أسرار الآيات

صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي [ ملا صدرا ]

أسرار الآيات

المؤلف:

صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي [ ملا صدرا ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات انجمن اسلامى حكمت و فلسفه ايران
المطبعة: چاپخانه وزارت و فرهنگ و آموزش عالى
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٦

بسم الله الرحمن الرحيم

نحمدك اللهم يا من بيده ملكوت الأرض والسماء وإليه يتشوق ويدور الأشياء يا حي يا قيوم إياك نروم ولك نصلي ونصوم أنت قيام الوجود وفائض الخير والجود ومنزل البركات والخيرات وغاية الميول والحركات ومبدأ الأشراق ومنتهى الأشواق ومدبر الأمور ونور النور وواهب حياة العالمين وجاعل السماوات والأرضين أيّدنا بأنوار كلماتك ونور قلوبنا بأسرار كتابك وآياتك وطهر نفوسنا من غسق الطبيعة والجهالة وأخرجنا من رجس عالم الظلمات إلى مشاهدة أنوارك ومعاينة أضوائك ومجاورة مقربيك ومصاحبة سكان ملكوتك ومسبحيك واحشرنا مع النبيين والصديقين سيما محمد المبعوث إلى كافة الخلائق أجمعين وأهل بيته الأطهرين الأنجبين عليهم أشرف صلاة المصلين وأزكى تسليمات المسلمين.

أما بعد فيقول أنزل خلق الله وأحوجهم إلى كرامة رب العالمين «محمد المدعو بصدر الدين» (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)» ، هذه أنوار علوم إلهية وأسرار مسائل ربانية ومقاصد قرآنية مستفادة من آيات الكتاب المبين النازل إلى الخلق من عند رب العالمين ، وهي مفاتيح ينفتح بها باب الجنة والرضوان ويظهر بها كنوز خزائن الرحمن ويعاين بها جواهر عالم الملكوت وينكشف بها أنوار عالم الجبروت فيها قرة عيون السالكين وشفاء صدور المؤمنين الموحدين ومرض لقلوب الجاحدين المنكرين وفيها

١

هدى للمتقين وعمي وغشاوة على أبصار المنافقين المتكبرين ، (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) وسميتها «بأسرار الآيات وأنوار البينات» وجمعتها في مقدمة وأطراف مشتملة على مشاهد.

المقدمة

في بيان طريق السالكين إلى الله ومنهج الراسخين في العلم وفيها عدة قواعد.

قاعدة

في أن رأس السعادات ورئيس الحسنات هو اكتساب الحكمة الحقة ، أعني : العلم بالله وصفاته وأفعاله وملكه وملكوته ، والعلم باليوم الآخر ومنازله ومقاماته من البعث والحشر والكتاب والميزان والحساب والجنة والنار وهي الإيمان الحقيقي والخير الكثير والفضل العظيم المشار إليه في قوله تعالى (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ) ، إلى قوله (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) وقوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ، ...) إلى آخر الآية ، والإشارة إلى أن الكفر والضلال مقابل هذا العلم ، أعني الجهل بهذه المعارف. قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) فظهر أن الاعتقاد بهذه الأمور هو الإيمان الحقيقي وبه يحصل الكرامة عند الله والزلفى لديه. وذلك ، لأن الإنسان باكتساب هذه العلوم الإلهية يصير من حزب الملائكة المقربين بعد ما كان من جنس الحيوانات المبعدين ، لما تقرر في مقامه بالبرهان : أن النفس الناطقة يترقى في الاستكمالات العلمية من حد العقل الهيولاني الذي هو جوهر نفساني بالفعل ، لكنه مادة روحانية

٢

إلى حد العقل بالفعل ، وهو جوهر عقلي نوراني فيه صور جميع الموجودات على وجه مقدس ، وهو نور يتراءى فيه الأشياء كما هي وإنما يحصل له هذا العقل البسيط والنور الشريف بالنظر في حقائق الموجودات والتدبر في آيات الله الكائنة في الأرض والسماوات لا بالإعراض عنها كما قال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) ومما يدل على وجوب النظر والتفكر واكتساب الحكمة والمعرفة قوله : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وقوله : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) وفي هذه الآية دلالة على أن حياة الإنسان بعد الموت والمفارقة عن هذه النشأة الزائلة بالمعارف والتصديق بحقائق الأشياء كما هي ، وقوله : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ).

