أسرار الآيات

صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي [ ملا صدرا ]

أسرار الآيات

المؤلف:

صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي [ ملا صدرا ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات انجمن اسلامى حكمت و فلسفه ايران
المطبعة: چاپخانه وزارت و فرهنگ و آموزش عالى
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٦

فطري ذاتي عن تجل وقع من قبل الله لهم ، فأحبوه وانبعثوا إلى الخضوع له تقربا إليه بعبادة ذاتية وحركة جبلية نحوه من غير تكلف. وقال أيضا (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) فلزم ذلك وثابر عليه وداوم. وهذا أيضا تسبيح فطري وثناء ذاتي انبعث عن ذواتهم وبواطنهم التي هي عند ربهم ، فيسري حكم السجود الفطري والصلاة الحقيقية والتسبيح الذاتي إلى ظواهرهم وأمثالهم وأظلالهم كما في قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) ومن لطائف كلامه أنه قال في الآيتين السابقتين (أَلَمْ تَرَ) مخاطبا لنبيه ، وفي هذه الآية (أَوَلَمْ يَرَوْا) بلفظ الجمع المراد به عامة الإنس وكل عاقل ، وذلك لأن متعلق الرؤية فيهما هو الله من حيث كونه مسجودا ومسبحا له ، وفي هذه متعلق الرؤية ما خلق الله ، ولا شك في أن تلك الرؤية مرتبة عظيمة مختصة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شهودا وعيانا ، فهي له صلى‌الله‌عليه‌وآله عيان كشفي ، ولنا إيمان علمي ، فأشهده الله تعالى سجود كل شيء وتسبيحه كما أعلمنا بمتابعة دينه وكتابه.

وبالجملة دلت الآيات أن لهذه الموجودات حتى الجبال والشجر والدواب عبادة ذاتية لله ونسك فطري ، ثم قال متمما لما سبق : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) أي ممن يدب عليهما ، يعني أهل السماوات والأرض إشارة إلى حركتها الذاتية الفطرية حسب ما بيناه بالبرهان. وقوله : (وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) يعني الملائكة التي ليست في سماء ولا أرض لا يستكبرون عن عبادة ربهم. ثم وصف المأمورين منهم أنهم (يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ، ثم قال : (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) أي لا يملون ، لأن مبدأ حركتها وسعيها ليس قوة جسمانية أو غاية حيوانية شهوية أو غضبية بل تشوقا إلى الله وتقربا عنده وتخلصا من ألم الفراق ونار الاشتياق كل ذلك يدل على أن العالم كله في مقام الاستقامة على الصراط والعبودية والخضوع ، إلا كل مخلوق له قوة الفكر وتسلط الوهم وإغواء الشيطان ، وليس إلا النفوس الإنسانية النطقية من حيث أعيان تلك النفوس ،

٨١

وأما أبدانهم وهياكلهم فهي أيضا كسائر العالم في التسبيح والعبودية الذاتية ، فأعضاء البدن كلها مسبحة ناطقة ، ألا ترى أنها يشهد على النفوس المسخرة لها يوم القيامة من الجلود والأيدي والأرجل والألسنة والسمع والبصر وجميع القوى فالحكم لله العلي الكبير.

ومن الآيات الدالة على الحركات الذاتية للموجودات نحو الباري جل ذكره قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ، ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ، إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) وقوله : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) ... (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ، ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) وقوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ (وَهِيَ دُخانٌ) ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) قوله : (طَوْعاً) وقع حالا عن السماء في إتيانها ، فإن حركات السماء إرادية نفسانية تقربا إلى الله تعالى ، كما بين في مقامه ، من أن نفوسها يحرك أجرامها لأجل غايات عقلية ومعشوقات قدسية هي أشعة وأنوار للهوية الإلهية نور الأنوار ، ولها اتصالات بها واستشراقات بأنوارها ، وكل منها يتصل بمعشوقه العقلي ويتحد به. وقوله : (كَرْهاً) إشارة إلى حال الأرض في إتيانها ، فإنها لكثافة طبيعتها وبعد مناسبتها لعالم قدس الحق لا تصير صالحة للتوجه إلى حضرة الأحدية والعبودية والإنابة إلى الله إلا بعد استحالات وانقلابات بالقسر والجبر من جهة قوى محركة خارجية كالغاذية والنامية فيصير غذاء للنبات مصورة بصورته ، ثم للحيوان مصورة بصورته صائرة إياه ، ثم يدخل في باب الإنسانية وهو باب الله الأعظم ، فإذا دخلت في هذا الباب تطيع الله وتحشر إليه فصارت مطيعة بعد ما كانت متعصية ، وكذلك كل حركة قسرية فإنها تصير بعد إعداد القاسر طبيعية صادرة عن الطبيعة المقسورة ، ولهذا قال (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) فحال السماء في توجهها إلى الله كحال المؤمن الفطري في عبادته وعبوديته ، وحال الأرض كحال المؤمن الذي كان أولا كافرا ، ثم تاب عن كفره وآمن وعمل الصالحات. وقوله : (إِنَّا (نَحْنُ) نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) وقوله : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ

٨٢

الْمَصِيرُ) وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) إشارة إلى أن جميع ما في العالم الجسماني سيعود في حركاتها الذاتية الطبيعية والاستحالات الجوهرية والعرضية إلى عالم الأمر العقلي والمقام الواحد الجمعي. وإطلاق الدابة على ما في السماء من الكواكب وغيرها وعلى ما في الأرض من المعادن والنباتات وغيرها لأجل أنها حيوانات سماوية أو أرضية دائمة الدءوب والسعي إلى الله ، إذ ما من جوهر جسماني ذي طبيعة فلكية أو عنصرية إلا وله حركة رجوعيه ذاتية إلى الله كما قال (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً ، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) فالسماء والسماوي كالأرض والأرضي في هذه الحركة الذاتية كما برهن عليه في موضعه.

