أسرار الآيات

صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي [ ملا صدرا ]

أسرار الآيات

المؤلف:

صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي [ ملا صدرا ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات انجمن اسلامى حكمت و فلسفه ايران
المطبعة: چاپخانه وزارت و فرهنگ و آموزش عالى
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٦

الصور فيها وانحفاظها عن التغير ، كما قال : (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) وقال : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) ثم ينبعث ويتمثل منها في النفوس السماوية الجزئية التي هي قواها الخيالية نقوشا ومثالا جزئية مشخصة بهيئات وأشكال وأوضاع معينة مقارنة لأوقات معينة ، مثل ما يوجد في الخارج كما يتمثل في خيالنا الصور الجزئية وصغريات القياس مثلا ، ليحصل بانضمامها إلى تلك الكليات والكبريات رأيا جزئيا ينبعث عنه إرادة وقصد جازم إلى الفعل المعين ، فيجب عنه الفعل ، وذلك العالم هو لوح القدر ، أي مرآته ومظهره ، وهو خيال العالم ، والسماء الدنيا التي تنزل إليها الكائنات الجزئية أولا من غيب الغيوب ، ثم يظهر في عالم الشهادة على وجه يطابق لما فيها ، وتلك الصور والنقوش من قوى النفس الناطقة السماوية كالصور الخيالية من قوة الخيال لنفوسنا ، وكل منها كتاب مبين ، لقوله تعالى : (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ، (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ، و (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) وقوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها ، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها ، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) وحصول تلك الصور المعينة الموقتة بوقتها المعين في موادها الخارجية هو القدر الخارجي ، كما قال : (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) ولا شك أن وقوعها في الخارج عند حضور ذلك الزمان ضروري ولا مرد لحكمه ، ولا دافع لقضائه ، لأنها موجودة قبل وقوعها الخارجي في عالم آخر ، وذلك العالم هو عالم الملكوت العمالة بإذن الله ، أي المسخرة لأمره المطيعة لكلمته المدبرة لأمور العالم بتحريك المواد وإعدادها وتهيئة القوابل واستعداداتها ، وحامل القدر بما فيه هو عالم الملكوت ، كما أن لوح القضاء بما فيه هو عالم الجبروت.

٦١

قاعدة

في كيفية نزول القضاء من عند الله وبروز الأحكام من مكامن

الغيب إلى مظاهر الشهادة

. اعلم أنه تعالى قد عظم أمر السماء ، وجعلها واسطة الأرزاق وقبلة الدعوات ، ورفع الحاجات ، قال : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) إذ جعلها منشأ الحركات الكلية ، وحدوث الكائنات ، وتولد النباتات والحيوانات ، سيما نوع الإنسان الفائق بنفسه الناطقة ، العارفة لربها على سائر الأكوان ، وذلك لأجل أنه جعلها ذوات نفوس ناطقة كاملة متشوقة إلى لقاء الله ، عاشقة لملكوته الأعلى ، طائفة حول كعبة الجلال ، فلها إدراكات وإرادات عقلية بنفوسها الكلية ، ولها أيضا إدراكات وإرادات بنفوسها الحيوانية الجزئية ، كحال نفوسنا المدركة للكليات المريدة إرادة كلية من جهة العقل ، والمدركة للجزئيات المريدة إرادة جزئية من جهة قوة التخيل ، كل بحسب مرتبة ومقام ، وكل منها يشتاق إلى جوهر قدسي مفارق ، هو مفيض وجودها ومكملها القريب ، تقربا إليه وتشبها به ، لإدراكها لذلك الكمال الذي من شأنها التشبه به ، والخروج من القوة إلى الفعل بسببه ، والتقرب إلى المبدإ الأعلى بواسطته ، فإن النفس بحسب الكمال العقلي بالقوة والإمكان ، وشأنها أن يخرج من ـ القوة إلى الفعل ، ومن الإمكان إلى الوجوب ، وهذا الخروج لا محالة بحركة ، والحركة لا يكون إلا لتعلق بمادة جسمانية ، لأن المفارق عن الجسم بالكلية المجردة عن المادة رأسا لا حركة له ، فحركة السماء نفسانية تابعة لحركة جسمانية ، فلا بد فيها من إرادة كلية وأخرى جزئية. أما الأولى ، فلأن أغراض الفلك ليست كأغراض الحيوان العنصري شهوية أو غضبية ، أو لأجل طلب غذاء أو لدفع آفة أو عدو ، إذ أجسادها ليست مخلوقة من العناصر المتضادة المتكونة من مادة ناقصة غير مستكملة بالصورة حتى يحتاج إلى التكميل والتعديل والتصوير ، وليس لصورة جسمها ضد ولا لنفسها مرض ، فليس لها شهوة ولا غضب ، لأن حركتها

٦٢

ليست لأجل غرض جسماني بل لأجل مقصد علوي ونيل كمال قدسي يكون من شأنها الوصول إليه ولا يمكن إلا بالسعي والتوجه لنفوسها وأبدانها ، لما علمت أن فعل النفس وحركتها لا يكون إلا مع البدن ، فلا بد لأجرامها أن يتحرك ضربا من الحركة. وحركة الأجسام منحصرة في أن يكون في أربع مقولات ، إما في الأين أو في الكم أو في الكيف أو في الوضع ، لكن الفلك لا يمكن أن يكون له حركة إلا الوضعية فقط ، لأنه بالفعل في جميع ما يمكن له من المقدار والأين والكيف ، إلا الوضع بمعنى النسبة إلى الغير ، فيطلب وضعا كليا يستعد به لذلك الكمال وينضم إلى إدراكه الكلي إدراكات جزئية متقدمة بعضها ومتأخرة بعضها.

