تراثنا العدد [ 68 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا العدد [ 68 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 1016-4030
الصفحات: ٢٧٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

مجلّة تراثنا العدد 68

٢٠١
 &

مجلّة تراثنا العدد 68

٢٠٢
 &

مقدّمة التحقيق :

بسم الله الرحمٰن الرحيم

النصّ الذي سوف تقرؤه . . قسم من كتاب تاريخ الخلفاء لمؤلّف مجهول ، من أعلام القرن الثالث ( إلىٰ الخامس ) الهجري ، وقد نشره ـ بشكل فاكسيميل ـ المستشرق الروسي بطرس غريازنيويج في سنة ١٩٦٠ م . .

والذي يبدو من ظاهر الكتاب أنّ المصنّف اجتهد وسعىٰ أن يعرض تاريخ الإسلام والمسلمين بشكل عامّ وبأُسلوب متين ، وفق المنهج الرائج والمتّبع في القرنين الثالث والرابع الهجري ، الذي يمكن ملاحظته في كتب عديدة مثل : الأخبار الطوال ، تاريخ اليعقوبي ، الإمامة والسياسة . . . وغيرها .

ويتبيّن من النظرة الفاحصة إلىٰ النصّ أنّه نصّ قديم كتبه مؤرّخ عراقي ؛ إذ المؤرّخين العراقيّين في ذلك العهد كانوا يميلون إلىٰ بني العبّاس ـ غالباً ـ ضدّ بني أُمية ، وهو ما كان يدفعهم إلىٰ تدوين تاريخ كربلاء ـ عند ذكرهم لأحداثها ـ بتفصيل أكثر . .

والكتاب الذي بأيدينا هو كذلك ؛ فقسماً كبيراً منه ـ قياساً إلىٰ حجمه الكلّي ـ قد خصّص لأحداث كربلاء ، لكنّ هذا لا يعني أنّ مصنّفه شيعي

٢٠٣
 &

إمامي المذهب .

وعلىٰ كلّ حال فالكتاب لم يُنشر مصحّحاً في ما سبق ـ حسب علمنا ـ ونحن نضع بين يدي القرّاء الكرام القسم الخاصّ بأحداث كربلاء وواقعة الطفّ الخالدة منه ، موردين هنا خلاصة لما جاء في مقدّمة طبعته ـ باللغة الروسية ـ المشار إليها آنفاً :

( إنّه : في سنة ١٩١٥ ، اشترىٰ و . آ . إيوانف ، العالم الروسي المتخصّص في التاريخ الإيراني ، نسخة كتاب الخلفاء لحساب Museum Asiatic ، وهي في الأصل وقف للمكتبة المعروفة بـ : « كتابخانه » ، وهي إحدىٰ المكتبات المشهورة في آسيا الوسطىٰ ، أسّسها خواجه محمّد پارسا ( ٨٢٢ هـ ) في القرن التاسع الهجري .

ونسخته بدون جلد ولا تاريخ وقد لحقت بها أضرار ، ويظهر أنّه فُقد منها صفحات . . ويظهر من شهادة خبراء الخطوط أنّها كتبت في أوائل نصف القرن الثالث عشر الميلادي .

قرأ هذه النسخة V. I. BeIyaev . لأوّل مرّة في سنة ١٩٣٢ .

أمّا العالم المؤرّخ A. M. BeIenitskii . فقد أعدّ لها فهرساً ، ونشره Yakubovskii في سنة ١٩٥٠ .

وفي سنة ١٩٦٠ نشر الكتاب بشكل فاكسيميل مع ترجمته وتعليقات عليه ، كما نشر CI. Cahen . مقالة عن العبّاسيّين بالاستفادة من هذا الكتاب .

يتضمن الكتاب تاريخ الخلفاء من العقد الثالث للقرن السابع الميلادي إلىٰ سنة ٧٥٠ ميلادية .

وهو في أصله قسمان ، القسم الأوّل ـ كما نظنّ ـ ٢٣٥ صفحة ، يشمل مقدّمة المؤلّف وسيرة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وتاريخ خلافة أبي بكر وعمر

٢٠٤
 &

وعثمان وعلي والحسن ، وخلافة بني أُمّية وبني مروان .

والقسم الثاني : « أخبار الدولة الهاشمية ( المباركة ) العبّاسية » ويشمل تاريخ الدولة العبّاسية من ابتدائها إلىٰ زمان المؤلّف .

والنسخة التي بأيدينا فيها من أواسط خلافة عمر بن الخطّاب إلىٰ أوّل بيعة الخليفة العبّاسي الأوّل أبي العبّاس السفّاح في ١٣ ربيع الآخر سنة ١٣٢ هجرية .

