أسرار الآيات

صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي [ ملا صدرا ]

أسرار الآيات

المؤلف:

صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي [ ملا صدرا ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات انجمن اسلامى حكمت و فلسفه ايران
المطبعة: چاپخانه وزارت و فرهنگ و آموزش عالى
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٦

قاعدة

في الإشاره إلى عمدة مقاصد الكتاب الإلهي وأصول معاقده وأحكامه

اعلم أولا ، أن سر نزول القرآن ومقصده الأقصى ولبابه الأصفى ، دعوة العباد إلى الملك الأعلى ، رب الآخرة والأولى ، والغاية المطلوبة فيه تعليم ارتقاء العبد من حضيض النقص والخسران إلى أوجه الكمال والعرفان وبيان كيفية السفر إلى الله طلبا لمرضاته ولقائه ومجاورة لمقربيه ، وتنعما للروح السعيدة بما في حضرة ملكوته ، وانسراحا للنفس في روضات جنانه ، ونجاتا لها عن دركات الجحيم ومجاورة مؤذياتها والتعذيب بنيرانها وعقاربها وحياتها ، ولأجل ذلك انحصرت فصوله وأبوابه وسوره وآياته في ثلاثة مقاصد هي كالدعائم والأصول والأعمدة المهمة ، وثلاثة أخرى هي كالروادف والمتممات واللواحق والمعينات.

أما الأصول المهمة فأولها ، معرفة الحق الأول وصفاته وأفعاله.

وثانيها ، معرفة الصراط المستقيم ودرجات الصعود إلى الله وكيفية ـ السلوك عليه وعدم الانحراف عنه.

وثالثها ، معرفة المعاد والمرجع إليه وأحوال الواصلين إليه وإلى دار رحمته وكرامته ، وأحوال المبعدين عنه والمعذبين في دار غضبه وسجن عذابه ، وهو علم المعاد والإيمان باليوم الآخر.

وأما الثلاثة الأخيرة ، فأحدها ، معرفة المبعوثين من عند الله لدعوة الخلق ونجاة النفوس عن حبس الجحيم وسوقهم إلى الله ، وهم قواد سفر الآخرة ورؤساء القوافل ، والمقصود منه الترغيب إلى الآخرة والتشويق إلى الله.

وثانيها ، حكاية أقوال الجاحدين وكشف فضائحهم وتسفيه عقولهم في غوايتهم وضلالتهم وتحريهم طريق الهلاك ، والمقصود فيه التحذير عن طريق الباطل والتثبت على الطريق المستقيم.

وثالثها ، تعليم عمارة المنازل والمراحل إلى الله والعبودية وكيفية

٢١

أخذ الزاد والاستعداد برياضة المركب وعلف الدابة لسفر المعاد ، والمقصود منه كيفية معاملة الإنسان مع أعيان هذه الدنيا التي بعضها داخلة فيه ، كالنفس وقواها الشهوية والغضبية برياضتها وإصلاحها حتى لا يكون جموحا بل رائضة حمولة يصلح للركوب في السفر إلى الآخرة والذهاب إلى الرب تعالى ، كما في قوله تعالى حكاية عن الخليل عليه‌السلام : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) وهذا العلم يسمى تهذيب الأخلاق. وبعضها خارجة ، إما مجتمعة في منزل واحد كالوالد والولد والأهل والخدم ، ويسمى تدبير المنزل ، أو في مدينة واحدة أو أكثر ، ويسمى علم السياسة وأحكام الشريعة ، كالقصاص والديات والأقضية والحكومات وغيرها ، فهذه ستة أقسام من مقاصد القرآن ونحن نقتصر في هذا الكتاب على إيراد القواعد المتعلقة بالثلاثة المهمة التي هي بالحقيقة أركان الإيمان وأصول العرفان ، وقد فتح الله على قلبنا من أبوابها ما لم يذكر في شيء من المصنفات من أسرار الآيات ورموز الكلام الإلهي.

وأما قواعد العلوم الفرعية فقد نصب الله لها أقواما قد استفرغوا جهدهم في تحصيلها وفنوا أعمارهم في شرحها وتفصيلها شكر الله حسنات مساعيهم وأثابهم جنات الأعمال (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

فالمقصد الأول ، وهو المعروف بمعرفة الربوبية مشتمل كما أشرنا إليه على ثلاث مراتب : معرفة الذات الإلهية ، ومعرفة صفاتها وأسمائها ، ومعرفة أفعالها.