فينبعث من إرادتها الكلية إدراكات جزئية ، فيتبعها أشواق جزئية يوجب حركات جزئية ، يقع الوصول بها إلى مرادات جزئية ، نسبة الإرادة الكلية إلى الإرادة الجزئية كنسبة المراد الكلي إلى المراد الجزئي ، ولما علمت أن المراد الكلي للفلك التشبه بجوهر كامل عقلي ، بل الاتحاد والصيرورة إياه لا مجرد تحصيل معنى التشبه ، فإنه أمر ذهني لا وجود له في الخارج ، وما لا وجود له لا يكون مقصودا حقيقيا. فالمراد الكلي جوهر كامل عقلي ، والمراد الجزئي أحد جزئياته وهو جوهر نفساني جزئي ، فدائما يتجدد للنفس الفلكية أمثال ويتصل كل منها إلى العالم الأعلى ويتحد بالجوهر المفارق ويوجد بدله. ونحن قد بينا في سائر كتبنا أن طبيعة كل جسم التي هي مبدأ حركته وسكونه وسائر صفاته الذاتية وأفعاله الطبيعية ، أمر متجدد سيال دائما ، فكذلك طبيعة الفلك أمر متجدد سيال. وأيضا قد بينا أن الحيوانية في الفلك ينبعث في كل حين من عالم الطبيعة إلى عالم الملكوت العقلي ويحشر إلى الملإ الأعلى ويوجد بدلها نازلا إلى الفلك من ذلك العالم ، وهكذا يتوارد الأمثال النفسانية ويتجدد الأشكال والأوضاع والطبائع والمواد الجسمانية في هذا العالم في كل وقت ، وتنشأ الآخرة من الدنيا إلى أن يرث الله (الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) والله (خَيْرُ ـ الْوارِثِينَ) ، والخلق غافلون عن ذلك ، لتشابه الأمثال ، كما قال الله تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ، بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) ومن هاهنا يعلم أن العالم حادث

٦٣

كله أفلاكه وكواكبه وبسائطه ومركباته حدوثا زمانيا ، وأن أشخاصها الفلكية والعنصرية كلها متبدلة ، أما الفلكيات فعلى نهج الاتصال ، وأما العنصريات فعلى نهج الانفصال ، وصورها العقلية ثابتة عند الله باقية في علم الله ، فإن علم الله مصون عن التغير والتصرم ، كما قال تعالى : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) وهي كلمات الله التامات التي لا تبيد ولا تنفد ، وقال تعالى : (لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً).

والحاصل ، أن كل حركة سماوية شوقية دورية يحصل للمتحرك بها في كل آن وضع جديد يفيض بذلك الوضع على نفسه من مبدئه العقلي المتشوق إليه صورة عقلية هي كمال له وإشراق نوري توجب لها بقاء بعد فناء وحياة جديدة بعد موت وليسا بكمال بعد خلع فيتجدد منه حركة أخرى وشوق جديد إلى كمال آخر ، فينطبع من تلك الصورة العقلية في قوتها الخيالية صورة حيوانية جزئية أخرى مع لذة جزئية أخرى ، فينبعث منها شوق جزئي واهتزاز وطلب لوضع جزئي يحاكي به الصورة النفسانية المحاكية لتلك الصورة العقلية ، فيتخصص بذلك الوضع الإرادة الأولى الكلية في ذلك الوقت المعين وينزل بحسب كل وضع شخصي وإرادة جزئية من تلك المبادي العقلية ثم النفسانية على مواد هذا العالم بحسب استعداداتها المتعاقبة التابعة للأوضاع السماوية صور تتكمل بها تلك المواد ويتهيأ لقبول الصور التالية لهذه الصور الحاصلة التي سيحدث بالوضع اللاحق السماوي لهذا الوضع الحاصل ، وعلى هذا القياس يتعاقب الحركات ويتوارد الأوضاع فيتوالى الصور على جواهر السماوات ويتلاحق اتصال النفوس بغاياتها ومعشوقاتها العقلية ، ففي كل آن لها حشر جديد وقيامة ساعة قائمة ورجوع إلى الله.

عقدة وحل

فإن قيل : كيف يكون الحركة المتقدمة علة للمتأخرة والوضع السابق علة للوضع اللاحق ، والعلة يجب أن يكون مع معلولها ، والحركة المتقدمة

٦٤

لا تبقى مع الحركة المتأخرة ، والوضع السابق لا يبقى مع الوضع اللاحق.

قلنا : إن النفوس المحركة لها إرادة كلية سابقة لحركة دائمة لغرض عقلي دائم ، ولها إرادة جزئية من نقطة كذا إلى نقطة كذا ، أي من وضع شخصي إلى وضع شخصي آخر ، والإرادة علة للحركة ، والحركة علة للوصول إلى ذلك الوضع وإلى الغرض الجزئي الآخر ، فلا يزال الوصول مع الإرادة الكلية علة للإرادة الجزئية لغرض جزئي آخر ، ولا يتوقف إرادة جزئية على نفس تلك الحركة التي توقفت عليها ـ وإن توقفت على غيرها من نوعها ـ وإلا لزم الدور المستحيل ، ولا يتصرم الإرادة الكلية السماوية وإن تصرمت جزئياتها ، ويدل دوامها على دوام السماوات وتنزهها عن الكون والفساد ، وعلى هذا الوجه من جهة التضاد بين المتفاسدات من الكائنات كما دل على ذلك قوله تعالى : (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) وقوله : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) ، ... (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ).

وهم وإنارة

ولعلك تقول تجدد اللازم ودثوره دليل تجدد الملزوم ودثوره ، كما أن عدم اللازم مستلزم لعدم الملزوم ، ولا شك أن إرادة الفلك وحركته ووضعه لازم لطبيعته ونفسه ، وإذا تجددت الإرادة والحركة والوضع ، فبالضرورة يكون للفلك في كل وقت نفس أخرى وطبيعة أخرى ووجود آخر ، فلما لم يكن لكل فلك إلا ذات واحدة ثابتة لها ، ووجود واحد شخصي ، فلا محالة لم يكن لها من ماهية كل لازم إلا شخص واحد مستمر بالعدد. وأيضا : لما يلزم من تبدل اللازم تبدل الملزوم ، فيلزم أن يكون عالم الأجرام الفلكية عالم ـ الكون والفساد.