وهذا السير المأمور به ليس إلا السير الفكري والحركة المعنوي دون تعب الجوارح ، وستعلم بيان ما أشرنا إليه من أن بناء النشأة الآخرة للإنسان وعمارتها إنما هي بما يتقرر في نفسه من صور الاعتقادات ، وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ثم إنه قد مدح الله الناظرين في ماهيات الأشياء والمتفكرين في خلق السماوات والأرض والذاكرين لله من ملاحظة آثار صنعه وجوده في مواضع كثيرة : كقوله (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وقوله تعالى (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً ، وَعَلى جُنُوبِهِمْ ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والإشارة إلى العروة الوثقى والعمدة العظمى في التقرب إلى الله والفوز بالسعادة الأخروية ، هي اقتناء العلم والمعرفة دون مجرد العمل والطاعة ، وإن كان العمل الصالح وسيلة إليه ، وأنها هي الثمرة والغاية والعمل كالزرع وهي النتيجة والعمل كالمقدمة وهي المخدومة والسلطان ، والعمل كالخادم والعبد والأجير ، قال : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) وقال : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) وقال تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

٣

ففيه إشارة إلى أن فعل الصلاة وفعل الحج الذين هما عمدتا الأعمال البدنية والطاعات ليسا مثل الإيمان واليقين بالأمور المذكورة. وقال (الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ) هذا تعريف المؤمن ولم يدخل في حده إلا هذه المعارف الحقيقية لا شيء من الأعمال ، فلو فرض حصول هذه المعارف على وجهها في قلب أحد من الآدميين من دون عمل حسنا كان أو قبيحا ، لكان مؤمنا حقا فائزا بالسعادة الحقيقية من غير قصور وخلل في إيمانه. وهذا وإن كان مجرد فرض لكن الغرض التنبيه على أن العرفان هو الأصل والعمود والعمل فرع له. وقد حث سبحانه عباده في كثير من الآيات على اكتساب العلم بالنظر والاعتبار والتأمل في أفعاله والتدبر في آياته وآثاره ، مثل قوله : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) وقوله : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا ، أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) وقوله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) وقوله : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ).

قاعدة

في أن الجهل بهذه المعارف الإلهية وجحودها مع وجود الاستعداد وقوة التعلم ومكنة التحصيل رأس الشقاوات والعقوبات وأنه مادة كل مرض ونفاق نفساني ومغرس كل شجرة ملعونة وشجرة خبيثة في الدنيا والآخرة وهو منشأ العذاب الأليم والخسران العظيم والحسرة والندامة يوم القيامة.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ، لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) وقوله تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ : رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً ، قالَ : كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) وقوله (اسْتَحْوَذَ) ، أي غلب (عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ ، فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ

٤

اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ). والوجه في أن من نسي ذكر الله يكون من أهل العذاب وأنه يحشر أعمى وأصم ، أن بناء الآخرة على المعرفة والذكر ، لأنها نشأة إدراكية ودار حيوانية كما سنبين ، فعمارتها بالاعتقادات والعلم والنيات الصالحة والإدراكات الخالصة ، وبناء الدنيا على الظلمة المادية وعمارتها بالأمور الشهوية والأماني الباطلة. لأنها نشأة كدرة جرمانية (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ثم إن من جهل بالله جهل بالأشياء كلها ، لما تقرر من أن العلم بذات السبب لا يحصل إلا من جهة العلم بسببها ، ومن جهل بالأشياء كان من الهالكين في الآخرة ، لما مر من أن وجود الآخرة وجود إدراكي فيكون منسيا عند الله إذ لو كان مذكورا كان موجودا في نفسه إذ المعلومية لا ينفك عنه الموجودية في الأمور التي وجودها وجود إدراكي وصورتها صورة إدراكية ، وقال أيضا : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) وهذا بمنزلة عكس النقيض لقوله : «من عرف نفسه فقد عرف ربه» على ما أوضحناه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ ، أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) جعل الله سبحانه الجهل بالله وآياته منشأ الرجوع إلى نار الجحيم والعذاب الأليم ، وذلك لأن نفوس الجهال أبدا متوجهة نحو لذات الأجسام وأغراض الدنيا وشهواتها ، إذ لا تعرف غير هذه الأمور. وأما العارف الرباني فنفسه لأجل الاستكمال بالعلم والإعراض عن الأمور الدنيوية الجسمانية ، متوجهة دائما نحو العالم القدس الإلهي ، راغبة إلى قربه تعالى ، لأن من أحب شيئا كان حشره الله إليه والجاهل لا يحب إلا الأمور الباطلة والأماني العاجلة الزائلة. ولا شك أن الدنيا وشهواتها أمور باطلة وهمية ، فكان حشره إلى عالم البوار والشرور والظلمات ، فمآله إلى نار الحجيم ونصيبه العذاب الأليم. قوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ).