وطريقة البحث في هذا الكتاب أنّ المؤلّف يذكر اسم الخليفة بشكل كامل نسبياً ، ومكان وزمان ولادته ، وزمان تسلّمه الخلافة وعمره يومذاك ، ويذكر قصصاً مختلفة عن حياة الخليفة وعقيدته ، وبياناً عن عاداته وسلوكه ، وهي قصص توضّح خصائص الخليفة بصفته مسلماً وحاكماً . .

كما يذكر المؤلّف قصصاً لأهم المسائل والحوادث التي وقعت في زمن خلافته ، والحوادث التي وقعت لأهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في خلافته ، ثمّ يسرد آخر أيّام حكمه وما فيها من حوادث ، ثمّ مرضه ، ومحل وفاته وزمانه بشكل دقيق ، وعمره يوم موته . .

كما يذكر قصصاً عن كبار القادة والأُمراء عند وفاة الخليفة ، ويعدّد زوجاته وأولاده ، ويورد قصائد أو أبيات شعرية قيلت فيه .

لا يمكن تعيين الاسم الأصلي للكتاب ، والقرائن الوحيدة التي تشير إلىٰ مؤلّفه يمكن الحدس منها أنّه تمّ تأليفه في حدود سنة ١٠١٧ و ١٠١٨ ميلادية ( ٤٠٧ و ٤٠٨ هجرية ) .

وهذه القرائن وبعض الجزئيات الأُخرىٰ المرتبطة بالمؤلّف تدلّ دلالة ظنّية علىٰ أنّه كان يعيش في الكوفة ، وكان علىٰ صلة قريبة بأتباع بني العبّاس ، ويبدو أنّه فرع من أُسرة أصفهانية تدعىٰ أُسرة الوثاب ( وأبوهم

٢٠٥
 &

القارئ المشهور يحيىٰ بن وثاب ) وهو مولىٰ عبد الله بن عبّاس جدّ العبّاسيّين .

وقد ألّف كتابه إجابة لطلب شخص مرموق ـ لعلّه كان ذا منصب ـ منهم . . وقد رأى أنّ واجبه في تأليفه بصفته مؤرّخاً أن يجعله تاريخاً يتضمّن دروساً أخلاقية تربوية ، وسعىٰ أن يكون أثراً روائياً موثّقاً وكتاباً جامعاً كاملاً في تاريخ الخلفاء .

ومن وجهة نظر مؤرّخ ، فهو دورة للتاريخ العربي ؛ بسبب طريقته في عرض المواد ، وأُسلوبه الأدبي الخاصّ الذي يحكم مؤلّفه ويمثّل حيوية فكره ونظرته الخاصّة للأشخاص والحوادث . .

وأخيراً لا بُدّ أن نذكّر بميل المؤلّف إلىٰ مذهب السُنّيين وٱتّجاتهم السياسية ، الأمر الذي يتّفق مع خطّ العائلة العبّاسية ؛ ولذا تجد فيه مواقفه المضادّة للتشيّع لعلي وأهل بيته بشكل صريح ) . انتهت مقدّمة الكتاب .

وقد قام الدكتور عبد العزيز الدوري بنشر كتاب باسم : أخبار الدولة العبّاسية ، في بيروت ـ دار الطليعة / ١٩٧١ م ، لمؤلّف مجهول ، قيل أنّه من القرن الثالث ، وقد لخّصه آخر في أوائل القرن الخامس . .

وقد رأىٰ الدوري أنّه يوجد تشابه وثيق بين القسم الثاني من هذا الكتاب ( من صفحة ٢٣٥ ـ ٢٩٤ ) ، وبين كتاب أخبار الدولة العبّاسية .

ونضيف إليه أنّ مؤلّف كتاب أخبار الدولة العبّاسية من معاصري علي بن إبراهيم بن هاشم القمّي ، المتوفّىٰ حدود سنة ٢٨٥ هـ ؛ لأنّه روىٰ عنه مباشرة بدون واسطة . . ففي ص ٣٢ ، من طبعة الدكتور الدوري قال :

أخبرنا علي بن إبراهيم بن هاشم القمّي ، عن أبيه ، عن الزبيري ، بإسناد له يرفعه ، قال : بينا عمر جالس في جماعة من أصحابه ، فتذاكروا

٢٠٦
 &

الشعر ، فقال : من أشعر الناس ؟ فاختلفوا ، فدخل عبد الله بن عبّاس ، فقال عمر : قد جاءكم ابن بجدتها ، وأعلم الناس . مَن أشعر الناس يا ابن عبّاس ؟

قال : زهير بن أبي سلمىٰ المزني . . . إلىٰ آخره .

