رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-277-6
الصفحات: ٥٤٦

ومع عدم وجوب الأمرين فالأمر إليهما يتخيّران من شاءا ، صرّح بذلك جماعة من أصحابنا (١).

( المقصد الثاني ) :

( في جواب المدّعى عليه ، وهو إمّا إقرار ) بما ادّعي عليه ( أو إنكار ) له ( أو سكوت ) عنه ، وإنّما جعل هذا جواباً مع أنّه ليس كذلك لغة بل ولا عرفاً ، قيل : لأنّه إذا أصرّ عليه جعل كالمنكر الناكل ، فهو في الحكم كالإنكار ، فكان في معنى الجواب به (٢).

( أمّا الإقرار فيلزم ) الحق ، ويثبت به في ذمّة المقرّ ( إذا كان جائز الأمر ) والتصرف ، باستجماعه شرائط الإقرار المقرّرة في بابه المتقدم مطلقاً ( رجلاً كان ) المقرّ ( أو امرأة ) أو غيرهما ، بخلاف ما إذا أقام المدّعى بيّنةً ، فإنّه لم يثبت بمجرد إقامتها ؛ لأنّها منوطة باجتهاد الحاكم في قبولها وردّها.

ومظهر ثمرة الفرق بين المقامين بذلك جواز مقاصّة المدّعى حقّه إذا كان عيناً وادّعاها مع عدم علمه بها بالإقرار دون البيّنة إذا لم يحكم الحاكم.

( فإن التمس المدّعى الحكم ) له ( به ) أي : بالحق الثابت بالإقرار ( حكم ) الحاكم ( له ) به وجوباً.

وفي جوازه بدون مسألته قولان : من أنّه حق له فيتوقف على سؤاله. ومن شهادة الحال بطلبه.

ويأتي الوجهان في مطالبة الحاكم المدّعى عليه بالجواب قبل التِماس‌

__________________

(١) الدروس ٢ : ٧٥ ، المسالك ٢ : ٣٦٦ ، كشف اللثام ٢ : ٣٢٨.

(٢) قاله الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٣٦٧.

٦١

المدّعى.

والأشهر العدم في المقامين على الظاهر المصرح به في المسالك (١) ، بل قال في المبسوط في المقام الثاني : إنّه الصحيح عندنا (٢) ، مؤذناً بدعوى الإجماع عليه ، مع أنّه قوّى الجواز أخيراً ، وحكاه في المختلف عن الشيخين والديلمي والحلّي أيضاً ، واختاره ، قال : لأنّ الحاكم منصوب لذلك ، وربما خفي على المدّعى أنّ ذلك حق له ، وهاب الحاكم فضاع حقه (٣).

وفي هذا الدليل نظر ؛ لأخصّيته من المدّعى ؛ لاختصاصه بصورة جهل المدّعى ، فربما كان المانع يسلّم الجواز هنا ، كما اتفق له في التحرير ، حيث قال بعد الحكم بأنّه ليس للحاكم أن يحكم عليه إلاّ بمسألة المدّعى ـ : لأنّه حقّه فيتوقف استيفاؤه على مطالبته ، ويحتمل أن يحكم عليه من غير مسألته. أمّا لو كان المدّعى جاهلاً بمطالبة الحاكم فإنّ الحاكم يحكم عليه أو ينبّهه على ذلك ؛ لئلاّ يضيع حقّه بجهله فيترك المطالبة (٤).

ومنه يظهر وجه آخر للنظر فيما ذكره في المختلف ، وهو أنّ جهل المدّعى بذلك لا يوجب جواز الحكم له بالإقرار من غير مسألته ؛ لاندفاع الضرر المترتّب عليه بتنبيهه على ما جهله.

فكيف كان فمستند القولين غير واضح ، كمستند القول بالتفصيل بالجواز في المقام الأوّل ، وعدمه في المقام الثاني ، كما هو ظاهر الماتن في‌

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٦٧.

(٢) المبسوط ٨ : ١٥٧.

(٣) المختلف : ٧٠٠ ، وهو في المقنعة : ٧٢٣ ، والنهاية : ٣٣٩ ، والمراسم : ٢٣٠ ، والسرائر ٢ : ١٥٧.

(٤) التحرير ٢ : ١٨٦.

٦٢

الشرائع (١) ، كما اعترف به شيخنا في شرحه (٢) ، أو بالعكس فالمنع في الأوّل ، والجواز في الثاني ، كما هو ظاهر الفاضل في التحرير ، حيث قال قبل ما قدّمنا نقله عنه ـ : إذا حرّر المدّعى دعواه فللحاكم أن يسأل خصمه عن الجواب ، ويحتمل توقّف ذلك على التماس المدّعى ؛ لأنّه حقّه فيتوقف على المطالبة ، والأقرب الأوّل ؛ لأنّ شاهد الحال يدل عليه ، فإنّ إحضاره والدعوى إنّما يراد بهما ليسأل الحاكم الغريم (٣).

وهذا مع ما قدمناه عنه ظاهر في اختياره التفصيل المتقدم كما ذكرناه.

وفيما ذكره هو وغيره من الأصحاب (٤) من تعليل الجواز بقرينة شاهد الحال دلالة على الاتفاق على اعتبار إذن المدّعى في مطالبة الجواب ، والحكم له بمقتضاه ، وعدم جوازهما من دونه ، وأنّ خلافهم إنّما هو في اعتبار الإذن الصريح أو الاكتفاء بشاهد الحال.