أما معرفة الذات ، فهي أضيقها مجالا ، وأرفعها منالا ، وأبعدها عن الفكر والذكر ، إذ حقيقة الواجب ، جل مجده ، هوية بسيطة غير متناهية الشدة في ـ النورية والوجود ، وحقيقته عين التشخص والتعين ، لا مفهوم له ، ولا مثل ولا ـ مجانس ولا مشابه ، ولا حد له ، ولا برهان عليه ، بل هو البرهان على كل شيء فلا أعرف من ذاته ولا شاهد عليه ، بل هو الشاهد على الكل (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ، وهو القائم (عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) ، (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) ، (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) وليس للمعلول المقهور عليه أن يحيط بعلمه العلة له والقاهر عليه ، وإلا ، لانقلب المعلول علة ، والمقهور

٢٢

قاهرا ، وهو محال (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) ولهذا ورد النهي عن التفكر في ذات الله ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «تفكروا في آلاء الله ، ولا تتفكروا في ذات الله» ولأنه تحترق النفس في إدراك أشعة نور وجهه ، فكيف في نور وجهه فلا يمكن الوصول إلى معرفة ذاته إلا بفناء السالك عن نفسه ، وباندكاك جبل إنيته ، حتى شهد ذاته تعالى على ذاته ، كما قال بعض العارفين «عرفت ربي بربي ، ولو لا ربي ما عرفت ربي» وعن أبي عبد الله عليه‌السلام «من زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك ، لأن حجابه ومثاله وصورته غيره ، وإنما هو واحد متوحد ، وكيف توحده من زعم أنه عرفه بغيره. وإنما عرف الله من عرفه بالله ، فمن لم يعرفه به ، فليس يعرفه وإنما يعرف غيره» ولأجل ذلك لا يشتمل القرآن من معرفة الذات في الأغلب ، إلا على تقديسات محضة وتنزيهات صرفة وسلوب عن نقائص وإمكانات كقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وكقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وكقوله : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ ـ الْفُقَراءُ) وكسورة الإخلاص ، أو على تلويحات وإشارات إلى التعظيم المطلق ، كقوله : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) وقوله : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) ، و (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) وقوله تعالى (عَمَّا يَصِفُونَ) أو إضافات محضة كقوله :

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وقوله : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ).

وأما الصفات ، فالمجال للفكر فيها أفسح ، ونطاق النطق فيها أوسع ، لأنها مفهومات عقلية يقع فيها الاشتراك ، إلا أنها فيه على وجه أشرف وأعلى ، وأن مصداقها في الأول تعالى ذاته بذاته ، وفي غيره ليس كذلك. ولأجل ذلك اشتمل القرآن على ذكر تفاصيلها في كثير من الآيات ، كما في قوله : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وقوله : (هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وكقوله : (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) وقوله : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) وفي هذا القسم أيضا غموض شديد ، وتعسر تام ، ولا يمكن معرفة بعض الصفات ، كالكلام والصفات التشبيهية ، إلا لأهل البصائر الثاقبة ، كالسمع ، والبصر ، والاستواء على العرش ، والابتلاء ، والمماكرة ، والتردد ، والذهاب ، والمجيء ، والكراهة ، والتأذي ، وكالوجه ، واليد ، والجنب ،

٢٣

والقدم ، وغير ذلك مما لا يعرفه إلا الراسخون في العلم.

وأما الأفعال ، فبحر متسع أطرافه ، ولكل أحد أن يخوض فيه ويسبح في غمراته بقدر غزارة علمه وقوة سباحته ، لكن لا ينال بالاستقصاء أطرافه ، لأنها مرتبطة بالصفات كالصفات بالذات ، بل ليس في الوجود إلا ذاته وصفاته وأفعاله التي هي صور أسمائه ومظاهر صفاته ، لكن القرآن مشتمل على الجلي منها ، الواقع في عالم الشهادة تصريحا وتفصيلا ، وعلى الخفي منها ، الواقع في عالم الغيب تلويحا وإجمالا.

فالأول ، كذكر السماوات والأرض والكواكب والشمس والقمر والجبال والبحار والسحب والأمطار وسائر أسباب الكائنات ، والحيوان ، والنبات. لكن أشرف صنائع الله وأعجبها وأعظمها وأدلها على جلال الله وعلوه ومجده ، ما هو محجوب عن الحس ، بل هو من عالم الملكوت ، وهي الملائكة والروحانيات والروح والعقل والنفس واللوح والقلم ، بل العرش والكرسي عند بعض ، فإن هذه كلها خارجة من عالم الملك والشهادة ، ومن أداني عالم ـ الملكوت هي الملائكة العمالة الموكلة بعالم الأرضين ، ومنهم كتبة الأعمال ، وملائكة جانب الشمال وكرام الكاتبين. قوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ، (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) فالسائق للعمل والشهيد للاعتقاد ، (وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) وقوله : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ، كِراماً كاتِبِينَ ، يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) ومنهم أعوان ملك الموت وسدنة النيران ، (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) ومنهم الساكنين في البراري والجبال ، ودونهم الجن والشياطين المسلطين على جنس الإنس الذين امتنعوا عن السجود لآدم عليه‌السلام ، ومن أعاليهم الملائكة السماويون ، أي ، (الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) ... ، (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ). وأعلى منهم حملة العرش والكروبيون ، وهم العاكفون في حظيرة القدس ، لا الالتفات لهم إلى هذا العالم ، بل لا التفات لهم إلى غير الله ، لذهولهم عن ذواتهم واستغراقهم في شهود الحضرة الإلهية ، وهم من أهل الفناء في التوحيد ، ويقال لهم الملائكة المهيمة ، ولا يستبعد أن يكون في

٢٤

عباد الله من يشغله مطالعة جلال الله عن الالتفات إلى نفسه فضلا عن غيره.

وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إن لله أرضا بيضاء ، مسيرة الشمس فيها ثلاثون يوما ، هي مثل أيام الدنيا ثلاثين مرة ، مشحونة خلقا لا يعلمون أن الله يعصى في الأرض ، ولا يعلمون أن الله خلق آدم وإبليس» وأكثر الخلق إدراكهم مقصور على عالم الحس والتخيل وإنهما النتيجة الأخيرة من نتائج عالم الملكوت وهو القشر الأقصى من اللب الأصفى ، ومن لم يجاوز هذه الدرجة لا يعرف من القرآن إلا ما له نسبة القشر الأخير من الجوز ، والبشرة من الإنسان. فهذه مجامع القسم الأول من الثلاثة للأصول ، وقد انقسم إلى ثلاثة أقسام ، فهي مع القسمين الأخيرين اللذين أحدهما معرفة النفس وأحوال الآخرة وكيفية صعودها إلى الله ومرورها على الصراط المستقيم وسلوكها درجات طريق الحق وهبوطها وانحرافها عن الصراط وسقوطها عن الفطرة ، ومرورها على دركات الجحيم. وثانيهما ، معرفة المعاد وأحوال يوم القيامة والبعث والحشر والصراط والميزان والحساب والكتاب والثواب والعقاب في الجنة والنار ، فالمجموع خمسة أقسام نذكرها في أطراف ثلاثة.

٢٥

الطرف الأول في علم الربوبية وفيه مشاهد :

المشهد الأول

في معرفة الحق الأول جل ذكره ووحدانيته وفيه قواعد :

قاعدة

في إثبات وجوده (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)

اعلم أن أعظم البراهين وأسد الطرق وأنور المسالك وأشرفها وأحكمها هو الاستدلال على ذاته بذاته ، وذلك لأن أظهر الأشياء هو طبيعة الوجود المطلق بما هو مطلق ، وهو نفس حقيقة الواجب تعالى ، وليس شيء من الأشياء غير الحق الأول نفس حقيقة الوجود ، لأن غيره إما ماهية من الماهيات ، أو وجود من ـ الوجودات الناقصة المشوبة بنقص أو قصور أو عدم ، فليس شيء منها مصداق معنى الوجود بنفس ذاته ، وواجب الوجود هو صرف الوجود الذي لا أتم منه ولا حد له ولا نهاية ولا يشوبه شيء آخر من عموم أو خصوص ، أو صفة غير ـ الوجود بخلاف غيره.

فنقول : لو لم يكن حقيقة الوجود موجودا ، لم يكن شيء من الأشياء موجودا ، لأن غير حقيقة الوجود إما ماهية من الماهيات ، ومعلوم أنها من حيث ذاتها غير موجودة ، أو وجود ناقص غير تام ، فلا محالة يلزمه تركيب وتخصيص بمرتبة معينة وحد خاص من مطلق الوجود ، فيفتقر بالضرورة إلى سبب به يتم

٢٦

وجوده ، ومحدد يحدده بحد الخاص ، ويخرجه من القوة إلى الفعل ، ومن الإمكان إلى الوجوب ، إذ كل ما ليست حقيقته حقيقة الوجود فلا يقتضي ماهيته وجود ، ولا هويته حدا خاصا من الوجود ، فيحتاج إلى قاهر عليه محدد له مفيد لمرتبة المعين في الوجود ، وذلك المقتضي يجب أن يكون مقدما في الوجود على الجميع تقدم البسيط على المركب ، والواحد على الكثير ، والتام على الناقص ، والغني على الفقير ، والفياض على المفاض عليه فحقيقة الحق الأول هو البرهان على ذاته والبرهان على كل شيء ، كما قال جل شأنه : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فهذه سبيل الصديقين الذين يتوسلون به إليه ويستدلون به عليه ويستشهدون بوجوده على سائر الأشياء لا بوجود الأشياء عليه ، كما في طريقة غيرهم من السالكين الذين يستدلون بوجود الأثر على الصفات وبالصفات على الذات ، وهي طرق كثيرة ، أجودها منهجان :

أحدهما ، معرفة النفس الإنسانية (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) ، وهذا أجود الطرق بعد طريق الصديقين ، لأن المسلك هاهنا عين الطالب وفي طريقهم عين المطلوب.

وثانيهما ، النظر في الآفاق والأنفس ، كما أشار إليه تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) وفي القرآن آيات كثيرة في هذا المنهج ، قد مدح الله على الناظرين في خلق السماوات والأرض ، وأثنى على المتفكرين في آثار صنعه وجوده.

قاعدة

في تحقيق الإيمان بالله واليوم الآخر ، قال الله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ...) وقال : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) دلت الآيتان على أن الإيمان يحصل بمعرفة هذه الأمور والتصديق بها وقال :

٢٧

(الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ، لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وقال : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا ، رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ، أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) دلت الآيتان على أن المؤمن الحقيقي من يكون قلبه منزل كلمات الله ومورد الملائكة ، وقال تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وقال : (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) وقال : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ ...) وقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) وقال : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) دلت الآيات على أن الإيمان نور عقلي يخرج به النفس من القوة والنقص إلى الفعل والكمال ، ويرتقي من عالم الأجسام والظلمات إلى عالم الأرواح والأنوار ، ويستعد للقاء الله تعالى ، وذلك النور هو المسمى عند الحكماء السابقين بالعقل بالفعل ، وقالوا : إن النفس بسبب مزاولة العلوم العقلية اليقينية يصير ذاتها عقلا قدسيا صائرة نورا إلهيا من حزب الملائكة المقربين.

