أسرار الآيات

صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي [ ملا صدرا ]

أسرار الآيات

المؤلف:

صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي [ ملا صدرا ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات انجمن اسلامى حكمت و فلسفه ايران
المطبعة: چاپخانه وزارت و فرهنگ و آموزش عالى
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٦

المتقاطر مطرا ، ومنه ما يقصر عن الارتفاع لثقله ، بل يبرد سريعا وينزل ، فما يوافيه برد الليل قبل أن يتراكم فهو الطل ، وربما جمد البخار المتراكم في الأعالي أعني السحاب فنزل وكان ثلجا ، وربما جمد البخار الغير المتراكم في الأعالي أعني مادة الطل فنزل وكان ضعيفا ، وما يسقط بالليل من السماء شبيها بالثلج ، وربما انجمد البخار بعد ما استحال قطرات ماء فكان بردا ، وإنما يكون جموده في الربيع ، وقد فارق السحاب في الشتاء وهو داخل السحاب ، وذلك لشدة برد الشتاء وضعف برد الربيع ، والمشهور أنه إذا سخن خارجه بطنت البرودة إلى داخله فيتكاثف داخله لشدة البرد واستحال ماء وأجمده شدة البرد ، وهو كما ترى ، وربما تكاثف الهواء نفسه لشدة البرد فاستحال سحابا ثم مطرا.

وأما الجواهر البخارية الدخانية الحاصلة من مادتي الرطوبة واليبوسة فمنها ما يتخلص من الأرض فيكون منها الرياح ، وإذا تصعدت فيتميز البخار من الدخان ، انعقد البخار سحابا فيبرد ويقلقل فيه الدخان طلبا للنفوذ إلى العلو ، فحصل من تقلقله فيه ضرب من الرعد ، وهو صوت ريح عاصفة في سحاب كثيف ، وربما امتد ذلك التقلقل لكثرة وصول المواد وتكون أعالي الجو أكثف ، لأن البرد هناك أشد ، وتكون هناك ريح مقادمة يعوقه عن النفوذ فيندفع إلى أسفل ، وقد أشعلته المحاكة والحركة نارا تبرق ، وتشق السحاب شعلة كجمر يطفي ، ويسمع من ذلك ضرب من الرعد ، وإن كان قويا شديدا غليظ المادة كان صاعقة ، وربما وجد مندفعا فيه سهل الانشقاق فخرج بالرعد واشتعل.

فهذا القدر من الحقائق لا ضير في معرفتها ، والكتاب أشار إليها ، ولا شك في انتهاء أسبابها إلى ملائكة السماوات والأرضين ، ثم إلى مدبر الكل تعالى عما يصفه الجاهلون ويعتقده الظالمون من المعطلة والمجسمة.

فللإشارة إلى إيجاده تعالى لهذه الكائنات الناقصة بتهييجه لأسبابها قال : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) ، و

١٢١

قال : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) ، وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) ، وقوله : (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) ، وقوله : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) ، وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

قاعدة

في خلق أنواع المعادن من المركبات التامة التركيب ، التي لها

صور نوعية حافظة للتركيب ، فاعلة لآثار مخصوصة».

لما أراد الله سبحانه ، بمقتضى قضائه الأزلي وعنايته أن يجعل في الأرض خليفة وخلق من هذه العناصر المتضادة الوجود ، البعيدة عن عالم القدس والجود ، موجودا كاملا يصلح لأن يكون نائبا من الله في عمارة النشأتين ، وكان لا يتصور وجوده من هذه المواد إلا بعد تعديلها وتهذيبها عن الكدورة والظلمة اللازمة لهذه الأجسام ، سيما الأرض التي هي العنصر الغالب فيه ، فقلبها في الأطوار ، وخمر طينة الغالب بفنون من التخميرات ، فجعلها أولا جمادا ، ثم نباتا ، ثم حيوانا ، وهكذا استوفى درجات هذه الأكوان ليتهيأ منها ويعدها خلقة الإنسان ، فأول تعديل وتصفية وقعت في هذه المواد بأن حصل منها صورة الجماد ، قال تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَ

١٢٢

سَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) ، وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) ، وقوله : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ، وقوله : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ).

قاعدة

في خلقة النبات والحيوان والإنسان من صفوة العناصر والأركان.

إن العناصر إذا امتزجت بإذن الله واستخدامه للقوى العالية ، وخرجت بسبب اعتدال مزاجها عن صرافة تضادها وتعصيها عن قبول الفيض الرحماني ، فتصير قابلة لأثر من الحياة ، فأول ما قبلته من إفاضة الله هي الصورة الحافظة لتركيبها ، وهي الصورة المعدنية ، ثم إذا وقع لها امتزاج أتم وحصل مزاج أعدل وأقرب إلى الوحدة والجمعية قبلت أثرا آخر من آثار الحياة أشرف ، وهي النفس النباتية ، شأنها التغذية والتنمية والتوليد ، فإذا امتزجت امتزاجا وحصل لها مزاج أتم وأفضل وإلى الوحدة الخالصة أميل ، تهيئت لقبول أصل الحياة بعد ما استوفت درجات المعادن والنبات بفيضان النفس الحيوانية الشاعرة المحركة بالاختيار ، ولها قوتان مدركة ومحركة ، كما قال : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) ، فالمدركة منقسمة إلى ظاهرة ، هي الحواس الخمس المشهورة ، وباطنة هي الحواس الخمس الباطنة للحيوانات الكاملة ، الحس المشترك والخيال والمتصرفة والواهمة والحافظة ، وأما القوة المحركة ، فمنها الباعثة ذات شعبتين ، الشهوة و

