمسة عشر رضعة ، وفي مفهوم الكر المردد قدره بين ما يساوي سبعة وعشرين شبرا ، أو ثلاثة وأربعين تقريبا ، إلى غير ذلك من الأمثلة ، فلا يصح استصحاب المفهوم المردد بين المفهومين بعد موت زيد بن عمرو ، ولا استصحاب النهار بعد غياب القرض ، ولا استصحاب عدم تحقق الرضاع المحرم بعد تحقق عشر رضعات ، ولا عدم كرية الماء بعد بلوغه الحد الأول ، كل ذلك لما ذكرنا من انتفاء الأثر الشرعي فيما هو المشكوك ، وانتفاء الشك في البقاء فيما له الأثر الشرعي ، لكونه دائرا بين المقطوعين ( وبذلك ) أيضا يتضح الفرق بين الفرد المردد ، وبين القسم الثاني من الكلى ، كالحدث المردد بين الأصغر والأكبر ( فان ) صحة الاستصحاب هناك انما هو من جهة ان لنفس الكلى اثر شرعي وهو المانعية عن الصلاة مثلا ، بخلاف الفرد المردد ، فان الأثر الشرعي فيه انما يكون للشخص لا لعنوان أحد الشخصين والفرد المردد ( وهذه ) الجهة هي العمدة في الفرق بين المقامين ، لا بصرف كون الجامع المتعلق للشك واليقين ذاتيا هناك وعرضيا هنا ( ولذا ) لو فرض ترتب اثر شرعي هنا أيضا على مثل هذا الجامع العرضي نقول : فيه بجريان الاستصحاب ( كما ) ان في طرف الكلى لو كان الأثر الشرعي لنفس الحصة أو الفرد لا للكلي والجامع الذاتي بين الفردين نقول فيه بعدم

١١٥

جريان الاستصحاب.

( وتوهم ) ان الأصل انما لا يجرى في الفرد المردد إذا كان العنوان الاجمالي بما هو هو وفي حيال ذاته مقصودا في الاستصحاب ( واما ) إذا كان ملحوظا على وجه الطريقية والمشيرية إلى ما هو الموضوع للأثر بنحو الاجمال ، فلا محذور في استصحابه ، لأنه بهذا اللحاظ يكون وسيلة لايصال التعبد بالبقاء إلى ما هو الموضوع للأثر الشرعي ( مدفوع ) بأنه لو سلم ذلك فإنما هو في فرض قابلية ما يحكى عنه العنوان الاجمالي لأعمال التعبد فيه ، والمفروض عدم قابليته لذلك ، لعدم تعلق الشك بعنوان من العناوين التفصلية ( فإنه ) ان اخذ كونه وجها وعنوانا لهذا الفرد كان مقطوع البقاء ( وان ) اخذ كونه عنوانا للفرد الآخر كان مقطوع الارتفاع ( فعلى كل تقدير ) لاشك في البقاء الا بعنوان أحد الفردين أو الفرد المردد أو بغيرهما من العناوين الاجمالية العرضية ، وبعد خروج مثلها عن حيز الأثر الشرعي فلا يجرى الاستصحاب فيها كما هو ظاهر.

( ومن التأمل ) فيما ذكرنا ظهر الحال فيما لو كان الشك في بقاء الفرد المردد من غير جهة اليقين بارتفاع أحد الفردين ، كما لو علم اجمالا بنجاسة أحد الانائين مع احتمال زوال نجاسته بورود مطهر عليه من مطر ونحوه ، فإنه على ما ذكرنا لا يجرى فيه الاستصحاب أيضا ، لا في العنوان الاجمالي ، لاعتبار قيد الأثر في متعلقه ، ولا في كل واحد من الانائين ، لانتفاء اليقين بالنجاسة بالنسبة إليهما ( لان ) اليقين انما تعلق بأحدهما اجمالا المردد انطباقه على هذا الاناء وذاك الآخر ( وبعد ) احتمال طهارة كلا الانائين فعلا ، يرجع فيهما إلى قاعدة الطهارة ، بل استصحابها لاجتماع أركانه فيهما من اليقين بالطهارة والشك في البقاء ، ( وان أبيت ) الا عن جريان استصحاب النجاسة في هذه الصورة فليكن ذلك باجرائه في كل واحد من الطرفين لا في العنوان الاجمالي الذي لا اثر له ( بتقريب ) استتباع العلم الاجمالي المزبور لليقين بنجاسة كل واحد منهما في فرض انطباق المعلوم عليه ، فإنه مع هذا اليقين المنوط بكل واحد منهما يتحدد متعلق الشك واليقين فيهما فيجرى فيهما الاستصحاب ، وبالعلم الاجمالي بتحقق المعلق عليه في