أمّا الذي اخترناه من كتاب تاریخ الخلفاء هذا فهو ـ كما قلنا سابقاً ـ القسم الذي أرّخ فيه لمقتل الإمام الحسين عليه‌السلام ، فقد جاء هذا القسم بتفصيل أكثر من بقية الحوادث التي أرّخ لها الكتاب ؛ وسببه كما نصّ المؤلّف في آخره أهمّية هذه الحادثة .

وقد اعتمد هذا المؤرّخ السُنّي اعتماداً كليّاً علىٰ رواية أبي مخنف لوط بن يحيىٰ ـ المتوفّىٰ سنة ١٥٨ هـ ـ للمقتل ، وربّما أضاف مواضيع جزئية ، أو استعمل عبارات أُخرىٰ .

النسخة المعتمدة :

وهي المخطوطة الوحيدة للكتاب ، ومحفوظة في المتحف الآسيوي في روسيا ، مطبوعة بشكل فاكسيميل ، ولم تعرف نسخة أُخرىٰ له لحدّ الآن .

والنسخة ناقصة الأول والآخر ، إذ تبدأ من أواسط خلافة عمر ، وتنتهي ببداية الخلافة العبّاسية .

تشتمل علىٰ ٢٩٩ ورقة أبعادها ١٢ × ٢٠ ، وكلّ صفحة تحتوي علىٰ ١٨ سطراً ، وخطّها يعود إلىٰ القرن الخامس الهجري .

الشيخ رسول جعفريان

٢٠٧
 &

مجلّة تراثنا العدد 68

٢٠٨
 &

مجلّة تراثنا العدد 68

٢٠٩
 &

خلافة يزيد بن معاوية :

هو أبو خالد يزيد بن معاوية بن حرب بن صَخْر بن أُميّة بن عبد شمس بن عبد مناف . ومعاوية هو أوّل من استخلف ابنه ؛ وأوّل مَن جعل وليّ العهد في صحّته ؛ وكان السّبب في ذلك أنّه عزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة ، فاحتال المغيرة وأشار عليه بالبيعة ليزيد ، وذكر له : إنّه كان دعا أهل الكوفة إلىٰ بيعته فأجابوه ، فأعجبه قوله وولّاه الكوفة ثانياً ، وأمره بأن يَروض أهلها علىٰ ما قاله وأشار به ، وأن يُعلمه خبرهم ، ففعل وكتب إليهم برضاهم (١) !

ثمّ مات الحسن بن علي سنة تسع وأربعين كما ذكرناه (٢) .

ويقال : إنّ معاوية سمّ سعد بن أبي وقّاص (٣) لأنّه كان يعلم أنّ بيعة يزيد أمر لا يتمّ مع حياته . .

وكان يقول : لولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي (٤) .

__________________

(١) راجع : تاريخ الطبري ٥ / ٣٠٢ ، الإمامة والسياسة ١ / ١٨٧ .

(٢) قال المؤلّف في ص ٥٣ / ب من الكتاب نفسه : ويقال بعد انصرافه [ الحسن عليه السلام ] إلىٰ المدينة ، دسّ معاوية علىٰ امرأته جَعْدة بنت الأشعث بن قيس وسألها أن تسقيه السمّ ليزوّجها معاوية من يزيد ؛ فسمّته ، وهذا خبر مشهور .

(٣) روىٰ أبو الفرج الأصفهاني عن أبي بكر بن حفص ، قال : تُوُفّي الحسن بن عليّ ، وسعد بن أبي وقّاص بعد ما مضىٰ من إمارة معاوية عشر سنين ، وكانوا يرون أنّه سقاهما . مقاتل الطالبيين : ٨١ ، وراجع ص ٨٠ .

وقال في موضع آخر : ودسّ معاوية إليه [ الحسن عليه السلام ] ـ حين أراد أن يعهد إلىٰ يزيد بعده ـ وإلىٰ سعد بن أبي وقّاص سُمّاً ، فماتا منه في أيام مقاربة . مقاتل الطالبيين : ٦٠ .

(٤) وقال المؤلّف في ص ٦٩ / أ ـ في قصّة معاوية لمّا كان في المدينة ويريد أخذ

٢١٠
 &

وكان يقول ليزيد : ما ألقىٰ الله بشيء هو أعظم في نفسي من استخلافي إيّاك .

ويروىٰ عن بشير بن شكل (١) ، أنّه قال : رأيْتُ معاوية في المنام ، فقلت له : ألسْتَ معاوية ؟! فقال : أنا حيارىٰ ، تركْتُ أهلي حيارىٰ ، لا مسلمين ولا نصارىٰ .

