المقنع في الغيبة

أبي القاسم علي بن الحسين الموسوي

المقنع في الغيبة

المؤلف:

أبي القاسم علي بن الحسين الموسوي


المحقق: السيد محمد علي الحكيم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-96-5
الصفحات: ٩٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

قلنا : قد أجبنا عن هذا السؤال وفرّعناه إلى غاية ما يتفرّع في كتابنا « الشافي » (٩١).

وجملته : أنّ الله تعالى لو علم أنّ النقل لبعض الشريعة المفروضة ينقطع ـ في حالٍ تكون تقيّة الإمام فيها مستمرّة ، وخوفه من الأعداء باقياً ـ لأسقط ذلك التكليف عمّن لا طريق له إليه.

وإذا علمنا ـ بالإجماع الذي لا شبهة فيه ـ أنّ تكليف الشرائع مسمترٌ ثابتٌ على جميع الأُمّة إلى أن تقوم الساعة ، يُنتج لنا هذا العلم أنّه لو اتّفق أن ينقطع النقل ـ بشيء من الشرائع (٩٢) ـ لما كان ذلك إلاّ في حال يتمكّن فيها الإمام من الظهور والبروز والإعلام و الإِنذار.

[ علّة عدم ظهور الإمام لأوليائه ]

فإن قيل : إذا كانت العلّة في غَيْبته عن أعدائه خوفه منهم ، فما باله لا يظهر لأوليائه ، وهذه العلّة زائلة فيهم ؟!

فإذا لم يظهر للأولياء ـ وقد زالت عنهم علّة استتارهـ بطل قولكم في علّة الغَيْبة !

قلنا : قد أجاب أصحابنا عن هذا السؤال بأنّ علّة غيْبته عن أوليائه لا تمنع أن يكون خوفه من أن يلقاهم فيشيعوا خبره ، ويتحدّثوا سروراً باجتماعه معهم ، فيؤدّي ذلك ـ وإنْ كان ذلك غير مقصود ـ إلى الخوف

__________________

(٩١) الشافي ١ / ١٤٤ ـ ١٥٠ وما بعدها.

(٩٢) في « ج » : الشرع.

٦١

من (٩٣) الأعداء.

[ عدم ارتضاء المصنِّف لهذه العلّة ]

وهذا الجواب غير مَرْضيّ ؛ لأنّ عقلاء شيعته لا يجوز أن يخفى عليهم ما في إظهار اجتماعهم معه من الضرر عليه وعليهم ، فكيف يخبرون بذلك مع العلم بما فيه من المضرّة الشاملة ؟! و إنْ جاز هذا الذي ذكروه على الواحد والاثنين ، لم يجز على جماعة شيعته الذين لا يظهر لهم.

على أنّ هذه العلّة توجب أنّ شيعته قد عُدموا الانتفاع به على وجه لا يتمكّنون من تلافيه وإزالته :

لأنّه إذا علّق الاستتار بما يعلم من حالهم أنّهم يفعلونه ، فليس في مقدورهم الآن ما (٩٤) يقتضي ظهور الإمام ، وهذا يقتضي سقوط التكليف ـ الذي الإمام لطفٌ فيه ـ عنهم.

[ الجواب عن اعتراض المصنِّف ]

وقد أجاب بعضهم عن هذا السؤال بأنّ سبب الغَيْبة عن الجميع هو فعل الأعداء ؛ لأنّ انتفاع جماعة الرعيّة ـ من وليٍّ وعدوٍّ ـ بالإمام إنّما يكون بأن ينفذ أمرُه وتنبسط يدُه ، ويكون ظاهراً متصرِّفاً بلا دافع ولا منازع ،

__________________

(٩٣) في « أ » : إلى. وهو غلطٌ.

(٩٤) كا ن في « أ » : ممّا. وفي « ج » : بما. وما أثبتناه هو الأنسب للسياق من « الغَيْبة » للطوسي ـ ص ٩٧ ـ.

٦٢

وهذا ممّا (٩٥) المعلوم أنّ الأعداء قد حالوا دونه ومنعوا منه.

قالوا : ولا فائدة في ظهوره سرّاً لبعض أوليائه ؛ لأنّ النفع المبتغى من تدبير الأئمّة لا يتمّ إلا بالظهور للكلّ ونفوذ الأمر ، فقد صارت العلّة في استتار الإمام وفقد ظهوره ـ على الوجه الذي هو لطفُ ومصلحةٌ للجميع ـ واحدةٌ.