٨٣

الطرف الثاني

في أفعاله سبحانه وكيفية صدورها عنه ورجوعها

إليه تعالى وفيه مشاهد :

المشهد الأول

في حدوث هذا العالم وكون وجوده ووجود كل ما فيه

مسبوقا بالعدم الزماني

اعلم أن الحادث بعد ما لم يكن لا بد له من مرجح لاستحالة حدوث شيء لا عن سبب ، وذلك المرجح لا بد أن يكون حادثا كله أو شيء من تمامه وإلا لدام الترجيح فدام الأثر ، فلم يكن حادثا ، وقد فرض حادثا ، هذا خلف. ثم نعود الكلام إلى مرجح المرجح فإما أن يتسلسل علل حادثة مجتمعة لا إلى نهاية ، وهو باطل لما علمت أن الباري جل اسمه مبدأ سلسلة الممكنات كلها ، وهو أزلي غير حادث ، أو يكون أسبابا متعاقبة كل منها سبب للاحقه ، وهذا هو المتعين عند جمهور الفلاسفة ، وهذا لا يمكن تصحيحه إلا بأن يكون قبل كل حادث أمور نحو وجودها الحدوث والتجدد والانقضاء. ولا يكفي في ذلك نفس الحركة العرضية.

أما أولا ، فلأن الحركة أمر عقلي لا وجود لها في الخارج ، وما لا وجود له لا يصير سببا من أسباب وجود الشيء الحادث.

وأما ثانيا ، فلأن وجود الأعراض بعد وجود الجواهر ، فإذا كان جواهر ، العالم ثابتة في ذاتها ، مستقرة في أنفسها فمن أين تحدث صفة متجدد بها يتخصص حدوث حادث فإذن لا بد أن يكون من جملة الجواهر الموجودة جوهر سيال

٨٤

متجدد في ذاته ، نحو وجوده الانقضاء والتجدد بحيث لا يتصور له في وجوده ثبات واستمرار ، ولا في عدمه ثبات واستمرار ، إذ كل ما كان عدمه ثابتا ، فوجوده ممتنع ، وكلما لم يكن عدمه ثابتا ، فوجوده ليس إلا وجود الانقضاء والتجدد ، وذلك الجوهر لا يمكن أن يكون جوهرا غير مادي ولا جسماني ، وإلا لم يكن فيه قوة استعدادية ، بل هو جوهر مادي فيه ضرب من القوة وضرب من الفعل ، وما هو إلا الطبيعة السارية في الأجسام ، فكل حادث بالذات أو بالعرض يستدعي أن يكون قبله حوادث غير متناهية إلى حد وبعده إيضا حوادث كذلك لا يتصرم ، وإلا ، عاد الكلام عند انصرامه ، وهذه الحوادث الغير المنقطعة ولا المتصرمة لا يجوز أن يكون أمورا متفاصلة ، وإلا يلزم تتالي الآنات ، ويعود الكلام في بداية كل منها ، بل متصلة واحدة بوحدة هي وحدة الكثرة ، وثبات هو عين الزوال ، واجتماع هو اجتماع المتفرقات ، وما هذا شأنه يجب أن يكون أمرا متجدد الهوية والذات ، وجوده نفس الاتصال التجددي ، وهي الحركة الفلكية عند الفلاسفة ، إذ لا يحتمل من الحركات الدوام إلا الوضعية المستديرة ، وعندنا هي الطبيعة الجرمية التي يقع فيها لما أشرنا إليه من أن الحركة نفس مفهوم التغير ، ومعناها إضافي لا وجود له إلا في الذهن ، فلا يصير سببا للحوادث ، بل المتجدد بالذات وما به التجدد هو أمر متبدل الهوية في الخارج حادث الوجود بالذات.

فإذن قد ثبت أن الطبيعة الجوهرية الفلكية حادثة الوجود في كل حين ، وإنما الحدوث نفس وجودها ، وما كان الحدوث نفس وجوده لا يحتاج في حدوثه إلى علة غير ذات فاعله الجاعل لأصل ماهيته ، لا في صيرورته حادثا ، لأن التدرج في وجوده من صفاته اللازمة لذاته والصفة الذاتية للشيء لا يفتقر إلى جاعل ، والذاتي لا يعلل.

فإذن قد ثبت أن العالم الجسماني لاشتماله على الطبيعة الهيولانية حادث بجميع ما فيه وما معه لا يتصور له قرار في آنين ولا بقاء في زمانين ، ولا ينقطع أيضا إلى مبدإ جسماني ولا ينتهي كذلك ، بل من الله ابتداؤه وإلى الله انتهاؤه.