٥

تنبيه

اعلم أن الكفر الذي هو منشأ العذاب الأليم الشديد هو ضرب من الجهل أعني المركب مع الاعتقاد المشفوع بالاستكبار والعناد ، لا مجرد الجهل البسيط بالمعارف ولذلك وصف الله تعالى أولئك الكافرين بمحبة الدنيا والصد عن سبيل الله وطريق الحق والضلال والاعوجاج عن سبيله. قوله تعالى : (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ ، أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) ، إلى قوله : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) قوله تعالى : (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) أي معرفة الحق لذاته وعمل الخير لأجله (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ، (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) ، (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً ، وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) أي غاية سكون العارفين وما يئول إليه سعيهم هو الله وغاية مسلك الجهال المنهمكين في الدنيا وشهواتها إلى النار.

واعلم أن الوصول إلى الله خير من كل نعيم وسعادة ، لأن كل خير وكمال ونعيم وسعادة في الدنيا والآخرة رشح من بحر وجوده وفيض من نور شهوده. وقوله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً ، فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) إذ ليس له الحياة الدنيوية الحسية ، لأنها بطلت ، ولا الحياة الأخروية أعني حياة العلم والمعرفة ، لأنها ما حصلت ، ولا ما اكتسبت. قوله تعالى : (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) إلى قوله : (وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) أي تجردت نفسه عن الهيئات الدنية والأغراض الدنيوية ، (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ

٦

حِمْلاً). لا شبهة في أن هذه الأوزار والأحمال التي يثقل ظهر القلب ويمنع النفس عن الصعود إلى الدرجات العلى ليست أجساما ثقيلة محسوسة بل هي من باب الهيئات النفسانية والأعراض التعلقية التي تجر النفس عن عالم النور إلى عالم الغرور من سلاسل الشهوات وأغلال التعلقات. قوله تعالى : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) لما بين في موضعه من أن الأخلاق والملكات ستصير صورا جوهرية يتصور بها النفس الإنسانية ويتلبس بها في الآخرة ، فيكون لها شعارا ودثارا.

ثم إن الهيئات المتمكنة في نفوس الأشقياء المبعدين من دار الكرامة هي من باب الشهوات الدنيوية واللذات الحيوانية والأغراض البهيمية ، فهي حاصلة من القوى العمالة للأجرام السفلية بالتقطيع والجمع والتفريق والتحليل والتركيب (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) ، أي ينزل عليهم من القواهر العلوية ما يتسخن به أبدانهم ، و (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) ، من قوة قوية لفاعل غليظ شديد يدعوهم إلى الأعمال الطبيعية وخدمة الشهوات الشيطانية واشتعال النيرانات الكامنة. ويقمعهم عن الميل إلى جهة السعادة وجانب القدس ، ويردهم إلى الجحيم التي وردوها أولا ، (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) بواسطة سماع وعظ أو نصيحة أو قراءة آية أو رواية حديث أو صحبة عالم ، (أُعِيدُوا فِيها) ، لغلبة دواعي سلطان الطبيعة على قلوبهم القاسية واستيلاء النفس الأمارة بالسوء على نفوسهم. قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) فدلت الآية على أن الغفلة والجهالة صارت سببا لخسران الآخرة ، وقد مر بيانه. قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا ، وَلَّى مُسْتَكْبِراً ، كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً ، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) قوله : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) قوله تعالى : (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ، مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ ، وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ، هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا (بِآياتِ رَبِّهِمْ) لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) فهذه الآيات دلت على

٧

أن رأس الشقاوة ومنشأ العذاب الأليم ، هو الكفر الذي ضرب من الجهل والاحتجاب عن الحق بما يلزمه من الأعمال والملكات المؤدية إلى البعد عن دار الكرامة ومعدن الرحمة والانغمار في بحر الظلمة الجرمية والهوى في الهاوية السفلية والقرية الظلمانية الظالم أهلها ، كما أن أصل كل سعادة وبهجة هو الإيمان بالله وكلماته وآياته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والخروج من هذه النشأة الدنية المظلمة والصعود إلى عالم الطهارة والقدس والنور من عالم الطبيعة ومعدن الرجس والظلمة والدثور.

تنبيه

اعلم أن محبة الدنيا والكفر يتلازمان ويتسبب أحدهما بالآخر ، ولهذا ورد في الكتاب الإلهي تعليل العذاب الأخروي والشقاوة تارة بهذا وتارة بهذا كما في قوله تعالى : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً ، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) دلت على أن محبة الدنيا مغرس الكفر ومنبت النفاق ، لكن نتيجة محبة الدنيا هي العذاب العظيم ، الحاصل عن مفارقتها يوم القيامة ، ونتيجة الكفر هي غضب الله في يوم القيامة. ولا شك عند العارف المحقق أن عذاب الغضب أشد من عذاب النار ، لأن الأول عذاب روحاني ، والثاني جسماني حسي ، والجحيم صورة غضب الله ، كما أن الجنة صورة رحمة الله وكما أن لذة رضوان الله ـ أكبر من لذة نعيم الجنة من الحور والقصور والأنهار والأشجار وغيرها ، كما قال : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) فكذا ألم الحجاب عن الحق أشد من ألم النار ، ولذلك وقع مقدما في الذكر في قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ).