وهذا أيضاً جواب غير مَرْضيّ :

لأنّ الأعداء إن كانوا حالوا بينه و بين الظهور على وجه التصرّف والتدبير ، فلم يحولوا بينه وبين مَنْ شاء من أوليائه على جهة الاستتار.

وكيف لا يَنْتَفع به مَنْ يلقاه من أوليائه على سبيل الاختصاص ، وهو يعتقد طاعته وفرض أتّباع أوامره ، ويحكّمه في نفسه ؟!

وإنْ كان لا يقع هذا اللقاء لأجل اختصاصه ؛ ولأنّ الإمام معه غير نافذ الأمر في الكلّ ، ولا مفوَّض إليه تدبير الجميع ، فهذا تصريحٌ بأنّه لا انتفاع للشيعة الإماميّة بلقاء أئمّتها من لدن وفاة أميرالمؤمنين عليه‌السلام إلى أيّام الحسن بن عليّ أبي القائم عليهم‌السلام ، للعلّة التي ذكرت.

ويوجب ـ أيضاً ـ أنّ أولياء أميرالمؤمنين عليه‌السلام وشيعته لم يكن لهم بلقائه انتفاع قبل انتقال الأمر إلى تدبيره وحصوله في يده.

وهذا بلوغ ـ من قائله ـ إلى حدّ لا يبلغه متأمّل.

على أنّه : إذا سلّم لهم ما ذكروهـ من أنّ الانتفاع بالإمام لا يكون إلاّ مع ظهوره لجميع الرعيّة ، ونفوذ أمره فيهم ـ بطل قولهم من وجه آخر ،

__________________

(٩٥) كذا في « أ » و « ج » و « الغَيْبة » للطوسي ـ ص ٩٨ ـ.

٦٣

وهو : أنّه يؤدّي إلى سقوط التكليف ـ الذي الإمام لطفٌ فيه ـ عن شيعته :

لأنّه إذا لم يظهر لهم لعلّة لا ترجع إليهم ، ولا كان في قدرتهم وإمكانهم إزالة ما يمنعهم (٩٦) من الظهور : فلا بُدّ من سقوط التكليف عنهم ، ولا يجرون في ذلك مجرى أعدائه؛ لأنّ الأعداء ـ واِنْ لم يظهر لهم ـ فسبب ذلك من جهتهم ، وفي إمكانهم أن يزيلوا المنع من ظهوره فيظهر ، فلزمهم التكليف الذي تدبير الإمام لطفٌ فيه ، ولو لم يلزم ذلك شيعته على هذا الجواب.

ولو جاز أن يمنعَ قومٌ من المكلَّفين غيرهم من لطفهم ، ويكون التكليف ـ الذي ذلك اللطفٌ لطفٌ فيه ـ مستمرّاً عليهم : لجاز أن يمنع بعضُ المكلَّفين غيره ـ بقيدٍ أو ما أشبهه ـ من المشي على وجهٍ لا يتمكّن ذلك المقيَّد من إزالته ، ويكون المشي مع ذلك مستمّراً على المقيَّد.

وليس لهم أن يفرّقوا بين القيد وفَقْد اللطف ، من حيث كان القيد يتعذّر معه الفعل ولا يتوهّم وقوعه ، وليس كذلك فَقْد اللطف :

لأنّ المذهب الصحيح ـ الذي نتّفق نحن عليه ـ أنّ فَقْدَ اللطف يجري مجرى فَقْدِ القُدرة والآلة ، وأنّ التكليف مع فَقْدِ اللطف ـ في مَنْ له لطف ـ معلومٌ قبحه ، كالتكليف مع فَقْد القدرة والآلة ووجود المانع ، وأنّ مَنْ لم يفعل به اللطف ـ ممًّن له لطف معلوم ـ غير متمكِّن من الفعل ، كما أنّ الممنوعَ غيرُ متمكِّّن.

__________________

(٩٦) كذا في نسختي الكتاب ، والظاهر : « ما يمنعه » أي الإمام عليه‌السلام.

٦٤

[ الأَوْلى في علّة الاستتار من الأولياء ]

والذي يجب أن يجاب به عن هذا السؤال ـ الذي قدّمنا ذكره في علّة الاستتار من أوليائه (٩٧) ـ أن نقول أوّلاً [ لا ] (٩٨) قاطعين على أنّه لا يظهر لجميع أوليائه ، فإنّ هذا مغيَّب عنّا ، ولا يعرف كلُّ واحد منّا إلاّ حال نفسه دون حال غيره.