تنبيه واعلم أن الإيمان إيمانان

أحدهما ، تقليدي سمعي ، كإيمان العوام يصدقون بما يسمعون ويستمرون عليه وبه يمتازون عن الحيوانات وفائدته في الدنيا حقن الأموال والدماء وإيمان كشفي قلبي يحصل بانشراح الصدر وتنور القلب بنور الله ، كما أشار الله تعالى إليه (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ، فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ

٢٨

قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) وينكشف بذلك النور حقيقة الأشياء الأصلية على ما هي عليه ، فيتضح حينئذ أن الكل من الله ابتداؤه ، وإلى الله مرجعه ومصيره. وهذا الصنف هم المقربون النازلون في الفردوس الأعلى ، وهم على غاية القرب من الحضرة الربوبية. وهم أيضا على أصناف فمنهم السابقون ، ومنهم من دونهم بحسب تفاوت معرفتهم بالله وصفاته وأفعاله ، ودرجات العارفين غير محصورة ، كما قال تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) إذ الإحاطة بكنه جلال الله غير ممكن ، وبحر المعرفة ليس له ساحل ، فكل له درجة بقدر قوة غوصه وخوضه فيه. وأما المؤمن إيمانا تقليديا فهو من أصحاب اليمين إن كان عمله صالحا ، فهو يثاب في الآخرة بحسب ميزان عمله وسلامة صدره من الغل والغش ، فمن أدى الفرائض واجتنب الكبائر ، فيدخل في الجنة ، وكذا من أهمل الفرائض وارتكب الكبائر ، إلا أنه تاب توبة نصوحا ، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وأما من لم يتب من الكبائر حتى مات ، فأمره خطير ، إذ ربما كان موته على الإصرار سببا لزوال إيمانه ، فختم له بسوء الخاتمة ، لا سيما إذا كان إيمانه تقليديا ، فإن التقليد وإن كان جزما فإنه قابل للانحلال بأدنى شبهة ، والعارف البصير أبعد عن أن يخاف عليه سوء الخاتمة ، وكلاهما إن ماتا على الإيمان يدخلان الجنة ولو بعد حين ، ويعذبان عذابا يزيد على عذاب المناقشة في الحساب بحسب قوة الإصرار وكثرة مدته وبحسب قبح الكبيرة ، إلا أن يعفو الله ويتجاوز عنه فإنه غفور رحيم. وكما أن الإيمان على ضربين ، حقيقي وتقليدي ، فالكفر أيضا كفران : كفر عن جحود وعناد وانحراف عن منهج السداد ، وهو مضاد الحق ، لأنه صفة وجودية وجهل مشفوع بالإصرار والاستنكار مركب مع البغض واللجاج ، وكفر عن قصور ونقص وعدم استعداد ، وكلاهما منشأ الخلود في النار ، إلا أن المنافق أشد عذابا وأسوأ حالا من الكافر الفطري لمكنة استعداده وقوة نفسه.

وتفصيل المقام : أن الأشقياء على ضربين ، أما المطرودون في الأزل الذين حق عليهم القول ، وهم أهل الظلمة والحجاب الكلي لغلظ طبائعهم وكثافتها وانغمارهم في بحر الطبيعة ، فهم المختوم على قلوبهم أزلا ، كما قال

٢٩

تعالى (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها ، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) وكما قال : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ، وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً ، وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) وفي الحديث القدسي «هؤلاء خلقتهم للنار ولا أبالي» وأما المنافقون الذين كانوا مستعدين في الأصل قابلين للنور بحسب الفطرة والنشأة ، ولكن احتجب قلوبهم بالرين المستفاد من اكتساب الرذائل النفسانية الحاصلة من ارتكاب المعاصي ومباشرة الأفعال السبعية والبهيمية ومزاولة المكايد الشيطانية حتى رسخت الهيئات الغاسقة والملكات المضلة وارتكمت على أفئدتهم ، فبقوا شاكين حيارى تائهين في تيه الجهالة وظلمات الحيرة وحبطت أعمالهم وانتكست رءوسهم ، فهم أشد عذابا وأسوأ حالا وأردأ مآلا وأعصى جوهرا من الفريق الأول ، لمنافاة مسكة استعدادهم لأحوال مآلهم ووبالهم. والفريقان هم أصحاب النار ، لأنهم أهل الدنيا ، أحدهما ، أهل الحجاب ، والأخرى أهل العقاب. فالفريق الأول ما أشار تعالى إليهم بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) والفريق الثاني ما أشار إليهم بقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ، يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ، وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ ، فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

فالفريق الأول من الأشقياء الذين هم أهل القهر الإلهي ، لا ينجع فيهم الإنذار ، ولا سبيل إلى خلاصهم من النار (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا ، أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، و (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) وهؤلاء سدت عليهم الطرق (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) وأغلقت عليهم الأبواب ، لأن القلب هو أصل الأبواب ، وهو المشعر الإلهي الذي هو محل الإلهامات ، وقد حجبوا عنه بختمه ، وكذا السمع والبصر اللذان هما بابان للفهم والاعتبار للإنسان ، وقد حرموا عن جدواهما ، لامتناع نفوذ المعنى فيهما إلى القلب ، فلا سبيل لهم في

٣٠

الباطن إلى العلم الكشفي الباطني ولا في الظاهر إلى العلم التعليمي الكسبي ، فحبسوا في سجون الظلمات وعظم عذابهم وحجابهم.