وحيث قد تمهد هذا فالأوفق بالأصل حينئذٍ هو الأوّل اقتصاراً على المتيقن ، مع اعتضاده بظاهر إجماع المبسوط المتقدم (٥) ، ومع ذلك فهو أحوط.

وعلى تقدير التردد بين القولين وعدم وجود أصل يرجع إليه في البين كما هو ظاهر جمع (٦) يكون ما ذكرناه أيضاً متعيّناً ؛ لغلبة الظن به من‌

__________________

(١) الشرائع ٤ : ٨٣.

(٢) المسالك ٢ : ٣٦٧.

(٣) التحرير ٢ : ١٨٦.

(٤) انظر المبسوط ٨ : ١٥٧ ، والمسالك ٢ : ٣٦٧ ، والمفاتيح ٣ : ٢٥٤.

(٥) في ص : ٦١.

(٦) منهم المحقق في الشرائع ٤ : ٨٣ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٦٧ ، والفيض الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٥٤.

٦٣

حيث كونه مشهوراً.

وصورة الحكم هنا وفي غيره من الأبواب على ما ذكره الأصحاب : ألزمتك ، أو : قضيت عليك ، أو : ادفع إليه ماله ، ونحو ذلك ممّا يكون صريحاً فيه ، دون قوله : ثبت عندي حق خصمك ، أو ما شابه ذلك.

واعلم أنّ فائدة الحكم هنا بعد اتفاقهم على ثبوت الحق بالإقرار كما مضى غير واضحة ، عدا ما ذكره شيخنا في المسالك من أنّ فائدته إنفاذ حاكم آخر إيّاه ونحو ذلك (١).

وحيث يتحقق الحكم فإن رضي المحكوم له بالاقتصار على تلفظ الحاكم به فذاك.

( و ) إن التمس أن يكتب له به حجة بحقّه يكون في يده فـ ( لا يكتب ) له ( على المقر حجة إلاّ بعد المعرفة ) منه ( باسمه ) أي المقر ( ونسبه أو يشهد بذلك ) أي بكلّ من الاسم والنسب ( عدلان ) مرضيان عنده خوفاً من التزوير بتواطؤ المتداعيين لإثبات إقرار على ثالث فيكتب عليه حجة بخط الحاكم وختمه ؛ ليحكم الحاكم عليه بحكمه السابق المتذكر له بخطه وختمه حيثما يجاء به ، والحال أنّه غير المقر عنده أوّلاً ، فيقع الخطأ بالتزوير في حكمه وهو لا يعلم به ، فلا يجوز له ذلك.

( إلاّ أن يقنع المدّعى بالحِلية ) وهي بكسر الحاء المهملة ثم الياء المنقطة نقطتين من تحت بعد اللام ـ : الصفة ، فيكتب صفة المقر من طوله وقصره وبياضه وسواده ، ونحو ذلك من الأوصاف التي يؤمن معها التزوير.

ولا خلاف في شي‌ء من ذلك إلاّ من الشيخين والحلبي والديلمي‌

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٦٧.

٦٤

والقاضي (١) في الاكتفاء بالحلية فلم يذكروه ، لكن الشيخ في الخلاف بعد نقل ذلك عنهم ونسبة خلافه والاكتفاء بها إلى من خالفهم من الفقهاء قال : والذي قاله بعض أصحابنا يحمل على أنّه لا يجوز أن يكتب ويقتصر على ذكر نسبهما ، فإنّ ذلك يمكن استعارته (٢). وعلى ما ذكره يرتفع الخلاف كما هو ظاهر الأصحاب ، حيث لم ينقلوه ، وقد صرح به الفاضل في المختلف (٣) فقال : والتحقيق أنّه لا مشاحّة هنا ؛ لأنّ القصد تخصيص الغريم وتمييزه عن غيره وإزالة الاشتباه ، فإن حصل ذلك بالحلية جاز.

واعلم أنّ فائدة كتاب الحاكم هنا مع الاتفاق على عدم جواز الرجوع إليه له ولغيره من الحكّام إلاّ بعد العلم بالواقعة والقطع بها ـ ، جعله مذكّراً ومنبّهاً عليها ، فإذا وقف الإنسان على خطه فإن تذكرها أقام الشهادة عليها ، وإلاّ فلا.

وحيث ثبت الحق بالإقرار أو غيره كلّف أداؤه ( وإن امتنع المقر ) ومن في حكمه ممن ثبت عليه الحق ( من التسليم ) مع قدرته عليه ( أمر الحاكم خصمه بالملازمة ) له حتى يؤدّي.

( ولو التمس ) من الحاكم ( حبسه حبس ) بلا خلاف ؛ للخبر : « ليّ (٤) الواجد يحل عقوبته وعرضه » (٥) وفسّر العقوبة بالحبس ، والعرض بالإغلاظ له في القول ، كقوله : يا ظالم ، ونحوه.

__________________

(١) المفيد في المقنعة : ٧٢٤ ، الطوسي في النهاية : ٣٤١ ، الحلبي في الكافي : ٤٤٥ ، الديلمي في المراسم : ٢٣١ ، حكاه عن القاضي في المختلف : ٦٩١.

(٢) الخلاف ٦ : ٢٢١.

(٣) المختلف : ٦٩١.

(٤) اللّيّ : مطل الدَّين القاموس المحيط ٤ : ٣٩٠.

(٥) أمالي الطوسي : ٥٣٢ ، الوسائل ١٨ : ٣٣٣ أبواب الدين والقرض ب ٨ ح ٤.

