رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-277-6
الصفحات: ٥٤٦

وقريب منها الكتاب والسنّة المستفيضة ، بل المتواترة الدالّة على اعتبار العدالة ، بناءً على أنّ المتبادر منها عرفاً وعادةً ليس هو مجرد الإسلام مع عدم ظهور فسق جدّاً ، سيّما بملاحظة ما يستفاد من جملة وافرة من النصوص في موارد عديدة من اعتبار الأعدليّة ، ولا يتأتّى إلاّ بقبولها المراتب المرتّبة ضعفاً وقوةً ، ولا يكون ذلك إلاّ بتفسيرها بغير ذلك مما يرجع إلى أمر وجوديّ ، وإلاّ فالأمر العدمي ولو ركّب مع وجوديّ لا يقبل المراتب ، كما هو واضح.

ومع ذلك فالنصوص بردّها بالخصوص مستفيضة ، ففي الصحيح : بم تعرف عدالة الرجل من المسلمين حتّى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال : « بأن تعرفوه بالستر والعفاف ، وكفّ البطن والفرج واليد واللسان ، وباجتناب الكبائر التي أوعد الله تعالى عليها النار من شرب الخمر ، والزنا ، والربا ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وغير ذلك ، والدليل عليه أن يكون ساتراً لعيوبه ، حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه ، ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته في الناس ، وأن لا يتخلّف عن جماعة المسلمين في مصلاّهم إلاّ من علّة ، فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلته قالوا : ما رأينا منه إلاّ خيراً ، مواظباً على الصلوات ، متعاهداً لأوقاتها في مصلاّه » (١).

وعن مولانا العسكري عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى ( مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ ) (٢) قال : « يعني ترضون بدينه وأمانته وصلاحه وعفّته وتيقّظه فيما يشهد به وتحصيله وتمييزه ، فما كلّ صالح مميّز ، ولا كلّ محصّل مميّز‌

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٢٤ / ٦٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩١ كتاب الشهادات ب ٤١ ح ١.

(٢) البقرة : ٢٨٢.

٤١

صالح » الحديث (١).

وفي الخصال عن مولانا الرضا عليه‌السلام ، عن آبائه ، عن عليّ عليهم‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدّثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممّن كملت مروءته ، وظهرت عدالته ، ووجبت اخوّته ، وحرمت غيبته » (٢) ونحوه آخر مرويّ فيه أيضاً (٣).

وفي الموثق : « لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً » (٤).

وفي الخبر : في المكاري والملاّح والجمّال؟ قال : « لا بأس بهم تقبل شهادتهم إذا كانوا صلحاء » (٥).

وفي آخر : الرجل يشهد لابنه والابن يشهد لأبيه والرجل لامرأته ، قال : « لا بأس بذلك إذا كان خيّراً » (٦).

والمتبادر من الخيّر فيه ، والصيانة والصلاح والعفّة في سابقه ، هو الأمر الوجودي الزائد على مجرد الإسلام مع عدم ظهور الفسق قطعاً ، كما في العدالة قد مضى.

__________________

(١) تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٦٧٢ / ٣٧٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٩ كتاب الشهادات ب ٤١ ح ٢٣.

(٢) الخصال : ٢٠٨ / ٢٨ ، عيون الأخبار ٢ : ٢٩ / ٣٤ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٦ كتاب الشهادات ب ٤١ ح ١٥.

(٣) الخصال : ٢٠٨ / ٢٩ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٦ كتاب الشهادات ب ٤١ ح ١٦.

(٤) الفقيه ٣ : ٢٧ / ٧٧ ، الوسائل ٢٧ : ٣٩٥ كتاب الشهادات ب ٤١ ح ١٠.

(٥) الكافي ٧ : ٣٩٦ / ١٠ ، الفقيه ٣ : ٢٨ / ٨٢ ، التهذيب ٦ : ٢٤٣ / ٦٠٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣٨١ كتاب الشهادات ب ٣٤ ح ١.