وإذا كنّا نجوِّ زظهوره لهم كما نجوِّز (٩٩) خلافه : فلا بُدّ من ذِكر العلّة فيما نجوّزه من غَيْبته عنهم.

وأَوْلى ما قيل في ذلك وأقربه إلى الحقّ ـ وقد بيّنّا فيما سلف أنّ هذا الباب ممّا لا يجب العلم به على سبيل التفصيل ، وأنّ العلم على وجه الجملة فيه كافٍ ـ : أن نقول : لا بُدّ من أن تكون علّة الغَيْبة عن الأولياء مضاهية لعلّة الغَيْبة عن الأعداء ، في أنّها لا تقضي سقوط التكليف عنهم ، ولا تلحق اللائمة (١٠٠) بمكلفِّهم تعالى ، ولا بُدّ من أن يكونوا متمكنّين من رفعها وإزالتها فيظهر لهم ، وهذه صفات لا بُدّ من أن تحصل لما تعلّل به الغَيْبة ، وإلاّ أدّى إلى ما تقدّم ذِكره من الفساد.

وإذا ثبتت هذه الجملة فأَوْلى ما علّل به التغّيب عن الأولياء أن

__________________

(٩٧) تقدّم في ص ٦١.

(٩٨) أثبتناها بقرينة ما في الكتب التي نقلت عن « المقنع » هذا المطلب ، فقد جاءت الجملة فيها كما يلي : ففي الغَيْبة ـ للطوسي ، ص ٩٩ ـ : « أن نقول : إنّا أوّلاً لا نقطع على استتاره عن جميع أوليائه ... » وفي إعلام الورى ـ المطبوع ، ص ٤٧١ ـ : « قال : أوّلاً نحن لا نقطع ... » وفي مخطوطته ـ الورقة ٢١٩ ـ : « قال : نحن أوّلاً لا نقطع ... ».

(٩٩) التجويز هنا بمعنى الاحتمال ، فيناسب عدم القطع بعدم الظهور فيما سبق.

(١٠٠) في « ج » : لائمة.

٦٥

يقال : قد علمنا أنّ العلم بإمام الزمان على سبيل التعيين والتمييز لا يتّم إلاّ بالمعجز ، فإنّ النصّ ـ في إمامة هذا الإمام خاصةً ـ غير كافٍ في تعيّنه ، ولا بُدّ من المعجز الظاهر على يده حتى نصدّقه في أنّه ابن الحسن عليهما‌السلام.

والعلم بالمعجز ودلالته على الظهور ، طريقُهُ الاستدلال الذي يجوز أن تعترض فيه الشبهة.

ومَن عارضته شبهة في مَنْ ظهر على يده معجزٌ ، فاعتقد أنّه زورٌ ومخرقهٌ ، وأنّ مُظْهِرَهُ كذاب متقوِّلٌ ، لَحِقَ بالأعداء في الخوف من جهته.

[ جهة الخوف من الأولياء عند الظهور ]

فإن قيل : فأيّ تقصير وقع من الوليّ الذي لم يظهر له الإمام لأجل هذا المعلوم من حاله (١٠١) ؟

وأيّ قدرة له على فعل ما يظهر له الإمام معه ؟

وإلى أيّ شيء يفزع في تلافي سبب غَيْبته عنه ؟

قلنا : ما أَحَلْنا ـ في سبب الغَيْبة عن الأولياء ـ إلاّ على معلومٍ يظهر موضوع التقصير فيه ، وإمكان تلافيه :

لأنّه غير ممتنع أن يكون من المعلوم من حاله أنّه متى ظهر له الإمام قصّر في النظر في معجزه ، وإنّما أُتيَ في ذلك : لتقصير (١٠٢) الناظر في العلم

__________________

(١٠١) في « ج » : جهله.

(١٠٢) كان في نسختَي الكتاب : التقصير. وما أثبتناه هو المناسب للسياق.

٦٦

بالفرق بين المعجِز والممكِن ، والدليلِ مِن ذلك وما ليس بدليل.

ولو كان من هذا الأمر على قاعدة صحيحة وطريقة مستقيمة : لم يجز أن يشتبه عليه معجِزُ الإِمام عند ظهوره له.

فيجب عليه تلافي هذا التقصير واستداركه ، حتى يخرج بذلك من حدّ من يشتبه عليه المعجِز بغيره.

