رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-277-6
الصفحات: ٥٤٦

لكفانا دليلاً لترجيح القول الأوّل وحجةً.

وهنا قول رابع للشيخ في موضع آخر من المبسوط بالسماع مطلقاً ، لم يتعرض لنقله عدا نادر ، كالشهيدين في الدروس والمسالك والروضة (١) ، ولم ينقلا له دليلاً.

ولا ريب في ضعفه ، سيّما مع ندرته وعدم معروفيته ، ولذا لم يتعرض باقي الأصحاب لنقله.

( ولو أكذب ) الحالف ( نفسه ) أو ادّعى سهوه ونسيانه واعترف بالحق المدّعى كلاًّ أو بعضاً ( جاز ) للمدّعي ( مطالبته ) بما اعترف به ، بلا خلاف ظاهر مصرح به في كثير من العبائر ، وفي المهذب وكلام الصيمري في شرح الشرائع (٢) دعوى الإجماع عليه ، وهو الحجة.

مضافاً إلى عموم : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (٣) السليم هنا عن المعارض عدا ما مرّ من النصوص الدالة على ذهاب اليمين بالدعوى.

وهو بعد تسليم شموله لمحل البحث ، مع قوة احتمال عدمه بانصراف الإطلاق بحكم التبادر وغيره إلى غيره مدفوع بأنّ التعارض بينه وبين العموم من قبيل تعارض العمومين من وجه ، فيصار إلى الترجيح ، وهو في جانب الأوّل بلا ريب بحسب الاعتبار ، وعمل الكل به في خصوص المضمار.

وخصوص المعتبرين ، في أحدهما : إنّي كنت استودعت رجلاً مالاً‌

__________________

(١) الدروس ٢ : ٨٨ ، المسالك ٢ : ٣٦٨ ، الروضة ٣ : ٨٥ ، وانظر المبسوط ٨ : ١٥٨.

(٢) المهذب البارع ٤ : ٤٧٤ ، غاية المرام ٤ : ٢٣٢.

(٣) المتقدم في ص ٣٥.

٨١

فجحدنيه فحلف لي ، ثمّ إنّه جاء بعد ذلك بسنين بالمال الذي استودعته إيّاه ، فقال : هذا مالك فخذه ، فهذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي لك ومع مالك ، واجعلني في حلّ ، فأخذت المال منه وأبيت أن آخذ الربح منه ، وأوقفت المال الذي كنت استودعته حتى أستطلع رأيك ، فما ترى؟ قال : فقال : « خذ نصف الربح وأعطه النصف وحلّله ، إنّ هذا رجل تائب والله تعالى يحبّ التوابين » (١).

وثانيهما الرضوي : « وإذا أعطيت رجلاً مالاً فجحدك وحلف عليه ، ثمّ أتاك بالمال بعد مدّة وبما ربح فيه ، وندم على ما كان منه ، فخذ منه رأس مالك ونصف الربح ، وردّ عليه نصف الربح ، هذا رجل تائب » (٢).

وبالأوّل استدل الصدوق في الفقيه على المطلوب هنا ، فقال بعد نقل الصحيحة الأُولى ـ : متى جاء الرجل الذي يحلف على الحق تائباً وحمل ما عليه مع ما ربح فيه فعلى صاحب الحق أن يأخذ منه رأس المال ونصف الربح ، ويردّ عليه نصف الربح ؛ لأنّ هذا رجل تائب.

وروى ذلك مسمع أبو سيار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وسأذكر هذا الحديث بلفظة في هذا الكتاب في باب الوديعة (٣). انتهى.

( و ) على هذا ، فلو أنكر الحق عليه ثانياً أو ماطل في أدائه ( حلّ ) للمدّعي ( مقاصّته ) مع اجتماع شرائط التقاصّ المذكورة في بابه.

وبما حرّرنا يظهر لك ضعف ما يناقش به في الحكم هنا من عدم‌

__________________

(١) الفقيه ٣ : ١٩٤ / ٨٨٢ ، التهذيب ٧ : ١٨٠ / ٧٩٣ ، الوسائل ١٩ : ٨٩ كتاب الوديعة ب ١٠ ح ١.

(٢) فقه الرضا عليه‌السلام : ٢٥٢.

(٣) الفقيه ٣ : ٣٧.

٨٢

نص فيه ، ولا دليل عليه أصلاً ، مع كون مقتضى الروايات المتقدمة سقوط الدعوى باليمين مطلقاً.

وقريب منه توهم ضعف الاستدلال بالروايتين على تمام المدّعى ، بناءً على أنّ موردهما إنّما هو بذل المديون المال والإتيان به خاصّة.

وذلك لانجبار أخصّية المورد بعدم القائل بالفرق بينه وبين غيره.

مع إمكان استفادة التعميم من سياقهما سؤالاً وجواباً بنوع من التدبّر التامّ ، فتأمّل جدّاً.

( ولو ردّ ) المنكر ( اليمين ) المتوجّهة إليه ( على المدّعى صحّ ) ولزمه الحلف ، بلا خلاف فيه في الظاهر ، مصرح به في جملة من العبائر (١) ، وعليه الإجماع في الغنية وغيره (٢) ، وهو الحجة ، مضافاً إلى ظواهر النصوص الآتية.

وقد استثنى الأصحاب من ذلك مواضع ثلاثة ، بغير خلاف بينهم فيه أجده ، بل نسبه بعض الأصحاب (٣) إليهم مؤذناً باتّفاقهم عليه كافّة.