(٦) الكافي ٧ : ٣٩٣ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٤٧ / ٦٢٨ ، الوسائل ٢٧ : ٣٦٦ كتاب الشهادات ب ٢٥ ح ٢.

٤٢

وهذه النصوص مع كثرتها وموافقتها الكتاب ، والسنّة المستفيضة ، بل المتواترة ، كما مرّ إليه الإشارة ، واعتبار سند جملة منها ، وانجبار باقيها بالشهرة العظيمة بين أصحابنا التي كادت تكون إجماعاً أظهر دلالةً من الروايات الماضية.

بل التعارض بينهما تعارض المطلق والمقيد ، كما صرّح به جماعة (١) ، فإنّ الأخبار السابقة على تقدير دلالتها جملةً لا تدل إلاّ على أنّ المسلم الذي لم يظهر منه فسق مقبول الشهادة ، وهو مطلق يعم ما لو كان متصفاً بالملكة ، أو حسن الظاهر ، أم لا وهذه النصوص كما عرفتها كالصريحة بل صريحة في اعتبار الشي‌ء الزائد على ما في تلك ، فلتكن به مقيّدة.

وبالجملة لا ريب في ضعف القول الأوّل ولا شبهة.

بقي الكلام في ترجيح أحد القولين الأخيرين ، والمشهور القريب من الإجماع ، بل المجمع عليه كما يستفاد من كنز العرفان وغيره ، كما مرّ (٢) الثاني ، وهو الأوفق بالأُصول ، وما دلّ على اعتبار العدالة ومنع قبول شهادة الفاسق ، بناءً على ما مرّ قريباً من اعتبار الوصفين في نفس الأمر ، ولا يمكن المعرفة بهما من دون توسط النقل والقرائن القطعيّة إلاّ بالمعاشرة الباطنيّة المطلعة على الباطن والسريرة ، وإن لم يعلمها كما هي غير الله سبحانه ، لكن يتعيّن أقرب المجازات حيثما تعذرت الحقيقة.

وهذه القاعدة في غاية من المتانة ، سيّما بعد الاعتضاد بالأُصول المتقدمة والشهرة العظيمة. إلاّ أنّ المستفاد من تتبع الأخبار السابقة وسيّما‌

__________________

(١) الوافي ١٦ : ١٠١٥ ، كشف اللثام ٢ : ٣٣١.

(٢) راجع ص : ٣٩.

٤٣

الصحيحين منها وغيرها بعد ضمّ بعضها إلى بعض كفاية حسن الظاهر ، كما عليه من متأخّري المتأخّرين جماعة (١).

والفرق بينه وبين الملكة احتياجها إلى المعاشرة الباطنيّة مدّة مديدة يحصل فيها الاطلاع على السريرة ولو في الجملة ، دون حسن الظاهر ؛ للاكتفاء فيه بالمعاشرة الظاهرة من نحو ما مرّ في جملة من الروايات المتقدّمة ، من مثل رؤيته مواظباً على الصلوات الخمس في جماعة ، كما في الصحيح منها ، أو معاملته مع الناس فلم يظلمهم ، وإخبارهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، كما في جملة عديدة منها.

وهذا أوفق بما هو الظاهر من حال السلف ، والمنقول عنهم ، وبدونه لا يكاد ينتظم الأحكام للحكّام ، خصوصاً في المدن الكبيرة ، وللقاضي المنفذ إليها من بلاد بعيدة ، وهو في غاية من القوة إلاّ أنّ الاحتياط في المصير إلى الأوّل البتّة ، هذا.