[ هل تكليف الوليّ بالنظر ، هو بما لا يطاق ؟ ]

وليس لأحد أن يقول : هذا تكليف ما لا يطاق ، وحوالة على غيب لا يُدرَك ؛ لأنّ هذا الوليّ ليس يعرف ما قصّر فيه بعينه من النظر والاستدلال ، فيستدركه ، حتى يتمهّد في نفسه ويتقرّر ، ونراكم تلزمونه على ما لا يلزمه ؟!

والجواب عن هذا الاعتراض :

أنّ ما يلزم في التكليف قد يتميّز وينفرد ، وقد يشتبه بغيره ويختلط ـ وإنْ كان التمكّن من الأمرين حاصلاً ثابتاً ـ فالوليّ على هذا إذا حاسب نفسه ورأى إمامَه لا يظهر له ، واعتقد (١٠٣) أن يكون السبب في الغَيْبة ما ذكرناه من الوجوه الباطلة ( وأجناسها : علم أنّه لا بُدّ من سبب يرجع إليه ) (١٠٤).

وإذا رأى أنّ أقوى الأسباب ما ذكرناه : علم أنّ تقصيراً واقعاً من

__________________

(١٠٣) كان في « أ » : وافد. وفي « ج » : وأفسد. وما أثبتناه هو المناسب للسياق.

(١٠٤) ما بين القوسين سقط من « أ ».

٦٧

جهته في صفات المعجِز وشروطه ، فعليه ـ حينئذٍ ـ معاودة النظر في ذلك ، وتخليصه من الشوائب ، وتصفيته ممّا يقتضي الشبهة ويوجب الالتباس.

فإنّه متى اجتهد في ذلك حقّ الاجتهاد ، ووفىّ النظر نصيبه غير مبخوس ولا منقوص : فلا بُدّ له من وقوع العلم بالفراق بين الحقّ والباطل.

وإذا وقع العلم بذلك : فلا بُدّ من زوال سبب الغَيْبة عن الوليّ.

وهذه المواضع : الإنسانُ فيها على نفسه بصيرة ، وليس يمكن أن يؤمر فيها بأكثر من التناهي في الاجتهاد والبحث والفحص والاستسلام للحقّ.

[ استكمال الشروط ، أساس الوصول إلى النتيجة ]

وما للمخالف لنا في هذه المسألة إلاّ مثل ما عليه :

لأنّه يقول : إنّ النظر في الدليل إنّما يولّد العلم على صفات مخصوصة ، وشروط كثيرة معلومة ، متى اختلّ شرط منها لم يتولّد العلم بالمنظور فيه.

فإذا قال لهم مخالفوهم : قد نظرنا في الأدلّة كما تنظرون فلم يقع لنا العلم بما تذكرون أنّكم عالِمون به ؟

كان جوابهم : إنّكم ما نظرتم على الوجه الذي نظرنا فيه ، ولا تكاملت لكم شروطُ توليدِ النظرِ العلمَ ؛ لأنّها كثيرة ، مختلفة ، مشتبهة.

فإذا قال لهم مخالفوهم : ما تحيلوننا في الإِخلال بشروط توليد النظر إلاّ على سراب ، وما تشيرون إلى شرط معيّن أخللنا به وقصّرنا فيه ؟!

٦٨

كان جوابهم : لا بُدّ ـ متى لم تكونوا عالمين كما عِلمنا ـ من تقصيرٍ وقع منكم في بعض شروط النظر ؛ لأنّكم لو كمّلتم الشروط واستوفيتموها لعلمتم كما علِمنا ، فالتقصير منكم على سبيل الجملة واقع ، وأنْ لم يمكننا الإشارة إلى ما قصّرتم فيه بعينه ، وأنتم مع هذا متمكّنون من أن تستوفوا شروط النظر وتستسلموا للحقّ وتخلو قلوبكم من الاعتقادات والأسباب المانعة من وقوع العلم ، ومتى فعلتم ذلك فلا بُدّ من أنْ تعلموا ، والإنسانُ على نفسه بصيرة.

وإذا كان هذا الجواب منهم صحيحاً ، فبمثله أجبناهم.

[ الفرق بين الوليّ والعدوّ في علّة الغَيْبة ]

فإن قيل : فيجب ـ على هذا ـ أن يكون كلّ وليّ لم يظهر له الإِمام يقطع على أنّه على كبيرة عظيمة تلحق بالكفر ؛ لأنّه مقصّر ـ على ما فرضتموه ـ فيما يوجب غَيْبة الإِمام عنه ، ويقتضي تفويته ما فيه مصلحته ، فقد لَحِقَ الوليُّ ـ على هذا ـ بالعدوّ.