والفريق الثاني من الأشقياء هم الذين سلب عنهم الإيمان مع ادعائهم له ، لأن محل الإيمان هو القلب لا اللسان ، قال الله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا ، قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ومعنى قولهم فيما حكى لله عنهم (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ادعائهم علمي التوحيد والمعاد اللذين هما أشرف العلوم الإلهية وأجل المعارف الربانية ، فكذبهم الله بقوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) فأشار إلى أن علومهم خدع وتلبيسات يشتبه بها الجهل بالعلم ويظهر بها الباطل بصورة الحق كما هو دأب المغالطين المماكرين على ما قال تعالى : (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) ، ... (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً ، فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) لكن أهل البصيرة يعرفون وجوه الخلط والتلبيس ، وتدفعون خداع أصحاب الوهم والظلمات ، وأوهامهم بأنوار الإلهامات وأضواء اليقينيات ، كما قال : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ، (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ ، وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) وفي القرآن آيات كثيرة مشيرة إلى أحوال هاتين الطائفتين ، أعني الضالين الغاوين والمضلين المغوين المكذبين ، كقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ، وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) وقوله : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ، وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) وقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ، أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ).

٣١

قاعدة

في توحيده تعالى وأحديته وصمديته

البرهان على واحديته أيضا ذاته ، كما دلت عليه آية (شَهِدَ اللهُ) فإنك قد علمت أنه حقيقة الوجود وصرفه ، وحقيقة الوجود أمر بسيط لا ماهية له ولا تركيب فيه أصلا ، فثبت أنه أحد ، صمد ، وكلما هو أحد صمد فهو واحد فرد لا شريك له ولا تعدد فيه ، إذ لا يتصور كثرة في صرف حقيقة شيء ، وكلما هو حقيقة نفس الوجود الصرف الذي لا أتم منه فلا يمكن فرض الاثنينية فيه فضلا عن جواز وقوع المفروض ، إذ تفاوت الوجودات المحضة والأنوار الصرفة بنفس الأتمية والأشدية ومقابلهما ، فلو فرض وجودان بسيطان ، لا بد وأن يكون أحدهما أتم وأشد من الآخر ، فيكون الآخر معلولا ، لما مر أن كل ناقص معلول ، إذ لو كانا تامين غير متناهيين في الشدة ، لزم أن يكون كل منهما نفس حقيقة الوجود بلا شوب شيء آخر ، فلزم أن يكون حقيقة واحدة من جهة ما هي تلك الحقيقة متكثرة ، إذ لا مميز هناك زائدا على نفس الوجود. وأيضا : كل اثنين فاثنينيتهما إما من جهة الذات والحقيقة ، كالسواد والحركة ، وإما من جهة جزء الحقيقة خارجا ، كالإنسان والفرس ، أو ذهنا ، كالسواد والبياض. أو من جهة كمالية ونقص في نفس الحقيقة المشتركة ، كالسواد الشديد والسواد الضعيف ، أو بسبب أمر زائد عارض كالكاتب والأمي ، وشيء من هذه الوجوه لا يتصور أن يكون منشأ لتعدد الواجب. أما الأول ، فلاتحاد حقيقة الوجود ، وأما الثاني ، فلبساطتها ، وأما الثالث ، فلتمامية الذات الواجبة ، وكون كل ناقص محدود معلولا لغيره ، وأما الرابع ، فلاستحالة كون الواجب متأخرا عن مخصص خارجي ، بل كل ما فرض مخصصا من كم أو كيف أو غير ذلك ، يجب أن يكون متأخر الوجود عن حقيقة الوجود ، فإذن ذات الواجب يجب أن يكون متعينة بذاتها ، فذاته شاهدة على وحدانية ذاته.

والآيات الدالة على وحدانيته تعالى كثيرة ، منها قوله : (وَقُلِ

٣٢

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) ومنها (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ ، وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) ومنها قوله : (سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ومنها قوله : (هُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وقوله : (لا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وقوله : (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ ، أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وقوله : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ ، إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) وقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ) إلى قوله : (أَفَلا تُبْصِرُونَ).