ومما يجب أن يعلم أن الحجة المذكورة لا يلزم منها وجود حوادث

٨٥

غير متناهية وجوده ، إذ ما لا وجود له بالفعل لا يوصف باللاتناهي كما لا يوصف بالتناهي أيضا ، وفرق بين قولنا : هذه الحوادث ليس لها ابتداء معين على سبيل الحكم السلبي ، وبين قولنا : إن الحوادث غير متناهية حكما إيجابيا عدوليا ، إذ الأول لا يستدعي وجود الموضوع المحكوم عليه ، بخلاف الثاني. فقول من قال : العالم قديم ، والحوادث فيه غير متناهية ، قول باطل ، إذ ما لا جمعية له من الأعداد لا يوصف باللاتناهي أيضا ، ولا بالتناهي إلا مبلغ حاضر منه في قوة مدركة جزئية. وفي الكتاب الإلهي آيات كثيرة دالة على دثور العالم وخرابه واضمحلال وجوده مع بقاء صورها العلمية عند الله القديم حسب ما رءاه كبراء ـ الحكماء وأساطينهم الأقدمين ما خلا أصحاب أرسطو ومن لحقهم إلى يومنا هذا ، فإن مسألة حدوث العالم مع إثبات الصانع وتوحيده وتوحيد صفاته إحدى المسائل الشريفة التي من الله علينا بتحقيقها وفضلنا على كثير من خلقه تفضيلا ، وهي مما استفدناه من كتاب الله وسنة نبيه ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا من الأفكار البحثية ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ).

أما الآيات فمنها قوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) وقوله : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ، صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) فإن إتقانها ببقاء ذاتها في علمه تعالى ، وحفظه إياها بتوارد الأمثال. وقوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) فإن لجميع الموجودات الطبيعية حركة جوهرية ذاتية وتحولا من صورة إلى صورة ، حتى يقع لها الرجوع إلى الله بعد صيرورتها غير نفسها بحسب الصورة السابقة ، وتحولها إلى نشأة أخرى ، ولو كانت هذه الطبائع ثابتة الجوهرية مستمرة الهوية لم ينتقل هذه الدار إلى دار الآخرة ، ولم يتبدل الأرض غير الأرض ، ولا السماوات غير السماوات ، كما دلت عليه الآية ، ولم يرث الله الأرض ومن عليها ، ولم تصر الأرض مقبوضة يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ، كما في قوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ومنها قوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) دل على أن كل ما في السماوات والأرض يفنى ويزول بنفخ الإسرافيل

٨٦

في الصور ، وينطوي يوم القيامة في يمين الرحمن ، أعني الجنة العالية تحت قهر الكبرياء وسطوة عالم الجبروت. وإنما عبر عن هذا الفناء بالصعق لا بالموت ونحوه ، تنبيها على أن لها ضربا من الحياة عند الله لا عند أنفسهم ، كمن صار مغمى عليه ، فإنه زالت عنه الحياة الحسية وبقي له ضرب من الحياة في مقام أعلى من بدنه وقوة حسه وحركته ، ولهذا قد يعود ويسري الحياة إلى أعضائه من ذلك المبدإ النفساني.

ومنها قوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) وقوله : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) وقوله : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً).

والبعث من نشأة طبيعية إلى نشأة أخروية لا يمكن إلا بانقلاب الجوهر وتبدل الذات ، لأن النشأتين الأولى والآخرة متخالفتان في النوع متباينتان في نحو الوجود لا في الأوصاف والأعراض ، وإلا لم يكن كل منها برأسه عالما تاما ، وقد علمت استحالة تعدد العوالم بالعدد مع اتحادها في النوع ، فإذن جوهر الآخرة نوع آخر من الوجود مباين لجوهر الدنيا ، فزوال جوهر نشأة الدنيا دليل على حدوثها ، إذ ما ثبت قدمه امتنع عدمه. فإذا ثبت أن جميع ـ الموجودات الطبيعية منبعثة إلى نشأة أخرى متوجهة إلى الدار الآخرة بالسير الحثيث والحركة الذاتية الجوهرية.

فثبت أن الدنيا دار الانتقال ومنزل الارتحال ومعبر إلى دار القرار ومحل الأبرار. ومنها قوله تعالى : (إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) إشارة إلى الانتقال الفطري للجوهر الطبيعي إلى الله ، ويستوي في هذا التوجه الذاتي والحركة المعنوية المؤمن والكافر والمطيع والعاصي ، إذ كلها مأمور بهذا الإتيان والسفر إلى الله والدار الآخرة ، وهذا التوجه الطبيعي إلى الدار الآخرة لا ينافي الشقاوة والعذاب ، إذ منشأ العذاب أيضا تأكد الوجود وفعلية الذات وزوال الالتباس ورفع الغشاوة وكشف الغطاء وحدة البصر كما في قوله : (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) فالنفوس الشقية عند كشف الغطاء ينتبهون من نوم

٨٧

الطبيعة ورقدة الدنيا فيطلعون على نتائج معاصيهم وجهالاتهم وخسران نفوسهم ، فيتأذون ويتألمون غاية الأذى والألم ، فيلحقهم الندامة والحسرة ، ويكون حالهم حال من لسعته العقارب والحيات عند سكرة الشديد والخدر ، فإذا زال عنه السكر وأفاق عن سكره وخدره ، أصبح متألما متأذيا غاية الألم والأذى ، كما سيأتي توضيحه في مباحث المعاد.

وبالجملة نشأة الآخرة أشرف من نشأة الدنيا ، مع أن عذاب الآخرة أشد وأقوى ، وأمر وأدهى ، لتأكد الوجود وشدة الإدراك وقوة الحس وحدة البصر.

ومنها قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ...) هذه الأيام ليست من أيام الدنيا التي يتم كل منها في دورة الشمس بحركة الفلك الأقصى ، بل من أيام الآخرة وأيام الربوبية التي كل يوم منها مواز لألف سنة من أيام الدنيا المعدودة لقوله تعالى : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) فهذه الستة الأيام هي ستة آلاف سنة من زمن آدم عليه‌السلام مبدأ خلق الكائنات بحسب ما يعده أهل التواريخ ويضبطه المنجمون إلى بعثة الرسول الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ونزول القرآن ، فالله سبحانه أخبر عن خلق المكونات في هذه المدة ، وذلك لأن الحادث التدريجي الوجود زمان حدوثه بعينه زمان ثبوته واستمراره ، إذ لا بقاء له إلا الحدوث ـ التجددي.

