مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 1016-4030
الصفحات: ٢٧٢
مقدّمة التحقيق :
بسم الله الرحمٰن الرحيم
النصّ الذي سوف تقرؤه . . قسم من كتاب تاريخ الخلفاء لمؤلّف مجهول ، من أعلام القرن الثالث ( إلىٰ الخامس ) الهجري ، وقد نشره ـ بشكل فاكسيميل ـ المستشرق الروسي بطرس غريازنيويج في سنة ١٩٦٠ م . .
والذي يبدو من ظاهر الكتاب أنّ المصنّف اجتهد وسعىٰ أن يعرض تاريخ الإسلام والمسلمين بشكل عامّ وبأُسلوب متين ، وفق المنهج الرائج والمتّبع في القرنين الثالث والرابع الهجري ، الذي يمكن ملاحظته في كتب عديدة مثل : الأخبار الطوال ، تاريخ اليعقوبي ، الإمامة والسياسة . . . وغيرها .
ويتبيّن من النظرة الفاحصة إلىٰ النصّ أنّه نصّ قديم كتبه مؤرّخ عراقي ؛ إذ المؤرّخين العراقيّين في ذلك العهد كانوا يميلون إلىٰ بني العبّاس ـ غالباً ـ ضدّ بني أُمية ، وهو ما كان يدفعهم إلىٰ تدوين تاريخ كربلاء ـ عند ذكرهم لأحداثها ـ بتفصيل أكثر . .
والكتاب الذي بأيدينا هو كذلك
؛ فقسماً كبيراً منه ـ قياساً إلىٰ حجمه الكلّي ـ قد خصّص لأحداث كربلاء ، لكنّ هذا لا يعني أنّ مصنّفه شيعي
إمامي المذهب .
وعلىٰ كلّ حال فالكتاب لم يُنشر مصحّحاً في ما سبق ـ حسب علمنا ـ ونحن نضع بين يدي القرّاء الكرام القسم الخاصّ بأحداث كربلاء وواقعة الطفّ الخالدة منه ، موردين هنا خلاصة لما جاء في مقدّمة طبعته ـ باللغة الروسية ـ المشار إليها آنفاً :
( إنّه : في سنة ١٩١٥ ، اشترىٰ و . آ . إيوانف ، العالم الروسي المتخصّص في التاريخ الإيراني ، نسخة كتاب الخلفاء لحساب Museum Asiatic ، وهي في الأصل وقف للمكتبة المعروفة بـ : « كتابخانه » ، وهي إحدىٰ المكتبات المشهورة في آسيا الوسطىٰ ، أسّسها خواجه محمّد پارسا ( ٨٢٢ هـ ) في القرن التاسع الهجري .
ونسخته بدون جلد ولا تاريخ وقد لحقت بها أضرار ، ويظهر أنّه فُقد منها صفحات . . ويظهر من شهادة خبراء الخطوط أنّها كتبت في أوائل نصف القرن الثالث عشر الميلادي .
قرأ هذه النسخة V. I. BeIyaev . لأوّل مرّة في سنة ١٩٣٢ .
أمّا العالم المؤرّخ A. M. BeIenitskii . فقد أعدّ لها فهرساً ، ونشره Yakubovskii في سنة ١٩٥٠ .
وفي سنة ١٩٦٠ نشر الكتاب بشكل فاكسيميل مع ترجمته وتعليقات عليه ، كما نشر CI. Cahen . مقالة عن العبّاسيّين بالاستفادة من هذا الكتاب .
يتضمن الكتاب تاريخ الخلفاء من العقد الثالث للقرن السابع الميلادي إلىٰ سنة ٧٥٠ ميلادية .
وهو في أصله قسمان ، القسم
الأوّل ـ كما نظنّ ـ ٢٣٥ صفحة ، يشمل مقدّمة المؤلّف وسيرة النبيّ محمّد صلىاللهعليهوآله وتاريخ خلافة أبي بكر وعمر
وعثمان وعلي والحسن ، وخلافة بني أُمّية وبني مروان .
والقسم الثاني : « أخبار الدولة الهاشمية ( المباركة ) العبّاسية » ويشمل تاريخ الدولة العبّاسية من ابتدائها إلىٰ زمان المؤلّف .
والنسخة التي بأيدينا فيها من أواسط خلافة عمر بن الخطّاب إلىٰ أوّل بيعة الخليفة العبّاسي الأوّل أبي العبّاس السفّاح في ١٣ ربيع الآخر سنة ١٣٢ هجرية .