٦٥

وفي الموثق : « كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ، ثم يأمر فيقسّم ماله بينهم بالحصص ، فإن أبى باعه فيقسّمه بينهم » يعني : ماله ـ (١).

وفي معناه أخبار أُخر مروية في التهذيب في أواسط باب الزيادات من هذا الكتاب ، ويستفاد منها جواز بيع ماله عليه للحاكم إذا أبى عنه بعد الحبس (٢) ، وبه أفتى الأصحاب أيضاً.

( وإن ادّعى الإعسار ) وهو عندنا كما في كنز العرفان (٣) عجزه عن أداء الحق ؛ لعدم ملكه لما زاد عن داره وثيابه اللائقة بحاله ودابّته وخادمه كذلك ، وقوت يوم وليلة له ولعياله الواجبي النفقة ، فإن كان له أصل مال قبل ذلك ، أو كان أصل الدعوى مالاً ، ( كلّف البينة ) على تلفه ، فإن لم يقمها حبس إلى أن يتبين الإعسار ، على المشهور ؛ للنصوص ففي الموثق وغيره : « أنّ عليّاً عليه‌السلام كان يحبس في الدين فإذا تبيّن له إفلاس وحاجة خلّى سبيله حتّى يستفيد مالاً » (٤).

وأمّا الصحيح : « كان عليه‌السلام لا يحبس في السجن إلاّ ثلاثة : الغاصب ، ومن أكل مال اليتيم ظلماً ، ومن ائتمن على أمانة فذهب بها ، وإن وجد له شيئاً باعه ، غائباً كان أو شاهداً » (٥) فقال الشيخ : إنّه لا تنافي بينه وبين‌

__________________

(١) الفقيه ٣ : ١٩ / ٤٣ ، التهذيب ٦ : ٢٩٩ / ٨٣٣ ، ٨٣٥ ، الإستبصار ٣ : ٧ / ١٥ ، الوسائل ١٨ : ٤١٦ أبواب الحجر ب ٦ ح ١.

(٢) التهذيب ٦ : ٢٩٩ / ٨٣٣ ، ٨٣٤ ، ٨٣٥.

(٣) كنز العرفان ٢ : ٥٧.

(٤) الفقيه ٣ : ١٩ / ٤٣ ، التهذيب ٦ : ٢٩٩ / ٨٣٤ ، الإستبصار ٣ : ٤٧ / ١٥٦ ، الوسائل ١٨ : ٤١٨ كتاب الحجر ب ٧ ح ١.

(٥) التهذيب ٦ : ٢٩٩ / ٨٣٦ ، الإستبصار ٣ : ٤٧ / ١٥٤ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤٨ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١١ ح ٢.

٦٦

الخبرين الأوّلين ، لأنّ الوجه فيه أحد شيئين :

أحدهما : أنّه ما كان يحبس على جهة العقوبة ، إلاّ الذين ذكرهم.

والثاني : أنّه ما كان يحبسهم حبساً طويلاً ، إلاّ الثلاثة الذين استثناهم ؛ لأنّ الدين إنّما يحبس فيه بقدر ما يتبين حاله ، فإن كان مُعدِماً وعلم ذلك من حاله خلي سبيله ، وإن لم يكن مُعدِماً الزم الخروج مما عليه ، أو يباع عليه ما يقضى به دينه (١). انتهى.

وفي الوجهين بُعد ، ولا سيّما الثاني ، إلاّ أنّه لا بأس بهما ؛ لرجحان الأخبار الأوّلة على الصحيحة من وجوه عديدة ، أظهرها كونها مفتى بها دون هذه ؛ لمخالفة الحصر فيها للإجماع جدّاً.

وإن لم يعرف له أصل مال ، ولا كانت الدعوى مالاً ، بل كانت جناية ، أو صداقاً ، أو نفقة زوجة ، أو قريب ، أو نحو ذلك ، قُبِل قوله بيمينه ؛ لموافقة دعواه الأصل ، فيكون كالمنكر ، بخلاف ما إذا كان أصل الدعوى مالاً ، فإنّ أصالة بقائه يمنع قبول قوله.

( ومع ثبوته ) أي ثبوت إعساره بالبيّنة ، أو اليمين ، أو تصديق المدّعى ( ينظر ) ويمهل حتى يمكن له الوفاء ويتيسر ، على الأظهر الأشهر ، كما صرح به الماتن هنا وفي الشرائع وجمع ممّن تأخّر (٢) ؛ للأصل ؛ وقوله سبحانه ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) (٣).

وللأخبار المتقدّمة أخيراً ، حتى الصحيح منها ، نظراً إلى مفهوم‌

__________________

(١) الاستبصار ٣ : ٤٨.

(٢) الشرائع ٤ : ٨٤ ؛ كشف الرموز ٢ : ٤٩٩ ، وانظر المسالك ٢ : ٣٦٧ ، ومجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ١٣١ ، والكفاية : ٢٦٧.

(٣) البقرة : ٢٨٠.

٦٧

الحصر فيه الدال بعمومه على عدم الحبس هنا. فما في المسالك (١) من عدم وضوح دلالته كما ترى.

والعجب منه ومن الفاضل المقداد في شرح الكتاب (٢) حيث لم يقفا على ما عدا الصحيحة من الموثق وغيره المتقدمين قبلها مع كونهما مرويين في التهذيب والاستبصار في هذا الكتاب ، فروى ما عدا الموثق في الأوّل في أواخر باب كيفية الحكم والقضاء (٣) ، وروى الموثق والصحيحة في أواسط باب الزيادات منه (٤).