فعلم بالبرهان والقرآن جميعا ، أن هذا العالم الجسماني بكله حادث مسبوق بالعدم الزماني ولا بقاء للجسم الطبيعي ، لأنه في ذاته لا يخلو عن الحدوث ، وما لا يخلو في ذاته عن الحدوث فهو حادث الهوية ، تدريجي الذات متغير ـ الكون ، لكن الحقائق النوعية ثابتة الوجود في علم الله فعلمه تعالى بالأشياء ثابتة غير متغير والمعلومات متكثرة متغيرة ، كما أن قدرته أزلية والمقدورات حادثة ، كما قال الله : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ).

واعلم أن أيام الإلهية غير أيام الربوبية لأن اليوم الإلهي هو يوم ذي المعارج مدته توازي خمسين ألف سنة ، كما قال : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ

٨٨

لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ، مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ، تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) وقال مشيرا إلى يوم الربوبية (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وذلك لأن وراء هذه النشأة الدنياوية نشأتان أخرويتان : إحداهما ، صورية حسية وهي المنقسمة إلى جنة محسوسة ونار محسوسة ، والأخرى ، معنوية وهي عالم الحضرة الإلهية ، مرجع الأرواح العقلية والأعيان الثابتة ، ففي كل ألف سنة يرتقي الصور الكونية الأرضية على التدريج إلى عالم النفوس السماوية المدبرة لأجرامها ، ثم في كل سبعة ألف سنة وهو أسبوع واحد من أيام الربوبية ينتقل جميع صور ما في السماوات وما في الأرض إلى عالم الآخرة ويقوم قيامة وسطى على النفوس بنفخة الفزع ، ثم في مدة خمسين ألف سنة وهي سبعة أسابيع التي كل منها سبعة آلاف سنة مع الكبائس والكسورات يقع الفناء الكلي للأرواح بنفخة الصعق وينتقل الأمر كله إلى الواحد القهار. وبيان ذلك : أن الله خلق الوجود ثلاثة : دنيا وبرزخا وأخرى ، فخلق الجسم عن الدنيا والنفس عن البرزخ والروح عن الآخرة ، وجعل الوسائط الناقلة لتنوعات عالم الإنسان ثلاثة ، ملك الموت ونفخة الفزع ونفخة الصعق ، فالموت للأجسام ونفخة الفزع للنفوس ونفخة الصعق للأرواح ، فإذا أراد الله تعالى نقل الأنفس من الدار البرزخ حين كمل اليوم البرزخي للآدمي وهو سبعة أيام من أيام الربوبية التي كل منها منسوب إلى إحدى الكواكب السيارة ، نقلت الأنفس من البرزخ بنفخة الفزع ويعاد إليها الأجسام الدنيوية ، قال الله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) وقوله : (كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) إشارة إلى أن نفخة الفزع مختصة بنقل الأنفس إلى الأرواح ، وقوله : (يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) إشارة إلى أن نشأة أخرى تكون بعد صعق الأرواح ، حين يقول سبحانه : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ...) فلا يجيبه أحد ويجيب نفسه لنفسه فيقول : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

٨٩

وهذا الصعق هو نهاية الأجل المسمى عنده وهو الأجل الروحاني الذي بدؤه قبل الأجسام بألفي عام ، ونهايته هذا الصعق المشار إليه ، ثم يجيء هذا الصعق بالنفخة الثانية بمزيد اقتضاء التجلي الأكمل في المظهر الأعظم للأسماء الإلهية الباطنية التي نبه عليها بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «فأحمده بمحامد لا أعرفه الآن». فعن التجلي الأعظم ، ظهر المظهر الأعظم ، ومن المظهر الأعظم ظهرت الأسماء الباطنة ، وعن ظهور الأسماء الباطنة اتسع العرش ولاتساع العرش تضاعفت الحملة فصارت ثمانية ، لقوله : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ (فَوْقَهُمْ) يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) وعن تضاعفها بدلت السماء غير السماء والأرض غير الأرض لقوله : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) فتوسعت دائرة دار الآخرة ، وعن توسيعها أنشئ الإنسان إنشاء الآخرة الروحانية ، فكانت الروح هي المشهودة المباشرة للأحكام والمؤثرة للآثار ، والنفس والجسم من لوازمها وآثارها ، والإمدادات من الله صارت متصلة بهما بواسطة الروح ، ودخل المؤمن الجنة على الخلق القوي وعلى أحسن تقويم ، فهذا ما جرى على لسان القلم ، وإن لم يكن مناسبا لطور أهل البحث عصمنا الله عن جحود المنكرين وعناد المستكبرين والله الهادي إلى سبيل أهل اليقين وبه الاستعاذة من شر الشياطين وجنود إبليس أجمعين.