منها : دعوى التهمة.

ومنها : دعوى وصي اليتيم مالاً على آخر وأنكر ، سواء نكل عن اليمين أو ردّها.

ومنها : ما لو ادّعى الوصي على الوارث أنّ الميت أوصى للفقراء بخمس أو زكاة أو حج ، أو نحو ذلك ممّا لا مستحق له بخصوصه.

والوجه في الأوّل واضح ، بناءً على أنّ اليمين على الميت ولا يمكن‌

__________________

(١) مجمع الفائدة ١٢ : ١٣٧ ، الكفاية : ٢٦٧.

(٢) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥ ؛ وانظر القواعد ٢ : ٢١١.

(٣) السبزواري في الكفاية : ٢٦٧.

٨٣

من المدّعى تهمة.

وأما فيما عداه فلعلّه الأصل ، وعموم ما دل على لزوم اليمين على المدّعى عليه ، مع اختصاص النصوص الآتية التي هي الأصل في أصل المسألة بحكم التبادر بما إذا ثبت باليمين المردودة حق لنفس المدّعى لا لغيره ، وبظهور ذلك صرح المقدس الأردبيلي (١) رحمه‌الله ، ووافق القوم على الاستثناء لذلك ، وحينئذٍ يلزم على المنكر على تقدير الإنكار إمّا دفع الحق إلى المدّعى ، أو اليمين له.

وهل يمين المدّعى بمنزلة البيّنة نفسها ؛ لأنّ الحجة اليمين بعد ردّها ، وقد وجدت منه؟ أو بمنزلة إقرار المنكر ؛ لأنّ الوصول إلى الحق جاء من قِبَله بردّه أو نكوله فيكون بمنزلة إقراره؟ قولان.

ويتفرع عليهما فروع كثيرة ، منها : ثبوت الحق بمجرد يمينه على الثاني ، واحتياجه مع ذلك إلى حكم الحاكم على الأوّل ؛ لما مرّ.

واختار المقدس الأردبيلي رحمه‌الله وصاحب الكفاية (٢) الرجوع فيها إلى الأُصول والقواعد ، وأنّه يعمل عليها في كل منها من دون أن يجعل أحد القولين أصلاً كليّاً يرجع إليه في جميعها ، بل لو اقتضت الأُصول في بعضها ما يوافق أحدهما وفي الآخر ما يخالفه عمل بالأصلين معاً.

وهو حسن إن لم يكن في المسألة قولاً ثالثاً يكون للإجماع خارقاً.

واختارا في الفرع المتقدم عدم التوقف على حكم الحاكم ، زعماً منهما كون التوقف عليه مخالفاً للأصل ، وأنّ مقتضاه ثبوت الحق من دونه. وفيه نظر.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ١٣٨.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ١٣٩ ، الكفاية : ٢٦٨.

٨٤

وحيث يتوجه للمنكر ردّها على المدّعى ( فإن حلف استحق ) المدّعى ؛ لما مضى.

( وإن ) نكل و ( امتنع ) عن الحلف ، فإن لم يعلّله بشي‌ء ، أو قال : ما أريد أن أحلف ، ( سقطت دعواه ) وليس له مطالبة الخصم بعد ذلك ، ولا استئناف الدعوى معه في مجلس آخر كما لو حلف المدّعى عليه ؛ للنصوص المستفيضة ، منها الصحيح : في رجل يدّعي ولا بيّنة له ، قال : « يستحلفه ، فإن ردّ اليمين على صاحب الحق فلم يحلف فلا حق » (١).

ومنها الموثق كالصحيح ، بل قيل (٢) صحيح : « إذا أقام المدّعى البيّنة فليس عليه يمين ، وإن لم يقم البيّنة ، فردّ عليه الذي ادّعى عليه اليمين فأبى ، فلا حق له (٣).

ومنها : في الرجل يدّعى عليه الحق ، ولا بيّنة للمدّعي قال : « يستحلف ، أو يردّ اليمين على صاحب الحق ، فإن لم يفعل فلا حقّ له » (٤).

ونحوه المرسل المقطوع : « استخراج الحقوق بأربعة وجوه : بشهادة رجلين عدلين ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ، وإن لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدّعى ، وإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه ، فإن لم يحلف وردّ اليمين على المدّعى ، فهي واجبة عليه أن يحلف ، ويأخذ‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤١٦ / ١ ، التهذيب ٦ : ٢٣٠ / ٥٥٧ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤١ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٧ ح ١.

(٢) قاله السبزواري في الكفاية : ٢٦٨.

(٣) الفقيه ٣ : ٣٧ / ١٢٧ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤٢ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٧ ح ٦.

(٤) الكافي ٧ : ٤١٦ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٣٠ / ٥٥٦ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤١ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٧ ح ٢.

٨٥

حقّه ، فإن أبى أن يحلف فلا شي‌ء له » (١).

وقصور سنده بالأمرين كما سبقه بالجهالة مجبور بعمل الطائفة.

ولأنّه لولا ذلك لرفع خصمه كلّ يوم إلى القاضي والخصم يردّ عليه اليمين وهو لا يحلف ، فيعظم الخطب.

مع أنّ ذلك إجماعيّ إذا كان في مجلس الحكم ، كما صرح به في القواعد والشرائع (٢) ، ويظهر أيضاً من تتبع الفتاوى. وإنّما الخلاف والإشكال في غيره ، فقيل : إنّما يسقط حقّه في ذلك المجلس وله تجديده في غيره (٣).