١٢٣

الغضب ، ومنها الفاعلة لجذب الأوتار وإرخائها وآلتها الأعصاب المنشعبة بعضها عن الدماغ وبعضها عن النخاع ، وقد جعله الله خليفة الدماغ ، وحامل هذه القوى الروح البخاري الذي جعله الله خليفة النفس ورسولا منها إلى البدن ، وهو الحار الغريزي عند الأطباء ، المنبعث أولا من القلب الصنوبري صورة القلب المعنوي ، وإذا لطف جدا حتى يشبه الجرم الفلكي صار محل استواء الروح النطقي المضاف إلى الله في قوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي).

قاعدة

في أن الغرض من هذه الموجودات وقواها الطبيعية والنباتية والحيوانية كلها خلقة الإنسان الذي هو غاية خلقة العناصر والأركان ، لأنه صفوها وأصلها وخلق من فضالتها وثفلها سائر الأكوان ، فهو الصفوة العليا واللباب الأصفى وغيره كالقشور لصيانة وجوده عن الآفة ، ولذلك تزول هي وترمى ، وهو يدوم ويبقى محشورا راجعا إلى ربه ، والإشارة إلى أن كل ما يوجد في العالم من سائر الأكوان إنما خلق لأجل الإنسان.

قال تعالى في باب المعادن والجماد : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) ، وقال : (هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ، وقال : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) ، وقال : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) ، وقال : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) ، وقال في باب النبات : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ

١٢٤

مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) ، وقال أيضا في حقه : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، وقال : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ، وقال في حق الحيوان : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) ، وقال أيضا : (إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) ، وقال : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، وقال : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) ، وقال مشيرا إلى أن جميع ما في عالم الأرض مخلوق لأجل الإنسان ، و (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ، وقال مشيرا إلى أن ما في السماء لأجله ، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ،) وقال مشيرا إلى أن إيجاد الكل لأجله. (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

فللإنسان أن ينتفع بكل ما في هذا العالم على وجه من الوجوه ، إما في غذائه وفي دوائه ، أو ملبوساته أو مركوباته أو زينته أو الالتذاذ بشيء منها بصورته أو صوته أو طيبه أو رؤيته ، أو الاعتبار به وباستفادته العلم منه والاقتداء بفعله فيما يستحسن منه ، والاجتناب عنه فيما يستقبح منه ، وقد نبه الله على منافع جميع الموجودات إما بألسنة الأنبياء عليهم‌السلام ، وإما بإلهام الأولياء ، أو بغير ذلك من الإعلامات بالفكر والقياس والحدس ، فحق الإنسان أن ينتفع بكل شيء في السماء والأرض ، فقد أحسن من قال :

١٢٥

تعلمت من كل شيء أحسن ما فيه ، حتى من الكلب حمايته على أهله ، ومن الغراب بكوره في حاجته ، ولا يبعد أن يكون قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) الآية تنبيها للإنسان على التعلم والاقتداء بالنحل في مراعاته لوحي الله تعالى ، فكما أنها لا يتخطى وحي الله في مجرى المصالح طبعا ، كذا يجب على الإنسان أن لا يتخطى وحي الله اختيارا.

قاعدة

في خلقة الإنسان وأنه الثمرة العليا واللباب الأصفى والغاية القصوى من وجود سائر الأكوان ، والكلام هاهنا في مادة وجوده ، وسيجيء الكلام في صورة وجوده.

اعلم أن الطبيعة ما لم توف بالمادة جميع درجات النوع الأخس لم يتجاوز بها إلى النوع الأشرف ، وقد حقق بالبرهان أن الموجود الأشرف يجب أن يندرج فيه جميع المعاني المتحققة في الموجود الأخس على وجه أعلى وألطف ، وقد أشرنا آنفا إلى أن العناصر إذا امتزج بعضها ببعض وخرجت بسبب اعتدال كيفياتها عن صرافة تضادها وتعصيها عن قبول الفيض الإلهي تصير قابلة لأثر من آثار الحياة ، فأول ما قبلته من إفاضة الله هي صورة حافظة لتركيبها مبقية لوجودها بإذن الله تعالى ، ثم إذا حصل لها امتزاج أتم واعتدال أفضل وأقرب إلى الوحدة الجامعة ، قبلت أثرا آخر من آثار الحياة أشرف ، وهي النفس النباتية التي شأنها التغذية والتنمية والتوليد للمثل ، وإذا امتزجت امتزاجا أكثر اعتدالا وأرفع قدما من التسفل والتضاد والتفرقة ، وأقرب مقاما إلى عالم الصفاء والنور ، تهيأت لقبول أصل الحياة بعد أن يستوفي درجات الجماد والنبات بفيضان النفس الحيوانية الحساسة المتحركة بالإرادة ، وإذا لطفت المادة العنصرية جدا حتى تشبه الجرم الفلكي صار محل استواء الروح النطقي الإضافي الذي من الله مشرقه وإلى الله مغربه ، ففي الإنسان شيء كالفلك وشيء كالملك ، وبهما جميعا يصلح عمارة الدارين ويستحق خلافة الله أولا في العالم الأسفل