فنقول : لما كان تجدد النفوس الفلكية وطبائعها على نعت الاتصال والمتصل الواحد موجود بوجود واحد ضربا من الوحدة ، وإن كان على سبيل التدرج ، وكذا أوضاع الفلك وضع واحد متجدد نسبة ذلك الواحد إلى المتجددات

٦٥

الوضعية كنسبة الحركة التوسطية إلى الحركة القطعية ، فهكذا طبيعة الفلك شخص واحد من حيث لها وحدة مستمرة جامعة محفوظة بواحد عقلي هو عقله المدبر له المقيم لنفسه بإذن الله تعالى ، وإن كان له في كل وقت تشخص آخر ، فبذلك الواحد العقلي والحافظ القدسي صح القول بأن الفلك له ذات واحدة باقية غير داثرة ولا كائنة فاسدة ، فيكون له في كل آن هوية أخرى غير الهوية السابقة ، وصح القول بأنه يحدث في كل آن منه شخص آخر لا بقاء له في زمانين ، ولهذا أطبقت الشرائع الحقة في القول بحدوث العالم جملة لأنه في كل آن يحدث منه شخص غير الذي كان قبله وبعده.

وبالجملة ، فالعالم العقلي مصون عن التغير والفساد ، ولكل موجود في عالم الطبيعة صورة باقية في القضاء الإلهي واللوح المحفوظ عن المحو والزوال ، وله صورة إدراكية في كتاب المحو والإثبات ، وله أيضا صورة أخرى مادية غير إدراكية في المادة الهيولانية التي من شأنها الدثور والاضمحلال ، وهي القدر الخارجي ، والأولى هي القدر العلمي ، وكل منهما قابل للتغير والتبدل ، ففي الأولى المحو والإثبات ، وفي الأخرى الكون والفساد ، وهكذا عند المحققين. وعند بعضهم ، أن القدر هو الثانية دون الأولى ، ويرون أن المحو والإثبات لا يكونان إلا في المواد العنصرية ، والصور الجزئية المنطبعة في الفلكيات ثابتة أبدا بحالها من غير استحالة ، والتحقيق يصادمه من جهة العقل والقرآن جميعا. وقوم جوزوا المحو والإثبات في الصور الإدراكية الفلكية دون الصور المادية الخارجية. ونحن بإذن الله وتوفيقه نرى ، أن ـ المحو والإثبات في نفوسها وفي أجرامها جميعا فيقع في ألواح نفوسها المحو والإثبات أولا ويتبعها الكون والفساد في مواد أجرامها ثانيا ، ثم في سائر المواد الجزئية العنصرية ، ولا شك أن الثاني لازم للأول وكذا الثالث للثاني. ومن نطر إلى أحوال عقله ونفسه وبدنه نظرا وجدانيا ، يجد أن عقله أمر ثابت من أول العمر إلى آخره ، وأن كلا من نفسه الحيوانية وبدنه الطبيعي في التبدل والسيلان ، وكما أن بدنه الطبيعي لأجل الحرارة الغريزية والخارجية في الذوبان والاستحالة والسيلان ، فكذلك هوية نفسه الجزئية الحيوانية المدركة

٦٦

بإدراك حضوري المشعور بها له على الوجه الجزئي ليست إلا متجددة ، حتى أن الحاضر الآن من ذاته الشخصية ليس بعينه هو الهوية العينية الحاضرة له فيما سبق من الزمان. فإذا نعلم جزما بأن مع حكمنا باستمرار ذاتنا ضربا من الاستمرار ، أن هويتنا الحاضرة عندنا الآن غير هويتنا التي كانت منذ سنة ، كذا أيام الصبى والشباب ، وأن هذا الحضور غير ذلك الحضور وأن هذا الحاضر الآن غير ذلك الحاضر من قبل ، إذا ندرك نفسنا التي الآن بعلم شهودي وجودي ، والتي كانت حاضرة لنا في الأمس مثلا ندرك نحو وجودنا الأمسي بعلم ذهني حصولي. نعم نعلم استمرار ذاتنا على نعت الاتصال التجددي ، ولنا كتاب حفيظ يحفظ السابق واللاحق والغائب والحاضر من هويتنا وهو جوهرنا النطقي ، وكأن شيئا من هذا الأمر لاح ـ لبهمنيار ـ حيث أنكر بقاء الذات في الإنسان وباحث مع شيخه ـ أبي علي بن سينا ـ في ذلك إلا أنه لم يسهل له التفصي عما ذكره الشيخ في المفاوضات بينهما بقوله : فلست أنا المسئول عنه ، فلم يلزمني جوابك.

وكان بهمنيار أن يقول له إن للنفس الإنسانية مرتبتان في الوجود : إحداهما ، متصلة بالطبيعة البدنية والأخرى متصلة بالجوهر العقلي مستمدة منه ، فبوجهها الذي يلي الطبيعة ويتعلق بالبدن وتدرك الجزئيات الزمانية ، يكون متبدلة غير باقية ، وبوجهها الذي يلي العقل ، تكون ثابتة باقية مستمرة ، وحال هاتين المرتبتين من ذات الإنسان كحال الحركة التوسطية المستمرة والحركة القطعية المتجددة.

وبالجملة العالم العقلي محفوظ عن التغير والانقطاع ، والعالم الطبيعي متجدد كائن فاسد ، والنفس مترددة بين العالمين ، ولها وجه إلى الطبيعة ووجه إلى العقل ، فبوجهها الطبيعي تدثر وتضمحل ، وبوجهها العقلي يحشر إلى عالم العقل ومأوى الأرواح ويرجع إلى الله تعالى.