وما ذكرنا أصحّ وأشهر ، وعليه عامّة من تأخّر ، بل القائل المذكور غير معروف ، ومستنده مع ذلك غير واضح ، وعلى تقديره لا يعارض إطلاق النصوص المعتضدة بالأصل وعمل المشهور.

واستثنى من ذلك الشهيدان وبعض من تبعهما (٤) ما إذا أتى ببيّنة.

وإطلاق النصوص والفتاوى يدفع ذلك ، إلاّ أن يذبّ عنه باختصاصه بحكم التبادر بما إذا لم تكن له بيّنة في نفس الأمر ، وانحصر الحجة المثبتة لحقه في يمينه. ولعله غير بعيد.

وإن ذكر لامتناعه سبباً مثل الإتيان بالبيّنة ، أو سؤال الفقهاء ، أو النظر في الحساب ، أو نحو ذلك ، ترك ولم يبطل حقّه من اليمين كما في‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤١٦ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٣١ / ٥٦٢ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤١ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٧ ح ٤.

(٢) القواعد ٢ : ٢١١ ، الشرائع ٤ : ٨٠.

(٣) انظر المبسوط ٨ : ٢٠٩.

(٤) الدروس ٢ : ٨٩ ، الروضة ٣ : ٨٦ ، وتبعهما الفيض الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٥٧.

٨٦

المسالك وغيره (١) ، وهو حسن ، ولا ينافيه إطلاق النصوص ؛ لاختصاصه بحكم التبادر بالامتناع الخالي عن ذكر نحو ما ذكر من السبب ، فلا يشمل غيره ، بل لعلّه لا يعدّ مثله في العرف امتناعاً.

وهل يقدر إمهاله أم لا؟ وجهان ، أجودهما الثاني عند شيخنا الشهيد الثاني ، قال : لأنّ اليمين حقّه ، وله تأخيره إلى أن يشاء كالبيّنة فيتمكن من إقامتها متى شاء ، وهذا بخلاف المدّعى عليه ، فإنّه لا يمهل إذا استمهل ؛ لأنّ الحقّ فيه لغيره ، بخلاف تأخير المدّعى ، فإنّه يؤخّر حقّه فيقبل إذا كان له عذر مسموع (٢). وفيه نظر.

( ولو نكل المنكر عن اليمين ) وعن ردّها معاً قال له الحاكم : إن حلفت وإلاّ جعلتك ناكلاً ، مرّةً وجوباً ، ويكرّر ذلك ثلاثاً استظهاراً لا فرضاً ، كذا قالوه.

( و ) إن ( أصرّ ، قضى عليه بالنكول ) ويلزم بحق المدّعى بمجرده ، وفاقاً للصدوقين والشيخين والديلمي والحلبي (٣) ؛ للنبوي المتقدم المستفيض : « البيّنة على المدّعى واليمين على من أنكر » (٤) فإنّه جعل جنس اليمين في جانب المدّعى عليه ، كما جعل جنس البينة في جانب المدّعى ، والتفصيل قاطع للشركة ، وردّ اليمين على المدّعى حيث يحكم عليه بها جاء من قبل الردّ لا بأصل الشرع المتلقّى من الخبر.

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٦٨ ؛ وانظر المفاتيح ٣ : ٢٥٧.

(٢) المسالك ٢ : ٣٦٨.

(٣) الصدوق في المقنع : ١٣٢ ، وحكاه عن والده في المختلف : ٦٩٥ ، المفيد في المقنعة : ٧٢٤ ، الطوسي في النهاية : ٣٤٠ ، الديلمي في المراسم : ٢٣١ ، الحلبي في الكافي في الفقه : ٤٤٧.

(٤) تقدّم في ص : ٧٥.

٨٧

وللصحيح المشار إليه بقوله : ( وهو المروي : ) عن الأخرس كيف يحلف؟ قال : « إن أمير المؤمنين عليه‌السلام كتب له اليمين وغسلها وأمره بشربها ، فامتنع ، فألزمه الدين » (١).

وظاهره أنّه لم يردّ اليمين على خصمه ، وإلاّ لنقل ، ولزم تأخير البيان عن وقت الخطاب ، بل عن وقت الحاجة.

مع أنّ قوله : « فألزمه » دالّ على تعقيب الإلزام للامتناع بغير مهلة لمكان الفاء ، وهو ينافي تخلّل اليمين بينهما ، وفعله عليه‌السلام حجة كقوله.

والفرق بين الأخرس وغيره ملغى بالإجماع.

والخبر : عن رجل يدّعي قِبَل الرجل الحق ، ولا يكون له بيّنة بماله ، قال : « فيمين المدّعى عليه ، فإن حلف فلا حق له ، وإن لم يحلف فعليه » (٢).

فرتب ثبوت الحق على عدم حلفه ، فلا يعتبر معه أمر آخر. وقصور السند بالجهالة مجبور بتلقّي الأصحاب إيّاه بالقبول في غير مورد المسألة ، وهو الحكم بثبوت اليمين على المدّعى على الميت مع بيّنته.