وطريقة البحث في هذا الكتاب أنّ المؤلّف يذكر اسم الخليفة بشكل كامل نسبياً ، ومكان وزمان ولادته ، وزمان تسلّمه الخلافة وعمره يومذاك ، ويذكر قصصاً مختلفة عن حياة الخليفة وعقيدته ، وبياناً عن عاداته وسلوكه ، وهي قصص توضّح خصائص الخليفة بصفته مسلماً وحاكماً . .
كما يذكر المؤلّف قصصاً لأهم المسائل والحوادث التي وقعت في زمن خلافته ، والحوادث التي وقعت لأهل بيت النبيّ صلىاللهعليهوآله في خلافته ، ثمّ يسرد آخر أيّام حكمه وما فيها من حوادث ، ثمّ مرضه ، ومحل وفاته وزمانه بشكل دقيق ، وعمره يوم موته . .
كما يذكر قصصاً عن كبار القادة والأُمراء عند وفاة الخليفة ، ويعدّد زوجاته وأولاده ، ويورد قصائد أو أبيات شعرية قيلت فيه .
لا يمكن تعيين الاسم الأصلي للكتاب ، والقرائن الوحيدة التي تشير إلىٰ مؤلّفه يمكن الحدس منها أنّه تمّ تأليفه في حدود سنة ١٠١٧ و ١٠١٨ ميلادية ( ٤٠٧ و ٤٠٨ هجرية ) .
وهذه القرائن وبعض الجزئيات
الأُخرىٰ المرتبطة بالمؤلّف تدلّ دلالة ظنّية علىٰ أنّه كان يعيش في الكوفة ، وكان علىٰ صلة قريبة بأتباع بني
العبّاس ، ويبدو أنّه فرع من أُسرة أصفهانية تدعىٰ أُسرة الوثاب ( وأبوهم
القارئ المشهور يحيىٰ بن وثاب ) وهو مولىٰ عبد الله بن عبّاس جدّ العبّاسيّين .
وقد ألّف كتابه إجابة لطلب شخص مرموق ـ لعلّه كان ذا منصب ـ منهم . . وقد رأى أنّ واجبه في تأليفه بصفته مؤرّخاً أن يجعله تاريخاً يتضمّن دروساً أخلاقية تربوية ، وسعىٰ أن يكون أثراً روائياً موثّقاً وكتاباً جامعاً كاملاً في تاريخ الخلفاء .
ومن وجهة نظر مؤرّخ ، فهو دورة للتاريخ العربي ؛ بسبب طريقته في عرض المواد ، وأُسلوبه الأدبي الخاصّ الذي يحكم مؤلّفه ويمثّل حيوية فكره ونظرته الخاصّة للأشخاص والحوادث . .
وأخيراً لا بُدّ أن نذكّر بميل المؤلّف إلىٰ مذهب السُنّيين وٱتّجاتهم السياسية ، الأمر الذي يتّفق مع خطّ العائلة العبّاسية ؛ ولذا تجد فيه مواقفه المضادّة للتشيّع لعلي وأهل بيته بشكل صريح ) . انتهت مقدّمة الكتاب .
وقد قام الدكتور عبد العزيز الدوري بنشر كتاب باسم : أخبار الدولة العبّاسية ، في بيروت ـ دار الطليعة / ١٩٧١ م ، لمؤلّف مجهول ، قيل أنّه من القرن الثالث ، وقد لخّصه آخر في أوائل القرن الخامس . .
وقد رأىٰ الدوري أنّه يوجد تشابه وثيق بين القسم الثاني من هذا الكتاب ( من صفحة ٢٣٥ ـ ٢٩٤ ) ، وبين كتاب أخبار الدولة العبّاسية .
ونضيف إليه أنّ مؤلّف كتاب أخبار الدولة العبّاسية من معاصري علي بن إبراهيم بن هاشم القمّي ، المتوفّىٰ حدود سنة ٢٨٥ هـ ؛ لأنّه روىٰ عنه مباشرة بدون واسطة . . ففي ص ٣٢ ، من طبعة الدكتور الدوري قال :
أخبرنا علي بن إبراهيم بن
هاشم القمّي ، عن أبيه ، عن الزبيري ، بإسناد له يرفعه ، قال : بينا عمر جالس في جماعة من أصحابه ، فتذاكروا
الشعر ، فقال : من أشعر الناس ؟ فاختلفوا ، فدخل عبد الله بن عبّاس ، فقال عمر : قد جاءكم ابن بجدتها ، وأعلم الناس . مَن أشعر الناس يا ابن عبّاس ؟
قال : زهير بن أبي سلمىٰ المزني . . . إلىٰ آخره .
