أسرار الآيات

صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي [ ملا صدرا ]

أسرار الآيات

المؤلف:

صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي [ ملا صدرا ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات انجمن اسلامى حكمت و فلسفه ايران
المطبعة: چاپخانه وزارت و فرهنگ و آموزش عالى
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٦

الحس والحركة ، ولهذا يحتاج في بقائه الدنيوي إلى معاونات ومعونات خارجية تعاونه وتعينه وتحفظه وتصونه عن الآفات والأضداد ، كما قال : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) ، وقوله : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) ، وإليه الإشارة بقوله : (خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) ، وبقوله : (إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ).

وبالجملة ليس له ما دام الحياة الدنيوية مقام خاص في الوجود لا يتعداه ، (يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ) ، ولأجل هذه الخاصية يمكنه التطور في الأطوار والخروج من كل ما له من الكون المستعار ، والانتقال من هذه الدار إلى عالم الآخرة ودار الأبرار ، والمهاجرة من بيته الذي فيه مهاجرا إلى الله الواحد القهار ، كما في قوله : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) ، وإذ ليس له مقام معين ، فله السير إلى جميع المقامات ، وإذ ليس له صورة معينة ، فله التصور بكل صورة والتحلي بكل حلية ، قال الشاعر :

لقد صار قلبي قابلا كل صورة

فمرعى لغزلان وديرا لرهبان

إذا تقرر ما ذكرناه فنقول : إن حقيقة الأمانة وهي المعبر عنها تارة بفضل الله (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ، هي الفيض الإلهي الأتم بلا واسطة ، والمراد منه الفناء عن كل شيء والبقاء بالله ، والإنسان من بين الممكنات مخصوص بذلك ، وإنما سميت أمانة لأن الفيض بلا واسطة هو من صفات الحق تعالى وقد حمله الإنسان لا غير ، لما ذكرنا من أن ما سواه غير مستعد لقبوله ، لتقيد كل منها بوجوده الخاص ، فالفلكية غير منسلخة من الفلك حتى يبقى فارغا عنها قابلا لغيرها ، وهكذا الأرضية من الأرض والجبلية من الجبال ، وكذا كل من في السماوات والأرض والجبال ، إذ المراد من الآية عرض الأمانة على كل الممكنات لا على بعضها ، والتقدير أنا عرضنا الأمانة على أهل السماوات والأرض والجبال ، ومعنى عرض الأمانة عرض تحمل الفيض الوجودي على وجه العارية المأخوذة أولا ، المردودة إلى أهلها أخيرا ، وقبول الفيض الوجودي الفائض من الله

١٦١

بلا واسطة على الوجه المذكور مختص بالإنسان الكامل دون غيره كما علمت ، فكان العرض عاما على الممكنات مارا على المخلوقات كلها ، فلم يقبلها أحد للعلة المذكورة إلا الإنسان الكامل لفقره وعجزه وضعف قوته وبراءة ذمته عن جميع الشواغل الوجودية ، وقطع التفاته عن ما سوى الحبيب المطلق ، كما حكى الله عن خليله بقوله : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) ، وبقوله : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ).

تنوير تمثيلي

إن نسبة الإنسان إلى سائر المخلوقات كنسبة القلب إلى سائر الأعضاء ، وقد تحقق في علم الطبيعة أن قوة الحياة تفيض من الروح إلى القلب ، وبواسطته إلى سائر البدن ، فيصير ذا حياة وحس وحركة ، فكما أن فيض الروح عام على أعضاء البدن كلها على وجه العارية المردودة إلى أهلها ، وهو الروح عند الموت ، إلا أن قبوله وحمله مختص بالقلب ، ثم من القلب يسري أثر الحياة بواسطة الشرايين وعروق ما سأريقا إلى سائر الأعضاء ، لكل منها ما يناسبه ، فيكون به ذا قوة حياة وحس وحركة ، فكذلك عرض الفيض الإلهي عام على جميع المخلوقات على وجه يقوم عليها مدة ثم يرجع إلى مبدعه ومفيضه عند القيامة الكبرى ، إلا أن قبوله بلا واسطة وحمل أصله مختص بالإنسان الكامل ، ومنه يصل أثر الفيض إلى سائر المخلوقات ، وهذا هو سر الخلافة المخصوصة بالإنسان.