مع أنّ الذي يقتضيه التدبّر في حسن الظاهر المستفاد من الأخبار عدم منافاته للقول بالملكة من حيث التعبير عنه في الصحيح منها برؤيته مواظباً على الصلوات الخمس ، ومعروفيّته بالستر والعفاف ، وكفّ البطن والفرج عن المحرمات. وهما سيّما الثاني تتوقفان على نوع معاشرة واختبار مطلع على باطن الأحوال ، وذلك فإنّه لا يقال : فلان معروف بالشجاعة مثلاً ، إلاّ بعد أن يعرف حاله في ميدان القتال ومناضلة الأبطال ، فإذا كان ممّن يقتل الرجال ولا يولّي الدبر في موضع النضال ويقاوم الشجعان ويصادم الفرسان صحّ وصفه بالشجاعة ، وأنّه معروف بها ، وكذلك فيما‌

__________________

(١) مدارك الأحكام ٤ : ٦٦ ، الكفاية : ٢٧٩ ، مفاتيح الشرائع ٣ : ٢٦١.

٤٤

نحن فيه لا يقال : فلان معروف بالكفّ عن الحرام ، إلاّ بعد اختباره بالمعاملات والمحاورات الجارية بين الناس ، كما لو وقع في يده أمانة أو تجارة أو نحو ذلك ، أو جرى بينه وبين غيره خصومة أو نزاع ، فإن كان ممّن لا يتعدى في ذلك الحدود الشرعية فهو العادل ، وإلاّ فغيره.

وأمّا من لم يحصل الاطّلاع على باطن أحواله وإن رُئي مواظباً على الصلوات والتدريس والتدرس ونحو ذلك ، فهو من قبيل مجهول الحال ، لا يصدق أنّه يعرف بالاجتناب عن المحرمات ، بل يحتمل أن يكون كذلك وأن لا يكون.

وأظهر من هذه الصحيحة الأخبار الأخيرة المعبّرة عنه بمعاملته مع الناس فلم يظلمهم ، إلى آخر الأُمور المعدودة فيها ، وهي لا تقصر عن المعاشرة الباطنيّة ، بل لعلّها عينها ، كما يظهر من المسالك حيث قال : يعتبر في المزكّي أن يكون خبيراً بباطن من يعدّله ، إمّا بصحبة أو جوار أو معاملة أو نحوها (١).

ونحوها باقي الأخبار الدالّة على اعتبار الخير والصلاح في العادل (٢) ؛ إذ مقتضاها اعتبار العلم بوجودهما في نفس الأمر ، كما مضى (٣) ، ولا يحصل إلاّ بالخبرة الباطنيّة.

ونحو هذه الأخبار كلمة القدماء المعبّرة عنه بالمعروف بالدين والورع ، كما في كلام المفيد (٤) ، أو بالستر والعفاف ، إلى آخر ما في‌

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٦٢.

(٢) المتقدمة في ص : ٤٢ ، ٤١.

(٣) راجع ص : ٣٤ ، ٤٠.

(٤) المقنعة : ٧٢٥.

٤٥

الصحيحة (١) ، كما في كلام النهاية (٢) ، أو بحصوله على ظاهر الإيمان والستر والعفاف ، واجتناب القبائح أجمع ، ونفي التهمة والظنة والحسد والعداوة ، كما في كلام القاضي (٣) ، ونحوه كلام الحلبي (٤) ، بل وأظهر حيث إنّه اعتبر ثبوته على هذه الصفات ، لا حصوله على ظاهرها ، ومعرفة ثبوته عليها لا تحصل إلاّ بالمعاشرة الباطنيّة ، كما عرفته.