ومن البراهين الدالة على الواحدية والأحدية قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) وقد علمت أن معنى الواحد هو الذي يمتنع من وقوع الشركة بينه وبين غيره ، ومعنى الأحد هو الذي لا تركيب فيه ولا أجزاء له بوجه من الوجوه ، فالواحدية عبارة عن نفي الشريك ، والأحدية عبارة عن نفي الكثرة في ذاته. ومعنى الصمد الغني الذي يحتاج إليه كل شيء ، وهذا دليل على أنه أحدي الذات ، إذ لو كان له جزء لكان مفتقر إلى غيره فلم يكن غنيا ، وقد فرض غنيا ، هذا خلف ، وكل واحد فرداني لا شريك له ، إذ لو كان له شريك في معنى ذاته لكان مركبا عن ما به يمتاز ، وما به يشترك ، فيكون مركبا ، ولو كان له شريك في ملكه لم يكن غنيا يفتقر إليه غيره ، فصمديته دليل أحديته ، وأحديته دليل فردانيته في ذاته وملكه ، وقوله : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) دليل على أن وجوده المستمر الأزلي ليس بقاؤه بالنوع وبتعاقب الأشخاص التي ينحفظ بها بقاء النوع كالإنسان الطبيعي المستمر نوعه بتوارد الأفراد المتماثلة ، وكذا غيره من الأمور الطبيعية المستمرة أنواعها بتجدد الأمثال ، وإن كانت على نعت الاتصال. وقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) دليل على أنه لا يمكن أنه يوجد في مرتبة وجوده موجودا ، إذ كل موجود سواه معلول له مفتقر إليه ، متأخر وجوده عن وجوده تعالى ، فلا مكافئ له ولا ند ولا ضد له ، إذ نسبة الكل إليه كنسبة الأشعة والأظلال إلى ذات الشمس المحسوسة لو كانت نورا قائما بذاته.

٣٣

قاعدة

في توحيده في الإلهية كما في وجوب الوجود

قال تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إله العالم واحد لا شريك له في الإلهية وبراهينه كثيرة ، فمن جملة الطرائق فيه النظر في وحدة العالم ، فإنه قد ثبت بالبرهان أن العالم كله شخص واحد وحدة طبيعية بعض أجزائه أعلى وأشرف من بعض ، فالكل حيوان واحد ناطق مسمى بالإنسان الكبير ، وأن عالم الأجسام بمنزلة بدنه وعلنه ، وعالم الأرواح بمنزلة روحه وسره ، والمجموع منتظم في سلك واحد ، ولا يمكن تعدد العالم الجسماني ولا تعدد العالم الروحاني ، إلا على سبيل إحاطة بعضها بعضا ، وعلية بعضها لبعض وارتباط بعضها لبعض كارتباط الجسم بالروح ، فإذا كان كذلك ثبت وحدة إله العالم ، لأن الإلهية لا يتم إلا بكون الباري صانعا للعالم فإذا كان العالم واحدا كان إله العالم وصانعه واحدا لا شريك له في الإلهية كما لا شريك له في ذاته ، كما قال : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ) وقال : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) ، (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) وذلك لأن تشخص المعلول بتشخص فاعله المفيض لوجوده ، إذ الوجود في كل شيء عين تشخصه ، وتشخصه عين وجوده ، فمفيض وجوده مفيض تشخصه ، وكما لا يكون لشيء واحد شخصي وجودان ولا تشخصان ، فكذلك لا يكون له موجدان مشخصان ، لأن أنحاء الوجود والتشخص متباينة متنافية ، والاتصاف بكل منهما يقتضي نفي الاتصاف بغيره ، فكذا الحال في الاتصاف بمبدإ به وجود وتشخص ، فإذا فرض لشيء واحد وجودان فهما متفاسدان ، إذ لا ترجيح لأحدهما على الآخر ، فهذا معنى الآية لا الذي توهمه

٣٤

بعضهم من وقوع العربدة والنزاع بين إلهين مفروضين ، لأنه كلام خطابي بل شعري ، جل جناب القرآن عن أمثال هذه النقصانات.

ويؤيد ذلك قوله : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ ، فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ، قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ).

قاعدة

في توحيده تعالى في حقيقة الوجود

قال الله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) وقال : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والنور والوجود حقيقة واحدة لا فرق بينهما إلا بمجرد الاعتبار والمفهوم ، وكذا الظلمة والعدم ، فمعنى نور السماوات والأرض وجودهما ، وقال : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) ، (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) ، (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ).

برهان ذلك : «أن الباري جل ذكره بسيط الذات أحدي الوجود كما مر ، وأن واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات فلا يوجد فيه جهة إمكانية فلو فرض في ذاته فقد شيء من الأشياء الوجودية ، أو إمكان أمر من الأمور الثبوتية ، لم يكن واجب الوجود من جميع الوجوه ، فيلزم أن يكون فيه حيثيتان مختلفتان ، حيثية وجوب وجود شيء وحيثية إمكان وجود شيء آخر أو امتناعه ، فيلزم التركيب في ذاته ولو بحسب العقل ، وهو ممتنع ، فلا بد أن يكون كل وجود وكل كمال وجمال رشحا من رشحات بحر جماله ولمعة من لمعات نور كماله ، فجميع الوجودات ثابتة له على وجه أعلى وأشرف ولا سلب له إلا سلب الإمكان الذي هو معنى سلبي بسيط ، فصفاته السلبية كلها راجعة إلى سلب النقصان ، والسلوب المندرجة كلها تحت سلب الإمكان ، قال : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) ولم يقل ثالث اثنين ، إذ لم يصيروا بذلك كفارا ، بل هو ثالث الاثنين