١٢٦

الأرضي ثم في العالم الأعلى السماوي ، فقد تبين أن وجود الإنسان لم يحدث من الله إلا بعد استيفاء الطبيعة جميع درجات الأكوان ، وطيها منازل النبات والحيوان ، فيجتمع في ذاته جميع القوى الأرضية والآثار النباتية والحيوانية ، وهذا أول درجات الإنسانية التي اشترك فيها جميع أفراد الناس ، ثم في قوته الارتقاء إلى عالم السماء ومجاورة الملكوت الأعلى بتحصيل العلم والعمل ، كما قال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ، ثم له أن يطوي بساط الكونين ويرتفع من العالمين بأن يستكمل ذاته بالمعرفة الكاملة والعبودية التامة ، ويفوز بلقاء الله بعد فنائه عن ذاته ، وحينئذ يصير رئيسا مطاعا في العالم العلوي ، مسجودا للملائكة السماوية ، يسري حكمه في الملك والملكوت ، ويسمع دعاؤه في حظيرة قدس الجبروت ، قال تعالي في خلقة بدن الإنسان : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) ، فالطين مادته الأولى ، لأنه الجزء الغالب من عناصره ، كالنار في الجن ، والسلالة مادته الثانية مرتبتها مرتبة المعدنيات لكون صورتها حافظة لتركيبها ، ولهذا عقب بقوله (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) ، وقوله (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) ، إشارة إلى المراتب السابقة على الإنسانية المشتركة جميع الحيوانات مع الإنسان ، وقوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) ، إشارة إلى نحو آخر من الوجود ، مخالف الذات والحقيقة لما سبق من الأطوار السابقة على الإنسانية ، وهي كلها صور كونية قائمة بالجسم ، وهذا نور فائض من الله قائم بذاته ، بل بذات الله تعالى ، قيام الضوء الوارد على وجه الأرض بذات الشمس لا بذاته ولا بذات الأرض بل الأرض مظهر قابل لظهوره ، وكذلك البدن العنصري باستعداده مظهر قابل لظهور هذا النور الرباني الذي من الله مشرقه وإلى البدن مغربه ومهبطه ، وسيرد إلى الله يوم طلعت الشمس من مغربها ، فتطلع هذه النفس عند خراب القالب إلى خالقها ومنشئها ، ويرجع إلى الله إما زاهرة مشرقة ، وإما مظلمة منكسفة ، والمظلمة أيضا راجعة إلى الحضرة الإلهية ، إذ مرجع الكل ومصيره إليه ، إلا أنها ناكسة الرءوس

١٢٧

عن أعلى عليين إلى أسفل السافلين ، ولذلك قال : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، وقال : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) ، وهؤلاء هم المنافقون الذين هم أسوأ حالا من الكفار المحضة ، لأنهم المحجوبون أزلا وأبدا.

واعلم أن التحقيق يقتضي أن قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) مختص ببعض أفراد الناس كما ستعلم ، وبالجملة ظهر أن المقصود الأصلي من إيجاد الكائنات هو الإنسان الكامل الذي هو خليفة الله ، قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ، وقوله : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) ، وقوله : (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، وقوله ، (يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) ، وقوله : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) ، وقوله : (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) ، كل ذلك إشارة إلى أنه لا يستصلح لخلافة الله وعمارة الدارين إلا الإنسان الكامل ، وهو الإنسان الحقيقي مظهر اسم الله الأعظم كما نبه بقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).

قاعدة

في ذكر العناصر التي منها تكون الإنسان

واعلم أنه ذكر الله تعالى في غير موضع من القرآن العناصر التي منها أوجد الإنسان ونبه على أنه جعله إنسانا في سبع درجات ، وأشار إلى ذلك في عدة مواضع مختلفة حسب ما اقتضت الحكمة ، فقال في موضع (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) إشارة إلى المبدإ الأول ، وفي آخر (مِنْ طِينٍ) إشارة إلى الجمع بين التراب والماء ، وفي آخر من (حَمَإٍ مَسْنُونٍ) إشارة إلى الطين المتغير بالهواء أدنى تغير ، وفي آخر (مِنْ طِينٍ لازِبٍ) إشارة إلى الطين المستقر على حالة من الاعتدال يصلح لقبول الصورة ، وفي آخر (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) إشارة إلى يبسه وسماع صلصلة منه ، وفي آخر (مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) وهو الذي قد أصلح بأثر من النار فصار كالخزف ، وبهذه القوة

١٢٨

النارية حصل في الإنسان أثرا من الشيطنة ، وعلى هذا المعنى دل بقوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) ، فنبه على أن الإنسان فيه من القوة الشيطانية بقدر ما في الفخار من أثر النار ، وأن الشيطان ذاته من المارج الذي لا استقرار له ، ثم نبه على تكميل الإنسان بنفخ الروح فيه ، بقوله : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ، ثم نبه على تكميل نفسه بالعلوم والمعارف بقوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) ، وليس المراد منها صور الألفاظ ، بل المعاني والمفهومات ، ثم ذكر مادة خلقة الإنسان وتقلبها في الأطوار وتدرجها من حالة إلى حالة ومن خلق إلى خلق ، فقال : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).