تتمة

وأما قوله : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) على صيغة المبالغة ففيه الإشارة إلى أن الظالم من يظلم غيره ، والظلوم من يظلم نفسه ، وكذا الجاهل من يجهل غيره ، والجهول من يجهل نفسه ، أما ظلم الإنسان على نفسه فإفناؤه ذاته وإماتته نفسه بالإرادة ، وأما جهله بنفسه فلأنه ما عرف نفسه ولم يعلم أنه

١٦٢

ليست ذاته هذه البهيمة الآكلة الشاربة الناكحة المائتة ، وما علم أن هذه البهيمة الحيوانية هي قشر ذاته ، ولها لب هو روحها وروحها أيضا قشر وله لب هو روح روحها وهو محبوب الحق ، كما قال : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) ، ومعلوم عند أهل البصيرة أن محبوب الحق ما ذا يمكن أن يكون ، وأن محب الحق ما ذا يمكن أن يكون ، فإن الشيء لا يحب إلا ذاته ، ولا يحبه أيضا إلا ذاته ، فمن أحب غير الله فقد رغب عن ملة إبراهيم ، حيث إنه قال حكاية عن حاله (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) ، وأيضا لا جهل أعظم من جهل الإنسان نفسه لاستلزام ذلك جهله بربه ، قال تعالى : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) ، وهو بمنزلة عكس النقيض لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من عرف نفسه فقد عرف ربه ، وفي الحكمة العتيقة «من عرف ذاته تأله ، فمن جهل نفسه فقد ظلم على نفسه غاية الظلم» ، (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) و (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ).

واعلم أن علم النفس بذاتها حيث لا يمكن إلا بحضور ذاتها لها ، فتحصيل هذه المعرفة لا يمكن ولا يتصور إلا بتبديل الوجود الظلماني النفساني إلى الوجود النوراني الروحاني ، وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره ، فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ، إشارة إلى هذا المطلب ، فإن الظلمة إشارة إلى ذوات الأشخاص النفسانية الظلمانية قبل خروجها من القوة إلى الفعل ، ومن الظلمة إلى النور ، ومخرج الأشياء من الظلمات إلى النور هو الله تعالى ، والنور هو الفيض الوارد على النفوس القابلة ، الخارجة به من الظلمات إلى النور ، كما تخرج القوة البصرية بإشراق النور الشمسي عليها من القوة إلى الفعل ، فيصير به مبصرة بالفعل بعد ما كانت مبصرة بالقوة.

إذا تقرر هذا فنقول : لما عرض الله الأمانة على المخلوقات فكل مخلوق لم يكن منورا برشاش نور الله ما عرف شرف الأمانة وما قصدها ، أما الأجسام فلبعد مناسبتها ، وأما أرواح الملائكة وغيرهم فلأنهم لم يكن لهم راحلة تحملها بقوة الظلومية والجهولية ، فما قصدوا وما عرفوا حق المعرفة ، (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) لخطر حملها ، (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) لأجل

١٦٣

استعداد الجسدية وقوة الظلومية والجهولية ، فصارت الظلومية والجهولية في حق حامل الأمانة ومؤدي حقها مدحا ، وفي حق الخائنين فيها ذما.

تبصرة أخرى

اعلم أن لهذه الآية الكريمة تأويلا آخر غير ما مر يشعر بذم الإنسان ، كما أن الأول كان مشعرا بمدحه ، وهو أيضا يستدعي بيان تمهيد مقدمتين.

إحداهما أن كل ما عدا الإنسان من الأفلاك والعناصر والمركبات وغيرها فلها ضرب من الوصول والشهود له سبحانه والفناء عن ذواتها ، لانخراط وجود كل منها في وجود علته وفاعله ، فإن فاعل كل شيء هو بعينه غايتها وتمامها كما بين في موضعه ، فوجود كل معلول لمعة من وجود علته ، ووجود كل علة تمام لوجود معلولها ، وكذا الكلام في وجود علة العلة بالقياس إلى تلك العلة ، ومعلول المعلول بالقياس إلى ذلك المعلول ، فثبت أن جميع الممكنات المجعولة وجوداتها مضمحلة منطمسة في وجود القيوم تعالى ، وجميع أنوارها مستهلكة في سطوع النور الإلهي إلا أفراد الإنسان ، فإنهم بواسطة داعية سلطان الوهم واستيلائه عليهم وجهلهم بكيفية الصنع والإيجاد يزعمون أن لهم وجودا وأنانية وقدرة مستقلة.

وثانيهما أنه ما من موجود جسماني أو روحاني في هذا العالم إلا وله سلوك وجودي واستحالة ذاتية وحركة معنوية إلى جانب الحق صائرا إياه ، كما في قوله : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) ، فوجود كل موجود إمكاني بمنزلة أمانة عارية يرد إلى صاحبها آخر الأمر ، وما سوى الإنسان لا يعوق له شيء عن سلوكه سبيل الحق وخروجه عن تحمل هذه الأمانة.