١١٦

أحدهما يعلم بتنجز أحد الاستصحابين فيترتب عليه الأثر فتأمل ( ولكن ) مثل هذا التقريب لا يجري في فرض اليقين بارتفاع أحد الفردين ، إذ لا يعلم بتحقق المعلق عليه في طرف المشكوك الباقي ، كي يترتب عليه اثر عملي كما هو ظاهر.

( ثم إن ) ما ذكرنا من المنع المذكور لا يختص بالاستصحاب ، بل يجري في عامة الأصول ، لاطراد وجه المنع في جميعها ( ويترتب ) على ذلك أنه لو صلى عند اشتباه القبلة إلى الجهات الأربع وبعد الفراغ منها علم بفساد واحدة منها معينة ، فإنه على ما ذكرنا لا يجوز الاكتفاء بالبقية في تفريغ الذمة ، بل تجب إعادة تلك الصلاة بعينها ، لعدم جريان قاعدة الفراغ في العنوان الاجمالي المردد ، كالصلاة إلى القبلة المرددة ، أو ما هو المأمورية بهذا العنوان الاجمالي ، وعدم اثمار جريانها في البقية لعدم العلم بان القبلة فيها ( بخلاف ) ما إذا علم بفساد واحدة منها مرددة ، فإنه لا يجب إعادة الصلاة ، لجريان قاعدة الفراغ بالنسبة إلى كل واحدة من الصلوات المأتية ( فان ) كل واحدة منها في فرض كونها إلى القبلة مما يشك في صحته وفساده بشك حادث بعد الفراغ فتجري فيها القاعدة ( غاية الامر ) يعلم اجمالا بمخالفة أحد هذه الأصول للواقع ، وهو أيضا غير ضائر لاحتمال كون الفاسدة هي المأتية إلى غير القبلة ( ومثل هذا ) التفصيل من نتائج عدم جريان الأصل في العنوان الاجمالي المردد ، لاختصاص موضوعه بالشك المتعلق بما له الأثر بعنوانه التفصيلي ( والا ) فعلى فرض اطلاقه بالنسبة إلى الشك بكل عنوان لا مجال للتفصيل المزبور ( بل اللازم ) هو المصير إلى جريان القاعدة حتى في فرض العلم بفساد واحدة منها معينة ( إذ حينئذ ) يصدق الشك في صحة ما هو المأمور به وفساده بهذا العنوان الاجمالي بشك حاصل بعد الفراغ ، مع أنه لا يظن التزامه من أحد ، وعليه فلا يتم التفصيل المزبور بين فرضي المسألة الا بما ذكرناه.

( ثم انه ) لو قلنا بكفاية مرآتية العنوان الاجمالي المشكوك لما له الأثر الشرعي في صحة التعبد ببقائه ، لا يرد عليه اشكال بعض الأعاظم قده باختلاله في أحد