حكمة عرشية

اعلم أن السابقين الأولين من الفلاسفة الكاملين ، كأرسطو وأتباعه ،

٦٧

رأوا أن نفوس الأفلاك منطبعة لا غير ، والمتأخرون منهم كأبي علي بن سينا ومن يحذو حذوه ، ذهبوا إلى أنها مجردة فقط. وبعض المتأخرين رأى أن الفلك ذا نفسين ، أحدهما ، منطبعة والأخرى مجردة.

والذي لاح لهذه الفقراء بنور الهداية الربانية ، أن لكل من الأفلاك هوية واحدة نفسانية جامعة لمرتبتي التجرد والتجسم ، فلها نشأتان : إحداهما ، عقلية باقية عند الله ، والأخرى ، نفسانية جزئية متجددة في كل وقت. فبالنظر إلى الجهة العقلية قالت الفلاسفة : إن العالم قديم ، وبالنظر إلى هويتها المتجددة قالت أصحاب الشرائع الحقة : إن العالم حادث. والقول الفصل هو الذي نطق به الكتاب الإلهي : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) ولو اجتمعت فصحاء العالم كلهم على أن يأتوا بمثل هذا الكلام الفصيح المعرب عن هذا المعنى اللطيف والمطلب الشريف على هذا الوجه من الوجازة والبيان ، لما قدروا على ذلك (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ).

تعليم تمثيلي

اعلم أن صورة العالم كصورة الإنسان ، فكما أن لأفعال الإنسان من لدن صدورها منه وبروزها من مكمن غيبها إلى مظاهر شهادتها أربع مقامات ومراتب ، لكونها أولا في مكمن روحه الذي هو غيب غيوبه في غاية الخفاء والبطون كأنه غير مشعور به ، ثم يتنزل الأمر منه إلى عين قلبه عند استحضارها وإخطارها بالبال كلية ، ثم يتنزل إلى مخزن خياله ولوح قدره مشخصة جزئية ، ثم يتحرك أعضاؤه عند إرادة إظهارها في الخارج فيظهر في مادة جسمانية ذات وضع شخصي ، وهذا آخر تنزلاتها. فكذلك لما يحدث في هذا العالم من الحوادث ، إذ المقام الأول بمثابة القضاء البسيط الإجمالي ، والثاني بمثابة صور اللوح المحفوظ ومعدنه العرش الأعظم ، والثالث بمثابة نقش القدر ومحله السماء الدنيا أعني السماوات السبع من حيث نفوسها الانطباعية الخيالية على ما نراه ، والرابع بمثابة الصور الحادثة في المواد الخارجية. ولا شك أن النزول الأول

٦٨

لا يكون إلا بإرادة كلية ، والنزول الثاني بإرادة جزئيه تنضم إلى الإرادة الكلية ، فيتخصص ويصير جزئية ، فينبعث بحسب ملاءمتها ومنافرتها رأي جزئي وشوق جزئي يستلزم إرادة جازمة داعية إلى إظهارها في الخارج ، ويبرز من الغيب إلى الشهادة. فحركة الأعضاء بواسطة الأعصاب والرباطات في الإنسان الصغير ، بمثابة حركة السماء بواسطة الأشعة والأنوار في الإنسان الكبير ، وظهور الفعل في الخارج هو القدر الخارجي ، وكما أن سلطان الروح الكلي الذي هو روح العالم الكبير لا يكون إلا في العرش ، فهو من عالم الكبير بمنزلة الدماغ منا ، وكما أن مظهره الأول فينا هو القلب الذي هو منبع الحياة والحرارة الغريزية ، فكذلك مظهره في العالم هو الفلك الرابع الذي ارتكز فيه الشمس ، وهي سلطان الكواكب النورية ومعطي الأضواء والأنوار الحسية ومنبع حياة العالمين ، فهي من العالم بمنزلة القلب الصنوبري منا. وأما القلب المعنوي الذي هو محل الإيمان والمعرفة والحكمة وهو المذكور في لسان الشريعة والقرآن كقوله تعالى : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) وقوله : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) وقوله : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) فهو النفس الناطقة من ـ الإنسان لتقبلها في الأطوار ، وكونها تارة مع الطبيعة ، وتارة مع العقل ، وهي متجاذبة إلى الجانبين ، مترددة بين النشأتين ، كما ورد في الحديث عن النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء» وروح هذا الفلك الرابع بمنزلة النفس الحيوانية منا المتعلقة بالبخار اللطيف الدخاني المنبعث من القلب الذي حياته ، كأنه ذاتية كالأجسام الأخروية التي حياتها ذاتية لا واردة عليها من خارج ، كما سينكشف في مباحث المعاد وبهذا الروح يحيى جميع الأعضاء وهو كجرم الفلك ، ولذلك وصف الله السماء بالدخان للطافته ، وقبوله النارية والنورية بسرعة ، وهو ، أي الفلك الرابع البيت المعمور المشهور في الشريعة إنه في السماء الرابعة الذي أقسم الله به في التنزيل في قوله : (وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) ولهذا جعلت مقام عيسى روح الله ، وكانت معجزته إحياء الموتى لغلبة روحانيته وتجرده وقوة حياته ونورانيته. والطور يراد به العرش ،