فإن قيل لم قال (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) ولم يقل فخلقنا العظام لحما كما في السوابق.

قلنا لأن النطفة انتهت إلى صورة العظم التي هي صورة نوعية جوهرية كغيرها من الأعضاء البسيطة ، وليس من شأنها الاستحالة إلى شيء آخر إلا بعد فساد صورتها ، وهي باقية الصورة في بدن الإنسان ، وليس اللحم متكونا من النطفة كالعظم والرباط والعصب وغيرها ، بل أنشأ الله اللحم من الغذاء لا من النطفة ، وأجراها مجرى الكسوة التي تحصل لا من مادة البدن ، ولذلك إذا قطع من الإنسان أو الحيوان اللحم عاد ، ولم يكن كالعظم الذي لا يعود بعد قطعه ، وكذلك العصب وغيره ، وقال أيضا : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) ، «فهذا هو الأشد الصوري والبلوغ الحيواني» (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) «بأسباب قدرية مانعة عن الوصول إلى حد الشيخوخية» ، والغاية في هذا المقدار من العمر الوصول إلى الأشد المعنوي والبلوغ العقلي ، فإن هذا الكمال أعني صيرورة النفس عقلا بالفعل بعد ما كانت عقلا بالقوة ينشأ غالبا في حدود الأربعين وما بعدها كما قال : (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ

١٢٩

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، وأردف هذا الكلام بقوله : (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، إشارة إلى الحياة العقلية النورية ، ومقابلها وهو موت الجهل كما في قوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) الآية ، إشارة إلى أن مبدأ هذه الحياة من عالم الأمر الذي وجوده بكلمة الله التامة الوجودية ، ولا يتعلق وجوده بشيء آخر كبدن أو مادة أو طبيعة أو غيرها.

وقال تعالى إشارة إلى مبادي تكون الإنسان ونفسه : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) ، وهذه التسوية فعل وقع من جانب الله في محل قابل لفيضان الروح بعد تردده في أطوار الخلقة بالتسوية والتعديل ، وكما أن القابل للصورة النارية لا يمكن أن يكون جسما يابسا محضا كالتراب والحجر ولا رطبا محضا كالماء والشجر الرطب ، بل لا بد لقبولها من مادة دخانية تحدث من نبات يابس لطيف فتشبث به النار وتشتعل فيه ، كذلك الطين ، بعد أن أنشأه الله خلقا بعد خلق في أطوار متعاقبة يصير نباتا ، فيأكله الآدمي فيصير دما ، فينزع القوة المميزة المركوزة في كل حيوان من الدم صفوه الذي هو أقرب إلى الاعتدال وأبعد من الكثرة والتضاد ، فيصير نطفة يقبلها الرحم ويمتزج بها مني المرأة فيزداد اعتدالا ، ثم ينضجها الرحم بحرارته فيزداد تناسبا حتى ينتهي في الصفا ، واستوى نسبة الأجزاء إلى غاية يستعد لقبول النفس وإمساكها ، كما يستعد الفتيلة الممتزجة بالدهن لقبول النارية وإمساكها ، ثم هذه النفس الآدمية كأنها نطفة روحانية وقعت من صلب القضاء في مشيمة البدن ورحم الدنيا ، يحتاج إلى تصفية وتعديل الأخلاق والملكات النفسانية ، بأدهان المعارف ولبوب الأغذية العلمية ، لتصير مادة لفيضان الروح الإلهي المنفوخ بإذن الله في قالب العقل الهيولاني بعد تطوره بالأطوار الملكية ، والتسوية عبارة عن هذه الأفعال المرددة لمادة خلقة الإنسان في الأطوار السالكة بها إلى صفة الاستواء صورة ومعنى.

فالتسوية تسويتان ، بإحداهما يحصل الإنسان البشري لأجل فيضان

١٣٠

النفس عليه ، وبالأخرى يحصل الإنسان الملكي بواسطة فيضان الروح الإلهي على نفسه ، فالتسوية الأولى للبدن والثانية للنفس ، كما قال : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) ، وقوله أيضا مشيرا إلى مبادي أطوار الخلقة ونهايات كمالها ، (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) ، وهذه التسوية المذكورة هاهنا هي التي وقعت من فعل الله بعد خلق الإنسان ونسله ، وهذا الروح المنفوخ المضاف إلى الله هو الروح الأمري الذي من عالم الأمر لا النفس التي وقع فيه الاشتراك لجميع الناس ، وقوله (وَجَعَلَ لَكُمُ) على سبيل الخطاب لجماعة مخصوصين من هذه الأمة المرحومة دال على أن المراد بهذا السمع والبصر والأفئدة ما هي المخصوصة بأهل الفضل والكمال ، لا الذين أصمهم الله (وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) ، فهم ممن ليس لهم سمع عقلي ولا بصر عقلي ولا فؤاد نوراني ، فيظهر من هذا أن المراد من الروح المذكور هو الروح العلوي الإلهي لا البشري النفساني.