حكمة إيمانية وحجة قرآنية

الكتب الإلهية والآيات الكلامية قائلة بأن العالم بأسره حادث زماني ، لأن الغرض من خلق العالم ليس نفسه بل هو أشرف منه ، فإن الطبائع الجسمانية وما في حكمها لا يمكن أن يكون هي الغاية الأقصى في الوجود ، بل البرهان الحكمي ناهض على أن للطبائع غايات أخرى هي أعلى منها ، وكلما هو أعلى من الطبيعة الكونية لا يكون وجوده في هذا العالم بل في عالم آخر. فثبت بالبرهان أن هذا العالم بأسره واقع تحت الفساد ويلحقه العدم والانقراض ، وما يلحقه العدم والانقراض فهو حادث زماني لا محالة ، فالعالم

٩٠

وكل ما فيه حادث زماني ، والغرض الأقصى من خلق السماوات وإدارة الأفلاك وتسيير الكواكب وجريان الأمور على وفق القضاء الإلهي والقدر الرباني بتبليغ الأشياء إلى غاياتها الذاتية وخيراتها الأصلية ، وإزالة شرورها ونقائصها عنها ، ليكون العالم كله خيرا محضا لا شر فيه ونورا لا ظلمة فيه وتماما لا نقص فيه (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) ، إذ لا شك أن الدنيا طافحة بالشرور والآفات مشحونة بالمحن والآلام ، والنقائص والأعدام (يَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).

فالغرض من أصل الإبداع وجود الباري وفيضه أن يصل كل ناقص إلى كماله ، وتبلغ المادة إلى صورتها ، والصورة إلى معناها ونفسها ، وأن تلحق النفس إلى درجة العقل ومقام الروح ، وهناك الراحة المطلقة والطمأنينة التامة والسعادة القصوى والخير الأعلى والنور الأتم ، وهذا هو المقصد الأقصى واللباب الأصفى في بناء الأرض والسماء وجرى سفينة الهيولى في الطوفان الدنيا ، ولأجله مجيء الأنبياء والرسل من ملكوت السماء بالوحي والأنباء والكتاب والدعاء ، ليزول الشر وينقرض الظلمة وأهلها ويعود الكائنات إلى ما بدئ منه ، فيصير لاحقا به فيتم الحكمة وتصعد الكلمة وتكمل الخلقة ، وتزول الدنيا وتقوم القيامة وتجيء الساعة وينمحق الشر وأهله ، وينقرض الكفر وحزبه ، (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ). فاحفظ يا حبيبي بهذا العلم المخزون والسر المكنون الذي (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ).

فمن الآيات الدالة على دثور العالم وزواله وانقطاعه قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ ، وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ ...) فانشقاق السماء لخروج روحها ونفسها عن مضيق هذه النشأة الناقصة استماعا وإجابة لداعي الحق. ليصير متحققة بالوجود الحقاني بعد الموت عن الوجود الطبيعي والنفساني ، والمعنى ، أنها فعلت في انقيادها لله حين أراد انشقاقها فعل المطواع الذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المطاع ، أنصت له وأدغن ولم يأب ولم يمتنع ، كقوله تعالى : (أَتَيْنا طائِعِينَ) ومد الأرض انبساطها وزوال كل اعوجاج وامتتاء وعقد و

٩١

تضاريس كالجبال الرواسي والأشجار وسائر المركبات ، وإلقاء ما فيها من الجثث والموتى والقشور بنزع صفوها الخالص من عكرها ، فالقشر يرمى واللب يرقى ، وعند ذلك لم يبق منها عين ولا أثر إذ لحق الخير بالخير ، ورجع الشر إلى البوار. وقوله : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ...) هذه كلها إشارة إلى تبدل النشأة الطبيعة لجواهر هذا العالم إلى النشأة الأخروية ، وخروج الأرواح من هذه الأجسام العظام إلى ما عند الله وقيامها وحشرها إلى مبدئها الأعلى. فتكوير الشمس اندراس طبيعتها ونفاد قوتها الجسمانية ، لأن تلك القوة متناهية وجودا وتأثيرا ، فلا بد من انقطاعها ، فإذا انصرمت القوة المحركة للجسم ، بطلت صورته وزالت حياته الحسية وبعثت إلى الدار الآخرة. وكذا انكدار النجوم دلالة على انطماس طبيعتها بخروج روحها إلى الآخرة عند انقطاع آجالها الطبيعية ، فإن بطلان اللازم وتبدله ، لازم لبطلان الملزوم وتبدله ، فانكدار النجوم كناية عن زوال نشأتها ، وتسيير الجبال ، تجديد صورتها بالحركة الجوهرية وتبدلها في كل آن ، وتسجير البحار ، إحالتها إلى النار الأخروية ، وتزويج النفوس أنما يكون بالعقول إذا كانت من الكاملين المقربين عند استكمالها وخروجها من القوة الروحانية إلى الفعل ، أو بصور حور العين إن كانت من أصحاب اليمين.

وأما النفوس الشقية ، فتزويجها يكون بالشياطين ، أو بالأبدان الحيوانية المناسبة لأخلاقهم وملكاتهم البهيمية والسبعية كما في قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) وقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) وقوله : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) وقوله : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) وقوله : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) كلمة إذا ، يراد بها وقت قيام القيامة. وحينئذ يكون الأجسام الطبيعية مدروسة ، وصورتها مطموسة ، وبواطنها مكشوفة ، وأرواحها قائمة ، كما أن اليوم بعكس ذلك فإن الأجسام هاهنا مشهودة بارزة والأرواح كامنة مستورة ،

٩٢

والأجسام محسوسة بالفعل والأرواح موجودة بالقوة.

وبالجملة هذه الدار دار الحرث والزراعة والسعي ، والآخرة دار حصد الثمار والوصول إلى نتائج الأعمال والأفكار وتولد مواليد الأرواح عن بطون أمهات الأشباح. قوله : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ، وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ، عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ).

تنبيه

قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) كل ذلك إشارة إلى فناء الدنيا وانقطاع نشأتها وبروز مكامنها وخروج هويات ما فيها إلى النشأة الآخرة.