وقام يزيد بالأمر في رجب سنة ستّين ، وكان ابن خمس وثلاثين سنة ؛ وأُمّه ميسون بنت مالك بن بحدل الحارثي (٢) ؛ ولذلك يقول زُفَر بن الحارث الكلابي :

أفي الله أمّا بحْدلٌ وٱبن بحدَل

فيحيا وأمّا ابن الزُّبَير فيُقْتلُ

كذَبْتم وبَيتِ الله لا تقتلونَهُ

ولمّا يَكن يومٌ أغرُّ مُحجّلُ (٣)

ويزيد هو الذي أوقع بالحسين بن عليّ رضوان الله عليه ، وهو الذي قتل أهل المدينة وخرّبها يوم الحرّة ، وهو الذي رمىٰ بيت الله بالمجانيق وهدمه وأحرقه (٤) .

__________________

البيعة لابنه يزيد ، ثمّ رجع إلىٰ الشام ـ : فلمّا مرض المرضة التي مات فيها يقال إنّه دعا يزيد ، فقال له : لولاك لأبصرت رشدي .

راجع : البداية والنهاية ـ لابن كثير ـ ٨ / ١٢٦ ، حياة الإمام الحسين عليه السلام لباقر شريف القرشي ـ ٢ / ١٩٧ ، عن المناقب والمثالب ـ لقاضي نعمان ـ : ٦٨ .

(١) كذا في الأصل . ولعلّه : شحل .

(٢) ميسون بنت بحدل بن أنيف بن ولجة بن قنافة بن عدي بن زهير بن حارث الكلبي . تاريخ الطبري ٥ / ٤٩٩ .

(٣) تاريخ الطبري ٥ / ٥٤٣ .

(٤) قال البلاذري : قالوا : كان يزيد بن معاوية أوّلَ من أظهر شرب الشراب ، والاستهتار بالغناء ، والصيد ، وٱتّخاذ القيان والغلمان ، والتفكّه بما يَضحك منه المترفون من القرود ، والمعاقرة بالكلاب والديكة . .

٢١١
 &

وقد أشار إليه ابن الجهم في مزدوجته (١) التي يقول فيها :

ثمّ تولّىٰ أمرهم يزيد

لا جازم الرأي ولا سديد

وكان هدم الكعبة المصونة

ووقعة الحرّة بالمدينة

ومقتل الحسين في زمانه

أعوذ بالرحمٰن مِن خذلانه

وذلك أنّ يزيد لمّا دفن أباه في داره المعروفة بالخضراء ، صعد المنبر وأُرتج عليه ، فجلس ، فقام إليه الضحّاك بن قيس وصعد إليه ؛ فقال : ما جاء بك ؟!

قال : أُكلّم الناس وآخذ عليهم ، فإنّي أعرف بهم .

فقال : اجلس يا بن أمّ ضحّاك ، وقال : أيّها الناس ! إنّ معاوية كان حَبلاً من حبال الله ، مدّه ما شاء ثمّ قطعه ، وهو دون من كان قبله وفوق من يكون بعده ، ولا أزكّيه علىٰ الله ، فإن يغفر له فبفضله وإن يعذّبه فبذَنْبه ، وقد ولّيْتُ الأمر من بعده ولست أعتذر من جهلٍ ، وعلىٰ رِسْلكم إن كره الله شيئاً غيّره (٢) .

ثمّ إنّ الأربعة الّذين وصّاه بهم معاوية ـ وهم الحُسَين ، وٱبن الزبير ، وٱبن عمر ، وٱبن أبي بكر ـ امتنعوا من بيعته ، وخرج الحُسَين وٱبن الزبير إلىٰ مكّة من المدينة لمّا أخذهما عامل يزيد بالبيعة له . وأمّا عبد الرحمٰن وعبد الله فلم يتشدّد عليهما العامل بالمدينة فبقِيا بها .

__________________

ثمّ جرىٰ علىٰ يده قَتْلُ الحسين ، وقتْلُ أهل الحَرّة ، ورميُ البيت وإحراقه . أنساب الأشراف ـ ق ٤ ـ ١ / ٢٨٦ .

(١) راجع : ديوان علي بن الجهم ، تحقيق : خليل مردم بك ، دمشق / ١٩٤٩ م ؛ والقصيدة المزدوجة طبعت في مجلّة كلية الآداب لجامعة بغداد ، بتحقيق : بطرس غريازنيويج ، العدد الخامس ، سنة ١٩٦٢ م ، ص ٣٨١ ـ ٣٨٤ .

(٢) انظر : البداية والنهاية ٨ / ١٥٣ .