فعلى هذا نقول : المراد من الأمانة ، الوجود الفائض على كل موجود ، لأن وجودات الممكنات هي بمنزلة أشعة ولوامع لوجود الحق تعالى ، فهي ليست قائمة بالممكنات بل قائمة بذاته تعالى ، فلما وقع عرض الأمانة يعني بسط ضوء الوجود على هياكل أهل السماوات والأرض والجبال ، فأبوا أن يحملوها بزعمهم أن لهم وجودا مباينا لوجود الحق ، كالإنسان الغير

١٦٤

الكامل حيث يزعم أن له وجودا ، بل خرجوا عنها وانفكوا عن وجودهم الذي كانوا عليه وأشفقوا عن تحمله ، لأن التقيد بقيد الوجود الخاص الإمكاني مناط الظلمة والبعد عن منبع الفيض والجود ومعدن الكرامة والرحمة ، وحملها الإنسان لظلمه على نفسه بعدم الخروج عن ظلمة البعد إلى نور القرب ، وجهله بأن السلامة والسعادة في الخروج عن هذا الوجود الظلماني والذهاب إلى عالم الحق تعالى ، فقوله : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) علي هذا التأويل مذمة للإنسان ، وعلى التأويل الأول مدح له ولا منافاة بين التأويلين بل الكل محتمل فافهم.

١٦٥

الطرف الثالث

في علم المعاد وبيان حشر النفوس والأجساد وفيه مشاهد :

المشهد الأول

في بيان الفطرة الأولى للإنسان والعود إليها وفي التقابل

بين مراتب البدو ومراتب النهاية

اعلم أن المبدأ هي الفطرة الأولى كما قال (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) ، والمعاد هو العود إليها ، لقوله : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) ، فالإشارة إلى المبدإ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كان الله ولم يكن معه شيء ، وقوله : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) ، وقوله : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) ، فهذا الوجود للممكن هو الخروج من العدم الأصلي إلى الكون وهو الحدوث ، والإشارة إلى المنتهى قوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) ، وقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) وقوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، وهذا خروج من هذا الوجود الناقص المجازي إلى العدم الأصلي ، والبدو والرجوع متقابلان في الجهة ، متحدان في الموضوع ، كما وقعت الإشارة إليه ، فبحكم المبدإ ينبغي أن يسأل الرب تعالى ويجيب الخلق ، فقال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) ، وبحكم المعاد ينبغي أن يسأل الرب ويجيب هو عن نفسه ، فقال : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، فالسقوط الأول للإنسان من

١٦٦

الفطرة أي من العدم إلى الوجود هو الجنة التي كان فيها أبونا آدم (١) وأمنا حواء ، كما قال : (يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) ، والسقوط الثاني له من العدم إلى الوجود ، هو الهبوط منها إلى دار الدنيا ، لقوله تعالى : (اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) ، والرجوع إلى الفطرة هو العود من هذا الوجود المجازي إلى العدم ، وهو إما عدم القالب بالموت الطبيعي (٢) ، (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) وبه يستحق المؤمن من أصحاب اليمين جنة السعداء ، والكافر من أصحاب الشمال جحيم الأشقياء ، والثاني عدم (٣) النفس بموت الفزع قوله : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ، وبه يستحق جنة الكاملين ، (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) ، والثالث عدم الروح بموت الصعق والفناء في التوحيد ، قوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ، وبه يستحق جنة الموحدين ، (فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي).

اعلم أن المجيء إلى الدنيا هو النزول من الكمال إلى النقص والسقوط من الفطرة الأولى ، ولا محالة صدور الخلق من الخالق ليس إلا على

__________________

(١) يعني أن ذلك المسقط هو تلك الجنة ولتلك الجنة عالمان عالم الملكوت الروحاني وعالم الملكوت الصوري والسقوط من تلك الجنة إلى الدنيا بلا واسطة وفاصلة إنما هو السقوط من الجنة الصورية إلى محاذيها في المراتب الصعودية العودية جنة أصحاب اليمين الذين هم المحشورون بالصور والقوالب الجسمانية وهو المعروف بعالم المثال الواسطة بين العالمين عالم الروحاني المعنوي العقلاني وعالم الطبيعي الجسماني الهيولاني (نوري قدس‌سره)

(٢) وهو موت البدن يقوم الساعة والقيامة الصغرى ، ولعدم النفس يقوم الساعة والقيامة الوسطى ، ولعدم الروح يقوم الساعة والقيامة الكبرى. (نوري قدس‌سره)