وفي الجميع نظر ، فالأوّل : بعدم دلالته على الحكم بالنكول صريحاً ، بل ولا ظاهراً ، وإنّما غايته إفادة أنّ جنس اليمين على المنكر ، وأنّه وظيفته ، ونحن لا ننكره ، وليس فيه دلالة على ذلك بشي‌ء من الدلالات الثلاث بعد ملاحظة أنّ المتبادر منه بيان الوظيفة الشرعية في الأصل والإبتداء لكل من‌

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٦٥ / ٢١٨ ، التهذيب ٦ : ٣١٩ / ٨٧٩ ، الوسائل ٢٧ : ٣٠٢ ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٣٣ ح ١.

(٢) الكافي ٧ : ٤١٥ / ١ ، الفقيه ٣ : ٣٨ / ١٢٨ ، التهذيب ٦ : ٢٢٩ / ٥٥٥ ، الوسائل ٢٧ : ٢٣٦ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٤ ح ١.

٨٨

المنكر والمدّعي ، وهو لا ينافي ردّ اليمين على المدّعى من باب الردّ ، ولو من الحاكم الذي هو نائب المنكر حيث يستعصي ويوقف الأمر على حاله ، ويبقى النزاع الموجب للفساد على حاله ، لا بأصل الشرع المتلقّى من الخبر ، كما اعترف به المستدل في جوابه عن النقض المتقدم.

وبالجملة : إن ارتفع المنافاة بما ذكره في محلّ النقض ودفعه فلترتفع به أيضاً في محل البحث ، وعدم قيام دليل على ثبوت الردّ فيه على تقدير تسليمه لا يوجب المنافاة على تقدير ثبوته.

وبالجملة : المقصود من ذلك دفع المنافاة التي هي الأصل والبناء في صحة الاستدلال ، وحيث فرض عدمها بالرد في محل البحث أيضاً ولو على تقدير ثبوته ، لم يصح الاستدلال بالخبر المذكور على الحكم بالنكول وردّ القول بالردّ.

والثاني أوّلاً : بعدم القائل بإطلاقه ؛ لأنّ الحكم بالنكول على تقدير القول به مشروط اتفاقاً بالنكول عن كلّ من الحلف وردّه ، وليس فيه إلاّ الإشارة إلى النكول عن الحلف خاصّة دون النكول عن ردّه ، فلا بدّ من تقديره ، وليس بأولى من تقدير الردّ على المدّعى وحلفه.

وبالجملة : فلا بدّ من تقدير شي‌ء ، ولا قرينة في الخبر على تعيينه ، فكما يمكن تقدير ما يوافق الاستدلال كذا يمكن تقدير ما يخالفه ، وحيث لا مرجّح فيه للأوّل على الثاني لم يتوجه الاستدلال به ، فتأمّل.

وثانياً : بأنّ لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة وإن كان مسلّماً قبحه ، إلاّ أنّ الحاجة في الخبر كما يظهر من صدره هو معرفة كيفيّة حلف الأخرس ، لا كيفيّة الحكم في الدعوى معه مع نكوله ، ولزوم تأخير البيان عن وقت الخطاب لا بأس به ، كما قرّر في محله.

٨٩

وثالثاً : بأنّ الخبر قضية في واقعة ، فلا تكون عامّة ، فتأمّل.

ورابعاً : بأنّه فرع العمل به في كيفية إحلاف الأخرس ، ولم يقل به المشهور ومنهم الماتن وغيره ممّن حكم بالنكول وغيره ، عدا نادر كما يأتي ، فلا يمكنهم الاستناد إليه لإثباته.

وخامساً : بمنافاته على تقدير تسليم دلالته لما سيأتي من إطباق الجمهور على نقل خلافه عن علي عليه‌السلام.

والثالث : بضعف السند أوّلاً ، وتلقّي الأصحاب إيّاه بالقبول جابر لخصوص ما تلقّوه لا جميعاً ، كما بيّنت الوجه فيه في رسالة في الإجماع مستقصى.

وثانياً : باختلاف النسخة فيه ، ففي الكافي والتهذيب كما مرّ ، وفي الفقيه بدل محل الاستدلال وهو قوله : « وإن لم يحلف فعليه » بقوله : « وإن ردّ اليمين على المدّعى فلم يحلف فلا حق له » وعليه فلا دلالة فيه على الحكم ، واختلاف النسخة موجب لتزلزل الرواية ، وإن رجّحت النسخة الأُولى بتعدد النقلة.

وثالثاً : بضعفه دلالة بما ضعّفنا به الصحيحة المتقدمة من عدم القائل بإطلاقه ، فلا بدّ من تقييده إمّا بالنكول عن الردّ ، كما هو مناط الاستدلال. أو بما إذا ردّ اليمين على المدّعى وحلف ، وليس بمرجوح بالإضافة إلى الأوّل ، كما مرّ.

ورابعاً : بإجمال مرجع الضمير في عليه والمبتدأ المقدر ، فكما يحتمل المنكر ويكون المبتدأ المقدر الحق ، كذا يحتمل المدّعى ويكون المقدر الحلف ، أو المنكر ويكون الحق المقدر غير المال بمعنى الدعوى ، ويكون كناية عن عدم انقطاع الدعوى عنه بمجرد نكوله ، فلا يحسبه مفرّاً‌

٩٠

عنها ، بل هي عليه باقية ، وربما أوجب عليه المدّعى بعد إتيان المدّعى باليمين المردودة عليه.

وخامساً : بأنّ في ذيله ما يؤيّد القول الآتي ، بل وربما يستدل عليه به ، وهو قوله عليه‌السلام : « ولو كان » أي المدّعى عليه « حيّاً لأُلزم باليمين ، أو الحق ، أو يُردّ اليمين عليه » بصيغة المجهول ، كما هو في التهذيب (١) المعتبر المصحح عندي مضبوط ، وبه صرح بعض الفضلاء (٢) أيضاً.