قاعدة

خلق العالم الكبير وبعثه كخلق العالم الصغير وبعثه (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) ولكل منها جسم وروح ، فالخلق للجسم والبعث للروح ، فكما أن أعضاء البدن وأجزاء الشخص متبدلة مستحيلة كائنة فاسدة وروحه باقية ، إلا أنها في أوائل النشأة ضعيفة الوجود بالقوة شبيهة بالعدم ، ثم يخرج في أيام الحياة البدنية من القوة إلى الفعل ويشتد وجود الروح ويستكمل ويقوى على التدريج ويخرج من القوة إلى الفعل ويضعف البدن ويهرم ويكل القوى والآلات شيئا فشيئا ، لأن كلها جسمانية شأنها الاستحالة والسيلان والدثور ، وهكذا إلى أن يفني البدن ويموت (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) ويبقى الروح راجعة إلى ربها (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) وإنما وصفها بالاطمئنان وهو السكون العقلي لأن النفس قبل صيرورتها عقلا بالفعل شأنها التغيير والانقلاب ، فإذا صارت مطمئنة عقلية رجعت إلى بارئها (راضِيَةً مَرْضِيَّةً) ، فكذلك جملة العالم ، فإن السماوات والأرض وما بينهما ، أبدا في الانتقال والتبدل من حال إلى حال ومن نقص إلى كمال ،

٩٣

وخروج ما فيها من النفوس والأرواح من القوة إلى الفعل على التدريج في مدة عمر طبيعي للعالم ، ودورة كاملة لأجرامها الدوارة في مدة خمسين ألف سنة ، فيرجع في تلك المدة جميع تلك النسب والأوضاع إلى ما كانت أولا ، لقوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) ، وقوله تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) فإذا انقضت المدة وتمت العدة ، برزت إلى عالم الآخرة حقيقة الدنيا ، وخرجت من القوة إلى الفعل جميع ما هو مكنون في قبور الأجسام ومخزون في صدور النفوس وخزائن الأرواح (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ ، إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) وكما أن الشخص الآدمي إذا عرض له الموت وخرجت روحه من البدن قامت قيامته ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من مات فقد قامت قيامته» وعند ذلك انفطرت سماؤه التي هي أم دماغه ، وانتثرت كواكبه التي هي قواه المدركة ، وانكدرت نجومه التي هي حواسه ، وكورت شمسه التي هي قلبه ومنبع أنوار قواه وحرارته الغريزية وتزلزلت أرضه التي هي بدنه ، ودكت جباله التي هي عظامه ، وحشرت وحوشه التي هي قواه المحركة سيما الغضبية ، فكذا قياس موت الإنسان الكبير أعني جملة العالم الجسماني الذي هو عند الحكماء حيوان مطيع لله تعالى متحرك بالإرادة والجبلة ، وله بدن واحد هو جرم الكل وطبع واحد سار في الجميع وهو طبيعة الكل ، ونفس واحدة كلية مشتملة على جميع النفوس ، وروح كلي مشتمل على جميع العقول وهو العرش المعنوي يستوي عليه الرحمن فبدن العالم وطبيعته هالكتان داثرتان ، وأما نفسه وروحه الكليتان. فهما محشورتان إلى الدار الآخرة راجعتان إلى الله قائمتان عنده.

٩٤

المشهد الثاني

في تحقيق الانقراض والنهاية وإثبات الغاية كالبداية للدنيا وما فيها ، وبروز الكل إلى الله وخروجها من مكامن هوياتها عند انكشاف أستارها ، وارتفاع حجبها وبقاء ما عند الله في علم الله من الحقائق المتأصلة والأسماء الإلهية والأضواء القيومية.

يجب عليك أن تعلم أولا ، أن كل هوية عينية سواء كانت واجبة أو ممكنة ، لا بد لها من لوازم عقلية تابعة لذاته من غير جعل وتأثير ، وأقلها الشيئية والمعلومية والموجودية والإمكان العام وغير ذلك ، سيما الهوية الإلهية التي هي أصل الهويات ومنبع الإنيات والماهيات ، فإذا الذات الإلهية لها أشعة وأنوار عقلية ولوازم وآثار ، كيف والوجود كله من شروق نوره وآيات ظهوره ، وتلك الأشعة والأنوار سماها جمهور الفلاسفة بالعقول الفعالة ، والمشاءون أتباع أرسطو سموها بالصور العلمية ، وأفلاطونيون بالمثل النورية ، والصوفية بالأسماء الإلهية ، وجمهور المتكلمين ذهبوا بالصفات الزائدة ، والمعتزلة قالوا بالأحوال كما قالوا بثبوت المعدومات الخارجية ، وتلك الأشعة الإلهية كيف يفارق أصلها ومنبعها ، أو يكون أشياء مباينة الوجود مستقلة الذوات ، وإلا لم تكن أشعة فهي ليست من جملة العالم ومما سوى الله ، وإنما هي الدرجات الإلهية والحجب النورية والسرادقات القدسية ، باقية ببقاء الله لا بإبقائه ، موجودة بوجود الله لا بوجود أنفسهم ولا بإيجاده ، إذ لا جعل ولا تأثير بين الذات والشئون الإلهية.

