رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-277-6
الصفحات: ٥٤٦

١
٢

٣
٤

( كتاب القضاء )

وهو في اللغة لمعان كثيرة : الخلق ، ومنه قوله سبحانه ( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ) (١) أي خلقهنّ. والحكم ، ومنه قوله تعالى ( وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ) (٢) أي يحكم. والأمر ، ومنه قوله عزّ وجلّ ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ ) (٣) أي أمر. إلى غير ذلك.

وفي الشريعة على ما عرّفه جماعة (٤) : ولاية الحكم شرعاً لمن له أهلية الفتوى بجزئيات القوانين الشرعية ، على أشخاص معينة من البرية ، بإثبات الحقوق واستيفائها للمستحق ، ومبدؤه الرئاسة العامّة في أُمور الدين والدنيا ، وغايته قطع المنازعة.

__________________

(١) فصّلت : ١٢.

(٢) غافر : ٢٠.

(٣) الإسراء : ٢٣.

(٤) في « س » زيادة : كفخر الدين في الإيضاح ٤ : ٢٩٣ ، والفاضل المقداد في التنقيح ٤ : ٢٣٠ ، وشيخنا في المسالك ٢ : ٣٥١.

٥

قالوا : وخواصّه أنّ الحكم فيه لا ينقض بالاجتهاد ، وصيرورته أصلاً ينفذه غيره من القضاة وإن خالف اجتهاده ما لم يخالف دليلاً قطعياً. وله ولاية على كل مولّى عليه مع فقد وليّه ، ومع وجوده في مواضع خاصّة. ويلزم به حكم البيّنة (١) من شهدت عليه والشهود ، أمّا من شهدت عليه فبإلزامه الحق ، وأمّا الشهود فبتغريمهم إيّاه لو رجعوا عن الشهادة.

وهو من فروض الكفاية بلا خلافٍ ، فيه بينهم أجده ؛ لتوقف نظام النوع الإنساني عليه ، ولأنّ الظلم من شيم النفوس ، فلا بُدّ من حاكم ينتصف من الظالم للمظلوم ، ولما يترتب عليه من النهي عن المنكر والأمر بالمعروف.

والأصل فيه مع ذلك الكتاب ، والسنّة ، وإجماع الأُمّة المحكي في كلام جماعة (٢) ، قال سبحانه ( يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ ) (٣).

وقال تعالى ( إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أَراكَ اللهُ ) (٤).

وفي النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ الله تعالى لا يقدس امّةً ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقه » (٥).

ولعظم فائدته تولاّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن قبله من الأنبياء بأنفسهم لُامّتهم ، ومن بعدهم من خلفائهم.

__________________

(١) ليس في « ب ».

(٢) انظر إيضاح الفوائد ٤ : ٢٩٤ ، والتنقيح الرائع ٤ : ٢٣١ ، والمسالك ٢ : ٣٥١.

(٣) ص : ٢٦.

(٤) النساء : ١٠٥.

(٥) عوالي اللئلئ ٣ : ٥١٥ / ٥ ، كنز العمّال ٦ : ٩٩ / ١٥٠١٥.

٦

وفيه أجر عظيم لمن يقوم بشرائطه ، ففي الخبر : « يد الله تعالى فوق رأس الحاكم ترفرف بالرحمة ، فإذا حاف وكلّه الله تعالى إلى نفسه » (١).

وفي آخر : « إذا جلس القاضي في مجلسه هبط إليه ملكان يسدّدانه ويرشدانه ويوفّقانه ، فإذا جار عرجا وتركاه » (٢).

ولكن خطره جسيم ، قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام لشريح : « جلست مجلساً لا يجلس فيه إلاّ نبي أو وصي أو شقي » (٣).

وفي النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « القضاة ثلاثة : واحد في الجنة ، واثنان في النار ؛ فالذي في الجنة رجل عرف الحق وقضى به ، واللذان في النار رجل عرف الحق فجار في الحكم ، ورجل قضى للناس على جهل » (٤).

ونحوه الصادقي عليه‌السلام : « القضاة أربعة ، ثلاثة في النار ، وواحد في الجنة » والرابع فيه : « رجل قضى بحق (٥) وهو لا يعلم فهو في النار » (٦).