٢١٢
 &

ولمّا قدِم الحسين مكّة اجتمع إليه الناس ؛ وٱبن الزبير لزم جانب الكعبة ، فهو قائم يصلّي عامّة النهار ، ثمّ يأتي الحسين فيشير عليه بالخروج على يزيد ، وكان الحسين أثقل خلق الله عليه ؛ لأنّه يعرف إنّ أهل الحجاز لا يميلون إليه ما دام يقيم الحسين فيهم ، فهو يريد خروج الحسين من الحجاز (١) .

وبلغ أهل العراق امتناع الحسين من البيعة ليزيد وأنّه لحق بمكّة ، فأرجفوا بيزيد وكاتبوا الحسين : إنّا قد اعتزلنا ، فلسْنا نصلّي بصلاتهم ولا إمام لنا ، فلو أقبلْتَ إلينا رجونا أنْ يجمعنا اللهُ بك علىٰ الإيمان .

وٱجْتمع رؤساء الشيعة مثل سليمان بن صُرَد والمُسيّبُ بن نجبة وأشباهُهما وكتبوا للحُسَين بن عليّ : من شيعة [ أمير ] المؤمنين : أمّا بعد . . فَحَيِّ هلا ، فإنّ الناس ينتظرونك ، لا رأي لهم في غيرك ، فالعجل ، ثمّ العجل . والسلام (٢) .

ثمّ اجتمعوا ثانية فكتبوا : من شَبَث بن رِبْعي وحجّار بن أبجر ويزيد ابن الحارث بن رُوَيم وعمرو بن الحجّاج ومحمّد بن عُمَير : أمّا بعد . . فقد اخضرّ الجناب وأينعت الثمار ، فإذا شئت فاقدم علىٰ جنودٍ مجنّدة لك ، والسلام (٣) .

__________________

(١) قال أبو مخنف : وهو [ الحسين عليه السلام ] أثقل خلق الله علىٰ ابن الزبير ، قد عرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ولا يتابعونه أبداً ما دام حسين بالبلد ، وأنّ حسيناً أعظم في أعينهم وأنفسهم منه ، وأطوع في الناس منه . تاريخ الطبري ٥ / ٣٥١ .

(٢) هذا كتاب هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي [ من شهداء كربلاء ] ؛ انظر : تاريخ الطبري ٥ / ٣٥٣ . وأمّا كتاب سليمان بن صُرَد وأصحابه ففي ص ٣٥٢ .

(٣) تاريخ الطبري ، ٥ / ٣٥٣

٢١٣
 &

ثمّ لا يزالون يكتبون بذلك حتّىٰ جمع عنده خرجين مملوءين من كتبهم في ذلك ، واجتمعت الرسلُ عند الحسين وقرأ الكتب ، وكتب أجوبتهم .

وأنفذ مسلم بن عقيل بن أبي طالب مع الرسل ، وقال له : اعرف أحوال الناس ، فانظر ما كتبوا به ؛ فإن كان صحيحاً قد اجتمع عليه رؤساءهم وتابعَهم من يوثَق به ، خرجنا إليهم .

فسار مسلم إلىٰ الكوفة ، والعامل بها حينئذ النعمان بن بشير الأنصاري من قِبَل يزيد ؛ فلمّا حصل عندهم دَبّوا إليه (١) ، وبايعه منهم اثني عشر ألف .

فقام عبد الله بن مُسْلم الحضرمي إلىٰ النعمان بن بشير ، فقال له : أنت ضعيفٌ أو متضعّف ، فسدْتَ البلاد وليس يصلح ما ترىٰ إلّا الغَشْم (٢) .

فقال النعمان : لإن أكون ضعيفاً وأنا في طاعة الله أحبُّ إليّ من أن أكون قويّاً وأنا في معصية الله ، وما كنتُ لأهتك سِتْراً سَتَرُهُ الله . .

فكتب بقول النعمان إلىٰ يزيد ، وقال في الكتاب : فإن كانتْ لك حاجة في الكوفة فابعث إليها رجلاً قويّاً ينفّذ أمرك ويعمل بمثل عملك ؛ فإنّ النعمان ضعيف .

فلمّا قرأ يزيد كتابه شاور كاتبه سَرجون بن منصور ، فقال له : أكنت قابلاً من معاوية لو كان حيّاً ؟!

قال : نعم .

[ قال : ] فاقبل منّي ، إنّه ليس للكوفة إلّا عبيد الله بن زياد ، فَوَلّه . .

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٣٤٧ .

(٢) الغشم : الظلم .

٢١٤
 &

وكان يزيد ساخطاً عليه قد نوىٰ أن يعزلَه من البصرة ، فكتب إليه برضاه وأنّه ولّاه الكوفة مع البصرة ، وأمره بطلبِ مسلم وقتله (١) .