٦٩

والكتاب المسطور بالقلم الأعلى ، هو صورة القضاء الأول البسيط الثابت في الروح الأعظم الأول ، والرق المنشور هو النفس الكلية المدبرة للعالم ، والسقف المرفوع هو السماء الدنيا على المعنى الذي سبق. فإن هذه السماوات الجسمانية بإزاء سماوات عقلية روحانية في العالم الأعلى العقلي ، فهي السماوات العلى في الحقيقة. إذ لا شك أن عالم الأجسام كله بالنسبة إلى عالم الروحانيات بمنزلة الأرض السفلى والمنزل الأدنى ، والبحر المسجور هو بحر الهيولى السيالة الممتلئة بالصور الطبيعية الكائنة الفاسدة المتواردة عليها على التعاقب كأمواج البحر ، وإنما وصف بحر الهيولى بالمسجور ، لأن هذه الطبائع الجسمية والصور الكونية باطنها نار الجحيم وهي نار كامنة في كل جسم ، وإن كان مثل الماء والأرض والجبال ، إلا أنها منغمرة في بعضها بحيث لا يبرز إلا بجهد جهيد وتحريك وسحق شديد ، بخلاف البعض الآخر ولذلك ما من جسم طبيعي إلا وينقلب إلى النار بالحركة والتلطيف والخضخضة ، وأهل الكشف يشاهدون النار الكامنة في بواطن الأجسام الطبيعية كلها رطبها ويابسها وباردها وحارها ، ويرون النار الأخروية في باطن جواهر الدنيا ، كما قال تعالى في حق آل فرعون : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) وقوله : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) وعن بعض الصحابة رأى بحرا فقال يا بحر ، متى تصير نارا

٧٠

المشهد الثالث

في دوام إلهيته وجوده ورحمته وكيفية صنعه وإبداعه وفيه قواعد :

قاعدة

اعلم أن جماعة من المتكايسين الخائضين فيما لا يغنيهم ، زعموا أن إله العالم كان في أزل الآزال ممسكا عن جوده وإنعامه ، واقفا عن فيضه وإحسانه ، ثم سنح له في أن يفعل ، فشرع في الفعل والتكوين والتقويم ، فخلق هذا الخلق العظيم الذي بعضه مكشوف بالحس والعيان وبعضه معلوم بالقياس والبرهان. وهذا الرأي من سخيف الآراء ومن قبيح الأهواء ، فإن صفات الحق تعالى عين ذاته وكمالاته الفعلية التي هي مبادي أفعاله كالقدرة والعلم والإرادة والرحمة والجود كلها غير زائدة على ذاته تعالى ، وكذا الغاية في فيضه وجوده ، والداعي له على ذلك ليس إلا نفس علمه بالنظام الأكمل الذي هو عين ذاته ، فإن ذاته هو النظام المعقول الواجبي الذي يتبعه النظام الموجود الممكني ، لا كاتباع الضوء للمضيء واتباع السخونة للجوهر الحار. والذي دعاهم إلى هذا الظن القبيح المستنكر ، ما توهموا أن حدوث العالم حسبما اتفق عليه أهل الشرائع الحقة من اليهود والنصارى والمسلمين تبعا لإجماع الأنبياء عليهم‌السلام ، يستدعي ذلك ، ولا يستصح إلا بنسبة الإمساك عن الجود وتعطيل الفيض إلى الله المعبود. وقدا وضحنا السبيل وأقمنا الدليل كما ستقف إن شاء الله تعالى حسبما فصلنا في كتبنا ورسائلنا ، على أن العالم بكله وجزئه حادث زماني ، وذلك

٧١

لا ينافي كونه تعالى قائما بالقسط والعدل والجود والكرم أزلا وأبدا.

وربما توهموا أن مختاريته تعالى أوجبت تجدد الفاعلية واستيناف الفعل بعد ما لم يكن. وهذا أيضا من تلفيقات الأوهام ومختلقات الذهن التي من قبيل أضغاث الأحلام ، فإن اختياره جل ذكره أجل وأرفع من النمط الذي تصوروه من طرفي الجبر والاختيار ، إذ لم يفهم جمهورهم من الجبر إلا في الطبائع العديمة الشعور ، ولا من الاختيار إلا في القصد الذي يكون في الحيوان بعد حصول الداعي عقيب القدرة التي شأنها القوة الإمكانية المتساوية نسبتها إلى الضدين والطرفين ، وهذه لا يوجد إلا في الناقصين في القدرة المفتقرة في كونها مبدأ للفعل إلى انضمام الداعي من الخارج. وأما القدرة الأزلية فليست كما زعموه وجلت وتقدست عما اعتقدوه في حقها ، لأنها عين الإرادة وعين الداعي الذي هو علمه تعالى بالكل على الوجه الأتم الأعلى ، فهو تعالى بنفسه قادر مريد خالق لما يشاء كيف يشاء فاعل لما يريد كيف يريد فكان خالقا لم يزل ولا يزال ، فاعلا للعالم كما يعلم في الآباد والآزال ، فيكون الخلق قديما والمخلوق حادثا والعلم قديما والمعلوم متجددا ، وكذا الإرادة والإفاضة والرازقية كلها مستمرة أزلية ، لكن المرادات والمفاضات والأرزاق حادثة متجددة (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) لعدم تغيره في ذاته وكمالات ذاته وما يقتضيه صفاته الكمالية (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) إذ لا محول لفيضه وإعطائه ولا مبطل لقيوميته وإنشائه ولا مبدل لكلماته. قوله : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) وقوله : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) وقد علمت أن قوله إبداعه وأمره كلمته وتكوينه. وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) وأمره دائم ، والأمر الدائم لا يتغير ولا يوجب تغير المأمور في ذاته تغير الأمر ، كما لا يوجب تغير الأمر لأن الأمر من عالم الإلهية والبقاء والمأمور من عالم الخلق والفناء والدثور.