٣٥

ورابع الثلاثة وخامس الأربعة وسادس الخمسة وهكذا ، كما دلت عليه الآية المذكورة ، وهي قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ...) الآية» وذلك لأن وحدته ليست عددية ، بل وحدة أخرى جامعة لجميع الآحاد والأعداد ، فلو كانت وحدته عددية لكانت داخلة في باب الأعداد ، فلم يكن حينئذ فرق بين أن يقال ثالث ثلاثة أو ثالث اثنين ، ولم يكن أحد القولين كفرا دون الآخر ، بخلاف ما إذا كانت وحدته خارجة عن باب الأعداد ، فكان القول حينئذ بكونه ثالث الثلاثة أو رابع الأربعة كفرا وباطلا ، إذ ثالث الثلاثة داخل في عدد الثلاثة وكذا رابع الأربعة داخل في الأربعة وهكذا.

ثم لما كانت وحدته نحوا آخر مغايرا لسائر الوحدات وليست من جنسها ، فهي مع كونها مغايرة لها جامعة لها مقومة إياها ، فلكونه تعالى كذلك ، صح أن يقال : إنه رابع الثلاثة ، فإذا انضم إلى الثلاثة واحد من جنسها ، صار هو سبحانه خامس الأربعة ، وهكذا إلى غير النهاية. وهذا مما يخفى دركه ، إلا على الراسخين «ف (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) ، وهو (بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ). وفي كلام سيد الموحدين أمير المؤمنين عليه‌السلام «مع كل شيء لا بمقارنة وغير كل شيء لا بمزايلة».

واعلم أن لنا بعد الكشف والشهود براهين متعددة على هذا المطلب تركنا ذكرها ، إذا لا تأثير في ذكرها لغير ذوي بصائر قلبية ومن كان ذا بصيرة قلبية يكفيه ما أوردناه من البرهان المذكور ، لأن من يتنور باطنه بنور الحق الأول ، فيشاهد أنه مع كونه واحدا غير قابل للتكثير والانقسام ، انبسط على هياكل الموجودات ، ووسع بجميع ما في الأرض والسماوات ، ولا يخلو منه شيء من الأشياء ولا ذرة من ذرات الكائنات ، وهو مع كونه مقوما لكل وجود ، مستغن مقدس عن كل موجود ، لا يلحقه من معيته لسائر الأشياء نقص ولا شين ، ولا تغير ولا تكثر وانقسام ، كالنور الحسي الواقع من الشمس على الروازن والثقب وعلى النجاسات والقاذورات من غير أن يتكثر ذاته ويتلوث بشيء منها أو يمتزج بها ، فإذا كان حال النور الحسي ، هكذا ، فما ظنك بحال نور الأنوار العقلية في انبساطه على الأشياء وعدم مخالطته بها.

٣٦

تنبيه مشرقي

ومما ينبهك على أن وجوده تعالى وجود كل شيء ، أن وجوده عين حقيقة الوجود وصرفه من غير شوب عدم وكثرة ، فلو لم يكن وجودا لكل شيء لم يكن بسيط الذات ولا محض الوجود ، بل يكون وجودا لبعض الأشياء وعدما للبعض ، فلزم فيه تركيب من وجود وعدم ، وخلط بين إمكان ووجوب ، وهو محال. فإذن يجب أن يكون وجوده تعالى لكونه صرف حقيقة الوجود ، وجودا لجميع الموجودات (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) فلا يخرج من كنه ذاته شيء من الأشياء ، لأنه تمام كل شيء ومبدؤه وغايته ، وإنما يتعدد ويتكثر وينفصل لأجل نقصاناتها وإمكاناتها وقصوراتها عن درجة التمام والكمال ، فهو الأصل والحقيقة في الموجودية ، وما سواه شئونه وحيثياته ، وهو الذات ، وما عداه أسماؤه وتجلياته ، وهو النور ، وما عداه ظلاله ولمعاته ، وهو الحق ، وما خلا وجهه الكريم باطل (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ، (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ).

٣٧

المشهد الثاني

في صفاته وأسمائه وفيه قواعد :

قاعدة

في توحيد صفاته الكمالية

اعلم أن صفات الله مجردة ، أي غير عارضة لماهية أصلا ، وكل صفة منه حق صمد فرد يجب أن يكون قد خرج فيه جميع كمالاته إلى الفعل لم يبق شيء منها في مكمن القوة والإمكان ، لأنه لا جهة فيه سواه ، فكما أن وجوده تعالى حقيقة الوجود من غير شوب عدم وإمكان ، فيكون كل الوجود وكله الوجود فكذلك جميع صفاته الكمالية التي هي عين ذاته ، فعلمه حقيقة العلم ، وقدرته حقيقة القدرة ، وما هذا شأنه يستحيل فيه التعدد ، وإلا لكان الشيء قاصرا عن ذاته ، فيكون علمه علما بكل شيء وقدرته قدرة على كل شيء ، وإرادته إرادة لكل شيء ، وهكذا في جميع ما له من الصفات. فالعلم هناك واحد ومع وحدته يجب أن يكون علما بكل شيء. ولا يعزب عنه شيء من الأشياء الكلية والجزئية ، إذ لو بقي شيء من الأشياء لا يكون ذلك العلم علما به ، ولا شك في أن العلم به من جملة مطلق العلم ـ فلم يخرج جميع العلمية في ذلك إلى الفعل ، وقد قلنا إن ذلك واجب ضروري وإلا لم يكن صرف حقيقة العلم ، بل علما من جهة وجهلا من جهة أخرى ، ففيه شوب تركيب من علم وجهل ووجود وعدم ووجوب وإمكان «فهو تعالى (بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وكذا قدرته