واعلم أنّ القاضي يغاير المفتي والمجتهد والفقيه بالحيثية ، وإن كانت الأوصاف المزبورة فيه مجتمعة ؛ لأنّ القاضي يسمّى قاضياً وحاكماً باعتبار إلزامه وحكمه على الأفراد الشخصية بالأحكام الشخصية ( كالحكم على شخص بثبوت حق عليه لآخر ، وأمّا لا بهذا الاعتبار بل بمجرد الإخبار‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤١٠ / ١ ، الفقيه ٣ : ٥ / ١٣ ، التهذيب ٦ : ٢٢٢ / ٥٢٨ ، الوسائل ٢٧ : ٢٢٤ أبواب آداب القاضي ب ٩ ح ١.

(٢) عوالي اللئلئ ٣ : ٥١٥ / ١.

(٣) الكافي ٧ : ٤٠٦ / ٢ ، الفقيه ٣ : ٤ / ٨ ، التهذيب ٦ : ٢١٧ / ٥٠٩ ، المقنع : ١٣٢ ، الوسائل ٢٧ : ١٧ أبواب صفات القاضي ب ٣ ح ٢.

(٤) سنن أبي داود ٣ : ٢٩٩ / ٣٥٧٣ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٧٦ / ٢٣١٥.

(٥) في « ح » و « ب » : بجور.

(٦) الكافي ٧ : ٤٠٧ / ١ ، الفقيه ٣ : ٣ / ٦ ، التهذيب ٦ : ٢١٨ / ٥١٣ ، المقنعة : ٧٢١ ، الوسائل ٢٧ : ٢٢ أبواب صفات القاضي ب ٤ ح ٦.

٧

والإعلام ، فإنّه يسمّى مفتياً ) (١) كما أنّه باعتبار مجرد الاستدلال يسمّى مجتهداً ، وباعتبار علمه بتعيّن مظنونه حكماً شرعياً في حقه وحق مقلده فقيهاً عالماً بالعلم القطعي بالحكم الشرعي ، ومن هنا اشتهر وصح أنّ ظنية الطريق لا ينافي قطعية الحكم ، وليس فيه ابتناء على القول بالتصويب.

( والنظر ) في الكتاب يقع في مواضع.

( في الصفات ) المعتبرة في القاضي المنصوب من قبل الإمام عليه‌السلام. ( والآداب ) المتعلقة به ( وكيفية الحكم ) له ( وأحكام الدعاوي ).

( و ) اعلم أنّ ( الصفات ) المشترطة فيه ( ستّة : التكليف ) بالبلوغ وكمال العقل ( والإيمان ) بالمعنى الأخص أي : الاعتقاد بالأُصول الخمسة ( والعدالة ، وطهارة المولد ) عن الزنا.

( والعلم ) ولو بالمعنى الأعم الشامل للظن الاجتهادي بالحكم الشرعي القائم مقامه بالدليل القطعي ، فهو في الحقيقة علم ولو بوسيلة الظن ، فإنّه في طريق الحكم لا نفسه.

( والذكورة ) بلا خلاف في شي‌ء من ذلك أجده بيننا ، بل عليه الإجماع في عبائر جماعة كالمسالك وغيره في الجميع (٢) ، وشرح الإرشاد للمقدس الأردبيلي (٣) رحمه‌الله فيما عدا الثالث والسادس ، والغنية في العلم والعدالة (٤) ، ونهج الحق للعلاّمة في العلم والذكورة (٥) ، وهو الحجة.

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في « ب ».

(٢) المسالك ٢ : ٣٥١ ؛ وانظر كشف اللثام ٢ : ٣٢٢ ، والمفاتيح ٣ : ٢٤٦.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٥ و ٦.

(٤) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٤.

(٥) نهج الحق : ٥٦٢ ٥٦٣.

٨

مضافاً إلى الأصل بناءً على اختصاص منصب القضاء بالإمام عليه‌السلام ، اتفاقاً فتوًى ونصاً ، ومنه زيادة على ما مضى المروي بعدة طرق ، وفيها الصحيح في الفقيه : « اتقوا الحكومة فإنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين ، كنبي أو وصي نبي » (١) خرج منه القاضي المستجمع لهذه الشرائط بالإذن من قِبَله كما يأتي بالنص والإجماع ، وليسا في فاقدها كلاًّ أو بعضاً.