وروى فيه بعد الصحيحة بلا فاصلة رواية ظاهرة الدلالة على المختار كالسابقة هي للسكوني كالصحيحة برواية عبد الله بن المغيرة عنه ، وقد حكي على تصحيح ما يصح عنه إجماع العصابة (٥) وفيها : « إنّ امرأة استعدت على زوجها أنّه لا ينفق عليها ، وكان زوجها معسراً ، فأبى عليه‌السلام أن يحبسه ، وقال : إنّ مع العسر يسراً » (٦).

( و ) لكن ( في تسليمه إلى الغرماء ) ليؤاجروه أو يستعملوه ( رواية ) (٧) عمل بها في النهاية (٨) ( و ) قد عرفت أنّ ال ( أشهر منها ) ما دل على ( تخليته ) وإنظاره إلى يساره ، وهو مع ذلك أكثر عدداً ،

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٦٧.

(٢) التنقيح الرائع ٤ : ٢٥٠.

(٣) التهذيب ٦ : ٢٣٢ / ٥٦٨.

(٤) التهذيب ٦ : ٢٩٩ / ٨٣٤ ، ٨٣٦.

(٥) رجال الكشي ٢ : ٨٣٠ / ١٠٥٠.

(٦) التهذيب ٦ : ٢٩٩ / ٨٣٧ ، الوسائل ١٨ : ٤١٨ كتاب الحجر ب ٧ ح ٢.

(٧) التهذيب ٦ : ٣٠٠ / ٨٣٨ ، الإستبصار ٣ : ٤٧ / ١٥٥ ، الوسائل ١٨ : ٤١٨ كتاب الحجر ب ٧ ح ٣.

(٨) النهاية : ٣٥٢.

٦٨

وأوضح سنداً ، وأوفق بالأصل والآية الكريمة كما مضى ، فلا تكافؤ بينهما أصلاً ، سيّما مع كون هذه شاذّة لا عامل بها ، حتى الشيخ ؛ لرجوعه في الخلاف (١) عما ذكره في النهاية إلى ما عليه أصحابنا.

ولابن حمزة قول ثالث في المسألة ، ففصّل بين ما إذا كان المعسر ذا حرفة يكتسب بها فالثاني ، وغيره فالأوّل ، مستدلاً عليه بالرواية الأخيرة (٢).

والمناقشة فيه واضحة ؛ لعدم دلالة فيها على التفصيل المزبور ، بل ولا إشارة.

ولا يمكن الاستدلال له بالجمع بين الأدلّة والروايات المختلفة ؛ لعدم التكافؤ أوّلاً ، وعدم وضوح الشاهد عليه ثانياً.

فهذا القول ضعيف كسابقه ، بل وأضعف جدّاً ، وإن نفى عنه البعد في المختلف (٣).

كضعف ما اعتذر به من أنّه يتمكن من أداء ما وجب عليه ، وإيفاء صاحب الدين حقه ، فيجب عليه كما يجب عليه السعي في المئونة ، ومع تمكنه من الكسب لا يكون معسراً ؛ لأنّ اليسار كما يتحقق بالقدرة على المال ، يتحقق بالقدرة على تحصيله ، ولهذا منع القادر على التكسب من أخذ الزكاة ، إلحاقاً له بالغني القادر على المال.

وذلك فإنّ غاية ما ذكره وجوب تكسبه كيف شاء ، لا تسلّط الغريم على منافعه بالاستيفاء والإجارة ، كما ذكره ابن حمزة.

نعم لو توانى عن هذا الواجب بحيث يترتب به ضرر على الغرماء‌

__________________

(١) الخلاف ٣ : ٢٧٢.

(٢) الوسيلة : ٢١٢.

(٣) المختلف : ٤١٤.

٦٩

أمكن أن يجبره الحاكم على التكسب ، دفعاً للضرر ، والتفاتاً إلى أنّه نوع أمر له بالمعروف.

ولو رأى أنّه لا ينجع فيه جبره وإقامته على الفعل الواجب إلاّ بالدفع إلى الغرماء أمكن الجواز ؛ لما مرّ ، ويمكن أن يحمل عليه الخبر الذي مرّ (١).

( و ) اعلم أنّه ( لو ارتاب ) الحاكم ( بالمقر ) وشك في بلوغه أو عقله أو اختياره ، أو نحو ذلك ممّا هو شرط في صحة إقراره ( توقف في الحكم ) بإقراره ( حتى يستبين حاله ) من بلوغ ورشد ونحو ذلك ، بلا إشكال ، ووجهه واضح.

( وأمّا الإنكار فـ ) اعلم أنّ ( عنده ) أي عند الإنكار يجب أن ( يقال للمدعي : ألك بيّنة؟ ) إن جهل مطالبتها منه ، وإن كان عالماً بها جاز للحاكم السكوت عن ذلك ، كما جاز له السؤال عنها ( فإن قال ) المدّعى : ( نعم ) لي البيّنة جاز للحاكم ( أمره بإحضارها ) مطلقاً ، كما عليه أكثر أصحابنا ، على ما صرح به في المسالك وغيره (٢) ، ومنهم الشيخان والديلمي والحلبي والقاضي في أحد قوليه ، وأكثر المتأخرين (٣).

خلافاً للمبسوط والمهذب والسرائر (٤) ، فلم يجوّزوه مطلقاً ؛ لأنّه حق‌

__________________

(١) راجع ص : ٦٨.

(٢) المسالك ٢ : ٣٦٩ ؛ وانظر الكفاية : ٢٦٨.