(٣) يعني من هذا العدم انقلاب الوجود الصوري الملكوتي المثالي المجرد عن المادة الهيولانية والمدة الزمانية بوجود الروحاني المعنوي المجرد عن الصورة وعن المادة والمدة الواسطة بين عالم اليوم الإلهي السرمدي وبين اليوم النفساني الدهري الصوري المعروفة باليوم الربوبي وذلك العالم الواسط برزخ روحاني بين الوجود الحقاني وبين الوجود الإمكاني الصوري المجرد والوجود الهيولاني وبنفخة الفزع ينتقل الأرواح من القوالب الصورية إلى ذلك العالم الواسط الروحاني الغير الحقاني ثم ينتقل تلك الأرواح بنفخة الصعق إلى الوجود الحقاني الذي هو عالم وجه الله الباقي ببقاء الله (نوري قدس‌سره)

١٦٧

هذا السبيل والذهاب من الدنيا إلى الجنة ، ثم إلى جوار الله هو العود إلى الفطرة والتوجه من النقص إلى الكمال ، ولا محالة رجوع الخلائق إلى خالقهم يكون على هذا السبيل ، (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فالأول هو أفول النور وغروب الشمس ، (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، والثاني هو صعود الكلمة وطلوع الشمس من مغربها ، فالعبارة من الأول ليلة القدر ، والعباره من الثاني يوم القيامة ، ففي ليلة القدر (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) ، وفي يوم القيامة (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.)

١٦٨

المشهد الثاني

في الإشارة إلى علم الساعة وسر القيامة وفيه قواعد :

قاعدة

في معنى الساعة

قال صاحب الكشف إنما سميت الساعة ساعة لأنها تسعى إليها النفوس ، لا بقطع المسافات المكانية بل بقطع الأنفاس الزمانية بحركة جوهرية ذاتية وتوجه غريزي إلى الله تعالى ، كما بينا في لمية ضرورة الموت الطبيعي ، فمن مات وصلت إليه ساعته وقامت قيامته ، وهي ساعة القيامة الصغرى ، وعلى هذا القياس حصول يوم القيامة العظمى والطامة الكبرى التي لساعات الأنفاس كاليوم للساعات أو كالسنة للأيام.

واعلم أن أهل المعرفة واليقين لا يشكون في أمر الساعة ولا ينتظرون قيامها ، كانتظار أهل الحجاب والغفلة الذين يشكون في وقوعها ، ويسألون عن وقتها ، (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، بل أهل اليقين يستعدون لقاءها ويرونها كأنها قائمة عليهم ، كما في قوله تعالى : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) ، وقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وقوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ

١٦٩

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) ، وقوله : (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) ، وقوله : (أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) و (لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ).

قال بعض أهل المعرفة : الحق الذي لا شك فيه أن علم الساعة مردود إلى الله ، كما قال : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) ، وليس للمحجوبين أن يؤمنوا بشيء من أسرارها وأشراطها ، إلا كإيمان الأكمه بالألوان من طريق الإيمان بالغيب ، كما قال تعالى : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ، وكما أن مدركات العقل أسرار على الحواس فكذلك مدركات القيامة أسرار على العقل النظري ، فلا يتصور أن يحيط بها أحد ما دام في الدنيا ولم يتخلص عقله عن أسر الوهم وقيد الخيال ، وقول الكفار (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) سؤال عما يستحيل الجواب عنه على موجبه ، فإن أمر الساعة كان (كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) ، ومتى سؤال عن زمان معين للحركات والمتحركات الزمانية ، فاستحال الجواب عنه ، وهو كقول القائل الأكمه إذا وصفنا له المبصرات من الألوان وغيرها كيف نشم أو نذوق هذه الألوان ، والجواب الحق عن ذلك أن العلم بها أن يقال لهم إن العلم بذلك عند الله ، فمن رجع إلى الله تعالى وحشر إليه كان يعرف حينئذ علم الساعة وأنه عند الله كما قال : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها).

واعلم أن أهل الحجاب وأصحاب الظن والارتياب يزعمون يوم القيامة بعيدا عن الإنسان بحسب الزمان كما قال : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) ، وغائبا عنه بحسب المكان ، كما قال : (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ، وأما أهل العلم واليقين فيرونه قريبا بحسب الزمان كما قال : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ، ويرونه حاضرا بحسب المكان كما قال : (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) ، وقوله : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) ، وكان نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله يشاهد الجنة وخازنها ويتناول من ثمارها ، وكان أيضا يشاهد النار و

١٧٠

يستعيذ بالله من شرها وحرها ، كما روي عنه في حال صلاة الكسوف ، ولذلك لم يحكم ولم يصدق بكون حارثة مؤمنا حقا ما لم يكن مشاهدا لأمور الآخرة وأحوال الجنة وأهلها وأحوال النار وأصحابها بعين اليقين ، إذ سأله كيف أصبحت قال أصبحت مؤمنا حقا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك ، قال رأيت أهل الجنة في الجنة يتزاورون وأهل النار في النار يتعاوون الحديث.