أمّا فقد الثاني فظاهر ، سيّما بعد ما ظهر من الإجماع على العدم.

وأمّا الأوّل فلاختصاصه بجامع الشرائط بحكم الصراحة بالإضافة إلى بعضها ، والتبادر بالإضافة إلى آخر منها ، فالأصل أقوى حجة على العدم.

مضافاً إلى الإجماع الظاهر والمحكي كما تقدم ، وفحوى الصحيح المتقدم بالإضافة إلى اشتراط العدالة والعلم ، ونحوه بالإضافة إلى الدلالة على اعتبارهما فحوى النصوص الآتية من نحو مقبولة عمر بن حنظلة (٢) ، ممّا أُمر فيه بالأخذ بما حكم الأعدل والأعلم.

مع أنّ الصبي والمجنون ليسا من أهل الولاية على أنفسهما فكيف على غيرهما؟!

والكافر والفاسق وولد الزنا ليسوا من أهل التقليد ، مع تنفّر الطباع عن الأخير ، والمنع عن إمامته وشهادته كالفاسق ، فالقضاء أولى به.

والنصوص المستفيضة بل المتواترة في المنع عن الترافع إلى حكام‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٠٦ / ١ ، الفقيه ٣ : ٤ / ٧ ، التهذيب ٦ : ٢١٧ / ٥١١ ، الوسائل ٢٧ : ١٧ أبواب صفات القاضي ب ٣ ح ٣.

(٢) الكافي ١ : ٦٧ / ١٠ ، الفقيه ٣ : ٥ / ١٨ ، التهذيب ٦ : ٣٠١ / ٨٤٥ ، الاحتجاج : ٣٥٥ ، الوسائل ٢٧ : ١٠٦ أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١.

٩

الجور والظلمة وقضاة العامّة في اعتبار الإيمان والعدالة صريحة.

ومثلها النصوص الأُخر في اعتبار الذكورة ففي الخبر : « لا يفلح قوم وليتهم امرأة » (١).

وفي آخر في وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام : « يا علي ليس على المرأة جمعة » إلى أن قال : « ولا تولّي القضاء » (٢) فتدبّر.

والنصوص الأُخر على اعتبار العلم مضافاً إلى ما مرّ إليه الإشارة مستفيضة ، بل متواترة ، ففي الصحيح : « من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله تعالى لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه » (٣).

وفيه : « أنهاك عن خصلتين ففيهما هلك من هلك : إيّاك أن تفتي الناس برأيك ، وتدين بما لا تعلم » (٤).

( ويدخل في العدالة اشتراط الأمانة ، والمحافظة على الواجبات ) عن الفوات ، وتوطين النفس على ترك المحرمات.

( ولا ينعقد ) القضاء ( إلاّ لمن له ) شرعاً ( أهلية الفتوى ) كأن يكون مجتهداً مطلقاً لا متجزّئاً فإنّه ليس له أهليتها كما حقّق في محله مستقصى ، وسيأتي الإشارة إليه في الجملة أيضاً.

__________________

(١) الخلاف ٢ : ٥٩٠ ، مسند أحمد ٥ : ٤٣ ، سنن النسائي ٨ : ٢٢٧ ، سنن الترمذي ٣ : ٣٦٠ / ٢٣٦٥.

(٢) الفقيه ٤ : ٢٦٣ / ٨٢١ ، الوسائل ٢٧ : ١٦ أبواب صفات القاضي ب ٢ ح ١.

(٣) الكافي ٧ : ٤٠٩ / ٢ ، المحاسن : ٢٠٥ / ٦٠ ، الوسائل ٢٧ : ٢٠ أبواب صفات القاضي ب ٤ ح ١.

(٤) الكافي ١ : ٣٣ / ٢ ، الخصال : ٥٢ / ٦٦ ، المحاسن : ٢٠٥ / ٥٥ ، الوسائل ٢٧ : ٢١ أبواب صفات القاضي ب ٤ ح ٣.