(٣) المفيد في المقنعة : ٧٢٣ ، الطوسي في النهاية : ٣٣٩ ، الديلمي في المراسم : ٢٣١ ، الحلبي في الكافي في الفقه : ٤٤٦ ، القاضي في الكامل على ما حكاه عنه في المختلف : ٦٩٠ ، وانظر مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ١٥٠ ، وكشف اللثام ٢ : ٣٣٧ ، ومفاتيح الشرائع ٣ : ٢٥٥.

(٤) المبسوط ٨ : ١١٥ ، المهذّب ٢ : ٥٨٥ ، السرائر ٢ : ١٥٨.

٧٠

له فله أن يفعل فيه ما يرى.

وللفاضل في المختلف والقواعد والشهيد في الدروس (١) ، فالتفصيل بين علم الحاكم بمعرفة المدعي بكون المقام مقام بينة فالثاني ؛ لما مرّ ، وجهله بذلك فالأوّل ؛ لئلاّ يضيع حقه.

وحجج هذه الأقوال غير واضحة ، عدا ما استدل للأكثر من أنّ الأمر هنا ليس للوجوب والإلزام ، بل لمجرد إذن وإعلام.

والتحقيق أن يقال : إن قصد المانع عن الأمر بالإحضار في الجملة أو مطلقاً المنع عنه حرمة مطلقاً ولو كان المقصود به الإرشاد ونحوه دون الوجوب ، فالحق مع المجوّز ؛ للأصل ، مع عدم دليل عليها كذلك ، والدليل المتقدم له لا يفيدها ، بل مفاده المنع عن الأمر إذا قصد به الوجوب ، لا مطلقاً.

وإن قصد المنع عنه كذلك مع قصد الوجوب منه خاصّة لا مطلقاً كما أفاده دليله ، فالمنع متوجّه حينئذٍ ، إلاّ أنّ الظاهر من المجوّز ودليله كما عرفته اختصاص الجواز بما إذا قصد بالأمر الإرشاد والإعلام ، وحينئذٍ فيعود النزاع لفظياً في المقام.

وكيف كان ( فإذا أحضر ) المدّعى البيّنة عند الحاكم وعرف عدالتها ( سمعها ) وحكم بشهادتها بعد التماس المدّعى سماعها والحكم بها.

ثم لا يقول لهما : اشهدا ؛ لأنّه أمر وهو لا يأمرهما ، بل يقول : من كان عنده كلام أو شهادة فليذكر ما عنده إن شاء ، فإن أجابا بما لا يثبت به حقّ‌

__________________

(١) المختلف : ٦٩٠ ، القواعد ٢ : ٢٠٩ ، الدروس ٢ : ٧٧.

٧١

طرح قولهما.

وإن قطعا بالحق المدّعى وطابق الدعوى ، وعرف العدالة ، حكم كما ذكرنا.

وإن عرف فسقهما ترك شهادتهما ، ولا يطلب التزكية ؛ لأنّ الجارح مقدّم.

وإن جهل حالها طلب من المدّعى تزكيتها ، فإن زكّاها بشاهدين أو شاهد أيضاً على قول على كل من الشاهدين يعرفان العدالة ومزيلها أثبتها ، ثمّ سأل الخصم من الجرح ، فإن اعترف بعدمه حكم كما مرّ.

وإن ادّعاه واستنظر لإثباته أمهله ثلاثة أيّام ، فإن أحضر الجارح نظر في أمره على حسب ما يراه من تفصيل وإجمال وغيرهما ، فإن قبله قدّمه على التزكية على التفصيل المتقدّم إليه الإشارة.

ولا خلاف هنا في شي‌ء من ذلك أجده حتى في توقف سؤال البيّنة والحكم بشهادتها على سؤال المدّعى ، لكن في الكفاية وغيرها (١) ذكر فيه الوجهان المتقدم ذكرهما في نظير المسألة.

ثم إنّ إطلاق الأصحاب الإمهال ثلاثة أيام مع الاستنظار يقتضي عدم الفرق بين قول المستنظر : إنّ شهودي على الجرح على مسافة لا يصلون إلاّ بعد الثلاثة أيّام وغير ذلك.

قيل : وينبغي لو عيّن مكاناً بعيداً أن يمهل بقدره إذا لم يؤدّ إلى البعد المفرط الموجب للتضرر بتأخير الحق.

__________________

(١) الكفاية : ٢٦٨ ؛ مجمع الفائدة ١٢ : ١٥٠.

٧٢

ولا بأس به إن لم يثبت الإجماع على خلافه ، وفي وصية علي عليه‌السلام لشريح في الخبر المشهور : « واجعل لمن ادّعى شهوداً غيّباً أمداً بينهما ، فإن أحضرهم أخذت له بحقه ، وإن لم يحضرهم أوجبت عليه القضية » (١) فتأمّل.

( و ) يستفاد منه أنّه ( لو ) لم يحضرها المدّعى بل ( قال : البيّنة غائبة أُجلّ ) وضرب له وقت ( بمقدار إحضارها ) بلا خلاف فيه ، وفي أنّه إن شاء الحاكم خيّره بين الصبر إلى الإحضار وبين إحلافه المنكر ، بل ذكر جماعة (٢) من دون خلاف بينهم ثبوت الخيار للمدّعي بين إحلافه وبين إقامة البيّنة ولو كانت حاضرة ؛ لأنّ الحق له فله أن يفعل ما شاء منهما.