ووجه التأيّد ظاهر ؛ إذ العدول عن قول : أو ردّ اليمين ، أو يَردّ ، بصيغة المعلوم إلى المجهول لا وجه له بحسب الظاهر غير التنبيه على عدم انحصار الرادّ في المنكر وإمكان كونه غيره ، وليس إلاّ الحاكم.

وسادساً : بقوة احتماله كغيره على تقدير تسليمه الحمل على التقية ؛ لكونه مذهب جماعة من العامّة ، كما سيأتي إليه الإشارة ، ومنهم أبو حنيفة ، ورأيه مشتهر بينهم ، بل وأكثرهم عليه في الأزمنة السابقة واللاحقة.

ولعلّ ما ذكرناه من وجوه النظر في هذا الخبر عدا الأخير منها هو الوجه في عدم استدلال أكثر الأصحاب به لهذا القول في محلّ البحث.

( وقيل : يَردّ ) الحاكم ( اليمين على المدّعى ) من باب نيابته العامّة ( فإن حلف ثبت حقه ، وإن نكل بطل ) ولعلّ هذا أظهر ، وفاقاً لكثير من القدماء كالإسكافي والشيخ في المبسوط والخلاف والحلّي وابن زهرة وابن حمزة وأكثر المتأخرين (٣) ، عدا الماتن هنا وفي الشرائع وشيخنا الشهيد‌

__________________

(١) راجع ص : ٨٧.

(٢) انظر مجمع الفائدة ١٢ : ١٤٥.

(٣) حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٦٩٥ ، المبسوط ٨ : ٢١٢ ، الخلاف ٦ : ٢٩٠ ٢٩٣ ، الحلّي في السرائر ٢ : ١٨٠ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٦ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٢٢٩ ؛ كشف الرموز ٢ : ٥٠١.

٩١

الثاني وبعض من تبعه (١) ، مع تردّد ما للماتن وشيخنا.

وبالجملة : لا ريب في شهرة هذا القول بين المتأخّرين ، بل عليه عامتهم كما يظهر من المسالك (٢) ، وعن الخلاف وفي الغنية الإجماع عليه (٣) ، وفي السرائر (٤) أنّه مذهب أصحابنا عدا الشيخ في النهاية (٥) ، وقد رجع عنه في الخلاف والمبسوط (٦) ، وظاهره أيضاً الإجماع عليه ، وهو الحجة.

مضافاً إلى الأصل الدال على براءة ذمّة المنكر عن الحق المدّعى عليه ، وعدم ثبوته عليه بمجرد نكوله ؛ لاحتمال كونه لاحترام اليمين لا الإذعان بثبوت الحق ولزومه ، فلا يخرج عنه إلاّ بدليل قائم على إثباته عليه بمجرده.

والجواب عنه بقيام الدليل على ذلك كما مرّ ضعيف ، يظهر وجهه لمن تأمّل الأجوبة عنه التي تقدمت وفيها نظر.

وقريب منه الجواب عن الإجماع بوجود المخالف من نحو المفيد وغيره (٧) ؛ لضعفه أوّلاً : بابتنائه على أُصول العامّة في الإجماع حيث جعلوه مجرد الوفاق ، ولا يتم على ما عليه الأصحاب من أنّه هو الاتفاق الكاشف عن قول الإمام عليه‌السلام ، ولو كان في اثنين وخلى عنه مائة مطلقاً كائناً من‌

__________________

(١) الشرائع ٤ : ٧٦ ، الروضة ٣ : ٨٧ ؛ المفاتيح ٣ : ٢٥٧.

(٢) المسالك ٢ : ٣٦٩.

(٣) الخلاف ٦ : ٢٩٠ ٢٩٢ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٦.

(٤) السرائر ٢ : ١٨٠.

(٥) النهاية : ٣٤٠.

(٦) المبسوط ٨ : ٢١٢.

(٧) المقنعة : ٧٢٤ ؛ وانظر المراسم : ٢٣١ ، والكافي في الفقه : ٤٤٧.

٩٢

كانوا.

نعم لو بلغ المخالف في الكثرة حد الشهرة أمكن القدح فيه بالوهن لنا الموجب للمرجوحية ، أو الخروج عن الحجية ، وليس في المسألة بلا شبهة.

وثانياً : بعدم صراحة كلامهم في المخالفة ؛ لاحتماله الحمل على ما حمل عليه الحلّي (١) كلام النهاية من أنّ المراد بقوله : لزمه الحق ، يعني أنّ بنكوله صارت اليمين على المدّعى ، بعد أن كانت له ، وكل من كانت عليه فهو أقوى من صاحبه ، والقول قوله مع يمينه ، لا أنّه بمجرد النكول يقضي الحاكم عليه بالحق ، من دون يمين خصمه.

وربما يشير إلى قرب حمله النظر في كلام الغنية (٢) ، حيث ادّعى على المختار صريحاً إجماع الإماميّة ، ومع ذلك قال فيما بعد ذلك بورقة : وإن نكل المدّعى عليه عن اليمين ، ألزمه الخروج عن حق خصمه ممّا ادّعاه ، فتدبّر ، هذا.