٩٥

فمن الآيات الدالة على فناء الكل ورجوعها إلى الواحد القيوم بحركتها المعنوية وتولى وجهها إلى وجه الحق قوله : (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) وقوله : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) وقوله : (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) وقوله (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) وذلك لأن نسبة القيامة الكبرى وهي فناء جميع الخلائق وقيامها عند الله ، إلى القيامة الصغرى وهو موت كل أحد كنسبة الولادة الكبرى أعني خروج الأرواح عن بطن الدنيا إلى الولادة الصغرى وهي خروج الجنين عن بطن أمه. فكما أن لكل نفس أجل مسمى ولادة وموتا ، كذلك لكل أمة وطائفة بل لجميع الخلائق ميعاد وأجل معلوم عند الله. وإنما قلنا : معلوم عند الله ، لأن فهم الناس لا يبلغ إلى درك هذا الأجل والموعد إلا العرفاء الشامخون والأولياء الكاملون عند تجردهم عن الدنيا ، ولو أمكن تعليم ذلك لهم لما وقع في الجواب عند سؤالهم عن وقت قيام الساعة (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) والذي يبلغ فهمهم دركه هو ساعة موت الإنسان الصغير لا ساعة موت الإنسان الكبير يعني القيامة الكبرى. وقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) وهذه الوراثة والرجوع أنما يتحققان إذا صارت الأرض غير الأرض بأن تصير أرضا حية بيضاء منيرة مشرقة عقلية ، كما في قوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) وقوله : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) وإلا فما دامت كثيفة مظلمة ميتة فهي بعيدة المناسبة عن الحضرة الإلهية. وقوله : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ، لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) أي مجردا عن الأجسام وعوارضها المادية وأوضاعها الحسية ، بل عن إنياتهم وهوياتهم المغايرة للحق لاستغراقهم في بحر الطبيعة وانغمارهم في الدنيا. وذلك التجرد أنما يحصل بالفناء عن هذه النشأة الطبيعية والحشر إلى الله والبعث في القيامة. وقوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً ، فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) وقوله : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ

٩٦

كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا ، إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ).

قد مر سابقا أن هذه الأجسام الطبيعية منشورة في الدنيا مطوية في الآخرة ، والأرواح بعكس ذلك ، ولهذا الكلام معنيان.

أحدهما ، بحسب المقايسة والنسبة ، يعني أن هذه الأجسام وإن كانت بالفعل هاهنا ، لكنها لقصور وجودها وحقارتها بالقياس إلى موجودات عالم الآخرة مقهورة مدروسة ، وكذا الأرواح وإن كانت موجودة بالفعل هناك فهي بالقياس إلى مشاعر هذه الأدنى ، لقصورها واحتجابها يغيب عنها تلك الموجودات الجلية الباهرة.

وثانيهما ، أن هذه الأجسام تستحيل وتتقلب في حركاتها الذاتية واستحالاتها الجوهرية إلى أن تصير منطوية في صورة عقلية صائرا كل منها روحا محضا كما في الابتداء كانت أرواحا نازلة إلى منازل الأجسام ، فافهم. وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ...) ففيه استدلال على وقوع النشأة الآخرة بتطورات الإنسان في أطوارها الوجودية على نحو التوجه إلى الكمال شيئا فشيئا ، فلا بد لهذه الحركة الرجوعية في القوس العروجي من غاية أخيرة يقف لديها ويقوم عندها ، وتلك الغاية لا يمكن أن يكون من الأكوان الخلقية الطبيعية ، وإلا لاحتاجت إلى غاية أخرى فيتسلسل أو يدور وهما محالان ، فهي أمر أخرى وكون تام خارج عن سلسلة ذوي الغايات من الأكوان الناقصة. قوله : (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) وقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ).

واعلم أن هذه الحجج القرآنية كما يجري في إثبات النشأة الآخرة للإنسان كذلك يجري في إثباتها لجملة العالم وهو الإنسان الكبير ، لأن العلة مشتركة وهو لزوم الحكمة وترتب الغاية وبطلان العبث والجزاف ، فإن هذه الحسبان المذكور في قوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) منشؤه غطاء على البصيرة يورث الجهل بأن لكل خلق فائدة وحكمة ، ولكل طبيعة كونية غاية ذاتية ، وأن لكل أجل كتابا ، ولو لم يكن للطبائع الكونية غايات

٩٧

حقيقية ينتهي إليها وتسكن ، لكان معوقا عن خيراتها ، ممنوعا عن كمالاتها ، فيكون وجودها عبثا معطلا ، ولا عبث ولا معطل في الوجود كما برهن عليه ، إذ لم يخلق هذه الخلائق مجازفة ، بل عن علم وتدبير لفاعل مدبر عليم وصانع حكيم ، ومنع الكمال عن مستحقه قصور في الوجود ونقص في الإعطاء للوجود ، وهو ينافي الرحمة الواسعة والجود الأعم الأتم. فعلم أن لكل نقص كمالا ولكل قوة فعلا ، وهكذا إلى أن يزول النقائص ، ويصل كل مخلوق إلى أقصى كماله الذي ليس له زوال ولا انقطاع ، ويستقر عند ذلك صافيا لبه عن كل دنس وقشر. والعالم الذي فيه لباب الأشياء من غير كدر ، عالم آخر غير هذا العالم ، إليه رجعى الطاهرات الزاكيات من نفوسنا ، وفيه مأوى القادسات الطيبات من عقولنا ، وقوله في النور : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) وقوله في النمل (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) وهم الذين سبقت لهم هذه القيامة (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ). وقد سبقت الإشارة إلى أن القيامة قيامتان : قيامة على النفوس بنفخة الفزع ، وبها يقع النقل من الصور إلى عالم العقول ، وقيامة على العقول بنفخة الصعق ، وبها يقع الفناء التام وينتقل الأمر إلى الواحد القهار. وفي العنكبوت (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) وقوله : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) أي بعد انخلاعه عن كسوة هذا الكون الطبيعي وتحققه بالوجود الأخروي الباقي بإبقاء الله ، ثم عن لباس الإنانية الأخروية وتحققه بالوجود الحقاني الباقي ببقاء الله ، وقوله : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) وقوله : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) موت البدن الذي هو مقام وجودها الطبيعي (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) بعد فنائها عن الوجودين الطبيعي والنفساني ، وانسلاخها عن الكونين الدنيا والآخرة عند قيامها بوجود الحق. وقوله : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ، وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