وأقبل عبيد الله في وجوه أهل البصرة حتّىٰ دخل الكوفة متلثّماً ، فلا يمرّ علىٰ مجلس من مجالسهم فيسّلم إلّا قالوا : وعليكَ السلام يا بن بنت رسول الله ! يظنّونه الحسين بن عليّ حتّىٰ نزل القصر واجماً كئيباً لِما رأىٰ .

ثمّ جمع الناس وخطبهم وأعلمهم نيّة يزيد إلىٰ سامعهم ومطيعهم ، والشدّة علىٰ مريبهم وعاصيهم ، ووعد وأوعد (٢) ، وختم الخطبة بأن قال : ليتّق امرؤٌ علىٰ نفسه ، الصدق ينبئ عنك لا الوعيد (٣) .

ثمّ دعا الناس وقال : اكتبوا إليّ العُرَفاء (٤) من فيكم من طِلْبة أمير المؤمنين ، وأهل الريب الّذين رأيهم الخلاف ، فمن كتبهم لنا فهو بريءٌ ، ومن لم يكتب لنا فليضمن ما في عرافته أن لا يخالفنا منهم مخالفٌ ولا يبغي علينا منهم باغ ؛ فمن لم يفعل ذلك فبرئت منه الذّمّة ودمه حلال وماله مباح ، ومن وجد في عرافته من طِلْبة أمير المؤمنين أحدٌ صُلِب علىٰ باب داره (٥) .

ثمّ إنّ عبيد الله دسّ من يتعرّف حال الرجل الذي يأخذ البيعة علىٰ

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٣٤٨ .

(٢) قال البلاذري : وخطب [ ابن زياد ] الناس فأعلمهم أنّ يزيد ولّاه مصرهم ، وأمره بإنصاف مظلومهم ، وإعطاء محرومهم ، والإحسان إلىٰ سامعهم ومطيعهم ، والشدّة علىٰ عاصيهم ومريبهم ، ووعد المحسن وأوعد المسيء . أنساب الأشراف ٢ / ٧٨ .

(٣) تاريخ الطبري ٥ / ٣٥٩ .

(٤) في تاريخ الطبري : اكتبوا إليّ الغرباء ومن فيكم .

(٥) تاريخ الطبري ٥ / ٣٥٩ .

٢١٥
 &

أهل الكوفة ، فاحتال الرجل حتّىٰ توصّل إلىٰ ذلك (١) .

وكان مسلم بن عقيل انتقل إلىٰ دار هانئ بن عروة لمّا دخل عبيد الله البلد ، وكتب إلىٰ الحسين ببيعة بضعة عشر ألفاً منهم ويأمره بالقدوم عليه . .

وقدم شريك بن الأعور من البصرة ، وكان من شيعة عليّ (٢) ، فنزل بقرب هانئ بن عروة ، وأصابته علّة بقي معها في بيته ، وقال لهانىء بن عروة : مُر مُسْلماً يكون عندي ، فإنّ عبيد الله يعودني .

فقال شريك لمسلم حين حصل عنده : أرأيتك إن أمكنْتُكَ من عبيد الله أتضربه بالسيف ؟!

قال : نعم .

وأظهر شريك زيادة علىٰ ما به المرض وهو نازلٌ في بعض دور هانئ ؛ فجاء عبيد الله يعود شريكاً ، فقال شريك لمسلم : إذا تمكّن عبيد الله فإنّي مطاوله الحديث ، فاخرج إليه بسيفك وٱقْتله ، فليس بينك وبين القصر من يحوله ، وإن شفانيَ الله كفيْتُكَ البصرة .

فقال هانئ : إنّي أكره قتل رجلٍ في منزلي .

وشَجّعه شريك وقال : هي فرصة فإيّاك أن تضيّعها ، فانتهزْها ؛ فإنّه عدوّ الله ، وعلامتك أن أقول : اسقوني ماءً .

فجاء عبيد الله حتّىٰ دَخَل وسأل شريكاً ، فلمّا طال سؤاله وليس أحد يخرج ، خشي أن يفوته ؛ قال : اسقوني ماءً وَيْحكم ما تنتظرون ؟! اسْقونيها

__________________

(١) راجع : تاريخ الطبري ٥ / ٣٦٢ ، أنساب الأشراف ٢ / ٧٩ ، الأخبار الطوال : ٢٣٥ .

(٢) قال أبو حنيفة الدينوري : وكان شريك من كبار الشيعة بالبصرة ، فكان يحثّ هانئاً علىٰ القيام بأمر مسلم . الأخبار الطوال : ٢٣٣ .