١١٧

أركانه ، لانتقاء الشك ببقاء العنوان المردد بما هو كذلك بعد العلم بارتفاع أحد الفردين وبقاء الاخر ، واستلزامه التعبد بما هو معلوم البقاء وبما هو معلوم العدم ( بتقريب ) ان معنى استصحاب الفرد المردد انما هو التعبد ببقاء الحادث على ما هو عليه من الترديد وهو يقتضي الحكم ببقاء الحادث على كل تقدير سواء كان هو الفرد الزائل أو الباقي وهو ينافي العلم بارتفاع الحادث على تقدير وبقائه على تقدير آخر ( إذ فيه ) ان هذا الاشكال يتجه في فرض سراية اليقين والشك من متعلقه الذي هو العنوان الاجمالي إلى عناوين الأطراف التفصيلية ( والا ) ففي وقوفهما على العنوان الاجمالي وعدم سرايتهما إلى العناوين التفصيلية ولا إلى المعنونات الخارجية كما حققناه في مبحث البراءة والاشتغال بشهادة اجتماع الشك واليقين في العلوم الاجمالية ، فلا مجال لهذا الاشكال ، ( فإنه ) كما أن اليقين الاجمالي بالعنوان المردد لا ينافي الشك التفصيلي بكل واحد من الأطراف بل يجتمع معه ( كذلك ) الشك الاجمالي ببقاء العنوان المزبور لا ينافي اليقين التفصيلي بارتفاع بعض الأطراف وبقاء البعض الاخر ، ومعه لا قصور في استصحاب العنوان المردد لاجتماع أركانه فيه من اليقين السابق والشك اللاحق ( فإنه ) من جهة احتمال انطباقه على الفرد الزائل يشك في بقاء ما تعلق به اليقين السابق فيجري فيه التعبد بالبقاء من دون اقتضائه التعدي إلى العناوين التفصيلية كي يلزم التعبد بما هو معلوم الوجود وما هو معلوم العدم ( كيف ) وان التعبد الاستصحابي تابع يقينه وشكه وبعد عدم تعديهما من العنوان الاجمالي إلى العناوين التفصيلية لا يكاد يتعدى التعبد بالبقاء أيضا عن مورد يقينه وشكه كما هو ظاهر ( ولعمري ) ان المنشأ كله للاشكال المزبور انما هو تخيل اعتبار كون المستصحب في الفرد المردد مشكوك البقاء في الزمان المتأخر بجميع عناوينه حتى بعنوانه التفصيلي المنطبق على الفرد الزائل أو الباقي ( ولكنه ) كما ترى فان القدر المستفاد من قوله (ع) لا تنقض اليقين بالشك انما هو اعتبار مجرد تعلق الشك في الزمان المتأخر بعين ما تعلق به اليقين السابق من العنوان ، فإذا كان المتعلق للعلم هو العنوان الاجمالي المردد انطباقه على أحد الفردين ، يكون معنى الشك فيه عبارة عن الشك ببقاء ذاك

١١٨

العنوان المردد انطباقه على أحد المعلومين ، لا ان معناه كونه مشكوك البقاء بجميع العناوين حتى بالعنوان التفصيلي المنطبق على الفرد الزائل أو الباقي ( كيف ) ولازم البيان المزبور هو الاشكال في استصحاب القسم الثاني من الكلى المردد بين القصير والطويل.

( فإنه ) بعد أن كان الكلى بعروض التشخصات عليه يتحصص في الخارج بحصص متعددة بحيث يصير مع كل شخص وخصوصية حصته من الطبيعي غير الحصة الأخرى مع شخص فرد آخر ، كما اشتهر بان مع كل فرد أب من الطبيعي ، لان نسبة الطبيعي إلى الافراد كنسبة الآباء إلى الأولاد ، لا كالأب الواحد ، فلا محالة يكون مرجع العلم الاجمالي في الكلى إلى العلم بحدوث حصة من الطبيعي متخصصة بخصوصية خاصة مرددة بين كونها مقطوع الارتفاع وبين كونها مقطوع البقاء ، فيجئ فيه أيضا ما في الفرد المردد من الاشكال ( وهو ) كما ترى ( إذ هو ) مع كونه خلاف ما عليه المعظم ، لا يلتزم به المستشكل المزبور أيضا ( وحينئذ ) فكما يدفع الاشكال في الكلى بعدم اضرار اليقين بارتفاع أحد الفردين وبقاء الآخر في أركان استصحابه ، بدعوى تعلق اليقين والشك فيه بالجامع الاجمالي المحتمل الانطباق على كل واحد من الفردين لا بالعناوين التفصيلية ، ولا بالمحكيات الخارجية ، فلا ينافي اليقين بارتفاع أحد الفردين وبقاء الآخر مع اجتماع اليقين والشك في نفس الكلى والجامع المحتمل الانطباق على كل واحد من الفردين ( كذلك ) يدفع به الاشكال في الفرد المردد ( إذ لا فرق ) بينهما الا من جهة كون الجامع المتعلق للعلم ذاتيا في الكلى وعرضيا في الفرد المردد ، وهو أيضا غير فارق بعد وقوف اليقين في المقامين على نفس الجامع الاجمالي وعدم سرايته إلى الخارج ولا إلى العناوين التفصيلية للافراد ( ولازم ) ذلك بعد تعلق الشك ببقاء العنوان المزبور ولو من جهة الشك في انطباقه على الفرد الزائل أو الباقي هو جريان الاستصحاب فيه بعين جريانه في الكلى ، لولا شبهة انتفاء الأثر الشرعي فيه ( وقد تقطن ) المستشكل المزبور لهذا الاشكال في الكلى ، فاورد على نفسه بان اليقين في الكلى أيضا لم يتعلق الا بحدوث حصة من الكلى متخصصة بخصوصية