ومما يدل على أن الجهل بالمعارف الإلهية يوجب السقوط عن الفطرة ويؤدي الإنسان إلى أن يصير مرآة قلبه مكدرة مظلمة بالغواشي والظلمات إلى حد يفسد ظاهرها وباطنها ، قوله تعالى : (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)

٨

وقوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) ، وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ، وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً).

وتوضيح ذلك بالبيان الحكمي : أن الروح الإنسانية من جهة أن من شأنها أن يتجلى فيها الأشياء مشابهة للمرآة ، لكن هذه الحالة في أول الفطرة للنفس أمر بالقوة لكل أحد من الناس ثم يصير بمزاولة الأعمال والأفعال خارجة من القوة إما إلى الفعل والكمال ، أو إلى البطلان والزوال. فإذا وقع الإنسان في السلوك العلمي والرياضة الدينية والتكاليف الشرعية التي هي بمنزلة تصقيل المرآة يخرج النفس من القوة إلى الفعل ويصير عقلا بالفعل بعد ما كانت عقلا بالقوة ، فيكون كمرآة مجلوة يتراءى فيها صور الموجودات على ما هي عليها ، وإذا لم يقع في هذه الطريقة وهي الصراط المستقيم المذكور في القرآن ولم يخرج ذاته في طريق الآخرة بالتصفية والرياضة والتطهير والتنوير من القوة إلى الفعل ، بل سلك مسلك الدنيا وصارت نفسه متدنسة بدنس الشهوات ، متنجسة برجس الفسوق والسيئات ، بطلت فيه القوة والاستعداد ، لأن يصير منورة بأنوار العلوم ، ولأن يتجلى فيها حقائق الأمثال والرسوم ، ولأن يكون عقلا ومعقولا بالفعل لا بالقوة. وبالجملة ، قد بطلت القوة وزالت الفرصة بالكلية وصارت النفس حسا بالفعل بعد ما كانت عقلا بالقوة ، وظلمة بالفعل بعد ما كانت نورا بالقوة ، وبهيمة أو شيطانا بالفعل بعد ما كانت ملكا بالقوة ، كحديد كان أولا قابلا للإذابة والتصقيل لتظهر فيها مثل المحسوسات فإذا غاص في جرمه الرين والنداوة والوسخ ، بطل استعداده في كونه مرآتا ، فكذلك إذا بطل استعداد النفس لأن يكون جوهرا إدراكيا ووجودا علميا ، صارت جوهرا من جواهر الدنيا بالفعل ، وكل ما كان الشيء جوهرا دنيويا ظلمانيا بالفعل ، يحترق في الآخرة بنار السعير ، إذ الدنيا وما فيها يجاء بها يوم القيامة بصورة نار جهنم وشرارتها وظلماتها فيحترق بمن فيها ، كما في قوله تعالى : (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ، لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً ، فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ). وقوله : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا

٩

نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) وقوله : (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ، فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ ، كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) وقوله : (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي ، وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) ، وقوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ ، أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ، وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها ، وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الأمور الدنيوية لا يمكن أن يكون لها وجود يوم القيامة ، وأن النفس الآدمية ما دامت من جنس هذه الأكوان الدنيوية ، فهي حطب جهنم وصلى النار ، كما قال : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وإنما يستحق النعيم ويستأهل لجوار الله والجنة من تبدل وجوده ، وصار جوهرا علميا بعد ما كان جوهرا دنيويا ، وذلك بمزاولة اكتساب العلوم وملكة التجريد. فظهر أن محبة الدنيا منشأ الكفر والاحتجاب ومادة الشقاوة والعذاب ، وأن بناء التنعم في الآخرة والحياة الدائمة على العلم والمعرفة ، إذا ما لم يصر جوهر الإنسان جوهرا إدراكيا علميا لم يجعل من جنس الجواهر الحية القريبة من الله ودار كرامته المرتفعة عن عذاب النار ومنزل البوار المتنعمة بنعم دار الحيوان المنسرحة في طبقات الجنان.

قاعدة

في الإشارة إلى أن هذا المنهج أعني : منهج التوحيد وهو طلب العلم بالله وآياته وملكه وملكوته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر هو مسلك جميع الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام ، وأن لا خلاف بينهم في شيء من العلوم الإلهية والأصول الإيمانية ، وأن طريقتهم في العلم واحد ودينهم دين واحد ، وإنما الخلاف بين شرائعهم في المسائل الفرعية العملية التي قد يختلف باختلاف الأزمنة والأوقات ، قوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي

١٠

إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ). وقوله تعالى : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وقوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ، ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى ، أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) وقوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ، وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ ...) وقوله : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) ، (قُلْ : هاتُوا بُرْهانَكُمْ) ، (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) ، (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وقوله : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى).