وقال البلاذري : وكان شريك شيعياً شهد الجمل وصفّين مع عليّ . أنساب الأشراف ٢ / ٧٩ .

٢١٦
 &

ولو كان روحي فيها . حتّىٰ قالها مرّتين أو ثلاثاً .

فقال عبيد الله : ما شأنه ؟ أترونه يَهْجر ؟!

قال هانئ : نعم أصلحك الله ، هذا دَيْدنه منذ الصبح .

ففَطِنَ موْلىً لعبيد الله قائمٌ علىٰ رأسه ؛ فغمزه ، فقام عبيد الله ، فقال له شريك : انتظر أصلحك الله ! فإنّي أريدُ أن أوصي إليك .

قال : سأعود إليك .

فلمّا خرج قال شريك لمسلم : ما منعك من قتله ؟!

قال : خصلتان : أمّا إحداهما فكراهة هانئ أن يقتل في داره رجل ، وأمّا الأُخرىٰ ، فسمعت عليّاً يقول : سمعت النبي عليه السلام يقول : « الإيمان قيّد الفتك ، فلا يفتك مؤمن » (١) .

فلبث شريك ثلاثاً ومات ، فدعا عبيد الله هانئاً ، فأبىٰ أن يجيئه إلّا بأمان ؛ فقال : ما له وللأمان ، أأحدث حدثاً ؟!

فجاء بنو عمّه ورؤساء عشيرته ، فقالوا : لا تجعل علىٰ نفسك سبيلاً وأنت بريء .

فأتي به ، فلمّا حصل عنده ، قال عبيد الله : إيهٍ يا هانئ ! ما هذه الأُمور التي تربّص في دارك لأمير المؤمنين وعامّة المسلمين ؟!

قال : وما ذاك أيّها الأمير ؟

قال : جئت بمسلم وأدخلتَهُ دارك ، وجمعت الرجال والسلاح حواليك ، وظننْتَ أنّ ذلك يخفىٰ ؟!

قال : ما فعلتُ وليس مسلم عندي .

__________________

(١) انظر : الأخبار الطوال : ٢٣٥ ، تاريخ الطبري ٥ / ٣٦٣ ، وص ٣٦٥ .

٢١٧
 &

قال : بلىٰ قد فعلْتَ .

قال : ما فعلتُ .

فلمّا كثر الكلام في ذلك ويأبىٰ هانئ إلّا مجاحدة ، دعا عبيد الله ذلك الدسيس الذي دسّه وكان افتتن بهم ويدخل إليهم ، فقال لهانئ : أتعرف هذا الرجل ؟!

فعلم هانئ أنّه كان عَيْناً عليهم ، فسقط في يده ، ثمّ راجعتْه نفسه ، فقال : اسمع أيّها الأمير ! فإنّي والله الذي لا إله إلّا هو أصدقك ؛ ما دعوتُهُ ولكن نزل علَيّ فاستحييْتُ من ردّه ولَزِمني ذمامُهُ ، فأدخلتُه داري وأضفته ، فإن شئْتَ أعطيتك الآن موثقاً وما تطمئنّ إليه أنّي لا أبغيك سوءاً ولا غائلة ، وإن شئتَ أعطيْتُكَ رهينة في يدك حتّىٰ أنطلق إليه وآمره أن يخرج من داري إلىٰ حيث شاء من الأرض ، فأخرُجَ من ذمامه .

قال : والله لا تفارقني حتّى تأتيني به .

فقال : لا والله لا أجيئك به أبداً ، أنا أجيئك بضيفي حتّىٰ تقتلَهُ ؟!

قال : والله لتأتينّي به (١) .

وقام الناس إليه يناشدونه في نفسه ويقولون : إنّه سلطانٌ وليس عليك في دفعه إليه عارٌ ولا نقصة .

فقال : بلىٰ والله علَيّ في ذلك العار والخزي ، أدفع ضَيفي وجاري إلىٰ قاتله وأنا صحيح أسمع وأرىٰ ، شديد الساعد وكثير الناصر ؟!

قال عبيد الله : ادْنوه منّي . فأُدني منه وله ضفيرتان قد رجّلهما ، فأمر بضفيرتيه ، فأمسك بهما وٱستعرض وجهه بقضيب في يده ، فلم يزل

__________________

(١) راجع : تاريخ الطبري ٥ / ٣٦٦ ـ ٣٦٥ .

٢١٨
 &

يضرب وجهه وأنفه وجبينه حتّىٰ نثر لحم خدّيه وهشم أنفه وتلوّىٰ هانئ وضرب بيده إلىٰ قائم سيف شرطيٍّ ممّن حضر ، فمانعه الرجل ، وقال عبيد الله : أحروريٌّ سائر اليوم ؟! حلّ لنا قتلك .