قاعدة

في سر القيامة وزمانها ومكانها

اعلم أن القيامة كما مرت إليه الإشارة من داخل حجب السماوات والأرض ، ومنزلتها من هذه الحجب كمنزلة الجنين من الرحم لأمه ، ولذلك لا يقوم القيامة إلا (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) ، و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) ، و (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) ، و (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) و (إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) واذا (النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) و (إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) و (إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) ، (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) ، (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ، (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) ، (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) ، (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) ، (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) ، (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) ، (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) ، (يَوْمَ لا تَمْلِكُ

١٧١

نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) ، (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) ، (إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ)» ، فما دام السالك خارج حجب السماوات والأرض فلا تقوم له القيامة ، لأن القيامة كما مر داخل هذه الحجب عند الله ، (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تقوم الساعة وفي وجه الأرض من يقول الله الله ، إشارة إلى أن الرجل ما دام خارج الحجب فالقيامة سر على علمه ، فإذا قطع الحجب وتبحبح (١) في حضرة العندية سارت القيامة علانية عنده بعد ما كانت غيبا عنه ولذلك لم يجز أن يرى الله ولا أمور الآخرة لا نبي ولا ولي ما دام في الدنيا ، وما لم يصر الأبصار بصائر ، وإن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما كانت القيامة علانية عنده حين قطع حجب السماوات والأرض ونفذ من أقطارها (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) ، ثم إذا رجع إلى مستقره ومهبطه من خارج هذه الحجب صار ذلك الشهود عنده سرا وغيبا ، وانقلبت المعاينة خبرا كما كان قبل العروج ، وإنما كان عينا وعلانية حين قطع حجب السماوات والأرض وكان من وراء الحجب ، وعلى الجملة فالسر سر أبدا حيث هو سر ، والعلانية علانية حيث هي علانية.

واعلم أن سر القيامة من الأسرار العظيمة التي لم يجز للأنبياء عليهم‌السلام كشفها ، لأنهم من حيث كونهم رسلا أصحاب شرائع ، والقيامة يوم جزاء بلا عمل ، ويوم الشريعة يوم عمل بلا جزاء ، وتعب بلا ثواب ، والأولياء أهل قيامة من حيث ولايتهم وقربهم عند الله ، كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ، أخبر عن حاله ومرتبته الباطنية ، وأما حاله في غير ذلك المقام فكما في قوله تعالى : (ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) ... (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) ، وقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ

__________________

(١) إذا تمكن وتوسط المنزل والمقام

١٧٢

 أَيَّانَ مُرْساها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) ، وقوله : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) ، قال لعلي عليه‌السلام : أنا المنذر وأنت الهادى ، وبالجملة الشريعة هي المشرع العام والقيامة هي المقصد والغاية ، فصاحب الشريعة من حيث هو كذلك يقول (لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) ... (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ).

تبصرة عقلية

لا يخفى عليك أن الدنيا كون ناقص وما فيها أكوان ناقصة ، وجواهرها جواهر ضعيفة الوجود متعلقة الذوات بغيرها ، ولنقص جواهرها وضعف وجودها التدريجي يحتاج النفوس الآدمية ما دامت فيها كالأطفال إلى مهد وداية ، فالمهد كالمكان ، والداية كالزمان ، فكل من الزمان والمكان لغاية ضعف وجودها غير مجتمع الوجود ولا قار الذات ، فوجود كل جزء من الزمان يقتضي غيبة صاحبه ، وحضور كل حصة من المكان يستدعي فقد صاحبه ، وأما وجود الآخرة فهي كون تام مستقل بنفسه ، مستكف بذاته ، وكذا الموجودات الأخروية ، فهي أكوان ثابتة قائمة بذاتها وبذات مبدعها ومنشئها بريئة الذوات عن القوة والاستعداد ، وعن الافتقار إلى الأزمنة والمواد ، وإنما هي مفتقرة بمبدئها الجواد ، «الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ و كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً» ، فليس لمكان الآخرة انقسام وانفصال ولا انصرام وزوال ، ولا لزمانها تجدد وانقضاء ، ولا شروع وانتهاء ، بل هذان على هذا النحو مسلوبان هناك ، لكن إذا أريد أن يخبر عنهما لأهل هذا العالم ، المقيدين بسلاسل الزمان وأغلال المكان ، لا يمكن ذلك إلا بضرب من المثال ، فإذا أشير إلى زمان الآخرة وأجيب عن السؤال عن متاها يعبر عنه بأقل زمان وألطفه ، وهو ما يسميه الجمهور الآن ، (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) ، وإذا أشير إلى مكانها وأجيب عن أينها ، يعبر عنه بأوسع مكان فيقال (جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) وقد مر أن أمر الإبداع مثل أمر الإعادة ، قوله : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) ، وقوله : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ

١٧٣

خَلْقٍ نُعِيدُهُ) ، والأول غير زماني ، (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) ، فكذا الثاني (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) ، (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ).