( وفي ) جواز ( تكفيل المدّعى عليه ) وأخذ الكفيل منه ليحضره متى حضرت البيّنة ( هنا ) أي عند غيبة البيّنة وعدم ثبوت الحق بها بعد ( تردّد ) واختلاف بين الأصحاب :

فبين مجوّز كالشيخين في المقنعة والنهاية والقاضي في أحد قوليه وابني حمزة وزهرة (٣) ، نافياً للخلاف فيه ظاهراً ؛ حفظاً لحق المدّعى حذراً من ذهاب الغريم.

ومانع كالإسكافي والشيخ رحمه‌الله في المبسوط والخلاف والحلّي‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤١٢ / ١ ، الفقيه ٣ : ٨ / ٢٨ ، التهذيب ٦ : ٢٢٥ / ٥٤١ ، الوسائل ٢٧ : ٢١١ أبواب آداب القاضي ب ١ ح ١.

(٢) منهم الشهيد الثاني في الروضة ٣ : ٨٨ ، والأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ١٩٤ ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٣٨.

(٣) المقنعة : ٧٣٣ ، النهاية : ٣٣٩ ، القاضي في الكامل على ما حكاه عنه في المختلف : ٦٩٠. الوسيلة : ٢١٢ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٦.

٧٣

والقاضي (١) في قوله الثاني ، وعليه أكثر المتأخّرين (٢) ، بل عامتهم كما في ظاهر المسالك (٣) ؛ للأصل ؛ وكون مثل ذلك عقوبة قبل ثبوت الاستحقاق ، مع أنّ الكفيل يلزمه الحق إن لم يحضر المكفول ، وهنا لا معنى له قبل إثباته ، ولا معنى أيضاً لكون ذلك الحق هنا هو حضور الدعوى وسماع البيّنة ، مع أنّه بعد إحضارها إن كان حاضراً ، وإلاّ يحكم عليه وهو غائب ، ويطلب بالحق كسائر الغيّاب.

ولا ريب أنّ الأوّل مع رضا المدّعى عليه أحوط ، سيّما مع ما يظهر من الغنية (٤) من عدم الخلاف فيه.

مع إمكان المناقشة في أدلّة المنع بمعارضة الأصل بما دلّ على لزوم مراعاة حق المسلم عن الذهاب في نفس الأمر ، فيجب التكفيل ولو من باب المقدّمة.

وبه يظهر الجواب عن الثاني ، فإنّ التكفيل وإن كان ضرراً إلاّ أنّ ذهاب الحق أيضاً ضرر آخر ، وعلى الحاكم مراعاة الأقلّ منهما ضرراً ، وقد يكون التكفيل أقلّ ضرراً.

وأمّا أنّه لا فائدة في التكفيل قبل إثبات الحق ، فمسلّم إن تحقق عدم إمكان إثبات الحق أصلاً في نفس الأمر ، ولكنّه غير متحقق بعد احتمال حضور البيّنة وثبوت الحق بها ، فيلزم الكفيل إحضاره أو الالتزام بالحق إن‌

__________________

(١) حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٦٩٠ ، المبسوط ٨ : ١٦٠ ، الخلاف ٦ : ٢٣٧ ، السرائر ٢ : ١٥٩ ، المهذّب ٢ : ٥٨٦.

(٢) كالمحقق في الشرائع ٤ : ٨٥ ، والشهيد الثاني في الروضة ٣ : ٨٩ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٦٩.

(٣) المسالك ٢ : ٣٧٠.

(٤) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٦.

٧٤

ثبت وهرب المدعى عليه ولم يكن له مال يقتصّ منه.

ومنه يظهر الجواب عن الأخير ، فإنّ الحكم عليه وهو غائب غير كاف في التخلّص عن احتمال ذهاب الحق بعد فرض عدم مال له يقتصّ منه واحتمال عدم الوصول إليه ليداعيه ، وقياس المقام على إثبات الحق على الغيّب قياس مع الفارق ؛ لإمكان التكفيل هنا ، وعدمه ثمّة حين غياب الغائب.

فإذاً القول الأوّل لا يخلو عن رجحان إن خيف هرب المنكر وعدم التمكن من استيفاء الحق بعد ثبوته من ماله ، ولو لم يخف عن ذلك أمكن ترجيح الثاني.

وبهذا التفصيل صرّح الفاضل المقداد في شرح الكتاب ، فقال ولنعم ما قال ـ : ويقوى أنّ التكفيل موكول إلى نظر الحاكم ، فإنّ الحكم يختلف باختلاف الغرماء ، فإنّ الغريم قد يكون غير مأمون فالمصلحة حينئذٍ تكفيله ، وإلاّ لزم تضييع حق المسلم ، وقد لا يكون كذلك بل يكون ذا ثروة وحشمة ومكنة فلا حاجة إلى تكفيله ؛ لعدم ثبوت الحق والأمن من ضياعه ، وربما كان المدّعى محتالا يكون طلبه للتكفيل وسيلة إلى أخذ ما لا يستحقه (١).

وعلى القول بالتكفيل فهل يتعيّن في ضرب مدّته ثلاثة أيّام ، كما عن ابن حمزة (٢) ، أو يناط بنظر الحاكم كما هو ظاهر الأكثر؟ قولان.

( و ) عليهما ( يخرج ) الكفيل ( من ) حق ( الكفالة عند انقضاء الأجل ) المضروب كائناً ما كان ، ولا خلاف فيه على الظاهر ، ووجهه مع‌

__________________

(١) التنقيح الرائع ٤ : ٢٥٢.

(٢) الوسيلة : ٢١٢.

٧٥

ذلك واضح.