١٠

( و ) لازم ذلك أنّه ( لا يكفيه ) مجرد اطلاعه بـ ( فتوى الفقهاء ) لعدم كونه بذلك مجتهداً مطلقاً يجوز له الإفتاء والقضاء ، بل ولا متجزّئاً أيضاً ، بناءً على أنّ مناط الاجتهاد مطلقاً إنّما هو العلم بمدارك الأحكام كلاًّ أو بعضاً لا الاطلاع بفتوى الفقهاء ، فلو حصل له دون الأوّل لم يكن مجتهداً ، كما أنّه لو انعكس فعلم بالمدارك ولم يطلع بها ، كان مجتهداً مطلقاً لو علم بالمدارك كلها ، ومتجزئاً لو علم ببعضها.

والأصل في اعتبار أهليّة الفتوى في صحة القضاء بعد الإجماع الظاهر والمحكي في الروضة والمسالك وغيرهما (١) ما مضى من النصوص المعتبرة للعلم في الفتوى.

ونحوها الأصل (٢) ، والعمومات من الكتاب (٣) والسنّة (٤) المستفيضة ، بل المتواترة الناهية عن العمل بالمظنة ، ومن ليس له الأهليّة لا يحصل له سوى المظنة غالباً المنهي عن العمل بها ، بل من له الأهليّة كذلك أيضاً ، إلاّ أنّ حجية ظنه مقطوع بها مجمع عليها ، فهو ظن مخصوص في حكم القطع ، كسائر الظنون المخصوصة من ظواهر الكتاب والسنّة المتواترة اللفظية ، والأنساب ، والسوق ، واليد ، وغيرها ، ولا كذلك ظن من ليس له الأهليّة ؛ إذ لا دليل على حجيته قاطعاً ، بل ولا ظنيّاً ، ولو سلّم الأخير فغايته إثبات الظني بمثله ، وهو غير جائز بإطباق العقلاء.

ومن هنا ينقدح وجه المنع عن التجزّي ؛ إذ ليس معناه إلاّ العمل‌

__________________

(١) الروضة ٣ : ٧٠ ، المسالك ٢ : ٣٥١ ؛ وانظر الكفاية : ٢٦١.

(٢) في « ح » و « ب » : الأُصول.

(٣) يونس : ٣٦.

(٤) انظر الوسائل ٢٧ : ٣٥ أبواب صفات القاضي ب ٦.

١١

بالمظنة في بعض الأحكام الشرعية بما حصل له من المعرفة بجزئيات المدارك ، والشرائط الاجتهادية المتعلّقة به خاصّة ، ولا قطعيّ على حجيتها ، بل ولا ظنّي أيضاً ، وإن استدل لها بما يأتي من بعض الأخبار قريباً ؛ لما سيظهر لك من ضعفه جدّاً.

وعلى تقدير صحته فغايته إثبات الظنّي بالظنّي ، وهو مع ما فيه مما مضى فيه دور ، أو تسلسل أيضاً ، ولا كذلك المجتهد مطلقاً ؛ لقيام الدليل القاطع على حجية ظنه من الإجماع والاعتبار ، المركب من مقدمات قطعية بديهية مجمع عليها : بقاء التكاليف بالأحكام ، وانسداد باب العلم إليها ، وعدم التكليف بما لا يطاق أصلاً ، فعدم العمل بمظنته واعتبار العلم حينئذ يستلزم إمّا ارتفاع التكاليف ، أو التكليف بما لا يطاق ، وهما بديهيّا الفساد.

ولا إجماع في المتجزّي ؛ لمكان الخلاف.

ولا اعتبار أيضاً ؛ لعدم اجتماع المقدمات الثلاث له جميعاً من حيث عدم صحة دعواه انسداد باب العلم في المسألة التي يجتهد فيها ، بعد إطباق الكل واعترافه أيضاً بقصوره ، واحتمال ظهور خلاف ظنّه بتتبع مدارك ما عداها ، وكذا دعواه عدم التكليف بما لا يطاق ( في حقّه ، لأنّه في وسعه وطاقته تحصيل المعرفة بالمدارك كلها ، فكيف يقول : لا يكلّفني الله تعالى بما لا يطاق ) (١) في المسألة التي أنا فيها؟!

( ولا بُدّ ) مع ذلك ( أن يكون ضابطاً ، فلو غلبه النسيان لم ينعقد له القضاء ) كما هنا وفي الشرائع والإرشاد والقواعد والدروس (٢) ، وغيرها (٣) ،

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في « ب » و « س ».