وإياك أن تشتبه عليك وتلتبس ما قررناه من تجدد الخلق والتكوين مع بقاء الأمر والإبداع بكلام الأشاعرة ، أتباع أبي الحسن الأشعري ، حيث قالوا : إن العلم قديم والتعلق حادث وكذا القدرة قديمة وتعلقها بالمقدورات حادثة

٧٢

فشتان بين ما ذكروه وبين ما قررناه فإن الذي تخيلوه لا يمكن تصحيحه على نمط البيان العلمي ، لأن مبناه على الإرادة الجزافية التي ذهبوا إليها ، وعلي إبطالهم القول بالعلة والمعلول. وأيضا : كون العلم والقدرة وغيرهما من الصفات التي تلزمها الإضافة قديمة ومتعلقاتها حادثة غير معقولة بناء على مذهبهم من انقطاع الفيض وتخصيص آن من الآنات بأول الحدوث. وكذا قول جمهور قدماء المعتزلة بكون علمه تعالى بالأصلح علة مقتضية لوجود العالم في الوقت الذي وجد فيه دون غيره من الأوقات ، وليس يلزم من هذا تخلف المعلول عن العلة المقتضية ، لأن الذي اقتضاه العلم بالأصلح هو وجود المعلول على هذا الوجه ، فلم يلزم تخلف أصلا. وكذا قول بعضهم بأن الداعي ذات الوقت على سبيل الأولوية أو على سبيل الوجوب ، إذ لا وقت قبله ونحو ذلك من الملفقات الكلامية التي لا جدوى فيها إلا تضييع الوقت. فإن كون الصفات الفعلية قديمة والآثار اللازمة حادثة أنما يستقيم ويستثبت إذا كان نحو وجود الخلق والمواد الجسمانية وطبائعها متجددة منقضية بحيث لا بقاء لها زمانين ، لأن شأنها التجدد والحدوث وماهيتها يقتضي الزوال والانصرام والانقضاء ، كالحركة والزمان ، لكن معنى الحركة نفس المعقول من تجدد شيء وخروجه من القوة إلى الفعل تدريجا بالمعنى الذهني المصدري.

وأما الذي كلامنا فيه فهو نفس الموجود الذي وجوده بعينه يخرج من القوة إلى الفعل على التدريج ، وهو من مقولة الجوهر الذي يقع فيه وبه الحركة الذاتية والحدوث والتجدد من لوازمه الغير المجعولة بجعل مستأنف يتخلل بين الشيء وموصوفه ، فالجاعل القديم بقدرته القديمة وبنحو ثباته يفعل الجوهر الجسمانية ، وهي من حيث أصل ذاتها وثبات وجودها الذي هو عين الحدوث والتجدد مرتبطة بالفاعل وبقدرته التامة ، ولا لمية لها في نحو حدوثها وتجددها إذ لا يتصور لها وجود خارجي إلا على هذا النحو فلا صنع للفاعل إلا في إفاضة الوجود عليها على الوجه الأتم الأبلغ ، لا في كونها حادثة الوجود ناقصة الكون متجددة الهوية والذات ، إذ الذاتي لا يعلل ، فعلى هذا الوجه صح القول بأن القدرة والإرادة والجود أزلية والعالم حادث ، لا على

٧٣

ما لفقوه ، كما لا يخفى على ذي بصيرة. قوله : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ، وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) قوله : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) وقوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) وقوله : (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً).

قاعدة

في تحقيق كلماته التامات

اعلم أن بين الباري جل مجده وبين العالم وسائط نورية وأسبابا فعالة هي كأنها فوق الخلق ودون الخالق ، لأنها حجب إلهية وسرادق نورية وأضواء قيومية كأضواء هذه الشمس المحسوسة ، كأنها برزخ بين الذات النيرة وبين الأشياء المستنيرة بها ، وتلك الوسائط قد يعبر عنها بكلمات الله وبالكلمات التامات كما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الأدعية والأذكار «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، وقوله : أعوذ بكلمات التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر كل شيطان مريد» وإنما وقعت الاستعاذة من الشرور بكلمات الله ، لأنها من عالم الأمر ، وهو خير كله لا شر فيه ، وكل ما في عالم الخلق كالأجسام وعوارضها اللازمة والمفارقة كلها مملو بالشرور والنقائص والآفات. قوله : (لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) فالكلمات إشارة إلى ذوات نورية بها يصل فيض الوجود إلى الأجسام والجسمانيات ، والبحر إشارة إلى هيولى الأجسام التي شأنها القبول والتجدد. وإنما يقع تجدد الفيض بحسب توارد انفعالاتها واستعداداتها ، وإنما يتلاحق استعداداتها بمدد بعد مدد من العوالي ، فشأن المواد النفاد والانقطاع ، وشأن الكلمات الإفاضة بعد الإفاضة ، ولا شك أن الوسائط هويات وجودية بسيطة وذوات مجردة عن المواد الجسمية مرتفعة عن عالم الأزمنة والأمكنة ، وكل مجرد أمر روحاني وجوده عين العلم والإدراك ، فهي لا محالة عقول قدسية وأرواح عالية ، قال الله

٧٤

تعالى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) وهي متصلة بالحق الأول اتصال الشعاع بالشمس ، ولهذا أضيفت إليه تعالى بقوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ، لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) وإنما وصفت بأنها تامات ، إذ جميع ما لها من الكمال هو بالفعل ، ليس فيها شوب قوة استعدادية ولا كمال ينتظر ولا أحوال مترقبة الحصول. وقد يعبر عنها بعالم الأمر كما يعبر عن الأجسام وما معها بعالم الخلق ، قال تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فجميع ما في عالم الأجسام إنما يصدر عن المبدإ الأعلى بواسطته. وقد يعبر عنها بقوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقال : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) والأسماء متكثرة والمسمى واحد باعتبار حيثيات مختلفة ، فمن حيث يقع بها إعلام الحقائق من الله ، يقال لها الكلمات ، ومن حيث يجب بها وجود الكائنات كل في وقته ، يقال أمر الله وقضاؤه الحتمي ، ومن حيث يكون بها حياة الموجودات يقال لها روح (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) وهي في ذاتها واحدة (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) وإنما يتعدد ، بتعدد أنواع الآثار (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أو باعتبار جهات فيضانها على الأشياء ، أو باعتبار تعلقاتها بها ، فيتكثر بتكثرها ، كالوجود حقيقة واحدة تتكثر بتكثر الماهيات ، لا بأن يكون للماهيات تأثير في الوجود ، بل باعتبار اتحاد الماهية بالوجود. وبالجملة كلمات الله أمر موجود روحاني مؤيد للأنبياء بالوحي ، قال الله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) وملهم للأولياء بالكرامة ، ومحيي لقلوب السالكين من المؤمنين بالإيمان ، وأيدهم بروح منه ، وهو والد لنفوس المكرمين ، (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) وهذا هو الروح العلوي الذي قيل : إنه لم يقع تحت ذل كن ، لأنه نفس كلمة كن ، وهو بعينه نفس الأمر ، لأنه أمر الله الذي به يوجد الأشياء ، ولا شبهة في أن قول الحق وكلامه فوق الأكوان وأعلى منها ، إذ بها يقع الفعل والتأثير والتكوين. فكيف يقع تحت الكون وقال : (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا).