قلنا : ليس يجب في التقصير ـ الذي أشرنا إليه ـ أن يكون كفراً ولا ذنباً عظيماً ، لأنّه في هذه الحال الحاضرة ما اعتقد في الإمام أنّه ليس بإمام ، ولا أخافه على نفسه ، وإنّما قصّر في بعض العلوم تقصيراً كان كالسبب في أنّه علِم من حاله أنّ ذلك يؤدّي إلى أنّ الشكّ في الإِمامة يقع منه مستقبلاً ، والآن ليس بواقع ، فغير لازم في هذا التقصير أن يكون بمنزلة ما يفضي إليه ممّا المعلوم أنّه سيكون.

غير إنّه ، وإنْ لم يلزم أنْ يكون كفراً ، ولا جارياً مجرى تكذيب الإِمام

٦٩

والشكّ في صدقه ، فهو ذنب وخطأ ، لا (١٠٥) ينافيان الإِيمان واستحقاق الثواب.

وأنْ[ لا ] (١٠٦) يلحق الوليُّ بالعدوِّ على هذا التقدير؛ لأنّ العدوّ ـ في الحال ـ معتقد في الإِمامة ما هو كفر و كبيرة ، والوليّ بخلاف ذلك.

[ سبب الكفر في المستقبل ، ليس كفراً في الحال ]

والذي يبيّن ما ذكرناه ـ من أنّ ما هو كالسبب في الكفر لا يلزم أن يكون في الحال كفراً ـ أنّه لو اعتقد معتقدٌ في القادر منّا بقدرةٍ : « أنّه يصحّ أن يفعل في غيره من الأجسام من غير مماسّة » فهذا خطأ وجهل ليس بكفر ، ولا يمتنع أن يكون المعلوم من حال المعتقِد أنّه لو ظهر نبيُّ يدعو إلى نبوّته ، وجعل معجِزه أنْ يفعل الله على يديه فعلاً بحيث لا تصل إليه أسباب البشر ـ وهذا لا محالة عِلْمٌ مُعجِزٌ ـ أنّه كان يكذّبه فلا يؤمن به ، ويجوز أنْ يُقَدِّر أنّه كان يقتله ؛ وما سبق من اعتقاده في مقدور القادر كالسبب في هذا ، ولم يلزم أن يجري مجراه في الكبر والعظم.

وهذه جملة ( من الكلام في ) (١٠٧) الغَيْبة يطّلع بها على أُصولها وفروعها ، ولا يبقى بعدها إلاّ ما هو كالمستغنى عنه.

ومن الله نستمدّ المعونة وحسن التوفيق لِما وافق الحق وطابَقَه وخالف

__________________

(١٠٥) في « أ » : ولا.

(١٠٦) أضفناها لضرورة المعنى. يعني : أنّ الذنب والخطأ لا ينافيان أن لا يلحق الوليّ بالعدوّ للعلّة التي ذكرها.

(١٠٧) في « ج » : في الكلام و ...

٧٠

الباطل وجانَبَه ( وهو السميع المجيب بلطفه ورحمته ، وحسبنا الله ونِعم الوكيل ) (١٠٨).

تمّ كتاب « المقنع » والحمدلله أولاً وآخراً

( وظاهراً وباطناً ) (١٠٩).

* * *

__________________

(١٠٨) ما بين القوسين سقط من « ج ».

(١٠٩) في « ج » والحمدلله وحده.

وجاء في « أ » بعد كلمة « وباطناً » ما نصة : بقلم الفقير إبراهيم بن محمد الحرفوشي ، في اليوم الثامن من شهر شعبان المبارك سنة سبعين وألف.

٧١
٧٢

( كتاب الزيادة المكمّل بها كتاب « المقنع »

للسيّد المرتضى علم الهدى علىّ بن الحسين الموسوي ) (١١٠)

[ مقدّمة الزيادة المكمّلة ]

بسم الله الرحمن الرحيم

قال السيّد المرتضى علم الهدى ( قدسّ الله روحه ، ورضي عنه وأرضاه) (١١١) :

قد ذكرنا في كتابنا (١١٢) « الشافي في الإمامة » ثمّ في كتابنا (١١٣) « المقنع في الغَيْبة » السببَ في استتار إمام الزمان عليه‌السلام عن أعدائه وأوليائه (١١٤) ، وخالَفْنا بين السبَبيْن ، وبيّنّا أنّ عدم الانتفاع ـ من الجميع ـ به : لشيء يرجع إليهم ، لا إليه ، واستقصينا ذلك وبلغنا فيه أبعد غاية.