واعلم أن هذا المنهاج العلمي والإيمان الحقيقي في غاية الندرة والشذوذ ولا يوجد منهم في كل عصر إلا عدد قليل كواحد أو اثنين كما قيل : «جل جناب الحق من أن يكون شريعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد ...» وذلك لأن علم التوحيد والإيمان الحقيقي نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده ، ليس تحصيله بمجرد إقرار بالشهادة ولا ببحث وتكرار ، أو تلفيق أدلة كلامية ، كما هو شأن أكثر المنتسبين إلى العلم المشهورين بالإفادة والتدريس ، وأكثر أهل الإسلام ظاهرا هم أهل الكفر والإشراك باطنا ، كما قال تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) وقوله : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ...) والمراد : يا أيها الذين آمنوا ظاهرا ولفظا ، آمنوا ضميرا وعلما ، وقوله : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) وقوله : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ).

ومما يدل على أن المؤمنين بالحقيقة هم الراسخون في العلم الكاملون

١١

في الحكمة والمعرفة ، قوله : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ ، يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) وقوله : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ...) هذه الآية دالة على أن غير هؤلاء القوم لا يشهد حقية الرسول ولا يعلم حقيقة إنزال الكتاب الهادي إلى صراط التوحيد. وبالجملة أن المؤمنين بالحقيقة هم العلماء بالله واليوم الآخر ، وهذا العلم نور عزيز المنال وفضل رفيع المثال لا يوجد بمجرد القيل والقال والبحث والجدال ، أو رواية الحديث وحفظ الأقوال.

قال بعض العارفين : «أخذتم علمكم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت» وهذا العلم المشار إليه ، هو علم الوراثة لا علم الدراسة يعني أن علوم الأنبياء عليهم‌السلام لدنية ، فمن كان علمه مستفادا من الكتب والرواية والدراسة فليس هو من ورثة الأنبياء لأن علومهم لا يستفاد إلا من الله ، كما قال تعالى : (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ).

ولا تظن ، أن التعليم من عند الله يختص بهم لا يتجاوز غيرهم فقد قال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) فكل من وصل إلى حقيقة التقوى فلا بد أن يعلمه الله ما لم يعلم ويكون معه ، كما قال (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ).

قاعدة

في نعوت القرآن وأساميه

اعلم أن القرآن في اللغة بمعنى الجمع ، كما أن الفرقان بمعنى الفرق والتفصيل ، قال الله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ).

والأول إشارة إلى العلم الإجمالي المعروف عند العلماء بالعقل البسيط وهو العلم بجميع الموجودات على وجه بسيط إجمالي وذلك العقل هو فعال

١٢

تفاصيل العلوم النفسانية.

والثاني ، إشارة إلى العلم النفساني المتكثر بصور عقلية حاصلة في النفوس الفاضلة ، وربما يحصل الثاني دون الأول لكن الأول لا ينفك عن الثاني ، فكل قرآن لا ينفك عن الفرقان دون العكس ، ونفس نبينا ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في مقام (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) عقل بسيط قرآني متحد مع المعقولات كلها ، وهو قلم الحق الأول ، وكلامه بوجه وهو كلمة الله التامة التي فيها جوامع الكلم ، كما في قوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أوتيت جوامع الكلم» وفي مقام آخر لوح نفساني فيه تفاصيل العلوم وصور الحقائق المرسومة فيه من قبل قلم الحق الفعال لصور العلوم ، وتلك الصور أو محلها هو الكتاب الفرقاني ، فهذا المصحف الذي بين أظهرنا قرآن بوجه وفرقان بوجه ، وهو كلام الله بوجه وكتابه بوجه ، وسينكشف لك وجوه الفرق بين كلام الله وكتابه ، وأن المنزل على سائر الأنبياء كتابه لا كلامه ، وأن ذلك فرقان لا قرآن. إذا علمت هذا فاعلم ، أن من أسمائه نور ، لأنه نور عقلي ينكشف به أحوال المبدإ والمعاد ، يتراءى به حقائق الأشياء ، ويهتدى به في سلوك يوم القيامة وطريق الجنة ، كما قال تعالى : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وقال : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ ، يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فقوله : (نُورٌ) إشارة إلى مرتبة العقل القرآني البسيط. وقوله : (كِتابٌ) إشارة إلى مرتبة العلم التفصيلي ، كما قال : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) وقال : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) وقال : (تَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ). ومن أسمائه العظام الحكمة ، كما في قوله : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) فإن الموجودات أعني الممكنات متميزة حال عدمها الكوني في علم الله الواحد ويعلم الله تعالى بعلم واحد بسيط صور جميع الأشياء ، ويراها ويأمرها بالتكوين بأمر واحد هي كلمة كن الوجودي ، فما عند الله إجمال ، بل الأمر كله في نفسه ، وفي علم الله مفصل ، وإن كان كله معلوما بعلم واحد لكن معلوماته كثيرة ،