مع التأيّد بكثير ممّا ذكره الجماعة (٣) دليلاً لهذا القول وحجة ، ولا فائدة لذكرها بعد قوّة إمكان المناقشة فيها ، وبسببها لا يمكن أن يتخذ حجة ، لكنها للتأييد كما عرفت صالحة ، هذا.

مضافاً إلى ما في المختلف وغيره (٤) من نسبة الجمهور هذا القول إلى مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وإطباقهم على النسبة يدفع عنهم توهم الكذب‌

__________________

(١) السرائر ٢ : ١٨٠.

(٢) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥ ٦٢٦.

(٣) راجع ص : ٩١.

(٤) المختلف : ٦٩٥ ؛ وانظر التنقيح الرائع ٤ : ٢٥٥.

٩٣

ونحوه ، سيّما مع مخالفة جمع منهم له ، فيكون ذلك حجة قويّة مؤيّدة بما حكاه شيخنا في حاشيته على كتابه المسالك من أنّ هذا القول مذهب الشافعي ومالك ، والأوّل قول أبي حنيفة وأحمد ، وموافقة الشافعي للإمامية في أكثر الفروع مشهورة غير مستورة ، وأبو حنيفة بطرف الضد من ذلك ، والظن يلحق الشي‌ء بالأعم الأغلب ، فتدبّر.

ومع ذلك فهذا القول أحوط أيضاً لو بذل المدّعى اليمين ؛ لثبوت الحق عليه حينئذٍ إجماعاً.

وأمّا مع عدم بذله لها ونكوله عنها فتصور الاحتياط في هذا القول مشكل ، وإن أطلق جماعة (١) كونه أوفق بالاحتياط ؛ لأنّ المدّعى بنكوله عن اليمين بعد ردّها عليه يوجب سقوط حقه ، وعدم جواز مطالبة المنكر بشي‌ء ، وهو لا يوافق القول الأوّل لإثبات الحق فيه على المنكر بنكوله على الإطلاق.

والاحتياط عبارة عن الأخذ بالمتفق عليه المتيقّن ، والأخذ بهذا القول فيما فرضناه ليس كذلك قطعاً ، لاحتمال كون الحق مع القول الأوّل ، فلو عمل بهذا القول لذهب حق المدّعى لو كان.

( و ) على القول الأوّل ( لو بذل المنكر اليمين بعد الحكم عليه ) من الحاكم ( بالنكول لم يلتفت إليه ) بلا خلاف فيه وفي عدم الالتفات إليه أيضاً بعد إحلاف الحاكم المدّعى على القول الثاني ؛ لثبوت الحق عليه بذلك فيستصحب إلى تيقّن المسقط ، وما دلّ على السقوط بيمينه مختص بحكم التبادر وغيره بيمينه قبل الحكم عليه بنكوله ، أو إحلاف المدّعى بردّ الحاكم اليمين عليه ، أو ردّه في غير صورة نكوله.

__________________

(١) منهم الفاضل الآبي في كشف الرموز ٢ : ٥٠١ والأردبيلي في مجمع الفائدة ١٢ : ١٤٨ والفيض الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٥٨.

٩٤

هذا إذا كان الحكم عليه بنكوله بعد عرض حكمه عليه ولو مرّة.

ولو قضى بنكوله من غير عرض فادّعى الخصم الجهل بحكم النكول ففي نفوذ القضاء إشكال : من تفريطه ، وظهور عذره ، ولعلّ الثاني أظهر ، وبالأصل أوفق.

ولو بذلها قبل حلف المدعي فالأقرب جوازه ، ولو منعناه فرضي المدّعى بيمينه قيل : فله ذلك (١).

واعلم أنّ المستفاد من عبائر الأصحاب عدا الماتن هنا عدم الالتفات إلى اليمين المبذولة بعد النكول لا بعد الحكم به ، وهو مشكل ، ولذا اعترضهم المقدس الأردبيلي رحمه‌الله فقال : هو فرع ثبوت الحق بالنكول فوراً ، ولا دليل عليه (٢).

وهو حسن إلاّ أنّ احتمال مسامحتهم في التعبير وإرادتهم ما هنا قائم ، فتأمّل.

( و ) اعلم أنّه ( لا يستحلف المدّعى مع بيّنته ) المرضية بغير خلاف أجده ، وبه صرح في عبائر جماعة (٣) ، وعن الخلاف الإجماع عليه (٤) ، والمعتبرة به مع ذلك مستفيضة ، منها زيادة على ما مرّ إليه الإشارة الصحيح (٥) وغيره (٦) : عن الرجل يقيم البيّنة على حقه ، هل عليه أن‌

__________________

(١) قاله في المسالك ٢ : ٣٦٨.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ١٤٩.

(٣) انظر المسالك ٢ : ٣٦٩ ، وكشف اللثام ٢ : ٣٣٨ ، والمفاتيح ٣ : ٢٥٨.

(٤) الخلاف ٦ : ٢٣٦.

(٥) التهذيب ٦ : ٢٣٠ / ٥٥٨ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤٣ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٨ ح ١.

(٦) الكافي ٧ : ٤١٧ / ١ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤٣ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٨ ذيل الحديث ١.

٩٥

يستحلف؟ قال : « لا ».

ونحوهما الموثق (١) القريب منه بفضالة عن أبان المجمع على تصحيح ما يصح عنهما (٢).

وأمّا الخبر المخالف لذلك (٣) فمع قصور سنده وشذوذه محمول : إمّا على ما إذا اشتبه عليه صدق البيّنة كما قيل (٤) ، وفيه نظر. أو على الاستحباب إن بذل المدّعى اليمين ، أو مطلقاً.