أمّا الذي اخترناه من كتاب تاریخ الخلفاء هذا فهو ـ كما قلنا سابقاً ـ القسم الذي أرّخ فيه لمقتل الإمام الحسين عليهالسلام ، فقد جاء هذا القسم بتفصيل أكثر من بقية الحوادث التي أرّخ لها الكتاب ؛ وسببه كما نصّ المؤلّف في آخره أهمّية هذه الحادثة .
وقد اعتمد هذا المؤرّخ السُنّي اعتماداً كليّاً علىٰ رواية أبي مخنف لوط بن يحيىٰ ـ المتوفّىٰ سنة ١٥٨ هـ ـ للمقتل ، وربّما أضاف مواضيع جزئية ، أو استعمل عبارات أُخرىٰ .
النسخة المعتمدة :
وهي المخطوطة الوحيدة للكتاب ، ومحفوظة في المتحف الآسيوي في روسيا ، مطبوعة بشكل فاكسيميل ، ولم تعرف نسخة أُخرىٰ له لحدّ الآن .
والنسخة ناقصة الأول والآخر ، إذ تبدأ من أواسط خلافة عمر ، وتنتهي ببداية الخلافة العبّاسية .
تشتمل علىٰ ٢٩٩ ورقة أبعادها ١٢ × ٢٠ ، وكلّ صفحة تحتوي علىٰ ١٨ سطراً ، وخطّها يعود إلىٰ القرن الخامس الهجري .
الشيخ رسول جعفريان
خلافة يزيد بن معاوية :
هو أبو خالد يزيد بن معاوية بن حرب بن صَخْر بن أُميّة بن عبد شمس بن عبد مناف . ومعاوية هو أوّل من استخلف ابنه ؛ وأوّل مَن جعل وليّ العهد في صحّته ؛ وكان السّبب في ذلك أنّه عزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة ، فاحتال المغيرة وأشار عليه بالبيعة ليزيد ، وذكر له : إنّه كان دعا أهل الكوفة إلىٰ بيعته فأجابوه ، فأعجبه قوله وولّاه الكوفة ثانياً ، وأمره بأن يَروض أهلها علىٰ ما قاله وأشار به ، وأن يُعلمه خبرهم ، ففعل وكتب إليهم برضاهم (١) !
ثمّ مات الحسن بن علي سنة تسع وأربعين كما ذكرناه (٢) .
ويقال : إنّ معاوية سمّ سعد بن أبي وقّاص (٣) لأنّه كان يعلم أنّ بيعة يزيد أمر لا يتمّ مع حياته . .
وكان يقول : لولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي (٤) .
__________________
(١) راجع : تاريخ الطبري ٥ / ٣٠٢ ، الإمامة والسياسة ١ / ١٨٧ .
(٢) قال المؤلّف في ص ٥٣ / ب من الكتاب نفسه : ويقال بعد انصرافه [ الحسن عليه السلام ] إلىٰ المدينة ، دسّ معاوية علىٰ امرأته جَعْدة بنت الأشعث بن قيس وسألها أن تسقيه السمّ ليزوّجها معاوية من يزيد ؛ فسمّته ، وهذا خبر مشهور .
(٣) روىٰ أبو الفرج الأصفهاني عن أبي بكر بن حفص ، قال : تُوُفّي الحسن بن عليّ ، وسعد بن أبي وقّاص بعد ما مضىٰ من إمارة معاوية عشر سنين ، وكانوا يرون أنّه سقاهما . مقاتل الطالبيين : ٨١ ، وراجع ص ٨٠ .
وقال في موضع آخر : ودسّ معاوية إليه [ الحسن عليه السلام ] ـ حين أراد أن يعهد إلىٰ يزيد بعده ـ وإلىٰ سعد بن أبي وقّاص سُمّاً ، فماتا منه في أيام مقاربة . مقاتل الطالبيين : ٦٠ .
(٤)
وقال المؤلّف في ص ٦٩ / أ ـ في قصّة معاوية لمّا كان في المدينة ويريد أخذ
وكان يقول ليزيد : ما ألقىٰ الله بشيء هو أعظم في نفسي من استخلافي إيّاك .
ويروىٰ عن بشير بن شكل (١) ، أنّه قال : رأيْتُ معاوية في المنام ، فقلت له : ألسْتَ معاوية ؟! فقال : أنا حيارىٰ ، تركْتُ أهلي حيارىٰ ، لا مسلمين ولا نصارىٰ .