حكمة كشفية

قال صاحب الكشف : القيامة قيامتان ، الصغرى وهي معلومة ، من مات فقد قامت قيامته ، والكبرى ووقتها مبهمة ولها ميعاد عند الله ، ومن وقتها فهو كاذب لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كذب الوقاتون ، وكل ما في القيامة الكبرى فله نظير في الصغرى ، لما علمت أن الإنسان عالم صغير وأحواله أنموذج من أحوال الإنسان الكبير ، ومفتاح معرفة هذه الحقائق معرفة النفس الإنسانية ، وقس الآخرة بالأولى ، والموت بالولادة ، والولادة الكبرى بالولادة الصغرى ، والدنيا بالأم والقبر بالرحم ، والبدن بالمشيمة ، فمن أراد أن يعرف معنى القيامة الكبرى وظهور الحق بالوحدة التامة ، وطي السماوات وقبض الأرض ، واندراس الأزمنة والأمكنة ، واضمحلال المواد والأشخاص ، ورجوع الخلائق كلهم إلى الله ، وعود الروح الأعظم ومظاهره وآثاره إليه تعالى ، وفناء الكل عنده حتى الأفلاك والأملاك والنفوس والأرواح ، كما قال : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) ، وهم الذين سبقت لهم القيامة الكبرى ، فليتأمل في القواعد السابقة والشواهد الماضية ، من إثبات الحركة الجوهرية والاستحالة الذاتية ، وتوجه كل سافل إلى عال ، ورجوع كل شيء إلى أصله ، وعود كل ناقص إلى كماله ، ومن إثبات الغايات الذاتية للأشياء الطبيعية وأفاعيلها الذاتية ، فما من موجود إلا ويقع له الرجوع إلى الله يوما ، ولو بعد أحقاب وأكوار كثيرة ، إما بموت أو فناء أو استحالة أو انقلاب ، فكل حركة وانقلاب لا بد له من غاية ولغايته أيضا غاية إلى أن ينتهي إلى غاية يجتمع فيها الغايات ، وهي يوم واحد إلهي ، بل لحظة واحدة أو أقرب منها ، حاوية لجميع الأوقات والأزمنة والآنات التي يقع فيها النهايات ، كما أن جميع البدايات يبتدأ

١٧٤

من بداية واحدة لمبدإ واحد يتشعب منه كل بداية ومبدإ أثر.

ومن تنور باطنه بنور اليقين ، وشاهد حشر جميع القوى الإنسانية مع تباينها واختلاف ماهياتها وهوياتها إلى ذات واحدة بسيطة روحانية ، ورجوعها إليها واستهلاكها فيها ، كما أنها نشأت (١) وانبسطت منها وتكثرت بوحدتها ، فالروح منه انبساط أشعة القوى على مواضع البدن ، وإليه رجوع أنوارها من محابس مظاهرها ، هان عليه التصديق برجوع الكل إلى الواحد القهار ، وسهل له سلوك سبيل الاهتداء لهذا المطلب الشريف الذي أكثر الخلق عنه غافلون ، وهو «النبأ العظيم الذي عنه معرضون». أما شاهدت يا حبيبي تبدل أجزاء العالم وطبائعها في كل لحظة؟

وأ ما رأيت أنها متزايلة متبدلة دائما بعضها إلى بعض بحركة جوهرية ذاتيه وتوجها جبليا إلى مبدإها وأصلها ، كما قال : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وقال : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) ، (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) (٢) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ.

قاعدة

في معرفة طريق الآخرة ومنشإ إعراض الخلق عن سلوكها

اعلم أن طريق الآخرة سهلة يسيرة غير وعرة ولا صعبة ، والنفوس مجبولة على سلوكها ، لأنها التي وقع المرور عليها عند المجيء من ذلك العالم إلى الدنيا ، وقد علمت أن الطبائع كلها متوجهة إلى الغايات ، ثم إن هذا الطريق واضحة والعلامات منصوبة ، والهداة قائمون ، والقواد موجودون ، والمعلمون من قبل الله مرسلون ، والكتب والرسائل منزلة ، كما قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) ، وقوله : (وَلَقَدْ

__________________

(١) ـ تعليل ودليل الرجوع القوى إلى ما نشأت منه كما بدأكم تعودون (نوري قدس‌سره)

(٢) كأنه إشارة إلى عموم رجوع كل شيء بأية صورة كانت ورجعت وعادت فافهم كما قال لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا أنه بكل شيء محيط (نوري قدس‌سره)