ثمّ استأنفنا في « المقنع » طريقة غريبة لم نُسْبَق إليها ، ودللنا على أنّه

__________________

(١١٠) في « ج » بدل ما بين القوسين : هذه زيادة يكمل بها كتاب « المقنع ».

(١١١) ما بين القوسين ليس في « ج ».

(١١٢) في « ج » : كتاب.

(١١٣) في « ج » : كتاب.

(١١٤) الشافي ١ / ١٤٤ فما بعدها ، المقنع : ١٩٩ فما بعدها من طبعتنا هذه.

٧٣

لا يجب علينا بيان السبب في غَيْبته على التعيين ، بل يكفي في العلم بحُسن الغَيْبة منه علْمُنا بعصمته وأنّه ممّن لا يفعل قبيحاً ولا يترك واجباً ، وضربنا لذلك الأمثال في الأُصول ، وأنّ مثل ذلك مستعمل في مواضع كثيرة.

وخطر ببالنا الآن ما لا بُدّ من ذِكره ليُعرَف ، فهو قويُّ سليمٌ من الشُبه (١١٥) والمطاعن.

[ استلهام الأولياء من وجود الإمام

ولو في الغَيْبة ]

وجملته : أنّ أولياء إمام الزمان عليه‌السلام وشيعته ومعتقِدي إمامته ينتفعون به في حال غَيْبته (١١٦) النفع الذي نقول إنّه لا بُدّ ـ في التكليف ـ منه ؛ لأنّهم مع علمهم بوجوده بينهم ، وقطعهم على وجوب طاعته عليهم ، ولزومها لهم ، لا بُدّ من أن يهابوه ويخافوه في ارتكاب القبائح ، ويخشوا تأديبه وانتقامه ومؤاخذته وسطوته ، فيكثر منهم فعل الواجب ، ويقلّ ارتكاب القبيح ، أو يكون ذلك أقرب وأليق ، وهذه هي جهة الحاجة العقلية إلى الإمام.

__________________

(١١٥) في « أ » : الشنعة. وفي « م » : السُبّة.

(١١٦) في « م » : الغَيْبة.

٧٤

[ هل الغَيْبة تمنع الإمام من التأثير والعمل ؟ ]

وكأنّي بمن سمع هذا من المخالفين ربّما عجب وقال : أيّ سطوة لغائب مستتر خائف مذعور ؟!

وأيّ انتقام يُخشى ممّن لا يد له باسطة ، ولا أمر نافذ ، ولا سلطان قاهر ؟!

وكيف يُرهَب مَنْ لا يُعرَف ولا يميِّز ولا يُدرى مكانه ؟!

والجواب عن هذا : أنّ التعجّب بغير حجّة تظهر وبيّنة تذكر هو الذي يجب العجب منه ، وقد علمنا أنّ أولياء الإمام وإنْ لم يعرفوا شخصه ويميّزوه بعينه ، فإنّهم يحقّقون وجوده ، ويتيقّنون أنّه معهم بينهم ، ولا يشكّون في ذلك ولا يرتابون به :

لأنّهم إنْ لم يكونوا على هذه الصفة لحقوا بالأعداء ، وخرجوا عن منزلة الأولياء ، وما فيهم إلاّ مَنْ يعتقد أنّ الإمام بحيث لا تخفى عليه أخباره ، ولا تغيب عنه سرائره ، فضلاً عن ظواهره ، وأنّه يجوز أن يعرف ما يقع منهم من قبيح وحسن ، فلا يأمنون إنْ يقدِموا على القبائح فيؤدّبهم عليها.

ومَن الذي يمتنع منهم ـ إنْ ظهر له الإِمام ، وأظهر له معجزةً يعلم بها أنّه إمام الزمان ، وأراد تقويمه وتأديبه وإقامة حدٍّ عليه ـ أنْ يبذلَ ذلك من نفسه ويستسلمَ لِما يفعله إمامُه به ، وهو يعتقد إمامته وفرض طاعته ؟!

٧٥

[ لا فرق في الاستلهام من وجود الأئمة

بين الغَيْبة والظهور ]

وهل حاله مع شيعته غائباً إلاّ كحاله ظاهراً فيما ذكرناه خاصّة ، وفي وجوب طاعته ، والتحرّز من معصيته ، والتزام مراقبته ، وتجنّب مخالفته.