ثم أشار إلى أن هذا الروح هو المستحق للقاء الله ، وهو يكون في قليل من أفراد الناس ، ولهذا قال : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) إلى قوله (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) وهذا حال أكثر الناس.

قاعدة

في فضل معرفة الإنسان نفسه

اعلم أن في معرفة النفس الإنسانية اطلاعا على أمور كثيرة.

أحدها أنه بواسطتها يتوصل إلى معرفة غيرها ، ومن جهلها جهل كل ما عداها.

والثاني أن النفس الإنساني مجمع الموجودات كما سيظهر ، فمن عرفها فقد عرف الموجودات كلها ، ولذلك قال تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي

١٣١

أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) ، تنبيها على أنهم لو تدبروا أنفسهم وعرفوها ، عرفوا بمعرفتها حقائق الموجودات فانيها وباقيها ، وعرفوا بها حقيقة السماوات والأرض ، ولما أنكروا البعث الذي هو لقاء ربهم وقال : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) ، وقال : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ).

والثالث أن من عرف نفسه عرف العالم ، ومن عرف العالم صار في حكم المشاهد لله تعالى ، لأنه خالق السماوات والأرض ، ولم يك كالكفرة الجهلة الذين اتكلهم الله ووبخهم في جهلهم وانحطاطهم عن هذه المنزلة ، فقال فيهم : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً).

والرابع أنه يعرف بمعرفة روحه العالم الروحاني وبقاءها ، وبمعرفة جسده العالم الجسداني ودثورها وفناءها ، فيعرف خسة الفانيات الداثرات ، وشرف الباقيات الصالحات ، كما قال : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً).

والخامس أن من عرف نفسه عرف أعداءه الكامنة فيها المشار إليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك» فيستعيذ منها ، كما في قولهم عليهم‌السلام : «اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي ، وقوله : لا تكلني إلى نفسي طرفة عين فأهلك» ، ومن عرف أعاديه الكامنة ومكايدها وكيفية انبعاثها ، أحسن أن يحترز منها وأن يجاهدها ، فيستحق ما وعد الله به المجاهدين في سبيله ، ومن لم يعرفها فجدير أن يتراءى له عدوه الذي هواه بصورة العقل ، فيسول له الباطل بصورة الحق ، كما قال : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) ، وقوله : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) ، وكما ورد في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الهوى شيطان ، وقوله : الهوى إله يعبد من دون الله ، وروي أيضا أنه قال : ما عبد في الأرض إله أبغض إلى الله تعالى من الهوى ، ثم تلا (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ).

١٣٢

والسادس أن من عرف نفسه عرف أن يسوسها ، ومن أحسن أن يسوس نفسه وجنودها أحسن أن يسوس العالم فيستحق أن يصير من خلفاء الله تعالى المذكورة في قوله تعالى ، (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) ، ومن الملوك المذكورة في قوله : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً).

السابع أن من عرفها لم يجد عيبا في أحد إلا رءاه موجودا في ذاته ، إما ظاهرا مشهودا وإما كامنا كمون النار في الحجر ، فلا يكون غيابا همازا لمازا معجبا متفاخرا ، فإن كل عيب تراءى له من غيره وجده في نفسه ، ومن تراءى له عيب نفسه فجدير به أن يكون ممن دعا له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : رحم الله من أشغله عيبه عن عيب غيره.

والثامن أن من عرف نفسه فقد عرف ربه ، وقد روي أنه ما أنزل الله كتابا إلا وفيه ، اعرف نفسك يا إنسان تعرف ربك ، وفي الخبر ثلاثة تأويلات.

أحدها أن بمعرفة النفس يتوصل إلى معرفة الرب ، كقولك : اعرف العربية تعرف الفقه ، أي بمعرفة العربية يتوصل إلى معرفة الفقه ، وإن كان بينهما وسائط.

والثاني أنه إذا حصل معرفتها حصل بحصول معرفتها معرفة الله بلا فاصل ، كقولك : بطلوع الشمس يحصل الضوء ، مقترنا بها وبطلوعها غير متأخر عنه بزمان.

والثالث أن معرفة الله ليست تحصل إلا أن تعرف النفس ، لأنك إذا عرفتها على الحقيقة تعرف العالم ، وإذا عرفت العالم تعرف الحق تعالى.