وقام يزيد بالأمر في رجب سنة ستّين ، وكان ابن خمس وثلاثين سنة ؛ وأُمّه ميسون بنت مالك بن بحدل الحارثي (٢) ؛ ولذلك يقول زُفَر بن الحارث الكلابي :
أفي الله أمّا بحْدلٌ وٱبن بحدَل |
|
فيحيا وأمّا ابن الزُّبَير فيُقْتلُ |
كذَبْتم وبَيتِ الله لا تقتلونَهُ |
|
ولمّا يَكن يومٌ أغرُّ مُحجّلُ (٣) |
ويزيد هو الذي أوقع بالحسين بن عليّ رضوان الله عليه ، وهو الذي قتل أهل المدينة وخرّبها يوم الحرّة ، وهو الذي رمىٰ بيت الله بالمجانيق وهدمه وأحرقه (٤) .
__________________
البيعة لابنه يزيد ، ثمّ رجع إلىٰ الشام ـ : فلمّا مرض المرضة التي مات فيها يقال إنّه دعا يزيد ، فقال له : لولاك لأبصرت رشدي .
راجع : البداية والنهاية ـ لابن كثير ـ ٨ / ١٢٦ ، حياة الإمام الحسين عليه السلام لباقر شريف القرشي ـ ٢ / ١٩٧ ، عن المناقب والمثالب ـ لقاضي نعمان ـ : ٦٨ .
(١) كذا في الأصل . ولعلّه : شحل .
(٢) ميسون بنت بحدل بن أنيف بن ولجة بن قنافة بن عدي بن زهير بن حارث الكلبي . تاريخ الطبري ٥ / ٤٩٩ .
(٣) تاريخ الطبري ٥ / ٥٤٣ .
(٤) قال البلاذري : قالوا : كان يزيد بن معاوية أوّلَ من أظهر شرب الشراب ، والاستهتار بالغناء ، والصيد ، وٱتّخاذ القيان والغلمان ، والتفكّه بما يَضحك منه المترفون من القرود ، والمعاقرة بالكلاب والديكة . .
وقد أشار إليه ابن الجهم في مزدوجته (١) التي يقول فيها :
ثمّ تولّىٰ أمرهم يزيد |
|
لا جازم الرأي ولا سديد |
وكان هدم الكعبة المصونة |
|
ووقعة الحرّة بالمدينة |
ومقتل الحسين في زمانه |
|
أعوذ بالرحمٰن مِن خذلانه |
وذلك أنّ يزيد لمّا دفن أباه في داره المعروفة بالخضراء ، صعد المنبر وأُرتج عليه ، فجلس ، فقام إليه الضحّاك بن قيس وصعد إليه ؛ فقال : ما جاء بك ؟!
قال : أُكلّم الناس وآخذ عليهم ، فإنّي أعرف بهم .
فقال : اجلس يا بن أمّ ضحّاك ، وقال : أيّها الناس ! إنّ معاوية كان حَبلاً من حبال الله ، مدّه ما شاء ثمّ قطعه ، وهو دون من كان قبله وفوق من يكون بعده ، ولا أزكّيه علىٰ الله ، فإن يغفر له فبفضله وإن يعذّبه فبذَنْبه ، وقد ولّيْتُ الأمر من بعده ولست أعتذر من جهلٍ ، وعلىٰ رِسْلكم إن كره الله شيئاً غيّره (٢) .
ثمّ إنّ الأربعة الّذين وصّاه بهم معاوية ـ وهم الحُسَين ، وٱبن الزبير ، وٱبن عمر ، وٱبن أبي بكر ـ امتنعوا من بيعته ، وخرج الحُسَين وٱبن الزبير إلىٰ مكّة من المدينة لمّا أخذهما عامل يزيد بالبيعة له . وأمّا عبد الرحمٰن وعبد الله فلم يتشدّد عليهما العامل بالمدينة فبقِيا بها .
__________________
ثمّ جرىٰ علىٰ يده قَتْلُ الحسين ، وقتْلُ أهل الحَرّة ، ورميُ البيت وإحراقه . أنساب الأشراف ـ ق ٤ ـ ١ / ٢٨٦ .
(١) راجع : ديوان علي بن الجهم ، تحقيق : خليل مردم بك ، دمشق / ١٩٤٩ م ؛ والقصيدة المزدوجة طبعت في مجلّة كلية الآداب لجامعة بغداد ، بتحقيق : بطرس غريازنيويج ، العدد الخامس ، سنة ١٩٦٢ م ، ص ٣٨١ ـ ٣٨٤ .
(٢) انظر : البداية والنهاية ٨ / ١٥٣ .