وليس في اعتبار القاضي الظهور دون الثبوت منافاة لذلك ؛ لأنّ الظاهر أنّ مقصوده من التعبير به التنبيه على عدم إمكان العلم بالثبوت في نفس الأمر ، لأنّه من خصائص الله سبحانه وتعالى ، لا أنّه لا يحتاج إلى المعاشرة الباطنيّة ، كيف لا؟! وظهور اجتنابه المحرّمات لا يحصل إلاّ برؤيته متمكّناً منها فاجتنب عنها ، كأن عومل فاجتنب الكذب والظلم ، وأتُمِنَ فردّ الأمانة ، ووعد فوفى ، ونحو ذلك ، فإنّه إذا رُئي كذلك صدق ظهور اجتنابه الكبائر ، لا أنّه إذا رُئي في الظاهر مجتنباً عنها مع عدم العلم بتمكّنه منها ، يصدق عليه أنّه على ظاهر الاجتناب ؛ إذ هو لا يصدق حقيقةً إلاّ بعد التمكّن من فعل المجتَنَب.

ونحو عبارة هؤلاء عبارة الإسكافي المتقدمة (٥) وغيرها ، ممّا هو ظاهر في اعتبار المعاشرة الباطنيّة ، كما في النصوص المتقدمة.

وحينئذ فلا منافاة بين القول بحسن الظاهر بهذا المعنى مع القول بالملكة ، فإنّ القائلين بها لم يذكروا في معرفتها زيادة على المعاشرة‌

__________________

(١) المتقدمة في ص : ٤٠.

(٢) النهاية : ٣٢٥.

(٣) المهذّب ٢ : ٥٥٦.

(٤) الكافي في الفقه : ٤٣٥.

(٥) راجع ص : ٣٨.

٤٦

الباطنيّة ، حيث قالوا : لا بُدّ من الخبرة الباطنيّة والمعرفة المتقادمة. وحينئذ فلا نزاع بين من لا يعتبر ظاهر الإسلام في اشتراط المخالطة الباطنيّة في المعرفة بالعدالة.

نعم ربما يستفاد من جمع وجود قول بالاكتفاء بحسن الظاهر ، فإن أُريد به ما مرّ من حسن الظاهر بعد الاختبار بالخبرة الباطنيّة فلا منازعة.

وإن أُريد به حسن الظاهر بدونه ، بل حسنه من حيث عدم رؤية خلل منه مع عدم العلم بتمكّنه منه وعدمه ، فلا دليل عليه ، مع قيام الأدلّة فتوًى وروايةً كما عرفته على خلافه.

مع أنّ حسن الظاهر بهذا المعنى لا يكاد يظهر فرق بينه وبين ظاهر الإسلام ، وحسن الظاهر بالمعنى الذي ذكرناه لا يكاد ينفك عن الملكة ؛ إذ مع عدمها يبعد غاية البعد أن لا يظهر منه خلل أصلاً لأحد ممّن يختبره باطناً ، كما لا يخفى ، ولعلّه لذا لم ينقلوا في تعريف العدالة بالملكة خلافاً.

( الثالثة : تسمع شهادة التعديل مطلقة ) من غير أن يبيّن سببه ، ( ولا تسمع شهادة الجرح إلاّ مفصّلةً ) مبيّنةً للسبب في المشهور بين الأصحاب ، على الظاهر المصرح به في المسالك وغيره (١) ، استناداً في الأوّل : إلى أنّ العدالة تحصل بالتحرّز عن أسباب الفسق ، وهي كثيرة يعسر ضبطها وعدّها.

وفي الثاني : إلى أنّ الجارح قد يبني الجرح على ظنّ خطأ ، وأنّ المذاهب فيما يوجب الفسق مختلفة ، فلا بُدّ من البيان ؛ ليعمل القاضي باجتهاده.

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٦٢ ، كشف اللثام ٢ : ٣٣٢.

٤٧

ويشكل بأنّ الاختلاف في أسباب الفسق يقتضي الاختلاف في أسباب العدالة ، فإنّ الاختلاف مثلاً في عدد الكبائر كما يوجب في بعضها ترتّب الفسق على فعله يوجب في بعض آخر عدم قدحه في العدالة بدون الإصرار عليه ، فيزكّيه المزكّي مع علمه بفعل ما لا يقدح عنده فيها ، وهو قادح عند الحاكم.