وفيه وجه رابع وهو أنك إذا عرفت النفس فقد عرفت الرب ، وهذا هو الغاية في معرفته ، لا يمكن لك فوق هذه المعرفة ، وإليه الإشارة بما قال علي عليه‌السلام : إن العقل لإقامة رسم العبودية لا لإدراك الربوبية ، ثم تنفس الصعداء وأنشأ يقول :

كيفية النفس ليس المرء يدركها

فكيف معرفة الجبار في القدم

هو الذي أنشأ الأشياء مبتدعا

فكيف يدركه مستحدث النسم

١٣٣

وقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) ، تنبيه على أنهم لو عرفوا أنفسهم لعرفوا الله ، فلما جهلوا دل جهلهم إياه على جهلهم أنفسهم.

قاعدة

في الإشارة إلى قوى الأشياء التي جمعت في الإنسان

قد جمع الله فيه قوى العالم ، وأوجده بعد وجود الأشياء التي جمعت فيه ، قال تعالى تنبيها على ذلك ، (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) ، فإنه تعالى أوجد فيه بسائط العالم ومركباته وروحانياته وجسمانياته ومبدعاته ومكوناته ، فالإنسان من حيث إنه جمع فيه جميع ما وجد في العالم من أقسام الجواهر والأعراض والبسائط والمركبات والأرواح والأجسام هو العالم ومن حيث إنه صغر شكله وجمع فيه قوى العالم ، فهو كالمختصر من الكتاب والنسخة الموجزة المنتخبة منه ، لأن المختصر الموجز من الكتاب هو الذي قلل لفظه واستوفى معناه ، والإنسان هو هكذا إذا قابلناه مع العالم ، ومن حيث إنه صفوة العالم ولبابه وخلاصته وثمرته فهو كالزبد من المخيض والدهن من السمسم والزيت من الزيتونة ، ومعرفة الله فيه إذا حصلت فكنور المصباح إذا اشتعل الزيت ، قال تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ) ، أي في قلب المؤمن كما في قراءة ابن مسعود (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) الآية ، فالمشكاة البدن ، والزجاجة الروح الحيواني التي هي بمنزلة المرآة لصفائها وقبولها لصور المحسوسات ، التي هي عكوس الصور الحقيقية وأشباحها المثالية ، والزيت القوة القدسية التي هي أفضل ضروب العقل الهيولاني ، وهو أول درجة النفس الناطقة وآخر درجة النفس الحساسة ، وهو بعينه القوة الخيالية عندنا ، لأنها أيضا مجرد عن البدن موجودة لا في عالم الطبيعة ، بل فيما فوق هذا العالم ، والشجرة المباركة هي القوة الفكرية التي هي أفضل ضرب من القوة الخيالية ، لأنها إذا قويت تصير متفكرة.

١٣٤

فإذن نقول في بيان أن الإنسان مطابق للعالم : إن فيه أشياء هي أمثال ما في العالم الكبير ، ففيه أشياء كالعناصر من حيث ما فيه من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، أو من حيث ما فيه الدم والبلغم والصفراء والسوداء ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) ، أي مختلطة من قوى أمور مختلفة ، وفيه أشياء كالمعادن والجبال من حيث ما فيه من العظام والأعضاء ، وشيء كالنبات من حيث ما يتغذى وينمو ويولد ، وشيء كالبهيمة من حيث ما يحس ويتخيل ويلتذ ويتألم ويشتهي ويغضب ، وشيء كالسباع من حيث ما يحارب ويصول ، وكالشيطان من حيث ما يغوي ويضل ، وكالملائكة من حيث ما يعرف الله ويعبده ويهلله ويحمده ويسبحه ويقدسه ، وكاللوح المحفوظ لقوة حفظه لمدركات الأشياء أو من حيث ما جعله مجمع الحكم التي كتبها فيه على سبيل الاختصار.

وقد ذكر بعض الحكماء أن في بدن الإنسان أربعة آلاف حكمة وفي نفسه قريبا من ذلك ، وكالقلم من حيث ما يستحضر ويستثبت صور المعقولات في نفسه على وجه التفصيل بقوة عقله البسيط الذي كمن فيه الكل على وجه الإجمال ، أو من حيث ما يثبت بكلامه صور الأشياء في قلوب الناس ، كما أن القلم يثبت الحكم والعلوم في اللوح المحفوظ وقلوب الملائكة ، ولأجل صحة المطابقة بين الإنسان والعالم قال : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ).

قاعدة

في ذكر تكون الإنسان شيئا فشيئا حتى يصير إنسانا كاملا

الإنسان يتكون أولا من أمر عدمي ، وهي قوة هيولانية ، وإليه الإشارة (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) ، ويتكون أيضا جمادا ميتا ، لقوله تعالى : (كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) ، وذلك حيث كان ترابا وطينا وصلصالا ونحوها ، ثم يصير نباتا ناميا لقوله تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) ، وذلك حيث ما كان نطفة وعلقة ومضغة ، ثم يصير حيوانا

١٣٥

لقوله : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) ، ثم يصير إنسانا بشريا متفكرا متصرفا في الأمور ، لقوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) ، وقوله : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) ، ثم يصير إنسانا معنويا ذا نفس ناطقة ، لقوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) ، ثم يصير إن ساعده التوفيق والعناية جوهرا قدسيا وروحا إلهيا ، لقوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ).