ولمّا قدِم الحسين مكّة اجتمع إليه الناس ؛ وٱبن الزبير لزم جانب الكعبة ، فهو قائم يصلّي عامّة النهار ، ثمّ يأتي الحسين فيشير عليه بالخروج على يزيد ، وكان الحسين أثقل خلق الله عليه ؛ لأنّه يعرف إنّ أهل الحجاز لا يميلون إليه ما دام يقيم الحسين فيهم ، فهو يريد خروج الحسين من الحجاز (١) .
وبلغ أهل العراق امتناع الحسين من البيعة ليزيد وأنّه لحق بمكّة ، فأرجفوا بيزيد وكاتبوا الحسين : إنّا قد اعتزلنا ، فلسْنا نصلّي بصلاتهم ولا إمام لنا ، فلو أقبلْتَ إلينا رجونا أنْ يجمعنا اللهُ بك علىٰ الإيمان .
وٱجْتمع رؤساء الشيعة مثل سليمان بن صُرَد والمُسيّبُ بن نجبة وأشباهُهما وكتبوا للحُسَين بن عليّ : من شيعة [ أمير ] المؤمنين : أمّا بعد . . فَحَيِّ هلا ، فإنّ الناس ينتظرونك ، لا رأي لهم في غيرك ، فالعجل ، ثمّ العجل . والسلام (٢) .
ثمّ اجتمعوا ثانية فكتبوا : من شَبَث بن رِبْعي وحجّار بن أبجر ويزيد ابن الحارث بن رُوَيم وعمرو بن الحجّاج ومحمّد بن عُمَير : أمّا بعد . . فقد اخضرّ الجناب وأينعت الثمار ، فإذا شئت فاقدم علىٰ جنودٍ مجنّدة لك ، والسلام (٣) .
__________________
(١) قال أبو مخنف : وهو [ الحسين عليه السلام ] أثقل خلق الله علىٰ ابن الزبير ، قد عرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ولا يتابعونه أبداً ما دام حسين بالبلد ، وأنّ حسيناً أعظم في أعينهم وأنفسهم منه ، وأطوع في الناس منه . تاريخ الطبري ٥ / ٣٥١ .
(٢) هذا كتاب هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي [ من شهداء كربلاء ] ؛ انظر : تاريخ الطبري ٥ / ٣٥٣ . وأمّا كتاب سليمان بن صُرَد وأصحابه ففي ص ٣٥٢ .
(٣) تاريخ الطبري ، ٥ / ٣٥٣
ثمّ لا يزالون يكتبون بذلك حتّىٰ جمع عنده خرجين مملوءين من كتبهم في ذلك ، واجتمعت الرسلُ عند الحسين وقرأ الكتب ، وكتب أجوبتهم .
وأنفذ مسلم بن عقيل بن أبي طالب مع الرسل ، وقال له : اعرف أحوال الناس ، فانظر ما كتبوا به ؛ فإن كان صحيحاً قد اجتمع عليه رؤساءهم وتابعَهم من يوثَق به ، خرجنا إليهم .
فسار مسلم إلىٰ الكوفة ، والعامل بها حينئذ النعمان بن بشير الأنصاري من قِبَل يزيد ؛ فلمّا حصل عندهم دَبّوا إليه (١) ، وبايعه منهم اثني عشر ألف .
فقام عبد الله بن مُسْلم الحضرمي إلىٰ النعمان بن بشير ، فقال له : أنت ضعيفٌ أو متضعّف ، فسدْتَ البلاد وليس يصلح ما ترىٰ إلّا الغَشْم (٢) .
فقال النعمان : لإن أكون ضعيفاً وأنا في طاعة الله أحبُّ إليّ من أن أكون قويّاً وأنا في معصية الله ، وما كنتُ لأهتك سِتْراً سَتَرُهُ الله . .
فكتب بقول النعمان إلىٰ يزيد ، وقال في الكتاب : فإن كانتْ لك حاجة في الكوفة فابعث إليها رجلاً قويّاً ينفّذ أمرك ويعمل بمثل عملك ؛ فإنّ النعمان ضعيف .
فلمّا قرأ يزيد كتابه شاور كاتبه سَرجون بن منصور ، فقال له : أكنت قابلاً من معاوية لو كان حيّاً ؟!
قال : نعم .
[ قال : ] فاقبل منّي ، إنّه ليس للكوفة إلّا عبيد الله بن زياد ، فَوَلّه . .
__________________
(١) تاريخ الطبري ٥ / ٣٤٧ .
(٢) الغشم : الظلم .
وكان يزيد ساخطاً عليه قد نوىٰ أن يعزلَه من البصرة ، فكتب إليه برضاه وأنّه ولّاه الكوفة مع البصرة ، وأمره بطلبِ مسلم وقتله (١) .