٧٥

قاعدة

في أن الله سبحانه فاعل لما سواه وموجد لما عداه على أربعة أنحاء

: الأول ، الإبداع وهو إيجاده لأفعال تولاها بذاته ، وهي الإبداعيات. ومعنى الإبداع هو إيجاد الشيء عن العدم ، أي إيجاده لا من شيء ، لست أقول من لا شيء وإليه أشار بقوله : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ ...). والثاني التكوين ، وهو إيجاد أفعال استعبد فيها ملائكته وسماها قوم : التكوينيات. والثالث ، التدبير وهو إخراج الشيء من النقص إلى الكمال إخراجا غير محسوس ، وهو معنى الربوبية ، كقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وقوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وبذلك وصف الله تعالى ملائكته بقوله : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً). فالمقسمات وهم ثلاثة أضرب : ضرب إليهم القيام بالأجرام السماوية ، وقيل هم إسرافيل وميكائيل وجبرئيل ورضوان والمحتفون بالعرش الموصوفون بقوله : (حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) وقوله : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) وضرب إليهم تدبير الأركان الهوائية ، كالملائكة الباعثة للرياح والموجبة للسحاب الموصوفين بقوله (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) وكما وصفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في صفة الجنين «إنه تعالى يبعث ملكا فينفخ فيه الروح» وكالحفظة كما في قوله : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) وقوله : (يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ ...) إلى قوله : (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ). والرابع ، التسخير ، وهي أفعال سخر الله تعالى لها موجودات هذا العالم ، كالإضاءة للشمس والإنارة للقمر والإحراق والإذابة للنار والترطيب للماء ، وبالجملة ما سخر الله له شيئا من الأجسام كالأفلاك والعناصر والجمادات والنباتات وغير ذلك. ونبه عليه بقوله (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) وقوله :

٧٦

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ) و (سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) إلى غير ذلك من الآيات.

الخامس ، الصناعة وهي المهنة وهي التي استعبد الإنسان فيها واستخلفه ، وهي الأشياء التي يحتاج صنعة أكثرها إلى ستة أشياء. إلى عنصر يعمل منه ، وإلى مكان ، وإلى زمان ، وإلى حركة ، وإلى أعضاء ، وإلى آلة. وهذا الضرب خص الإنسان به ولم يستصلح لها الملائكة كما استصلح الملائكة لأمور لم يستصلح لها الناس ، وجعل لكل ملك مقاما معلوما (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) وكذا جعل لكل من أصناف الناس مقاما معلوما كما نبه بقوله : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) وقوله : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كل ميسر لما خلق له» ولكن عامة الملائكة ، لا يعصون الله في ما أمرهم ، (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ، لبساطتهم وعدم تركبهم من أمشاج. والناس فيما أمروا وكلفوا بين مطيع وعاص ، فهم على القول المجمل ثلاثة أضرب : ضرب أخلوا بأمره وانسلخوا عما خلقوا لأجله واتبعوا خطوات الشيطان وعبدوا الطاغوت. وضرب وقفوا بغاية جهدهم حيثما وقفوا كالموصوف بقوله : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً). وضرب ترددوا بين الطريقين كما قال : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) فمن رجح حسناته على سيئاته ، فهو موعود بالإحسان إليه. وعلى الأنواع الثلاثة دل بقوله : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً ، فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) وعلى هذا قسم في آخر السورة وقال : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ...).

وكثير من الناس يعصون الله ولا يأتمرون له ولكن يستعملهم الله تعالى بغير إرادة للسعي في تصرفه من حيث لا يشعرون ، كفرعون في أخذ موسى ابنا له وتربيته إياه ، وكجمعه السحرة في إيمانهم بالله وبموسى ، وكإخوة يوسف في فعلهم بيوسف ما أفضي به إلى ملك مصر وتمكنه مما مكن فيه ، ويكون مثلهم في ذلك كما قيل :

قصدت مساءتي فاجتلبت مسرتي

وقد يحسن الناس من حيث لا يدري

فيكون فعله محمودا وفاعله مذموما ، كما قيل : رب امرئ أتاك لا يحمد الفعال فيه ويحمد الأفعالا.

٧٧

قاعدة

في عالم أمره تعالى.

أول الصوادر عن ذاته تعالى بذاته يجب أن يكون أشرف الممكنات وأفضل المفطورات وأكرم المربوبات ، وهي الصور المجردة الإلهية والأنوار المفارقة العقلية دون شيء من الجواهر الجسمانية وطبائعها وقواها التي هي من عالم الظلمات ومعدن الشياطين والشرور والآفات ، فإن الواهب الحق والجواد المطلق لا يترك الأشرف ويفعل الأخس ، بل يجب أن يصدر من فيض جوده الأشرف فالأشرف إلى أن ينتهي إلى الأخس فالأخس ، فما من شيء من الممكنات سواء كانت شريفا أو خسيسا ، عاليا أو دنيا ، روحانيا أو جسمانيا إلا ويجب أن يسع إليه رحمته ولا يقصر رداء جوده وكرمه أن يشمله ، إذ لا منع في فاعليته ولا راد لقضائه ولا قصور في إحسانه ولا دافع لأمره ، لكن يجب في قضية البرهان أن يصدر عنه الأشياء على حسن الترتيب والنظام وجودة الهيئة والتمام على حسب توسيط وسائط في جوده ووسائل لكرمه وفيض وجوده ، عبر عنها تارة بالملكوت لقوله : (وَكَذلِكَ ، نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) وتارة باليمين المقدس (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) وتارة باليد المبسوطة المنسوبة إليه تعالى (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ، ، (قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا ، بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ، يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) وتارة بالأعين الإلهية (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) وتارة بمفاتيح الغيب (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) وتارة بالخزائن لاختزان الصور العلمية فيها (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) وتارة باسمه تعالى (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) ، (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) وتارة بجنود الرب (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) لأنها مرتفعة الذوات عن أن يحيط به إدراك الجن والإنس ولذلك قال (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) وإليهم الإشارة بقوله : (وَما لا تُبْصِرُونَ).