(٢) الشرائع ٤ : ٦٧ ، الإرشاد ٢ : ١٣٨ ، القواعد ٢ : ٢٠١ ، الدروس ٢ : ٦٥.

(٣) التبصرة : ١٨٦ ، الكفاية : ٢٦٢.

١٢

والظاهر عدم الخلاف فيه ، وتدل عليه عبارة الروضة ظاهراً (١) ، ووجهه واضح.

وقيّده بعض الأصحاب بالضبط في محل الحكم لا مطلقاً ، قال : إذ ما نجد مانعاً لحكم من لا ضبط له كثيراً مع اتصافه بالشرائط ، وضبط حكم هذه الواقعة (٢). انتهى. ولا بأس به.

( وهل يشترط علمه بالكتابة ) وقدرته على قرائتها وكَتْبها؟ ( الأشبه : نعم ) وفاقاً للأكثر كما في المسالك (٣) ، بل الأشهر كما في الروضة (٤) ، ونسبه في التنقيح إلى الشيخ في المبسوط وأتباعه والحلي (٥).

أقول : ونسبه في السرائر إلى مقتضى مذهبنا (٦) ، مع عدم نقل خلاف فيه أصلاً مشعراً بدعوى الإجماع عليه منّا ، وعليه عامّة متأخّري أصحابنا ، بحيث كاد أن يكون ذلك منهم إجماعاً ، وإن أشعر عبارة المتن وما ضاهاها بوقوع خلاف فيه ، لكنهم لم يصرّحوا بالمخالف.

نعم في التنقيح (٧) نسبه إلى قوم ولم يعرب عنهم أهم منّا أم ممّن خالفنا؟.

وحيث كان الأمر بهذه المثابة ينبغي القطع بما عليه الجماعة ، سيّما مع موافقته الأصل المتقدّم إليه الإشارة ، بناءً على اختصاص ما دلّ على‌

__________________

(١) الروضة ٣ : ٦٢ ، ٦٧.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ١٥.

(٣) المسالك ٢ : ٣٥١.

(٤) الروضة ٣ : ٦٢.

(٥) التنقيح ٤ : ٢٣٦ ٢٣٧.

(٦) السرائر ٢ : ١٦٦.

(٧) التنقيح ٤ : ٢٣٦.

١٣

الرخصة في القضاء للفقهاء (١) بحكم التبادر وغيره بعارفي الكتابة منهم لا مطلقاً ، ولا مخصص له أصلا ، عدا ما قيل (٢) : من عدم اعتبار الكتابة في النبوة التي هي أكمل المناصب ومنها تتفرع الأحكام والقضاء وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُمّيا لا يحسنها ، كما نبّه عليه تعالى بقوله ( وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ ) (٣).

وهو كما ترى ؛ لكونه بعد تسليم دلالة الآية على ذلك قياساً فاسداً لا أولوية فيه أصلاً ، بل مع الفارق جدّاً ؛ لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم فبعصمته وقوّة حافظته لا يحتاج إليها.

ولأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمتنع عليه السهو والنسيان قطعاً ، خصوصاً مع نزول الوحي إليه مكرراً ، ولا كذلك القاضي من قبله ( لاضطراره ) بعدم عصمته وإمكان سهوه ونسيانه وغفلته ( إلى ما لا يتيسّر لغير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) المعرفة به ( إلاّ بها ) ، هذا.

وعن المبسوط أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عالماً بها ، وإنّما كان فاقداً لها قبل البعثة (٤). وبه صرّح الحلي أيضاً ، فقال : والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندنا كان يحسن الكتابة بعد النبوة ، وإنّما لم يحسنها قبل البعثة (٥). وظاهره الإجماع عليه منّا.

ويشهد له جملة من أخبارنا ، ففي مجمع البحرين عن كتاب بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار في باب أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقرأ‌

__________________

(١) في « س » : للقدماء.

(٢) حكاه في التنقيح ٤ : ٢٣٦.

(٣) العنكبوت : ٤٨.

(٤) المبسوط ٨ : ١٢٠.

(٥) السرائر ٢ : ١٦٦.