وليس الحذر من السطوة والشفاق من النقمةِ بموقوفَيْن على معرفة العين ، وتمييز الشخص ، والقطع على مكانه بعينه ، فإنّ كثيراً من رعيّة الإِمام الظاهر لا يعرفون عينه ولا يميّزون شخصه ، وفي كثير من الأحوال لا يعرفون مكان حلوله ، وهم خائفون متى فعلوا قبيحاً أن يؤدّبهم ويقوِّمهم ، وينتفعون بهذه الرهبة حتى يكفّوا عن كثير من القبائح ، أو يكونوا أقرب إلى الانكفاف.

وإذا كان الأمر على ما أوضحناه فقد سقط عنّا السؤال المتضمّن ل‍ ـ : أنّ الإمام إذا لم يظهر لأعدائه لخوفه منهم وارتيابه بهم ، فألاّ ظهر لأوليائه ؟!

وإلاّ : فكيف حُرِمَ الأولياءُ منفعتهم ومصلحتهم بشيء جرّه الأعداء عليهم ؟!

وإنّ هذا شيء ينافي العدل مع استمرار تكليف شيعته ما الإِمام لطفٌ فيه ؟

لأنّا قد بيّنّا أنّهم بإمامهم عليه‌السلام مع الغَيْبة منتفعون ، وأنّ الغَيْبة لا تنافي الانتفاع الذي تمسّ الحاجة إليه في التكليف.

وبيّنّا أنّه ليس من شرط الانتفاع الظهورُ والبروزُ ، وبرئنا من عهدة

٧٦

هذا السؤال القويّ الذي يعتقد مخالفونا أنّه لا جواب عنه ولا محيص منه.

[ الظهور للأولياء ليس واجباً ]

ومع هذا ، فما نمنع (١١٧) من ظهوره عليه‌السلام لبعضهم إمّا لتقويم أو تأديب أو وعظ وتنبيه وتعليم ، غير أنّ ذلك كلّه غير واجب ، فيُطلب في فوته العلل وتتمّحل له الأسباب.

وإنّما يصعب الكلام ويشتبه إذا كان ظهوره للوليّ واجباً من حيث لا ينتفع أو يرتدع إلاّ مع الظهور.

واذا كان الأمر على خلاف ذلك سقط وجوب الظهور للوليّ ، لما دللنا عليه من حصول الانتفاع والارتداع من دونه ، فلم تبق شبهة.

[ علمُ الإمام حال الغَيْبة بما يجري

وطرق ذلك ]

فإن قيل : ومن أين يَعْلمُ الإمامُ في حال الغَيْبة والاستتار بوقوع القبائح من شيعته حتى يخافوا تأديبه عليها ، وهو في حال الغَيْبة ممن لا يُقِرّ عنده مُقِّر ، ولا يشهد لديه شاهد ، وهل هذا إلاّ تعليل بالباطل ؟!

قلنا : ما المتعلِّل بالباطل إلاّ مَنْ لا ينصف من نفسه ، ولا يلحظ ما عليه كما يلحظ ماله !

__________________

(١١٧) كان في نسخ الكتاب الثلاث : يمنع. وما أثبتناه هو المناسب للسياق.

٧٧

فأمّا معرفة الإمام بوقوع القبائح من بعض أوليائه فقد يكون من كلّ الوجوه التي يعلم وقوع ذلك منهم ، وهو ظاهرٌ نافذُ الأمر باسطُ اليد.

[ مشاهدته للأُمور بنفسه عليه‌السلام ]

فمنها : أنّه قد يجوز أن يشاهد ذلك فيعرفه بنفسه ، وحال الظهور في هذا الوجه كحال الغَيْبة ، بل حال الغَيْبة فيه أقوى :

لأنّ الإمام إذا لم تُعرف عينُه ويُميّز شخصه ، كان التحرّز ـ من مشاهدته لنا على بعض القبيح ـ أضيق وأبعد ، ومع المعرفة له بعينه يكون التحرّز أوسع وأسهل ، ومعلومٌ لكّل عاقل الفرق بين الأمرين :

لأنّا إذا لم نعرفه جوّزنا في كلّ من نراه ـ ولا نعرف نسبه ـ أنّه هو ، حتى أنّا لا نأمن أن يكون بعض جيراننا أو أو أضيافنا أو الداخلين والخارجين إلينا ، وكلّ ذلك مرتفع مع المعرفة والتمييز.