والعقل الأول أول ما ينفتح به باب الفيض والإبداع ، ونسبته إلى سائر الجواهر الروحانية نسبة آدم إلى أولاده. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

٧٨

«أول ما خلق الله العقل» وهذا العقل له وجه إلى الحق ، لأنه يجب به وجوده ، ووجه إلى ذاته ، لأنه هوية صادرة عن الحق الأول مغايرة له ، فلا بد له من أن يتضمن معنى النقص والإمكان ، وإلا لم يكن بين المفيض والمفاض عليه فرق ، فلتضمنه جهة الخير والوجوب يصدر بواسطته عقل آخر دونه في الرتبة ، ولتضمنه معنى النقص والإمكان ، يصدر منه جوهر جسماني فيه الإمكان الاستعدادي ، وهو أول الأفلاك وأعلاها ، وهكذا صدر عن كل عقل بحسب جهتيه جوهر قدسي وجرم سماوي ، الأشرف من الأشرف ، والأخس من الأخس ، حتى استوفى عدد الكرات إلى فلك القمر ، وعدد العقول إلى عقل أخير. والحق أنها متكثرة جدا حسب تكثر الأنواع الطبيعية ، حتى يكون لكل كرة سماوية أو كوكبية ولكل نوع من الطبائع النوعية البسيطة كالنار والهواء والماء والأرض ، والمركبة كأنواع المعادن والنباتات والحيوانات ، عقل فعال ذو عناية وتدبير وحفظ لأفراد ذلك النوع.

ففي عالم الأرواح العقلية كثرة وافرة خارجة عن إحصائنا وضبطنا لا يعلم عددها إلا الله كما قال : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) وإليها الإشارة بقوله تعالى (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) ... (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) وقوله (السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ ...) وقوله : (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) فللحق الأول أيد عمالة فعالة لا بجوارح جسمانية ، بل ذوات نورية هي وسائط جوده وجهات فاعليته ، وإفاضته على الأشياء وهي كأنها في طريق الإيجاد مباد فعالة لهذه الأنواع ، فهي كما أنها مباد لوجود طبائع الأشياء وحركاتها ، كذلك هي غايات لوجود هذه الطبائع واستكمالاتها ، بها يتم ذواتها ويكمل وجوداتها ، ولأجلها يفعل آثار حركاتها واستحالاتها ، وبها يتم النظام ويكمل الخلق ، وللتشوق إليها يدور الأفلاك ويتواجد الأملاك ليلا ونهارا ، سرا وجهارا ، وبسبب ذلك تعمر الدنيا ويدوم الحرث والنسل (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) إشارة إلى النظام المحكم والقوام الأتم الأدوم ، ولأجل وجود هذه المقومات العقلية للأنواع الطبيعية كلها قال : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) وإليها الإشارة بقوله : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) وذلك لأن

٧٩

هذه الطبائع النوعية هي ظلال وقوالب لتلك الذوات النورية والأرواح المهيمة العقلية ، وهي ظلال وقوالب للأسماء الإلهية التي هي عند محققي العرفاء بمنزلة أرباب الأرباب لتلك الأعيان الثابتة النوعية العقلية ، وتلك الأسماء كلها موجودة بوجود واحد إلهي هو الغيب المطلق وغيب الغيوب ، وما في هذا العالم شهادة مطلقة.

وأما الأسماء والأعيان العقلية وكذا الصور المثالية ، فكل منها غيب بالنسبة إلى ما تحتها ، وشهادة بالنسبة إلى ما فوقها. وقد علمت أن أمره تعالى يجب أن يكون موجودا مفارقا عن الأكوان الخلقية فهو لا محالة متقدم على عالم الأكوان الخلقية (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وهم العارفون بكيفية صنعه تعالى في الإبداع والإيجاد وإدامته وحفظه للأشياء حسبما يحتمله الأشخاص والأنواع ، فمنها ما يحتمل الدوام الشخصي ويمكن حفظه بالعدد ، ومنها ما لا يحتمل إلا الدوام النوعي ولا يمكن حفظه إلا بالنوع لا بالعدد ، يديمه بالنوع ويحفظ نوعه بالصور العقلية التي حقيقته ثابتة في صقع عالم الربوبية وبتوارد الأمثال التي هي كالأظلال والأشباح. فما من شيء من الموجودات الكونية إلا وله ظاهر وباطن ، فظاهره قشر ظلماني ، وباطنه لب نوراني على اختلاف الأشياء في الشرافة والخسة ، فالمنسوب إلى الله من كل شيء لبه ولطيفه وباطنه النوراني لا قشره وظاهره الكدر الظلماني لأن الظلمة والكدورة منشؤهما العدم والنقصان ومنبعهما الإمكان (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ، (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.) أي لطائفها وأرواحها ولذلك عقبه بقوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ).

قاعدة

في أن جميع الموجودات متوجهة نحو الخير الأقصى والمبدإ

الأعلى طالبة للحق ، سالكة في طريقه ، مشتاقة إلى لقائه

. قال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) ، وهذا سجود

٨٠