١٣

كثرة لا تحصى ، وإنما وقع الإجمال في حقنا. فمن كوشف بالتفصيل في عين الإجمال علما أو عينا أو حقا ، فذلك العالم الذي أعطاه الله تعالى (الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) ، وليس ذلك إلا الأنبياء عليهم‌السلام والورثة لهم من العلماء الراسخين. وأما الفلاسفة المشهورون فليسوا من هذا المقام في شيء ، ولا يعلمون التفصيل في عين الإجمال ، كما يراه صاحب هذا المقام الذي أعطاه الله الحكمة وفصل الخطاب ، وهذه الحكمة عناية ربانية وموهبة إلهية لا يؤتى بها إلا من قبله تعالى ، كما قال (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً. وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ).

فهذه الآية تدل على أن الحكمة من مواهب الله التي لا تحصل بمجرد السعي ، بل حصولها بالمشية الربانية لا غير. ولأجل ذلك ذكر أنه من فضل الله في قوله تعالى : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) بعد قوله : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ).

وفي هذه الآية إشارة إلى أن هذه الحكمة المعبر عنها تارة بالقرآن ، وتارة بالنور وعند الحكماء بالعقل البسيط ، هو من فضل الله وكمال ذاته ، أتاها الله لمن اختاره واصطفاه من خواص عباده ومحبوبيه ، كملك من الملوك يعطي خلعته ولباسه المخصوص لمن أحبه من مقربيه لأن الحكمة الحقة من صفاته الذاتية ، ولا ينالها أحد من الخلق إلا بعد تجرده عن الدنيا وعن نفسه بالتقوى والزهد الحقيقي ، والفناء من شوائب الخليقة والانخراط في سلك المهيمين من ملائكته وعباده المقربين حتى يعلمه الله من لدنه علما ويؤتيه حكمة وخيرا كثيرا وفضلا عظيما ويحييه حياة طيبة ، وجعل له نورا يمشي به في ظلمات الدنيا وبرازخ القبور ، كما في قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) فقوله : (كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) أي فانيا عن غير الله باقيا به. والنور الذي يمشي به في الناس هو نور الله ، كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله». ومن أسمائه الروح ، قوله ، «تعالى (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) وقوله تعالى

١٤

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) ومن نعوته ، الحق ، قوله تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) ، (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ). وقوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) وقوله : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ). ومن ألقابه الشريفة الهدى ، لأنه يهدي إلى الحق بل هو الحق. قوله تعالى : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) وقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ). ومن ألقابه الذكر ، لأنه يتذكر به الأمور الآخرة وأحوال المبدإ والمعاد (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) ومنها الشفاء ، لأن به يقع النجاة عن الأمراض النفسانية والأسقام الباطنية والآلام الأخروية من الجهل والحسد والكبر والرياء والنفاق والرعونة والشهوة والغضب وحب الجاه وسائر المهلكات والأمراض التي إذا استحكمت أعيت الأطباء الروحانيين عن علاجها. قوله تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) يعني : أن القرآن هدى وشفاء بالقياس إلى قوم ، وهم الذين لم يفسد قرائحهم ، ولم يتغير فطرتهم الأصلية التي فطرهم الله عليها ، وهو بعينه ضلال بالقياس إلى من فسدت قريحته وتغيرت فطرته ، كما أن نور الشمس يقوي للإبصار وهو عمى للخفافيش ، كما في قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وقوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) ومنها الهدى والرحمة ، قوله : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). وصفات القرآن ونعوته كثيرة يؤدي ذكرها إلى الإطناب فاكتفينا بما ذكر ، لأنه كاف للمتدبر المستبصر.

١٥

قاعدة

في وجوه الفرق بين كلام الله وكتابه

الفرق بين كلامه تعالى وكتابه ، كالفرق بين البسيط والمركب كما مر. وقد قيل : إن الكلام من عالم الأمر ، والكتاب من عالم الخلق ، وإن الكلام إذا تشخص صار كتابا ، كما أن الأمر إذا تشخص صار فعلا ، كما قال (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) وقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

فالفرق بين الكلام والكتاب بوجه ، كالفرق بين الأمر والفعل ، فالفعل زماني متجدد كما ستعلم ، والأمر بريء عن التغير والتجدد ، والكلام غير قابل للنسخ والتبديل ، بخلاف الكتاب : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ).