وأقبل عبيد الله في وجوه أهل البصرة حتّىٰ دخل الكوفة متلثّماً ، فلا يمرّ علىٰ مجلس من مجالسهم فيسّلم إلّا قالوا : وعليكَ السلام يا بن بنت رسول الله ! يظنّونه الحسين بن عليّ حتّىٰ نزل القصر واجماً كئيباً لِما رأىٰ .
ثمّ جمع الناس وخطبهم وأعلمهم نيّة يزيد إلىٰ سامعهم ومطيعهم ، والشدّة علىٰ مريبهم وعاصيهم ، ووعد وأوعد (٢) ، وختم الخطبة بأن قال : ليتّق امرؤٌ علىٰ نفسه ، الصدق ينبئ عنك لا الوعيد (٣) .
ثمّ دعا الناس وقال : اكتبوا إليّ العُرَفاء (٤) من فيكم من طِلْبة أمير المؤمنين ، وأهل الريب الّذين رأيهم الخلاف ، فمن كتبهم لنا فهو بريءٌ ، ومن لم يكتب لنا فليضمن ما في عرافته أن لا يخالفنا منهم مخالفٌ ولا يبغي علينا منهم باغ ؛ فمن لم يفعل ذلك فبرئت منه الذّمّة ودمه حلال وماله مباح ، ومن وجد في عرافته من طِلْبة أمير المؤمنين أحدٌ صُلِب علىٰ باب داره (٥) .
ثمّ إنّ عبيد الله دسّ من يتعرّف حال الرجل الذي يأخذ البيعة علىٰ
__________________
(١) تاريخ الطبري ٥ / ٣٤٨ .
(٢) قال البلاذري : وخطب [ ابن زياد ] الناس فأعلمهم أنّ يزيد ولّاه مصرهم ، وأمره بإنصاف مظلومهم ، وإعطاء محرومهم ، والإحسان إلىٰ سامعهم ومطيعهم ، والشدّة علىٰ عاصيهم ومريبهم ، ووعد المحسن وأوعد المسيء . أنساب الأشراف ٢ / ٧٨ .
(٣) تاريخ الطبري ٥ / ٣٥٩ .
(٤) في تاريخ الطبري : اكتبوا إليّ الغرباء ومن فيكم .
(٥) تاريخ الطبري ٥ / ٣٥٩ .
أهل الكوفة ، فاحتال الرجل حتّىٰ توصّل إلىٰ ذلك (١) .
وكان مسلم بن عقيل انتقل إلىٰ دار هانئ بن عروة لمّا دخل عبيد الله البلد ، وكتب إلىٰ الحسين ببيعة بضعة عشر ألفاً منهم ويأمره بالقدوم عليه . .
وقدم شريك بن الأعور من البصرة ، وكان من شيعة عليّ (٢) ، فنزل بقرب هانئ بن عروة ، وأصابته علّة بقي معها في بيته ، وقال لهانىء بن عروة : مُر مُسْلماً يكون عندي ، فإنّ عبيد الله يعودني .
فقال شريك لمسلم حين حصل عنده : أرأيتك إن أمكنْتُكَ من عبيد الله أتضربه بالسيف ؟!
قال : نعم .
وأظهر شريك زيادة علىٰ ما به المرض وهو نازلٌ في بعض دور هانئ ؛ فجاء عبيد الله يعود شريكاً ، فقال شريك لمسلم : إذا تمكّن عبيد الله فإنّي مطاوله الحديث ، فاخرج إليه بسيفك وٱقْتله ، فليس بينك وبين القصر من يحوله ، وإن شفانيَ الله كفيْتُكَ البصرة .
فقال هانئ : إنّي أكره قتل رجلٍ في منزلي .
وشَجّعه شريك وقال : هي فرصة فإيّاك أن تضيّعها ، فانتهزْها ؛ فإنّه عدوّ الله ، وعلامتك أن أقول : اسقوني ماءً .
فجاء عبيد الله حتّىٰ دَخَل وسأل شريكاً ، فلمّا طال سؤاله وليس أحد يخرج ، خشي أن يفوته ؛ قال : اسقوني ماءً وَيْحكم ما تنتظرون ؟! اسْقونيها
__________________
(١) راجع : تاريخ الطبري ٥ / ٣٦٢ ، أنساب الأشراف ٢ / ٧٩ ، الأخبار الطوال : ٢٣٥ .
(٢) قال أبو حنيفة الدينوري : وكان شريك من كبار الشيعة بالبصرة ، فكان يحثّ هانئاً علىٰ القيام بأمر مسلم . الأخبار الطوال : ٢٣٣ .