فقال أسماء بن خارجة : أمرتنا أن نجيء بالرجل حتّىٰ إذا جئناك به فعلتَ به ما نرى وزعمت أنّك تقتله ؟!

فقال عبيد الله : إنّك ههنا . وأمر به فَلُهِزَ وتُعْتِع ساعة ، ثمّ تُرِك ، فجلس (١) ، وأمر بهانئ فجعل في بيت ووكّل به من يحرسُهُ ، فبلغ ذلك مَذحِجاً فأقبلت إلىٰ القصر ، فقيل لعبيد الله : هذه مذحج وقد اجتمعت بالباب !

فقال لشريح القاضي ، ادخل إلىٰ صاحبهم فانظر إليه ، ثمّ اخرج إليهم وأعْلِمهم أنّه حيٌّ سالم . وإنّما عاتبه كما يعاتب الأمير رعيّته ، فانصرفوا .

وبَلَغ مُسْلماً ما جرىٰ ؛ فأمر أن ينادي بشعار « يا منصور أمِت » ، وكان بايعه ثمانية عشر ألفاً ، وحوله منهم أربعة آلاف ؛ فاجتمعوا إليه وأقبل القصر (٢) ؛ فتحرّز عبيد الله وغلّق الأبواب ، وأحاط مسلم بالقصر ، وٱمْتلأ المسجد والسوق ، وما زالوا يتوثّبون حتّىٰ المساء (٣) .

وضاق بعبيد الله الأمر وكان أكبر همّه أن يمسك باب القصر ، وليس في القصر معه إلّا ثلاثون رجلاً من الشُرَط وعشرون من أشراف الناس .

ففتح عبيد الله الباب الذي يلي الروميّين ليدخل إليه من يأتيه ، ودعا

__________________

(١) في تاريخ الطبري ٥ / ٣٦٧ : فأمر به فَلُهِز وتُعْتع به ، ثمّ ترك فحبس . والتعتعة : الحركة العنيفة .

(٢) في تاريخ الطبري ٥ / ٣٦٩ : عن عبّاس الجدلي : خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف ، فما بلغنا القصر إلّا ونحن ثلاثمائة .

(٣) في تاريخ الطبري ٥ / ٣٧٠ : يثوّبون حتّىٰ المساء .

٢١٩
 &

كُثيّر بن شهاب الحارثي ، فأمره بأن يخرج فيمن أطاعه من مذحج ، فيخذّل الناس عن مسلم ويخوّفهم عقوبة السلطان وغائلة أمرهم (١) .

وأمر محمّد بن الأشعث بمثل ذلك ، ممّن أطاعه من كندة ، وأن يرفع راية الأمان لمن جاءه من الناس .

وأشرف الباقون من القصر ونادوا الناس : الحقوا بأهاليكم ولا تعجّلوا الشرّ ولا تتعرّضوا للقتل ؛ فإنّ أمير المؤمنين قد بعث جنوده من الشام ، وقد أعطىٰ الله الأمير عهداً لئن تممتم (٢) علىٰ حربكم ولم تنصرفوا من عشيّكم (٣) أن يحْرم ذرّيّتكم العطاء وأن يأخذ البريء بالسقيم والشاهد بالغائب (٤) .

فأخذ الناس لمّا سمعوا هذا وأشباهه يتفرّقون (٥) ، وكانت المرأة تأتي إلىٰ ابنها وأخيها وتقول : انصرف ، فإنّ الناس يكفونك . ويقول الرجل لابنه ولأخيه : غداً تأتيكم جنود الشام فما تصنعون ؟! فينصرف به .

فما زال الناس يتفرّقون حتّىٰ أمْسىٰ مُسْلم وليس معه إلّا ثلاثون نفراً ، فصلّىٰ بهم مسلم ، فلمّا رأىٰ أنّه أمسىٰ وليس معه إلّا هؤلاء خرج متوجّهاً نحو كندة ، فما بلغ أبواب المسجد إلّا ومعه عشرة ، ثمّ خرج من الباب فإذا ليس معه اثنان ، ثمّ التفت فإذا ليس معه من يدلّ علىٰ الطريق ولا من يواسيه بنفسه إن اعترض له عدوّ ، فبقي متلدّداً في أزقّة الكوفة لا يدري أين يمرّ !

__________________

(١) كذا في الأصل ؛ والمحتمل : وغاية أمرهم .

(٢) في تاريخ الطبري : أتممتم .

(٣) لعلّها : عشيّتكم .

(٤) تاريخ الطبري ٥ / ٣٧٠ .

(٥) في تاريخ الطبري : ينصرفون .

٢٢٠