ومن ثمّ ذهب الإسكافي إلى وجوب التفصيل فيهما (١) ، وهو حسن حيث لا يعلم موافقة مذهب المزكّي للحاكم في أسباب الجرح والتعديل ، وأمّا لو علم بأن كان مقلّداً له ، أو مجتهداً وافق مذهبه مذهبه ، فالأجود حينئذ عدم وجوب التفصيل مطلقاً.

ومن هنا ظهر ضعف القول بعدم وجوبه والاكتفاء بالإطلاق مطلقاً أيضاً (٢).

وللفاضل قول بوجوب التفصيل في التعديل دون الجرح (٣) ، عكس المشهور.

وآخر بالتفصيل بين علم المزكّي والجارح بأسبابهما فالإطلاق مطلقاً ، وجهلهما بهما فالتفصيل كذلك (٤).

وضعفهما قد ظهر ممّا مضى.

وحيث اكتفي في العدالة بالإطلاق مطلقاً ، كما هو المشهور ، أو على تفصيل قدّمناه ، ففي القدر المعتبر من العبارة عنه أوجه ، بل وأقوال.

__________________

(١) حكاه عنه في المختلف : ٧٠٦.

(٢) هو مذهب القاضي أبي بكر ، حكاه عنه الآمدي في الأحكام ٢ : ٣١٧ ، والغزالي في المستصفى ١ : ١٦٢ ، والقاضي عضد في شرح المختصر : ١٧٠.

(٣) المختلف : ٧٠٦.

(٤) حكاه في معالم الأُصول : ٢٠٧.

٤٨

ثالثها : اعتبار ضمّ أحد الأمرين من قوله : لي وعليَّ ، أو مقبول الشهادة ، إلى قوله : هو عدل ، حكاه في المسالك عن أكثر المتأخّرين (١) ، وعن الإسكافي ضمّ الأوّل خاصّة (٢) ، وعن المبسوط الاكتفاء بقوله : هو عدل ، من دون اعتبار ضمّ شي‌ء مطلقاً (٣).

ولعله أقوى وإن كان المصير إلى ما عليه الإسكافي أحوط وأولى ؛ لكونه بين الأقوال جامعاً.

واختار في المسالك قولاً رابعاً ، وهو الاجتزاء بقوله : إنّه مقبول الشهادة ، وأنّ إضافة العدل إليه آكد (٤).

ولا بأس به إن قصد به جواز الاجتزاء بذلك من حيث إنّه مرادف للفظ العدل.

ويمنع إن منع من الاجتزاء بلفظ العدل ؛ لما ظهر لك من الترادف بينهما ، وإن كان ما اجتزأ به بالدلالة على العدالة العامّة أظهر وأجلى.

وإذا تعارض الجرح والتعديل فالأقرب أنّه إن لم يتكاذبا بأن شهد المزكي بالعدالة مطلقاً ، أو مفصلاً لكن من غير ضبط وقت معين ، وشهد الجارح بأنّه فعل ما يوجب الجرح في وقت معين قدّم الجرح ؛ لحصول الشهادتين من غير تعارض بينهما حقيقةً.

وإن تكاذبا بأن شهد المعدّل بأنّه كان في ذلك الوقت الذي شهد الجارح بفعل المعصية فيه في غير المكان الذي عيّنه للمعصية ، أو كان فيه‌

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٦٣.

(٢) نقله عنه في المختلف : ٧٠٣ ، والمسالك ٢ : ٣٦٣.

(٣) المبسوط ٨ : ١١٠ ، وحكاه عنه في المختلف : ٧٠٣ ، والمسالك ٢ : ٣٦٣.

(٤) المسالك ٢ : ٣٦٣.

٤٩

مشتغلاً بفعل ما يضادّ ما أسند إليه الجارح فالوجه التوقف ، وفاقاً للخلاف (١) ، إلاّ أنّه أطلقه بحيث يشمل صورة عدم التكاذب. قيل (٢) : للتعارض مع عدم المرجح ، ولا يتمّ إلاّ على التفصيل المتقدم ، هذا.