( وإن قال ) المدّعى : أنّه ( لا بيّنة ) لي ( عرّفه الحاكم أنّ له اليمين ) على خصمه المنكر لحقه ، كما أنّ عليه البيّنة عليه ، إجماعاً ؛ للنصوص المستفيضة ، بل المتواترة ، منها الخبر المستفيض النقل بين العامّة والخاصّة : « البيّنة على المدّعى ، واليمين على من أنكر » (١) ولأنه مستند إلى البراءة الأصلية فهو أولى باليمين من المثبت إلاّ فيما استثني.

( ولا يجوز ) هنا ( إحلافه حتى يلتمس المدّعى ) قولاً واحداً ؛ لأنّه حق له وإن كان إيقاعه إلى الحاكم ، وليس هنا شهادة حال ؛ إذ ربما تعلق غرضه بعدم سقوط الدعوى بل بقاؤها إلى وقت آخر ، إمّا ليتذكر البيّنة ، أو ليتحرّى وقتاً صالحاً.

( فإن تبرّع ) المنكر بالحلف ( أو أحلفه الحاكم ) من دون سؤاله لغا و ( لم يعتدّ بها ، وأُعيدت مع التماس المدّعى ) وبعدم الخلاف هنا صرح جماعة من أصحابنا (٢).

وذكر الشهيدان وغيرهما (٣) من غير خلاف بينهم أجده ، بل ظاهر المقدس الأردبيلي رحمه‌الله نسبته إلى الأصحاب كافة (٤) أنّه لا يستقل الغريم باليمين من دون إذن الحاكم ، لأنّ إيقاعه موقوف على إذنه وإن كان حقاً لغيره ؛ لأنّه وظيفته ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يدل عليه.

( ثم المنكر إمّا أن يحلف أو يردّه ) على المدّعى ( أو ينكل ) ويأبى‌

__________________

(١) الاحتجاج : ٩٢ ، علل الشرائع : ١٩٠ / ١ ، تفسير القمي ٢ : ١٥٦ ، الوسائل ٢٧ : ٢٩٣ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٢٥ ح ٣.

(٢) منهم : السبزواري في الكفاية : ٢٦٧ ، وانظر المفاتيح ٣ : ٢٥٥.

(٣) اللمعة ( الروضة البهية ٣ ) : ٨٥ ؛ وانظر كشف اللثام ٢ : ٣٣٧.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ١٣٦.

٧٦

عن الأمرين ( فإن حلف سقطت الدعوى ) وإن لم يبرأ ذمّته من الحق في نفس الأمر لو كان كاذباً ، بل يجب عليه فيما بينه وبين الله تعالى التخلّص من حق المدّعى ، بلا خلاف ، كما يستفاد من المعتبرة منها الصحيح وغيره : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والايمان ، وبعضكم ألحن بحجته من بعض ، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً ، فإنّما قطعت له قطعة من النار » (١).

ونحوهما ثالث مروي عن تفسير مولانا العسكري عليه‌السلام بأدنى تفاوت ، وزيد فيه : « فلا يأخذنّه » (٢).

ويستفاد منها ثبوت مثل ذلك في جانب المدّعى لو شهدت له البيّنة الكاذبة ، وبخصوصه وردت أخبار كثيرة ، منها رواية المناهي المشهورة المروية في الفقيه ، وفيها : « أنّه نهى عن أكل مال بشهادة الزور » (٣).

( ولو ظفر له المدّعى بمال لم يجز له المقاصّة ) بعد إحلاف الحاكم إيّاه بسؤاله ، وإن كان له ذلك قبل الإحلاف كما يأتي ، ولا مطالبته به ، ولا معاودة المحاكمة ( فلو عاود الخصومة لم تسمع دعواه ) كلّ ذلك للنصوص المستفيضة :

منها الصحيح : « إذا رضي صاحب الحق بيمين المنكر بحقه فاستحلفه فحلف أن لا حق له قِبَله ، ذهبت اليمين بحقّ المدّعى ، ولا دعوى له » ‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤١٤ / ١ ، التهذيب ٦ : ٢٢٩ / ٥٥٢ ، معاني الأخبار : ٢٧٩ ، الوسائل ٢٧ : ٢٣٢ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٢ ح ١.

(٢) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٦٧٣ ، الوسائل ٢٧ : ٢٣٣ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٢ ح ٣.

(٣) الفقيه ٤ : ٤ / ١ ، الوسائل ٢٧ : ٢٣٢ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٢ ح ٢.

٧٧

قلت : وإن كانت له بيّنة عادلة؟ قال : « نعم ، فإن أقام بعد ما استحلفه بالله تعالى خمسين قسامة ما كان له حق ، فإنّ اليمين قد أبطلت كل ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من حلف لكم بالله فصدّقوه ، ومن سألكم بالله تعالى فأعطوه ، ذهبت اليمين بحقّ المدّعى ، ولا دعوى له » (١).

والصحيح : عن رجل وقع لي عنده مال وكابرني عليه وحلف ، ثمّ وقع له عندي مال ، فآخذه لمكان مالي الذي أخذه وجحده وأحلف عليه كما صنع؟ فقال : « إن خانك فلا تخنه ، ولا تدخل فيما عبته عليه » (٢).

ومنها : في الرجل يكون له على الرجل مال فيجحده ، قال : « إن استحلفه فليس له أن يأخذ منه بعد اليمين شيئاً ، وإن احتسبه عند الله تعالى فليس له أن يأخذ شيئاً ، وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقه » (٣).