١٤

ويكتب بكلّ لسان بإسناده إلى جعفر بن محمد الصوفي قال : سألت أبا جعفر محمد بن علي الرضا عليهما‌السلام : يا بن رسول الله لِمَ سمّي النبي الأُمّي؟ قال : « ما يقول الناس »؟ قلت : يزعمون إنّما سمّي الأمّي لأنّه لم يكتب ، فقال : « كذبوا عليه لعنهم الله ، أنّى يكون ذلك والله تبارك وتعالى يقول في محكم كتابه ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ) (١) فكيف يعلّمهم ما لا يحسن؟ والله لقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ ويكتب باثنين وسبعين لساناً ، وإنّما سمّي الأُمّي لأنّه كان من أهل مكة ومكة من أُمّهات القرى ، وذلك قول الله تعالى في كتابه ( لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ) (٢).

وفي رواية أُخرى في الكتاب المشار إليه عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقرأ ويكتب ويقرأ ما لم يُكتب » (٣).

( و ) اعلم أنّه قد مضى ما دلّ على أنّه ( لا ينعقد ) القضاء ( للمرأة ) فلا وجه للإعادة.

( وفي انعقاده للأعمى تردّد ) ينشأ :

من عدم نفوذ شهادته في بعض القضاء والقاضي ينفذ شهادته مطلقاً ، وافتقاره إلى مشاهدة الغرماء للحكم على أعينهم ، وأنّ البصر طريق إلى المحسوسات التي يحتاج القاضي إليها.

__________________

(١) الجمعة : ٢.

(٢) الأنعام : ٩٢.

(٣) مجمع البحرين ( طبعة مؤسّسة البعثة ) ١ : ٧٤ ، بصائر الدرجات : ٢٢٥ / ١ و ٢٢٧ / ٥.

١٥

ومن أنّ شعيباً عليه‌السلام كان أعمى وقد كان نبياً ، والبصر يقوم مقامه شاهدان. ( والأقرب ) الأشهر كما في المسالك والروضة (١) وشرح الشرائع للصيمري ، بل عليه عامّة من تأخّر ـ ( أنّه لا ينعقد ) له القضاء ، لا لما ذكر في توجيهه ؛ لقصوره بجميع أقسامه عن إفادة الحكم بوجه يطمئنّ به ، بل ( لمثل ما ذكرناه في ) اشتراط العلم بـ ( الكتابة ) من بلوغ الشهرة حد الإجماع ؛ لعدم معروفية القائل بالخلاف من الأصحاب ، وإن أشعر بوجوده بعض العبارات (٢).

ومن الأصل مع البناء المتقدم ، وضعف دليل الخلاف بكونه قياساً مع الفارق ؛ لانجبار عمى شعيب بالعصمة والوحي ، بخلاف القاضي كما مرّ.

مضافاً الى منع جماعة من الأصحاب عماه بالكلية (٣) ، هذا.

مع أنّ اشتراط المعرفة بالكتابة يستلزم اشتراط البصر ، كما نبّه عليه في التنقيح قال : استدلالاً بالملزوم على اللازم (٤). فتدبّر.

( وفي اشتراط الحرّية ) أيضاً ( تردّد ) ينشأ ممّا يأتي ، ومن أنّ القضاء ولاية ، والعبد ليس محلاًّ لها ؛ لاشتغاله عنها باستغراق وقته بحقوق المولى ، وأنّه من المناصب الجليلة التي لا يليق حال العبد بها.

و ( الأشبه ) عند الماتن هنا وفي الشرائع (٥) ( أنّه لا يشترط ) للأصل ، وأنّ المناط العلم وهو حاصل ، وعموم قوله عليه‌السلام فيما يأتي من النصوص :

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٥١ ، الروضة ٣ : ٦٢.

(٢) كعبارة الإيضاح ٤ : ٢٩٩ ، والمسالك ٢ : ٣٥١ ، والروضة ٣ : ٦٧.

(٣) منهم فخر المحققين في إيضاح الفوائد ٤ : ٢٩٩ ، والفاضل المقداد في التنقيح الرائع ٤ : ٢٣٧ ، وابن فهد في المهذب البارع ٤ : ٤٥٩.

(٤) التنقيح ٤ : ٢٣٧.

(٥) الشرائع ٤ : ٦٨.

١٦

« فانظروا إلى رجل منكم ، يعلم شيئاً من قضايانا ، فاجعلوه قاضياً بينكم ، فإنّي قد جعلته قاضياً » (١).