وأول ما يظهر فيه قوة النزاع الموجودة في النبات والحيوان وهو الميل إلى الملائم ميلا بالطبع ، ثم قوة تناول الموافق ودفع المخالف ، وهي قوة الشهوة والنفره ، ثم الإحساس ثم التخيل ثم التصور ثم التفكر ثم التعقل النفساني التفصيلي ثم العقل البسيط الإجمالي ، لكنه لم يصر إنسانا إلا بالفكرة وبالعقل الذي به يتميز في الجملة بين الحلال والحرام في الأفعال ، وبين الخير والشر في الذوات ، والجميل والقبيح في الصفات ، وهو أول درجة الإنسانية.

وإلى العقل أشار بقوله تعالى : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ، فالإنسان صار بعقله معدن العلم ومركز الحكمة ، ووجود العقل فيه في ابتداء الأمر بالقوة ، كوجود النار في الحجر المحتاج في أن يوري إلى القدح وكوجود النخل في النواة المحتاج في أن يثمر إلى غرس وسقي ، ونفس الإنسان واقعة بين عالمين عالم الملكوت وعالم الملك ، بل بين قوتين قوة العقل وقوة الشهوة ، فبقوة الشهوة يحرص على تناول اللذات والمشتهيات البهيمية والسبعية ، وبقوة العقل يحرص على تناول العلوم الحكمية والأفعال الجميلة ، وإلى هاتين القوتين أشار بقوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) ، والأغلب على أكثر الناس هي قوة الشهوة والميل إلى الدنيا ، ولذلك قال تعالى : (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ، ولأجله لا يستغني أكثر الناس في سلوك طريق الآخرة عن سياسة قاهر زاجر إياه ، حتى ورد أنه قال عليه‌السلام : يا عجبا لقوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل.

١٣٦

وبالجملة فذات الإنسان من حيث ما اجتمع قوى جميع الموجودات صار معدن آثارها ومجمع حقائقها ، مستودعا فيه معاني العالم ، وكأنه مركب من جماد ونبات وبهائم وسباع وشياطين وملائكة ، ولذلك يظهر في شعار كل واحد منها ، فيجري تارة مجرى الجمادات في الكسل وقلة التحرك والانبعاث ، وعلى هذا نبه بقوله : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ، وقد يظهر في شعار النباتات الجميلة والذميمة ، فيصير إما كالأترج في لونه وطيبه وطعمه ، أو كالنخل والكرم في المنافع ، أو كالحنظل في خبث المذاق ، وكالكشوث (١) في عدم الخير ، وعلى هذا نبه بقوله : (مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً) و (مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) الآية ، ويظهر تارة في شعار الحيوانات المحمودة أو المذمومة ، فيصير إما كالنحل في كثرة منافعه وقلة مضاره وفي حسن سياسته ، كما في قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) الآية ، او كالخنزير في الشره ، او كالذئب في العيث (٢) ، أو كالكلب في الحرص ، أو كالنمل في الجمع والادخار ، او كالفأرة في السرقة ، أو كالثعلب في المراوغة (٣) ، أو كالقرد في المحاكاة ، أو كالحمار في البلادة ، أو كالثور في الأكل ، وإلى هذا النحو من المشابهات دل بقوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) ، ويظهر تارة في صفات الشياطين ويسول الباطل في صورة الحق كما دل بقوله تعالى : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً).

وأفضل قوة فيه التي بها يستحق خلافة الله في العالم هي القوة العقلية ، وأشرف صفاتها التي بها يفوق على الملائكة كلها هي العلم والحكمة ، كما جعل الله النبات زبدة العناصر والحيوان زبدة النبات ، وجعل الإنسان سلالة العالم وزبدته ، وهو المخصوص بالكرامة ، كما قال : (وَلَقَدْ

__________________

(١) نبات مجتث مقطوع الأصل وهو أصفر يتعلق بأطراف الشوك وغيره والذي يركب النباتات الزارعية.

(٢) عاث الذئب في الغنم أي أسرع في إفساده.

(٣) خادعه أي على وجه المكر.

١٣٧

 كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) الآية ، فكذا جعل قوة العقل والمعرفة غاية وجود الإنسان والغرض منه ، إذ ليس فضل الإنسان بقوة الجسم ، فالفيل والبعير أقوى منه أجساما ، ولا بطول البقاء في الدنيا ، فالنسر والفيل أطول منه عمرا ، ولا بقوة الغضب وشدة البطش ، فالأسد والنمر منه أشد بطشا ، ولا باللباس والزينة ، فالطاوس والدراج أحسن منه لباسا ، ولا بقوة النكاح ، فالحمار والعصفور أقوى منه نكاحا ، ولا بكثرة الذهب والفضة ، فالمعادن والجبال أكثر منه ذهبا وفضة ، وما أحسن قول الشاعر.