ومنها : كان بيني وبين رجل من اليهود معاملة ، فخانني بألف درهم ، فقدمته إلى الوالي فأحلفته فحلف ، وقد علمت أنّه حلف يميناً فاجرة ، فوقع له عندي بعد ذلك أرباح ودراهم كثيرة ، فأردت أن أقبض الألف درهم التي كانت لي عنده ، فأحلف عليها ، فكتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام فأخبرته أنّه قد أحلفته فحلف إلى أن قال فكتب : « لا تأخذ منه شيئاً ، إن كان ظلمك لا تظلمه ، ولو لا أنّك رضيت بيمينه فحلفته لأمرتك أن تأخذه‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤١٧ / ١ ، التهذيب ٦ : ٢٣١ / ٥٦٥ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤٤ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٩ ح ١.

(٢) الفقيه ٣ : ١١٣ / ٤٨٢ ، التهذيب ٦ : ١٩٧ / ٤٣٧ ، الإستبصار ٣ : ٥٢ / ١٧١ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٤ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ٧.

(٣) الكافي ٧ : ٤١٨ / ٢ ، الفقيه ٣ : ١١٣ / ٤٨١ ، التهذيب ٦ : ٢٣١ / ٥٦٦ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤٦ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٠ ح ١.

٧٨

من تحت يدك ، ولكنك رضيت بيمينه ، فقد مضت اليمين بما فيها » الخبر (١).

إلى غير ذلك من الأخبار (٢) المنجبر قصور أسانيد أكثرها بالشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعاً ، كما ستعرفه.

وأمّا الحسن الدال على جواز المقاصّة من المنكر بعد حلفه (٣) ، فمع ضعفه عن المكافأة لما مرّ سنداً وعدداً واعتباراً شاذّ ، وقد حمله الأصحاب ومنهم الصدوق والشيخ (٤) ـ رحمهما الله ـ على أنّه حلف من غير استحلاف صاحب الحق.

وهذا كله إجماعي بحسب الظاهر إذا لم يقم بعد إحلافه بيّنة بالحق.

( و ) أمّا ( لو أقام ) بعده ( بيّنة ) فكذلك ( لم تسمع ) على الأظهر الأشهر ، بل عليه عامّة من تأخّر ، ونسبه الإسكافي إلى الصادقين عليهما‌السلام (٥) ، وفي الغنية وعن الخلاف الإجماع عليه (٦) ، وهو الحجة.

مضافاً إلى النصوص المتقدمة ، فإنّها ما بين صريحة في ذلك كالصحيحة الاولى ، وظاهرة فيه بالإطلاق أو العموم كالأخبار الباقية.

مع أنّ اليمين حجة للمدّعى عليه كما أنّ البيّنة حجة للمدّعي ، فكما لا تسمع يمين المدّعى عليه بعد حجة المدّعى كذلك لا تسمع حجة‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٣٠ / ١٤ ، التهذيب ٦ : ٢٨٩ / ٨٠٢ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤٦ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٠ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٧ : ٢٧٢ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣.

(٣) الفقيه ٣ : ١١٤ / ٤٨٧ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٤ أبواب ما يكتسب به ب ٨٣ ح ٦.

(٤) الفقيه ٣ : ١١٤ ، الاستبصار ٣ : ٥٤.

(٥) نقله عنه في المختلف : ٦٩٩.

(٦) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥ ، الخلاف ٦ : ٢٩٣.

٧٩

المدّعى بعد حجة المدّعى عليه.

( وقيل ) كما عن المفيد وابن حمزة والقاضي (١) : إنّه ( يعمل بها ما لم يشترط الحالف سقوط الحق بها ) إلحاقاً لها بالإقرار ، فكما يجب الحق به بعد الحلف إجماعاً كما يأتي ، يجب بها أيضاً.

وهو بعد تسليم صحته اجتهاد في مقابلة النص الصحيح غير مسموع ، ويكون هو الفارق لو سلّم عدم فارق آخر غيره.

وعن التقي والحلّي وأحد قولي المبسوط (٢) التفصيل بين صورتي الإحلاف مع العلم بالبيّنة والرضا به عنها فالأوّل ، والإحلاف مع نسيانها أو الذهول عنها فالثاني ، ومال إليه في المختلف بعد اختياره القول الأوّل ، قال : لأنّه طلب الإحلاف لظنّ عجزه عن استخلاص حقه بالبيّنة (٣).

وهو كما ترى يرد عليه ما ورد على سابقه من المناقشة بكونه اجتهاداً صرفاً في مقابلة الرواية الصحيحة الصريحة المؤيَّدة بباقي الأخبار المتقدمة. مضافاً إلى استصحاب الحالة السابقة ، بناءً على سقوط الدعوى في مجلس الحلف إجماعاً من المسلمين كافّة ، كما ادّعاه جماعة كفخر الدين في الإيضاح (٤) ، وابن فهد في المهذب (٥) ، فيستصحب في محل البحث إلى أن يتحقق صارف ، وليس بمتحقق ، ولو لم يكن في المسألة سواه من الأدلة‌

__________________

(١) حكاه عنهم في المختلف : ٦٩٩ ، والمهذب البارع ٤ : ٤٧٣ ، وهو في المقنعة : ٧٣٣ ، والوسيلة : ٢١٣.

(٢) حكاه عنهم في المختلف : ٦٩٩ والدروس ٢ : ٨٨ ، وهو في المبسوط ٨ : ٢١٠ ، والكافي في الفقه : ٤٤٧ ، والسرائر ٢ : ١٥٩.

(٣) المختلف : ٦٩٩.

(٤) إيضاح الفوائد ٤ : ٣٢٨.

(٥) المهذّب البارع ٤ : ٤٧٢.

٨٠