وفي الأدلّة من الطرفين نظر ، فالأوّل من الأوّل : بالمنع من عدم أهليّته للولاية مطلقاً بمجرد ما ذكروه من التعليل بالاشتغال بحقوق المولى المانع من القضاء ؛ إذ غايته عدم الأهليّة مع عدم إذن المولى لا مطلقاً ، وهو أخص من المدّعى.

والثاني منه : بأنّه مجرد دعوى ، بل ومصادرة وإعادة للمدّعى.

وأمّا الأوّل من الثاني : فبعدم دليل عليه إن أُريد منه أصالة الجواز ، بل الأصل يقتضي العدم كما مضى ، بناء على أنّ ثمرة هذا الاختلاف إنّما هو بالإضافة إلى نصب القاضي أو انتصابه في زمان غيبة الإمام عليه‌السلام ، لا زمان حضوره ، فإنّه في الثاني إليه ، ولا اختلاف في فعله ، وحينئذ فالأصل عدم جواز صرف منصبه إلى غيره والتصرف فيه بغير إذنه.

وإن أُريد منه عموم الإذن فيما ورد من النص الآتي ، ففيه : أنّه حينئذ نفس العموم لا مغايرة بينهما ، وقد جعل أحدهما للآخر بالعطف مغايراً ، وكلّ منهما دليلاً مستقلا.

وأمّا الثاني : فبكونه مستنبطاً لا دليل عليه أصلاً فيكون الحكم به قياساً.

وأمّا الثالث منه : فبالمنع من عمومه لغة بل غايته الإطلاق الغير المنصرف بحكم التبادر إلى نحو العبد جدّاً ، سيّما بملاحظة قوله تعالى ( عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ‌ءٍ ) (٢).

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤١٢ / ٤ ، الفقيه ٣ : ٢ / ١ ، التهذيب ٦ : ٢١٩ / ٥١٦ ، الوسائل ٢٧ : ١٣ أبواب صفات القاضي ب ١ ح ٥.

(٢) النحل : ٧٥.

١٧

فإذاً المنع أقوى ، وفاقاً لأكثر أصحابنا كما في المسالك (١) ، ولا شبهة في شهرته وندرة القائل بخلافه ، حيث إنّه لم يقل به أحد عدا الماتن في الشرائع وهنا ، هذا. مع أنّه أحوط أيضاً.

( و ) اعلم أنّه ( لا بُدّ ) مع اجتماع هذه الشرائط ( من إذن الإمام عليه‌السلام ) بالقضاء لمستجمعها ، خصوصاً أو عموماً ، ولا يكفي مجرد اجتماعها فيه إجماعاً ؛ لما مضى من اتفاق النص والفتوى على اختصاصه عليه‌السلام بمنصب القضاء ، فلا يجوز لأحد التصرف فيه إلاّ بإذنه قطعاً.

( و ) منه ينقدح الوجه فيما اتفقوا عليه من أنّه ( لا ينعقد ) القضاء ( بنصب العوام له ) أي : لمستجمع الشرائط ، وغيره بالطريق الأولى بينهم قاضياً.

لكن روى الكشي في عروة القتات ما يشير إلى الجواز ، وفيه : قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « أيّ شي‌ء بلغني عنكم؟ » قلت : ما هو؟ قال : « بلغني عنكم أنّكم أقعدتم قاضياً بالكناسة » قال : قلت : نعم جعلت فداك ، رجل يقال له : عروة القتات ، وهو رجل له حظّ من عقل ، نجتمع عنده فنتكلم ونتساءل ، ثمّ نردّ ذلك إليكم ، قال : « لا بأس » (٢).

إلاّ أنّ سنده قاصر بالجهالة ، بل ودلالته أيضاً ضعيفة ؛ إذ ليس نفي البأس فيه إلاّ عما ذكره الراوي وفسّر به نصبهم القاضي من الاجتماع إليه للتسائل والتحادث والردّ إلى الأئمّة عليهم‌السلام ، وهو غير الاستقضاء له والتحاكم‌

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٥١.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٦٦٩ / ٦٩٢ ، الوسائل ٢٧ : ١٤٧ أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ٣١.