وقال البلاذري : وكان شريك شيعياً شهد الجمل وصفّين مع عليّ . أنساب الأشراف ٢ / ٧٩ .
ولو كان روحي فيها . حتّىٰ قالها مرّتين أو ثلاثاً .
فقال عبيد الله : ما شأنه ؟ أترونه يَهْجر ؟!
قال هانئ : نعم أصلحك الله ، هذا دَيْدنه منذ الصبح .
ففَطِنَ موْلىً لعبيد الله قائمٌ علىٰ رأسه ؛ فغمزه ، فقام عبيد الله ، فقال له شريك : انتظر أصلحك الله ! فإنّي أريدُ أن أوصي إليك .
قال : سأعود إليك .
فلمّا خرج قال شريك لمسلم : ما منعك من قتله ؟!
قال : خصلتان : أمّا إحداهما فكراهة هانئ أن يقتل في داره رجل ، وأمّا الأُخرىٰ ، فسمعت عليّاً يقول : سمعت النبي عليه السلام يقول : « الإيمان قيّد الفتك ، فلا يفتك مؤمن » (١) .
فلبث شريك ثلاثاً ومات ، فدعا عبيد الله هانئاً ، فأبىٰ أن يجيئه إلّا بأمان ؛ فقال : ما له وللأمان ، أأحدث حدثاً ؟!
فجاء بنو عمّه ورؤساء عشيرته ، فقالوا : لا تجعل علىٰ نفسك سبيلاً وأنت بريء .
فأتي به ، فلمّا حصل عنده ، قال عبيد الله : إيهٍ يا هانئ ! ما هذه الأُمور التي تربّص في دارك لأمير المؤمنين وعامّة المسلمين ؟!
قال : وما ذاك أيّها الأمير ؟
قال : جئت بمسلم وأدخلتَهُ دارك ، وجمعت الرجال والسلاح حواليك ، وظننْتَ أنّ ذلك يخفىٰ ؟!
قال : ما فعلتُ وليس مسلم عندي .
__________________
(١) انظر : الأخبار الطوال : ٢٣٥ ، تاريخ الطبري ٥ / ٣٦٣ ، وص ٣٦٥ .
قال : بلىٰ قد فعلْتَ .
قال : ما فعلتُ .
فلمّا كثر الكلام في ذلك ويأبىٰ هانئ إلّا مجاحدة ، دعا عبيد الله ذلك الدسيس الذي دسّه وكان افتتن بهم ويدخل إليهم ، فقال لهانئ : أتعرف هذا الرجل ؟!
فعلم هانئ أنّه كان عَيْناً عليهم ، فسقط في يده ، ثمّ راجعتْه نفسه ، فقال : اسمع أيّها الأمير ! فإنّي والله الذي لا إله إلّا هو أصدقك ؛ ما دعوتُهُ ولكن نزل علَيّ فاستحييْتُ من ردّه ولَزِمني ذمامُهُ ، فأدخلتُه داري وأضفته ، فإن شئْتَ أعطيتك الآن موثقاً وما تطمئنّ إليه أنّي لا أبغيك سوءاً ولا غائلة ، وإن شئتَ أعطيْتُكَ رهينة في يدك حتّىٰ أنطلق إليه وآمره أن يخرج من داري إلىٰ حيث شاء من الأرض ، فأخرُجَ من ذمامه .
قال : والله لا تفارقني حتّى تأتيني به .
فقال : لا والله لا أجيئك به أبداً ، أنا أجيئك بضيفي حتّىٰ تقتلَهُ ؟!
قال : والله لتأتينّي به (١) .
وقام الناس إليه يناشدونه في نفسه ويقولون : إنّه سلطانٌ وليس عليك في دفعه إليه عارٌ ولا نقصة .
فقال : بلىٰ والله علَيّ في ذلك العار والخزي ، أدفع ضَيفي وجاري إلىٰ قاتله وأنا صحيح أسمع وأرىٰ ، شديد الساعد وكثير الناصر ؟!
قال عبيد الله : ادْنوه منّي . فأُدني منه وله ضفيرتان قد رجّلهما ، فأمر بضفيرتيه ، فأمسك بهما وٱستعرض وجهه بقضيب في يده ، فلم يزل
__________________
(١) راجع : تاريخ الطبري ٥ / ٣٦٦ ـ ٣٦٥ .
يضرب وجهه وأنفه وجبينه حتّىٰ نثر لحم خدّيه وهشم أنفه وتلوّىٰ هانئ وضرب بيده إلىٰ قائم سيف شرطيٍّ ممّن حضر ، فمانعه الرجل ، وقال عبيد الله : أحروريٌّ سائر اليوم ؟! حلّ لنا قتلك .