ويمكن الجمع بين الشهادتين مع ترجيح التزكية فيما إذا قال المعدّل : صحّ السبب الذي ذكره الجارح ، لكن صحّ عندي توبته ورجوعه عنه.

( الرابعة : إذا التمس الغريم ) والمدّعي للحقّ من الحاكم ( إحضار غريمه ) مجلس الحكم ( وجب ) على الحاكم ( إجابته ) مطلقاً ( ولو كان ) الغريم المسئول إحضاره ( امرأة ) بشرط ( أن كانت بَرْزَة ) بفتح الباء وسكون الراء المهملة وفتح الزاء المعجمة ، كما ضُبِط ، وهي التي لا تحتجب احتجاب الشوابّ ، وهي مع ذلك عفيفة عاقلة تجلس للناس وتحدثهم ، من البروز وهو الظهور.

( ولو كان ) المسئول إحضاره ذا عذر يمنعه عن الحضور كأن كان ( مريضاً أو امرأة ) مخدّرة ( غير بَرْزَة استناب الحاكم من يحكم بينهما ) أو أمرهما بنصب وكيل ليخاصم عنهما ، فإن دعت الحاجة إلى تحليفهما بعث إليهما من يحلفهما.

واعلم أنّ إطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق في الحكم الأوّل بين كون الغريم المطلوب إحضاره حاضراً في البلد أو غائباً عنه ، وكونه من أهل الشرف والمروءات الذين يشقّ عليهم حضور مجلس القضاء أم لا.

خلافاً للإسكافي فخصّه بالحاضر الذي لا يشقّ عليه الحضور من‌

__________________

(١) الخلاف ٦ : ٢١٩.

(٢) قاله السبزواري في الكفاية : ٢٦٤.

٥٠

جهة الرفعة والشرف (١) ، ووافقه المتأخرون (٢) ممّن وقفت على كلامهم في التخصيص بالحضور ، وخالفوه في التخصيص بغير ذي الشرف ، فأوجبوا حضوره مع الحضور أيضاً ، بل في صريح المسالك وظاهر المبسوط دعوى إجماعنا عليه (٣) ، ومع ذلك قيدوا عدم وجوب الإحضار في صورة الغيبة بما إذا لم يحرّر المدعي الدعوى ، أو حرّرها ولم تكن عند الحاكم مسموعة ، وأوجبوا في غير الصورتين الإحضار مطلقاً.

وتلخص من مجموع ما ذكرنا الإجماع على وجوب الإحضار لغير ذي المروءات ( مع الحضور مطلقاً ولو لم يحرّر الدعوى ، وهو الحجة فيه كالإجماع المحكي المتقدم في وجوب الإحضار لذوي المروءات ) (٤) أيضاً ، مع عدم مخالف فيه عدا الإسكافي ، وهو شاذ ، هذا.

مضافاً إلى ما استدلّ به الشيخ لوجوب الإحضار مطلقاً من أنّ الحاكم منصوب لاستيفاء الحقوق وحفظها وترك تضييعها ، فلو قلنا إنّه لا يحضره ضاع الحق وبطل ؛ لأنّ الرجل ربما تسلّط على مال الغير وأخذه وجلس في موضع لا حاكم فيه ، وما أفضى إلى هذا بطل في نفسه (٥).

واعترضه الفاضل رحمه‌الله في المختلف حيث إنّه ممّن منع الإحضار مع الغيبة في الجملة بمنع الملازمة ، قال : فإنّ الحاكم يطالب المدّعى بإثبات حقّه ، فإذا ثبت فإن حضر ، وإلاّ باع ماله ودفعه إلى المدّعى ، أمّا لو‌

__________________

(١) نقله عنه في المختلف : ٧٠٢.