١٨

إليه ، ولا ينافيه قوله عليه‌السلام في الصدر : « أقعدتم قاضياً » لما مرّ من نقل الراوي وبيانه لإقعاده وأنّه ليس للقضاء الحقيقي ، بل لما مرّ ، ونفي البأس إنّما تعلّق به لا بالاستقضاء الحقيقي ، بل ربما دل قوله عليه‌السلام : « أيّ شي‌ء بلغني » على نوع إنكار لما بلغ إليه من إقعاده قاضياً ، حيث إنّ المتبادر منه كونه قاضياً حقيقياً ، ففيه تأييد لما ذكره الأصحاب جدّاً ، فلا شبهة فيه أصلاً.

( نعم لو تراضى اثنان ) خصمان ( بواحد من الرعية ، فحكم بينهما لزم ) حكمه في حقهما في المشهور بين أصحابنا ، بل لم ينقلوا فيه خلافاً أصلاً ، مستندين إلى وقوع ذلك في زمان الصحابة ولم ينكر أحد منهم ذلك.

وفحوى النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل فعليه لعنة الله » (١).

وأرى البحث في هذه المسألة قليل الفائدة ، بناءً على اختصاصها بزمان حضوره عليه‌السلام دون غيبته ؛ وذلك لإجماعهم على الظاهر المصرح به في الروضة والمسالك (٢) على اشتراط الحكم فيها باستجماع الواحد الذي إليه تحاكما وبه تراضيا لجميع صفات القاضي المنصوب من قبله عليه‌السلام ، وشرائطه التي قدّمناها ، سوى نص من له الولاية ، بالعموم ، أو الخصوص.

وفرضه في زمان الغيبة غير متصور ، بناءً على ما سيأتي من تحقق الإذن العام في القضاء لمن استجمع تلك الشرائط ، فإذا حصلت حالتها في رجل كان مأذوناً ، وإن فقدت فيه لم يجز له القضاء مطلقاً ، ولو كان الإمام حاضراً ، هذا.

__________________

(١) المغني والشرح الكبير ١١ : ٤٨٥.

(٢) الروضة ٣ : ٦٨ ، المسالك ٢ : ٣٥١.

١٩

وفرضه في زمان الحضور مشكل أيضاً ، بناءً على أنّ ما تضمن الإذن في القضاء لمستجمع الشرائط عام غير مختص بحال الغيبة ، بل يشمل ما لو كان عليه‌السلام حاضراً ، فكيف يتصور وجود مستجمع للشرائط حالة الحضور لم يكن من قبله عليه‌السلام مأذوناً؟

نعم يتصور فرض ذلك لو اشترط الإذن الخاص في زمان الحضور كما هو ظاهر ، ولكن الدليل المتضمن للإذن له عام كما قدّمنا ، أو لم يشترط فيه اجتماع جميع الصفات والشرائط المعتبرة في القاضي المنصوب ، كما هو ظاهر الشهيد في اللمعة (١).

ولكنّه خلاف ما وقفت عليه من عبائر الجماعة ، كالماتن في الشرائع وشيخنا الشهيد الثاني في شرحه والفاضل في الإرشاد والقواعد وولده في شرحه والفاضل المقداد في شرح الكتاب والشهيد في الدروس (٢) ، وغيرهم من الأصحاب (٣) ، حتى أنّ شيخنا الشهيد الثاني كما عرفت ادّعى عليه الوفاق.

ويمكن أن يقال : إنّ ما دلّ على الإذن العالم لم يصدر إلاّ عن الأئمّة عليهم‌السلام ، وحضورهم في زمانهم كغيبتهم ؛ لعدم بسط يدهم وسلطنتهم ، وعدم نفوذ حكمهم ، فلا يشترط الإذن الخاص في زمانهم ، وحينئذ يختص تصور وجود قاضي التحكيم الذي هو مورد المسألة بزمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حيث إنّه لم يكن فيه تقية ، بل كان نافذ الحكم على جميع‌

__________________

(١) اللمعة ( الروضة البهية ٣ ) : ٦٨.

(٢) الشرائع ٤ : ٦٨ ، المسالك ٢ : ٣٥٢ ، الإرشاد ٢ : ١٣٨ ، القواعد ٢ : ٢٠٠ ، الإيضاح ٤ : ٢٩٦ ، التنقيح ٤ : ٢٣٨ ٢٣٩ ، الدروس ٢ : ٦٨.

(٣) الكفاية : ٢٦٢.

٢٠