١٧٥

 أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) وقوله : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) ، وقوله : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) ، إلى غير ذلك من الآيات والحجج والبينات ، ومع ذلك فالناس غافلون عنها معرضون عن سلوك الآخرة ، كما قال : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) ، وقوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) ، إشارة إلى أنهم مع كونهم مارين على منازل الآخرة بحسب الغريزة والطبع معرضون عنها بحسب الإرادة والكسب ، لآفة ومرض قد طرأت على نفوسهم ، وغيرتها عما جبلت عليه ، وقوله : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ، وقوله : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) ، وأما سبب إعراضهم عن سلوك طريق الآخرة فهو أشياء كثيرة ، لكن مع كثرتها وكثرة شعبها مندرجة تحت ثلاثة أمور ، كما قيل : رؤساء الشياطين ثلاثة ، شوائب الطبيعة ، ووساوس العادة ، ونواميس الأمثلة.

أما الأولى فعبارة عن دواعي الطبيعة وشهوات النفس والهوى المشار إليها في قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ) إلى قوله (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ، وهي كلها حجب وأغطية على القلوب إذا استغرقت فيها واستحكمت تصير غشاوة وطبعا ورينا على مرآة القلب ، وعمى على عينه ، ووقرا على أذنه ، كما في قوله تعالى : (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) و (جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) ، وقوله : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) ، وقوله : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) ، وقوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ، وذلك لأن السمع والبصر وغيرهما من المدارك التي يمكن بها إدراك الأمور الآخرة ليست هذه الظواهر المادية التي اشتركت فيها سائر الحيوانات مع الإنسان ، بل هذه قشور وملابس على تلك الحواس التي تدرك بها أمور الآخرة ، كما أن مدركات هذه المشاعر قشور وقبور وحجب على مدركات تلك المشاعر ، وهي الصور الموعودة في الجنان ، المستورة عن أعين الخلائق من الإنس والجان ، كما قال : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما

١٧٦

أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، وإدراكها متوقف على نزعها من القشور وإخراجها عن موادها التي هي كالقبور ، (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) و (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) والأبصار ، فمن نظر اعتبر ومن اعتبر عبر.

وأما وساوس العادة فهي تسويلات النفس الأمارة بالسوء وتزيينها الأعمال الغير الصالحة ، وترويجها الاعتقادات الكاسدة ، وتصويرها الآراء الفاسدة بصورة الحق ، ومنشؤها قوة الخيال والوهم ، كما أن منشأ القسم الأول قوة الطبع والحس ، (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).

وأما نواميس الأمثلة فهي كمتابعة أهل الضلال وتقليد المشهورين بالفضل والدراية ، واستهواء الشياطين من الإنس ، أعني علماء السوء ، وإجابة دعوتهم وتتبع آرائهم الفاسدة واقتفاء آثارهم المغوية المضلة ، قوله تعالى : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) ، (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) ، و (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) ... ، وقالوا (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) ، وهذا سد عظيم وحجاب شديد وقع على أكثر الناس أعني تقليد الجهال المتشبهين بالعلماء ، من الجدليين الضالين المضلين المكذبين لأنبياء الله وهم لا يشعرون ، وهم الذين قال الله فيهم : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ، وقال : (مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) ، وقال : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ).

١٧٧

قاعدة

في نتائج الإعراض عن سلوك سمت المعاد بتكميل النفس وتطهيرها ، وتنوير القلب وتهذيبه ، وهي الظلمة وضيق الصدر وعذاب القبر والاحتراق بنار الجحيم والحرمان عن لذات النعيم والاحتجاب عن جمال رب العالمين.

وذلك لما مر أن قوام النشأة وحياة القلب أنما يكون بالعلم والمعرفة فمن لا علم له لا قوام لنفسه ولا حياة لقلبه ولا نور له.

واعلم أن دار الآخرة دار حيوانية علمية ، ووجودها وجود إدراكي ، ليست كدار الدنيا التي هي دار الموت والزوال والجهل والظلمة ، قال تعالى (إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ، فبقدر نور المرفة تكون قوة السعي وسرعة المشي إلى منازل الآخرة ، قال (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) ، فمن لا نور له لا عيش له هناك ، قوله (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى).

واعلم أن للعمى مراتب ، أعني عمى القلب الحقيقي (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ، والمراد من الصدر أيضا الصدر المعنوي الذي هو النفس الحيوانية البشرية المدركة للجزئيات ، وتلك المراتب هي مثل الغشاوة ، (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) ، والختم ، (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) ، والطبع ، (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) ، والرين (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ، وهذا غاية مراتب العمى المؤدية إلى الحرمان واليأس وأعظم الحجب الاحتجاب من الحق ، (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ).