فصحيفة وجود العالم الفعلي الخلقي هي كتاب الله عزوجل ، وآياته أعيان الموجودات (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ... لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ).

وأما كلمات الله التامات ، فهي الهويات العقلية النورية التي وجودها عين الشعور والإشعار والعلم والإعلام ، وكما أن كتاب الله مشتمل على الآيات (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) فكلام الله مشتمل على الآيات (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ).

واعلم أن الأمر منه تكويني ومنه تشريعي ، والأمر التكويني موجب للطاعة والقبول كإطاعة الملك والملكوت ، بخلاف الأمر التشريعي لأنه أمر بالواسطة ، فتطرق إليه الإباء والعصيان والطاعة والإتيان «فمنهم من أطاع ومنهم من عصى».

واعلم أن النازل على أكثر الأنبياء ، عليهم‌السلام ، من الله هو الكتاب دون كلام الله. وهذا القرآن الذي أنزل على محمد ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كلام الله وكتابه جميعا باعتبارين ، وأما سائر الكتب السماوية المنزلة على سائر

١٦

المرسلين ، سلام الله عليهم أجمعين ، فإنها ليست بكلام الله ، بل كتب يدرسونها ، ويكتبون بأيديهم. فهذا المنزل بما هو كلام الله نور من أنوار الله المعنوية النازل من عنده على قلب من يشاء من عباده المحبوبين (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) وقوله : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) قوله : «نزل على قلبك بالحق» وقوله : (بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ).

وهو بما هو كتاب نقوش وأرقام وصور وألفاظ وفيها آيات أحكام نازلة من السماء نجوما على صحائف قلوب المحبين وألواح نفوس الطالبين ، وغيرهم يكتبونها في صحائفهم وألواحهم الحسية بحيث يتلوها كل تال ويقرؤها كل قار ، ويتكلم بها كل متكلم ، وبها يهتدون وبما فيها يعملون ، ويتساوى في هداها الناس العوام والخواص والأنبياء والأمم ، كقوله : (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) وقوله : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ) وقوله : (وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ ، فِيها حُكْمُ اللهِ).

وأما القرآن العظيم الكريم ، ففيه عظائم الأمور الإلهية التي لا يصل إلى دركه إلا أهل الله خاصة ، لقوله : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ، وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) وفيه كرائم أخلاق الله التي تخلق بها رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله لقوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وكان خلقه القرآن ، كما نقل.

ويدل على ذلك قوله (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) بيان ذلك : أن القرآن نور كما مر من قوله : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) فإذا خرجت به نفوس أمته من الظلمات إلى النور ، صاروا متصفين بالنور متخلقين به ، فإذا كان حال الأمة هذا الحال ، فما ظنك بحال نبيهم ، صلى‌الله‌عليه‌وآله.

دقيقة كشفية

واعلم أنه قد يكون شيء واحد كلاما وكتابا باعتبارين لما علمت ،

١٧

أن الأمر كلام ، والفعل كتاب ، وأن القائم بالمتكلم كلام ، والصادر منه كتاب. فالإنسان مثلا لكونه ذا درجات بحسب النفس والبدن وهو بحسب كل مقام غير خارج عن الهوية الإنسانية إذا تكلم بألفاظ وحروف مسموعة ، فإذا نسبت تلك الألفاظ والحروف إلى نفسه ، كان كتابا له وفعلا صادرا عنه صنعه وكتبه في لوح الهواء وفي مخارج الحروف من الأعضاء ، وإذا نسبت إلى شخص بدنه كان كلاما قائما بشخصه ، لا كتابة صادرة عنه. وكذا القياس إذا تحدث بحديث النفس ، كان باعتبار نسبته إلى عقله المجرد بالصدور كتابا ، ومن حيث قيامه بالنفس واتصافها به كلاما لها ، فهو كتاب لعقله وكلام لنفسه. وكذا الحال في الكتابة الموجودة في لوح وقرطاس يمكن اعتبار الحالين فيها بالصدور والقيام ولو بتعمل. تأمل في ذلك فإنه دقيق لطيف يرفع به الخلاف بين الطائفتين.

قاعدة

في وجوه الفرق بين إنزال كلام الله على قلب النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبين إنزال الكتب السماوية وتنزيلها إلى سائر الأنبياء عليهم‌السلام.

قوله تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي نزل على قلبك حقائق القرآن وأنواره متجلية بسرك ، لا صورة ألفاظ مسموعة أو مكتوبة على ألواح زمردية مقروة لكل قارئ.