وكيف كان فلا ريب في الحكم ( إلاّ في ) الشهادة بـ ( الدين على الميت ) فإنّ المدّعى مع بيّنته عليه ( يستحلف على بقائه في ذمّته استظهاراً ) بغير خلاف في الظاهر ، مصرح به في كثير من العبائر (٥) ، وفي المسالك والروضة وشرح الشرائع للصيمري الإجماع عليه (٦) ، وهو الحجة.

مضافاً إلى المعتبرين ، أحدهما الصحيح : أو تقبل شهادة الوصي بدين على الميت مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع عليه‌السلام : « نعم ، من بعد يمين » (٧).

وفي الثاني المتقدم صدره : « فإن كان المطلوب بالحق قد مات ، فأُقيمت عليه البيّنة ، فعلى المدّعى اليمين بالله الذي لا إله إلاّ هو ، لقد مات‌

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٢٣٠ / ٥٥٩ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤٣ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٨ ح ١.

(٢) انظر رجال الكشي ٢ : ٦٧٣ / ٨٣٠.

(٣) الكافي ٧ : ٤١٢ / ١ ، الفقيه ٣ : ٨ / ٢٨ ، التهذيب ٦ : ٢٢٥ / ٥٤١ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤٤ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٨ ح ٤.

(٤) قاله الفيض الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٥٨.

(٥) الكفاية : ٢٦٧ ، المفاتيح ٣ : ٢٥٨.

(٦) المسالك ٢ : ٣٦٩ ، الروضة ٣ : ١٠٤ ، غاية المرام ٤ : ٢٣٣.

(٧) الكافي ٧ : ٣٩٤ / ٣ ، الفقيه ٣ : ٤٣ / ١٤٧ ، التهذيب ٦ : ٢٤٧ / ٦٢٦ ، الوسائل ٢٧ : ٣٧١ كتاب الشهادات ب ٢٨ ح ١.

٩٦

فلان ، وأنّ حقّه لعليه ، فإن حلف ، وإلاّ فلا حق له ، لأنّا لا ندري ، لعلّه أوفاه ببيّنة لا نعلم موضعها ، أو بغير بيّنة قبل الموت ، فمن ثمّ صارت عليه اليمين مع البيّنة ، فإن ادّعى ولا بيّنة فلا حقّ له ؛ لأنّ المدّعى عليه ليس بحيّ ، ولو كان حيّاً لأُلزم اليمين ، أو الحقّ ، أو يردّ عليه ، فمن ثمّ لم يثبت له عليه حق » (١).

وقصور السند مجبور بالاعتبار والعمل.

وفي تعدّي الحكم إلى ما يشارك مورد الفتوى والنص ، كالدعوى على الطفل والغائب والمجنون قولان ، الأوّل مختار الأكثر على الظاهر المصرح به في المسالك وغيره (٢) ، وفي شرح الشرائع للصيمري أنّه المشهور (٣) ؛ لمشاركتهم للميّت في العلّة المومأ إليها في النص ، فيكون من باب اتحاد طريق المسألتين ، أو منصوص العلّة.

وفيه : أنّ العلّة المومَأُ إليها احتمال توفية الميت قبل الموت ، وهي في محل البحث غير حاصلة ، وإن حصل مثلها ، والتعدّي بمثله قياس فاسد في الشريعة ، ومورد الرواية أقوى من الملحق به ؛ لليأس منه بالكلية دونه ، فإنّ لهم لساناً يرتقب جوابه وهم باقون على حجتهم.

خلافاً للماتن في الشرائع فاختار الثاني (٤) ، ونقله في الكفاية عن جماعة (٥) وعدّ منهم العلاّمة ، مع أنّه قد اختار الأوّل في الإرشاد‌

__________________

(١) المتقدم في ص : ٨٧.

(٢) المسالك ٢ : ٣٧٠ ؛ الكفاية : ٢٦٨.

(٣) غاية المرام ٤ : ٢٣٣.

(٤) الشرائع ٤ : ٧٦.

(٥) الكفاية : ٢٦٩.

٩٧

والقواعد (١) ، ووجه لزوم الاقتصار فيما خالف النصوص المتقدمة الدالة على أنّه لا يمين مع البيّنة على المتيقّن من الفتوى والرواية.

ومنه يظهر وجه ما في التنقيح والمسالك من اختصاص الحكم في الميت بما إذا كان المدّعى عليه ديناً ، فلو كانت الدعوى عيناً في يده بعارية أو غصب دفعت إليه مع البيّنة من غير يمين (٢).

وفيه نظر ، فإنّ المورد وإن اختص بالدين إلاّ أنّ مقتضى التعليل المنصوص وهو الاستظهار العموم.

وربما وجّه ما فيهما من الفرق وثبوت اليمين في الدين خاصّة باحتمال الإبراء منه وغيره من غير علم الشهود ، بخلاف العين فإنّ ملكها إذا ثبت استصحب.

ويضعف بأنّ احتمال تجدّد نقل الملك ممكن في الحالين ، والاستظهار وعدم اللسان آتٍ فيهما ، فالأجود اعتبار اليمن مطلقاً ، وفاقاً لإطلاق بعض العبائر ، وظاهر شيخنا في الروضة (٣).