١١٩

خاصة وتلك الحصة أمرها يدور بين ما يكون مقطوع البقاء ، وما يكون مقطوع الارتفاع فيكون حال الكلى الموجود في ضمن الفرد المردد حال نفس الفرد المردد ( ولكنه ) أجاب عنه بان وجود الكلى وان كان بوجود الفرد وزواله بزواله ، الا انه ليس الكلى مما ينتزع عن الفرد ، بل هو متأصل الوجود في الخارج على ما هو التحقيق من وجود الكلى الطبيعي ، ومن دون فرق بين الأمور العينية التكوينية ، وبين الأمور الاعتبارية أو الشرعية ( فالعلم ) بوجود الفرد المردد يكون منشأ للعلم بوجود الكلى والقدر المشترك خارجا ، وارتفاع أحد الفردين يصير منشأ للشك في بقاء الكلى ، فيثبت كلا ركني الاستصحاب ( أقول ) : وفيه ان المقصود من تأصل الكلى الطبيعي في الخارج ، ان كان وجوده في ضمن الفرد بوجود شخصي مستقل قبال الخصوصيات الفردية ، ففساده أوضح من أن يبين ، فان لازمه اتحاد جميع الافراد المتحدة مع الطبيعي في وجود واحد شخصي ( وان كان ) المقصود وجوده بوجود نوعي أو جنسي ، فهو أوضح فسادا ، بداهة انه لا وجود للكلي بوصف الكلية الصادقة على الكثيرين في الخارج وانما صقعه بهذا النحو في موطن الذهن لا الخارج ، فالخارج هو موطن الحصص المعروضة للتقيدات والتفحصات ( وان كان ) المقصود من وجوده باعتبار وجود حصصه المقرونة بالخصوصيات الفردية ، نظرا إلى تكثر الطبيعي في الخارج بعروض التشخصات عليه وتحصصه بحصص متعدده بنحو يصير مع كل فرد حصة من الطبيعي تغاير الحصة الأخرى الموجودة في ضمن الفرد الآخر ، غاية الأمران العقل ينتزع من هذه الحصص بلحاظ وحدتها السنخية وكونها تحت جنس واحد وفصل فارد مفهوما واحدا فيناله في الذهن بنحو الكلية الصادقة على الكثيرين ، فهو متين جدا ( ولكن ) يتوجه عليه سؤال الفرق بين الكلى وبين الفرد المردد ، في أنه بعد عدم اضرار اليقين بارتفاع إحدى الحصتين وبقاء الأخرى في أركان الاستصحاب في الكلى ولو من جهة دعوى تعلق اليقين بنفس الكلى بصورته الذهنية ووقوفه على الجامع المحتمل الانطباق في الخارج على كل واحد من الفردين ، وعدم سرايته إلى عناوين الحصص الفردية ( فليكن ) كذلك في الفرد المردد ، لان فيه أيضا يكون

١٢٠