١٧٨

المشهد الثالث

في تحقيق القبر وعذابه وثوابه

قال بعض الأكابر إن نفس الإنسان إذا تجردت عن البدن ربما لا يتجرد عن آثاره وغباره ، بل يصحبها الهيئات المكتسبة ، وهي عند الموت عارفة بمفارقة البدن عن دار الدنيا (١) ، مدركة ذاتها بقوتها الوهمية عين الإنسان المقبور الذي مات على صورته ، كما كان في الرؤيا يشاهد نفسها على صورته التي كانت في الخارج بعينها ، ويشاهد الأمور مشاهدة عيان بحسها الباطني ، ويشاهد الآلام الواصلة إليها على سبيل العقوبات الحسية على ما وردت به الشرائع الحقة ، وهو عذاب القبر ، وإن كانت سعيدة فيتصور ذاتها وصور أعمالها ونتائج ملكاتها وسائر المواعيد النبوية على وفق ما كانت تعتقده أو فوق ما يتصوره ، فهذا ثواب القبر ، ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) البدن العنصري الحي بالحياة الدنياوية ، فهذا البدن العنصري الذي هو من المركبات العنصرية ومن الموجودات الدنيوية التي وجودها عين الموجودات الدنياوية بما هي دنيوية ، كيف يتصور ويتعقل مفارقته عن دار الدنيا وخروجه عنها إلى دار أخرى غير دار الدنيا لاستلزام هذه المفارقة والخروج مفارقة الشيء عن نفسه وانفكاكه عنهما ، وانفكاك الشيء الشخصي بعينه عن نفسه من الأمور النسبية الاستحالية وإن أراد منه البدن الأخروي المعروف بالقالب المثالي وهو الصورة المثالية الملكوتية التي هي بعينها الروح النفسانية المعروفة بالحس الباطن ويسمى بالقوة الخيالية والصورة الخيالية فهذه المفارقة فرع القول بتجرد قوة الخيال وبوجود عالم المثال الصوري وبوجود البعد المجرد عن المادة والمدة وهذا الشيخ ومن يحذو حذوه لا يقولون ولا يمكن لهم القول بذلك والحق على مشربه الكدر هو الاحتمال الأول وهو كما ترى أظهر فلا تغفل (نوري قدس‌سره)

١٧٩

القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران ، فالقبر الحقيقي هذه الهيئات وعذابه وثوابه ما ذكرناه انتهى كلامه.

واعلم أن ما ذكره هذا العالم النحرير غاية ما يمكن أن يقول هو ومن يحذو حذوه من الذين زعموا أن الجزء الباقي من الإنسان بعد الموت ليس إلا جوهرا عقليا لا يصحبه قوة الخيال فضلا عن قوة الحس فصعب عليهم إثبات عذاب القبر وثوابه على الوجه الإدراك الجزئي الحسي.

وأما نحن بحمد الله فلما ذهبنا إلى أن للإنسان غير هذا القشر الطبيعي بدنا نفسانيا ذا حواس جزئية من السمع والبصر والذوق والشم واللمس ، يدرك بها الصور والأشكال الأخروية من المثوبات والعقوبات الموعودة في لسان النبوات ، فلا يعسر علينا إثبات كثير من أمور القيامة وما بعد الموت على الوجه المسموع المنقول.

ثم العجب من هذا القائل ومن في طبقته كيف يمكنهم إثبات هذه الإدراكات الجزئية بعد الموت ، لأنها التي يتوقف عندهم على الآلات الجسمانية والقوى الطبيعية المادية ، والوهم أيضا عندهم قوة قائمة بجزء من الدماغ فكيف يبقى العرض بعد فساد موضوعه ، والحق عندنا أن الجوهر المتخيل الحساس من الإنسان أمر باق بعد الموت الطبيعي.

قال أعظم المحدثين أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه طاب ثراه : اعتقادنا في المساءلة في القبر أنها حق لا بد منها ، فمن أجاب بالصواب فاز بروح وريحان في قبره وبجنة نعيم في الآخرة ، ومن لم يجب بالصواب فله نزل من حميم في قبره وتصلية جحيم في الآخرة ، وأكثر ما يكون في عذاب القبر من النميمة وسوء الخلق والاستخفاف بالبول ، وأشد ما يكون عذاب القبر على المؤمن ، مثل اختلاج العين أو شرطة الحجام ويكون ذلك كفارة لما بقي من الذنوب التي لم تكفرها الهموم والغموم والأمراض ، وشدة النزع عند الموت.

قال بعض أهل الكشف والشهود كل من كشف الغطاء عن بصيرته وشاهد بعين القلب باطنه في الدنيا ، لرآه مشحونا بأنواع الموذيات وأصناف السباع ، مصورة عنده مثل صورة الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر

١٨٠