دليل ذلك قوله تعالى : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) يعني نزل بالحقيقة لا بالتصوير والحكاية. وقوله : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) يعني ما كنت تكتسب بالدراية والفهم صورة ما في الكتب العلمية ، ولست تتعلم الإيمان من معلم غير الله ، ولكن جعل الله قلبك نورا عقليا تتنور به حقائق الأشياء ويهتدي بها إلى ملكوت الأرض والسماء. وقوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ ، بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وقد

١٨

وقعت الإشارة إلى أن تعليم القرآن من قبل الله بأن يتجلى بنور الحكمة الذي هو حقيقة الكلام ونور الإيمان على قلب من كان من عباده الكرام وأحبائه العظام. وبالجملة ، القرآن خلق النبي ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما مر وسائر الكتب ليست كذلك. وبالجملة من علمه الله القرآن بهذا التعليم ، كان عليه من الله فضلا عظيما ، كما قال لحبيبه ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ، وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).

بل نقول التعليم على ثلاثة أقسام : تعليم بشري ، وتعليم ملكي ، وتعليم إلهي. والأول ، كما لسائر الناس ، والثاني ، كما لسائر الرسل «عليهم‌السلام» ، كان يمثل لهم الملك ويعلمهم الكتاب ، والثالث ، كما لخواص الأنبياء وعظماء الأولياء عند عروجهم المعنوي إلى الله. وإلى هذه الأقسام الثلاثة أشار بقوله : تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) فالأول هو التعليم الإلهي ، والثاني هو الملكي ، والثالث هو البشري ، فافهم أن كنت من أهله. ولا يفهم هذه الرموز إلا من خرج طائر روحه الأمري من قالبه البشري ونفسه فإنه منطق الطير ، وأنت بعد بيضة محبوسة في القشر الصوري ، لست من السيارين في أرض الملكوت ولا من الطيارين في جو الجبروت.

وجه آخر من الفرق ، إنه قال تعالى : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) وقال : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ) وقال في حق القرآن : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ، هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) والفرق ظاهر بين كتاب فيه هدى للناس ويستوون في هداه الأنبياء والأمم ، وبين كتاب فيه هدى الأنبياء والمتقين من هذه الأمة المخصوصين بالعناية ، كما قال : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) وجه آخر ، قال : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً) وقال في حق القرآن : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) وقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً).

والفرق عظيم بين الكتابة والوحي ، وكذا بين الموعظة والبرهان ،

١٩

ثم إنه جعل الله تشريف سائر الأنبياء عليهم‌السلام ، مثل تشريف هذه الأمة ـ المرحومة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث قال لهذه الأمة : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) ، فشتان بين نبي تشرف بكتابة الموعظة له في الألواح ، وبين نبي تشرف أمته بكتابة الإيمان لهم في قلوبهم.

وجه آخر : القرآن تنزل على قلب الرسول ، وسائر الكتب نازلة على صدر الأنبياء ، وفرق بين تعلمهم الكتاب وبين تعلم نبينا الكتاب ، فكانوا يتدارسون الكتب ، وخاتمهم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان متخلقا بالقرآن.

وجه آخر في الفرق بين ما أفاد له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تنزيل الكلام ، وبين ما أفاد لهم عليهم‌السلام ، أنزل الكتب ، فإن أفاد الإنزال لهم الحكمة ، فقد أفاد له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إن أوتي جوامع الكلم ، وبه فضل على الأنبياء عليهم‌السلام وبخمسة أمور أخرى ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فضلت على الأنبياء بست» وكذا تحقق الفرق بين تصرف تنزيل الكلام على قلبه وتصرف الإنزال عليهم ، فإن كان إنزال الكتب تصرف فيهم بأن كان الكتاب مع أحدهم نورا من الله يجيء به إلى أمته ليكون هدى لهم ، كما قال تعالى : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) ، فإن تصرف تنزيل القرآن على قلبه جعله نورا من الله يجيء إلى الأمة ومعه الكتاب لقوله : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكتاب مبين ، فشتان بين نبي يجيء ويكون هو بذاته نورا ومعه كتاب ، وبين نبي يجيء ويكون معه نور من الكتاب.

هذا وقد انكشف عليك من تضاعيف ما ذكرناه لك أن الكلام غير الكتاب وأن الحكمة والنور والقرآن والكلام الإلهي يجري مجرى الألفاظ المترادفة في لسان هذا الكتاب ، وأنها جميعا عبارة عن مرتبة العقل البسيط الذي فيه حقائق الأشياء مجملة ، وأن الكتاب عبارة عن مقام نفسي فيه صور العلوم التفصيلية ونسبة الأول إلى الثاني كنسبة الكيمياء إلى الدنانير وكنسبة البذر إلى الشجرة ، بل كنسبة المبدإ الفعال إلى مجعولاته.

٢٠