فإن من اكتحل عين بصيرته بنور العرفان ، وتنور بيت قلبه بسواطع

٩٨

آيات القرآن ، يجد أعيان العالم وصور الكائنات متبدلة وتعيناتها متزايلة مترادفة خلقا بعد خلق ، سيالة طورا بعد طور إلى طريق الآخرة ، ولهذا سمى الله تعالى هذا الكون الدنياوي لهوا ولعبا ، لأن أكوانها متبدلة كالحركة ، والمتحرك بما هو متحرك شأنه التأدي إلى أمر آخر ، فإذا نظر إليه مع قطع النظر عما يئول إليه كان لهوا وعبثا باطلا. وأما الدار الآخرة فلكون وجودها ووجود ما فيها وجودا علميا وصورة إدراكية بالفعل ، وكل صورة إدراكية بالفعل وجودها عين الحياة ، فلا محالة كلما في الآخرة حيوان محض ، حياته عين ذاته ، ليست كأبدان هذا العالم التي حياتها عارضة لها واردة عليها من خارج ، فهي لا محالة ميتة في ذاتها تقبل صفة الحياة من الأرواح النفسانية المتعلقة بها.

وأما أجساد الآخرة وأشكالها فهي بعينها النفوس المتصورة بتلك الصور بحسب ملكاتها وأخلاقها المكتسبة ، فالجسد والنفس هناك شيء واحد كما يتضح لك في عالم المعاد وحشر الأجساد إن شاء الله. وقوله في الروم : (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) أي بما عند الله من حقائقها العلمية وصورها العقلية ، كما أثبتها الأقدمون من الحكماء كأفلاطون ومن قبله ، وأجل مسمى أي بحسب وجودها الطبيعي الكوني ، لما علمت مرارا أن هذا الوجود زماني متدرج في الكون ، والتدرج في الكون لغاية طبيعية لا محالة ، فينقطع بالضرورة لدى الغاية ، وتلك الغاية إن كانت من الأكوان الخلقية فيعود الكلام إلى غايتها أيضا ، فأما أن يكون لكل غاية غاية ذاتية إلى ما لا نهاية ، ففي ذلك إبطال للغاية إذا كان الكل أوساطا وإثبات للعبث والجزاف في خلق هذا العالم ، أو ينتهي إلى غاية خارجة عن هذه الأكوان الخلقية ، وهو المطلوب.

فغاية الأكوان الخلقية أكوان عقلية ينتهي الأمر إليه وقوله : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي يوجدهم في عالم الخلق والتقدير والمساحة. وإنما أتى بصيغة المضارع ، لما علمت أن وجود كل خلق مسبوق بعدم زماني ثم يعيدهم إلى عالم الآخرة ثم إليه ترجعون بفناء

٩٩

الكل والصعقة الكلية. قوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) لأن قوامها بمباديها العقلية وصورها القضائية الإلهية كما ذهب إليه أفلاطون ومن قبله ، ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض بانقطاع الآجال وانقضاء الأحوال ونفاد القوى الجسمانية ، إذ أنتم تخرجون من المحابس الكونية والمقابر الطبيعية إلى فضاء الآخرة وأرض المحشر. وقوله تأكيدا لما سبق وتقريرا : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) في سلسلة البدو والرجوع ، (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) لأن الرجوع إلى الفطرة الأصلية أنسب من الخروج عنها. وقوله في لقمان : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) كما في سورة الملائكة تأكيدا وتقريرا (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي مقدر معلوم عند الله ، ولغاية محدودة. والنكتة في أن قال في لقمان (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وفي الملائكة (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) ، أن الغاية كما حقق في مباحث العلة والمعلول لها اعتباران : اعتبار أنها ما ينتهي إليه الفعل ، واعتبار أنها ما لأجله الفعل ، فبالاعتبار الأول يقع التعدي بإلى ، وبالاعتبار الثاني يقع باللام ، وذلك لأن القوى العمالة في تلك الأجرام العالية قوى جسمانية متناهية الوجود والتأثير ، فلا بد من وقوفها واندراسها وانتهائها إلى غاية عقلية يتصل بها وينقلب إليها.

وبيان ذلك بوجه آخر عقلي ، أن محرك الأفلاك ومجرى الكواكب فاعل حكيم وقادر عليم هو أرفع من الطبيعة ، مختار في صنعه وقدرته ، وكل فاعل كذلك لا بد أن يكون لفعله غرض عقلي وفائدة حكمية تترتب عليه والغرض إن لم يحصل وقتا من الأوقات ولم يكن مما ينتهي إليه الفعل فلم يكن غرضا صحيحا ، ومحرك هذه الأجرام العالية يمتنع أن يكون تحريكه إياها عبثا وجزافا ، كما قال : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) فإذن لا بد أن يكون خلق الأفلاك وتحريكها إلى غرض واجب البلوغ إليه ، وإذا بلغ الفاعل بفعله غرضه فسبيله لا محالة أن يمسك عن فعله ، فمحرك الأفلاك ومجرى الكواكب سبيله أن يمسك عن تحريكها وإدارتها ويقطع الفعل والعمل ، فإذا أمسك عن فعله وعمله وقفت الأفلاك عن الدوران و

١٠٠