وإذا شاهدَ الإمامُ منّا قبيحاً يوجب تأديباً وتقويماً ، أدّبَ عليه وقَوَّمَ ، ولم يحتج إلى إقرار وبيّنة ؛ لأنّهما يقتضيان غلبة الظنّ ، والعلم أقوى من الظنّ.

[ قيام البيّنة عنده عليه‌السلام ]

ومن الوجوه أيضاً : البيّنة ، والغَيْبة ـ أيضاً ـ لا تمنع من استماعها والعمل بها :

لأنه يجوز أن يظهرَ على بعض الفواحش ـ من أحد شيعته ـ العددُ

٧٨

الذي تقوم به الشهادةُ عليها ، ويكون هؤلاء العدد ممّن يلقى الإمام ويظهر له ـ فقد قلنا : إنّا لا نمنع من ذلك ، وإن كنّا لا نوجبه ـ فإذا شهدوا عنده بها ، ورأى إقامةَ حدّها : تولاّه بنفسه أو بأعوانه ، فلا مانع له من ذلك ، ولا وجه يوجب تعذره.

فإن قيل : ربّما لم يكن مَنْ شاهدَ هذه الفاحشة ممّن يلقى الإمامَ ، فلا يقدر على إقامة الشهادة ؟

قلنا : نحن في بيان الطرق الممكنة المقدَّرة في هذا الباب ، لا في وجوب حصولها ، وإذا كان ما ذكرناه ممكناً فقد وجب الخوف والتحرّز ، وتمّ اللطف.

على أنّ هذا بعينه قائم مع ظهور الإمام وتمكّنه :

لأنّ الفاحشة يجوز ـ أولاً ـ أن لا يشاهدها مَنْ يشهد بها ، ثمّ يجوز أن يشاهدها مَنْ لا عدالة له فلا يشهد ، وإنْ شهدَ لم تُقبل شهادتُه ، وإنْ شاهدها مِن العدول مَنْ تُقبل مثلُ شهادتِه يجوز أن لا يختار الشهادة.

وكأنّنا نقدر على أن نحصي الوجوه التي تسقط معها إقامة الحدود !

ومع ذلك كلّه فالرهبة قائمة ، والحذر ثابت ، ويكفي التجويز دون القطع.

[ الإِقرار عند الإمام ]

فأمّا الإِقرار : فيمكن أيضاً مع الغَيْبة؛ لأنّ بعض الأولياء ـ الّذين ربّما ظهر لهم الإِمام ـ قد يجوز أن يواقع فاحشة فيتوب منها ، ويؤْثر التطهير له

٧٩

بالحدّ الواجب فيها ، فيقرّ بها عنده.

فقد صارت الوجوه التي تكون مع الظهور ثابتةً في حال الغَيْبة.

[ احتمال بُعد الإمام وقربه ]

فإن قيل : أليس ما أحد (١١٨) من شيعته إلاّ وهو يجوِّز أن يكون الإمام بعيد الدار منه ، وأنّه يحلّ إمّا المشرقَ أو المغربَ ، فهو آمن من مشاهدته له على معصيته ، أو أن يشهد بها عليه شاهدٌ (١١٩) ، وهذا لا يلزم مع ظهور الإمام والعلم ببعد داره ؛ لأنّه لا يبعد من بلد إلاّ ويستخلف فيه من يقوم مقامه ممّن يُرهب ويُخشى ويُتقى انتقامُه ؟!

قلنا : كما لا أحد من شيعته ( إلاّ وهو يجوِّز بُعد محلّ الإمام عنه ، فكذلك لا أحد منهم ) (١٢٠) إلاّ وهو يجوِّز كونه في بلده وقريباً من داره وجواره ، والتجويز كافٍ في وقوع الحذر وعدم الأمان.

وبعد ، فمع (١٢١) ظهور الإمام وانبساط يده ، ونفوذ أمره في جميع الأُمّة ، لا أحد من مرتكبي القبائح (١٢٢) إلاّ وهو يجوِّز خفاء ذلك على الإمام ولا يتّصل به ، ومع هذا فالرهبة قائمة ، واللطف بالإمام ثابت.

فكيف ينسى هذا مَنْ يُلزمنا بمثله مع الغَيْبة ؟!

__________________

(١١٨) كان في « أ » : أليس لأحد. وفي « ج » : أليس أحد.

(١١٩) في « أ » و « ج » : شاهد عليه.

(١٢٠) ما بين القوسين سقط من « ج ».

(١٢١) في « م » : ومع.

(١٢٢) في « ج » : القبيح.

٨٠