لو لا العقول لكان أدنى ضيغم

أدنى إلى شرف من الإنسان

لما تفاضلت النفوس ودبرت

أيدي الكماة عوالي المران

وليس فضل الناس على غيره بعنصره الموجود منه ، كما زعم إبليس اللعين حيث قال : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) ، بل ذلك بما خصه الله تعالى من المعنى الذي ضمنه فيه ، والأمر الذي أعطاه له وبه استحق سجدة الملائكة ، فأشار إليه بقوله تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) ، والملئكة لما تنبهوا بذلك فأذعنوا وسجدوا له ، كما أمرهم الله ، وإبليس لما نظر ظاهر آدم ومبدأ أمره تغلظ وتعامى فيما ذكره الله تعالى ، ولم يتأمل المعنى الذي ضمنه الله فيه ، والعاقبة التي حوله الله إليها (أَبى وَاسْتَكْبَرَ) ، وقد اقتدى بإبليس الكفار في رد الأنبياء حيث «قالوا (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) ، وقوله : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) ، ونبه الله تعالى أن الاعتبار بفضلهم ليس بظاهر أبدانهم ، وإنما ذلك لمعنى مستودع في نفوسهم تعمى الكفار عنها فقال : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) ، أي لا يعرفون ما فضلهم الله به (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) ... (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ..

١٣٨

قاعدة

في تفاوت أفراد الناس واختلافهم

الأشياء كلها متساوية غير متفاوته من حيث إنها مصنوعة بحكمة صانع واحد حكيم ، وعلى ذلك نبه بقوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) ، وذلك لاشتراكها بقبول فيض الرحمة والجود ، ولاتفاقها في التوجه إلى جانب الحق المعبود ، ولكن يختلف من حيث إن كل نوع يختص بمعنى معين وحد محدود ، بعد اتفاقها في الاتصاف بالوجود ، فاختلاف الماهيات أنما نشأ من اختلاف مراتبها في القرب والبعد من منبع الوجود ومعدن الفيض والجود ، وكذلك يختلف أفراد ماهية واحدة بعد اتفاقها في النوع بأمور لاحقة لها مخصصة لأفرادها ، ثم لا شيء من أفراد نوع واحد أكثر اختلافا وتفاوتا من أفراد البشر ، كما قال تعالى : (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) ، وقال : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) ، وقال : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً).

واعلم أن اختلاف أفراد الإنسان بحسب هذه النشأة اختلاف بالعوارض ، وبحسب النشأة الآخروية اختلاف بالذاتيات ، وتحقيق ذلك موكول إلى بعض كتبنا ، وسنشير إليه فيما سيأتي من أحوال المعاد ، وقال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) ، وقال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ).

واعلم أن الحكمة مقتضية لاختلاف الناس في هذه النشأة ، وذلك لأن الإنسان لما كان غير مكفي بتفرده لأن يعيش ، حتى لو أن إنسانا حصل وحده لامتنع أو تعذر بقاؤه أدنى مدة ، فإن أول ما يحتاج إليه ما يغذوه وما يواريه ، وليس يجد ما يغذوه مطبوخا ، ولا ما يواريه مصنوعا ، كما يكون لكثير من الحيوانات بل هو مضطر إلى إصلاحهما ، وإصلاح شيء منهما يحوجه إلى آلات غير مفروغ عنها ، والإنسان الواحد لا توصل له إلى إعداد جميع ما يحتاج لتعيش به المعيشة الحميدة ، فلم يكن بد للناس ممن

١٣٩

يشارك ويعاون ، فجعل لكل قوم صنعة وهيئة مفارقة للصنعة الأخرى وهيئاتها ، فقسمت الصناعات بينهم كما قال : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) ، فيتولى كل صنعا من الصناعات فيتعاطاه باهتزاز ، كما قال : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ، فاقتضى ذلك أن يختلف جثثهم وقواهم وهممهم وأغراضهم ، ليكون كل ميسرا لما خلق له ، وقال : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) ، فيكون معايشهم مقتسمة بينهم كما نبه تعالى بالآيات المتقدمة ويمثل قوله : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) ، فالناس إذا اعتبروا من حيث اختلاف أغراضهم ودواعيهم وهممهم فهم في تعاطي صناعاتهم في حكم المسخرين ، وإن كانوا في الظاهر من المختارين ، وقد وقعت الإشارة إلى ما يتعلق بالمصلحة بتباين الناس في ما روي أنه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يزال الناس بخير ما تباينوا فإذا تساووا هلكوا.

تذكرة فيها تبصرة

واعلم أن أسباب تفاوت الناس في الصنائع والأغراض أمور سبعة.

أولها اختلاف الأمزجة وتفاوت الطينة واختلاف الخلقه ، كما أشير إليه فيما روي «إن الله لما أراد خلق آدم أمر أن يؤخذ قبضة من كل أرض فجاء بنو آدم على قدر طينتها الأحمر والأبيض والأسود والسهل والحزن والطيب والخبيث» ، وإلى هذا أشار بقوله : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) ، وبقوله : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ).

وثانيها اختلاف أحوال الوالدين في الصلاح والفساد ، وذلك أن الإنسان قد يرث من أبويه آثار ما هما عليه من جميل السيرة أو قبيحها ، كما يرث تشابههما في خلقتهما ، ولهذا قال تعالى : (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) ، وعلى نحو ما روي أنه قال في التوراة إني إذا رضيت باركت ، وإن بركتي

١٤٠