قيل (٤) : ومن لم يوجب اليمن فيها أي في الدعوى على الطفل ونحوه أوجب تكفيل القابض استظهاراً ، وكذا مع القول باليمين إذا تعذّرت ، وفي الخبر الوارد في الحكم على الغائب : « ويكون الغائب على حجته إذا قدم ، ولا يدفع المال إلى الذي أقام البيّنة إلاّ بكفلاء إذا لم يكن مليّاً » (٥).

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ١٤٥ ، القواعد ٢ : ٢١٠.

(٢) التنقيح ٤ : ٢٥٦ ، المسالك ٢ : ٣٧٠.

(٣) الروضة ٣ : ١٠٥.

(٤) قال به الفيض الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٥٨.

(٥) الكافي ٥ : ١٠٢ / ٢ ، التهذيب ٦ : ١٩١ / ٤١٣ ، الوسائل ٢٧ : ٢٩٤ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٢٦ ح ١.

٩٨

( وأمّا السكوت : فإن كان ) لدهش أزاله الحاكم بالرفق والإمهال ، وإن كان لغباوة وسوء فهم توصّل إلى إزالته بالتعريف والبيان ، وإن كان ( لآفة ) بدنيّة من صمم ، أو خرس ( توصّل إلى معرفة ) جوابه من ( إقراره أو إنكاره ) بالإشارة المفهمة للمطلوب باليقين.

( ولو افتقر إلى مترجم ) عارف بجوابه ( لم يقتصر على ) العدل ( الواحد ) بل لا بدّ من عدلين كما قالوه (١) ؛ تحصيلاً للأقرب إلى اليقين.

( ولو كان ) سكوته ( عناداً ) ألزمه الجواب أوّلاً باللطافة والرفق ، ثمّ بالإيذاء والشدّة ، متدرّجاً من الأدنى إلى الأعلى حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن أجاب ، وإلاّ ( حبسه حتّى يجيب ) إن سأله المدّعى كما في اليمين ، وفاقاً للمفيد والديلمي والنهاية والخلاف وابن حمزة (٢) ، والمتأخّرين كافة على الظاهر المصرح به في المسالك والكفاية (٣) ؛ لأنّ الجواب حقّ عليه ، فيجوز حبسه لاستيفائه عنه.

وفي الشرائع والتحرير أنّ به رواية (٤) ، قيل (٥) : ولعلّها قوله عليه‌السلام : « ليّ الواجد يحلّ عقوبته وعرضه » (٦) بناءً على تفسيرهم العقوبة بالحبس خاصة.

وقيل : يجبر حتى يجيب من غير حبس ، بل يضرب ويبالغ في‌

__________________

(١) القواعد ٢ : ٢٠٩ الروضة ٣ : ٩٣ ، الكفاية : ٢٦٩.

(٢) المفيد في المقنعة : ٧٢٥ ، الديلمي في المراسم : ٢٣٠ ، النهاية : ٣٤٢ ، الخلاف ٦ : ٢٣٨ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٢١٢.

(٣) المسالك ٢ : ٣٧٠ ، الكفاية : ٢٦٩.

(٤) الشرائع ٤ : ٧٧ ، التحرير ٢ : ١٨٧.

(٥) انظر كشف اللثام ٢ : ٣٣٨.

(٦) المتقدم في ص ٦٥.

٩٩

الإهانة إلى أن يجيب.

ومستنده غير واضح عدا ما استدل له من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وفيه نظر ، فإنّهما يحصلان أيضاً بالأوّل ، فلا وجه للتخصيص به ، سيّما مع رجحان مقابله بما مرّ من الخبر المنجبر قصوره بفتوى الأكثر ، وبما مرّ من النصوص الكثيرة الدالة على حبس أمير المؤمنين عليه‌السلام الغريم باللّي والمطل ، من دون أن يحصّل الحق منه بالجبر والضرب (١) ، هذا.

مع أنّ القائل بهذا القول غير معروف ، وإنّما ذكره الفاضلان في الشرائع والتحرير والقواعد (٢) قولاً : ولم يذكروا له قائلاً.

وعن المبسوط أنّه يقول له الحاكم ثلاثاً : إن أجبت وإلاّ جعلتك ناكلاً ، ورددت اليمين على خصمك (٣) ، واختاره الحلّي (٤) ، وقوّاه بعض المتأخّرين ، قال : لأنّ السكوت عن الجواب هو النكول ، بل أقوى منه ، فإنّ النكول معه إنكار وامتناع من الحق وعدم الحلف وعدم الردّ ؛ فإذا صحّ الحكم حينئذٍ يصح مع عدم الجواب ؛ لأنّه إمّا مقرّ ، أو منكر ، فنهاية ما يصير أن يكون منكراً ، ولم يحلف ولم يردّ ، وجميع أدلة الحكم بالنكول والردّ جار فيه (٥).

وفيه نظر ؛ لمنع كونه إمّا مقرّاً ، أو منكراً ؛ لأنّ هنا احتمالاً ثالثاً أشار إليه هو أيضاً فيما بعد معترضاً على الحلّي ، وهو أنّه قد يكون أدّى الحق‌

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٤١٨ كتاب الحجر ب ٧.

(٢) الشرائع ٤ : ٧٧ ، التحرير ٢ : ١٨٧ ، القواعد ٢ : ٢٠٩.

(٣) المبسوط ٨ : ١٦٠.

(٤) السرائر ٢ : ١٦٣.

(٥) مجمع الفائدة ١٢ : ١٧٠.

١٠٠