فقال أسماء بن خارجة : أمرتنا أن نجيء بالرجل حتّىٰ إذا جئناك به فعلتَ به ما نرى وزعمت أنّك تقتله ؟!
فقال عبيد الله : إنّك ههنا . وأمر به فَلُهِزَ وتُعْتِع ساعة ، ثمّ تُرِك ، فجلس (١) ، وأمر بهانئ فجعل في بيت ووكّل به من يحرسُهُ ، فبلغ ذلك مَذحِجاً فأقبلت إلىٰ القصر ، فقيل لعبيد الله : هذه مذحج وقد اجتمعت بالباب !
فقال لشريح القاضي ، ادخل إلىٰ صاحبهم فانظر إليه ، ثمّ اخرج إليهم وأعْلِمهم أنّه حيٌّ سالم . وإنّما عاتبه كما يعاتب الأمير رعيّته ، فانصرفوا .
وبَلَغ مُسْلماً ما جرىٰ ؛ فأمر أن ينادي بشعار « يا منصور أمِت » ، وكان بايعه ثمانية عشر ألفاً ، وحوله منهم أربعة آلاف ؛ فاجتمعوا إليه وأقبل القصر (٢) ؛ فتحرّز عبيد الله وغلّق الأبواب ، وأحاط مسلم بالقصر ، وٱمْتلأ المسجد والسوق ، وما زالوا يتوثّبون حتّىٰ المساء (٣) .
وضاق بعبيد الله الأمر وكان أكبر همّه أن يمسك باب القصر ، وليس في القصر معه إلّا ثلاثون رجلاً من الشُرَط وعشرون من أشراف الناس .
ففتح عبيد الله الباب الذي يلي الروميّين ليدخل إليه من يأتيه ، ودعا
__________________
(١) في تاريخ الطبري ٥ / ٣٦٧ : فأمر به فَلُهِز وتُعْتع به ، ثمّ ترك فحبس . والتعتعة : الحركة العنيفة .
(٢) في تاريخ الطبري ٥ / ٣٦٩ : عن عبّاس الجدلي : خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف ، فما بلغنا القصر إلّا ونحن ثلاثمائة .
(٣) في تاريخ الطبري ٥ / ٣٧٠ : يثوّبون حتّىٰ المساء .
كُثيّر بن شهاب الحارثي ، فأمره بأن يخرج فيمن أطاعه من مذحج ، فيخذّل الناس عن مسلم ويخوّفهم عقوبة السلطان وغائلة أمرهم (١) .
وأمر محمّد بن الأشعث بمثل ذلك ، ممّن أطاعه من كندة ، وأن يرفع راية الأمان لمن جاءه من الناس .
وأشرف الباقون من القصر ونادوا الناس : الحقوا بأهاليكم ولا تعجّلوا الشرّ ولا تتعرّضوا للقتل ؛ فإنّ أمير المؤمنين قد بعث جنوده من الشام ، وقد أعطىٰ الله الأمير عهداً لئن تممتم (٢) علىٰ حربكم ولم تنصرفوا من عشيّكم (٣) أن يحْرم ذرّيّتكم العطاء وأن يأخذ البريء بالسقيم والشاهد بالغائب (٤) .
فأخذ الناس لمّا سمعوا هذا وأشباهه يتفرّقون (٥) ، وكانت المرأة تأتي إلىٰ ابنها وأخيها وتقول : انصرف ، فإنّ الناس يكفونك . ويقول الرجل لابنه ولأخيه : غداً تأتيكم جنود الشام فما تصنعون ؟! فينصرف به .
فما زال الناس يتفرّقون حتّىٰ أمْسىٰ مُسْلم وليس معه إلّا ثلاثون نفراً ، فصلّىٰ بهم مسلم ، فلمّا رأىٰ أنّه أمسىٰ وليس معه إلّا هؤلاء خرج متوجّهاً نحو كندة ، فما بلغ أبواب المسجد إلّا ومعه عشرة ، ثمّ خرج من الباب فإذا ليس معه اثنان ، ثمّ التفت فإذا ليس معه من يدلّ علىٰ الطريق ولا من يواسيه بنفسه إن اعترض له عدوّ ، فبقي متلدّداً في أزقّة الكوفة لا يدري أين يمرّ !
__________________
(١) كذا في الأصل ؛ والمحتمل : وغاية أمرهم .
(٢) في تاريخ الطبري : أتممتم .
(٣) لعلّها : عشيّتكم .
(٤) تاريخ الطبري ٥ / ٣٧٠ .
(٥) في تاريخ الطبري : ينصرفون .