٣٨

حقيقة القدرة ، فلا يخرج عنها شيء من المقدورات ، وإلا لم يكن قدرة محضة ، بل قدرة من وجه وعجزا من وجه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وقوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وقوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) وقوله : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) وهكذا قياس إرادته لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن» وقوله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) وقس عليه سائر صفاته الكمالية.

فعليك بهذه القاعدة الشريفة التي علمنا الله بها من لدنه ، فإنها عظيم الجدوى في باب التوحيد الخاصي ، لكن يجب عليك أن تعلم أن هذه القاعدة إنما يجري في الحقايق الكلية والمعاني الكمالية العامة التي يعرض للموجود بما هو موجود ، ولا مدخل في حدها تخصيص بمادة معينة أو استعداد خاص أو تجسم أو تغير كالإنسانية ، حيث إنها عبارة عن جوهر مخصوص بنمو واغتذاء وحس وحركة ، وهو لا محالة مغاير للفلكية والنارية والفرسية وغيرها ، فلا يمكن أن يكون حقيقة شاملة لكل شيء ويكون إنسانية لكل شيء. وكالسواد فإنه عرض مخصوص ينفعل عنه البصر الذي هو أيضا قوة مخصوصة في مادة وضعية مخصوصة ، فلا يمكن أن يكون السواد سوادا لكل شيء. والسر في ذلك ، أن كل حقيقة من هذه الحقائق المختصة ليست محض تلك الحقيقة ، بل هي بالضرورة ممتزجة بغيرها من الأعدام والنقائص والمضادات ، فالإنسان مثلا لا يمكن أن يوجد في الخارج بصرف الإنسانية من غير مخالطة أشياء مباينة له مخالفة لمعناه ، فلا محالة يتعين في ذاته بأن يكون مباينا لسائر الأنواع ، وذلك بخلاف الأمور الشاملة ، كالوجود والعلم والقدرة والحياة وغيرها ، إذ يمكن أن يكون من أفراد مفهوم الوجود وجود بسيط ، هو محض حقيقة الوجود من غير أن يكون معه شيء مباين للوجود ، فيكون لا محالة وجودا لكل شيء لا يعوزه شيء من الأشياء ، وكذا من أفراد العلم علم هو محض حقيقة العلم لا حيثية له مغايرا للعلم ، فيكون علما بكل شيء ، وعلى هذا القياس القدرة والحياة والإرادة.

فإن قلت : مفهوم العلم غير مفهوم القدرة ومفهوماهما غير مفهوم

٣٩

الإرادة ومفهومات هذه الثلاثة غير مفهوم الحياة ، فكيف يكون الجميع في حق الواجب تعالى حقيقة واحدة بسيطة لا تغاير فيها.

قلنا : الاختلاف في المفهوم لا ينافي البساطة الحقة ، لأن قولنا صفات الواجب عين ذاته ، معناه أن وجوده بعينه وجود هذه المعاني ، وحيثية ذاته بعينها حيثية سائر الصفات ، وهي ليست بأمور زائدة من حيث وجودها وحقيقتها على وجود الواجب وحقيقته ، وليس معناه أن هذه الألفاظ مترادفة لها مفهوم واحد ، وإلا لم يكن حملها مفيدا. وقول أمير المؤمنين عليه‌السلام «كمال التوحيد نفي الصفات عنه» ليس المراد نفي معانيها عن ذاته ، وإلا يلزم التعطيل ، وهو كفر فضيح ، بل معناه نفي كونها صفات زائدة على ذاته بحسب الوجود والحقيقة. فعلى هذا صح قول من قال : إن صفاته عين ذاته ، وصح قول من قال : إنها غيره. وصح قول من قال : إنها لا عينه ولا غيره ، لو علم ما حققناه.

فكن على بصيرة في هذا الأمر ولا تكن من الغافلين.

قاعدة

في تحقيق أسمائه تعالى

قال الله سبحانه : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ، فَادْعُوهُ بِها ، وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ).

واعلم أن العلم بالأسماء الإلهية علم شريف دقيق ومعرفة لطيفة غامضة ، وبه فاق أبونا آدم عليه‌السلام على الملائكة حيث قال : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ، فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، ... (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ ، قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) ويستفاد من هذه الآيات أحكام علمية شريفة.

منها ، أن المراد من الاسم ليس كما فهمه المتكلمون من أنه لفظ موضوع في اللغة بإزاء معنى من المعاني ، يدل على ذلك أمور :

٤٠