(٢) كالعلاّمة في المختلف : ٧٠٣ ، والفاضل المقداد في التنقيح الرائع ٤ : ٢٤٨ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٦٥.

(٣) المسالك ٢ : ٣٦٥ ، المبسوط ٨ : ١٥٤.

(٤) ما بين القوسين ساقط من « ب ».

(٥) الخلاف ٦ : ٢٣٦.

٥١

لم يتمكّن من الإثبات وطلب غريمه لإحلافه ، أو لم يكن له مال وكان بيد الغائب ما يقضي به الحق الثابت عند الحاكم ، فإنّ الحاكم هنا يبعث في طلبه على ما قاله الشيخ (١).

وسياق كلامه مع الشيخ كما ترى إنّما هو النزاع معه في وجوب الإحضار مع الغيبة مطلقاً ، لا وجوبه لذوي المروءات كما فهمه منه الفاضل المقداد في شرح الكتاب (٢) ، حيث نسب فيه القول بمنع إحضارهم إلى المختلف وجعله موافقاً للإسكافي.

ثم إنّ ما ذكره في المختلف من وجوب الإحضار مع الغيبة في بعض الصور الذي ذكره إنّما هو بعد تحرير الدعوى وسماعها ، وأمّا قبله فقد ذكر جماعة (٣) بأنّه إن كان الغائب في محلّ ولاية القاضي فإن كان له نائب لم يحضره بل يسمع البيّنة ويكتب إليه.

وإن لم يكن هناك بيّنة أنفذه إلى خليفته ليحكم بينهما.

وإن لم يكن له نائب فإن كان هناك من يصلح للاستخلاف (٤) أذن له في القضاء بينهما ، قال في المسالك بعد هذا : وإلاّ طولب المدعي بتحرير الدعوى ، فقد تكون غير مسموعة فيلزم المشقّة بإحضاره لغير حق ، بخلاف الحاضر في البلد فإنّه لا يحتاج في إحضاره إلى تقديم البحث ، لأنّه ليس في الحضور هنا مئونة ومشقّة شديدة (٥). إلى آخر ما ذكره.

__________________

(١) المختلف : ٧٠٣.

(٢) التنقيح الرائع ٤ : ٢٤٨.

(٣) منهم الشيخ في المبسوط ٨ : ١٥٥ ، والشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٣٦٥ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٦٥.

(٤) في « ح » و « س » : للاستحلاف.

(٥) المسالك ٢ : ٣٦٥.

٥٢

ومنه يظهر وجه فرق المتأخّرين بين حالتي الحضور والغيبة بوجوب الإحضار في الاولى مطلقاً ولو لم يحرّر الدعوى ، وعدمه في الثانية قبل تحريرها ، ومحصّله عدم لزوم المشقّة بإحضاره في الأُولى ولزومها في الثانية ، وبذلك صرّح أيضاً جماعة (١).

وناقشهم في ذلك بعض متأخّري المتأخّرين (٢) ، نظراً منه إلى أنّ في مطلق الإحضار ولو حالة الحضور مشقّة ، ولذلك احتمل اختصاص وجوب الإحضار مع الحضور بصورة تحرير الدعوى وسماعها ، وله وجه.

إلاّ أنّ الإجماع الظاهر والمحكي حتى في كلامه كفانا مئونة البحث في ذلك ، سيّما مع اعتضاده بما ذكره من أنّ ذلك كان معمولاً في الزمن السابق إلى الآن من غير إنكار.

( الخامسة : ) بذل ( الرشوة ) وأخذها ( على الحكم حرام ) بالإجماع ، والسنّة المستفيضة المتقدّم إليها وإلى جميع ما يتعلّق بالمسألة الإشارة في الفصل الأوّل من كتاب التجارة.

بقي فيها شي‌ء لم نشر إليه مفصلاً ثمّة ، وهو الفرق بين الرشوة والهدية ، حيث تجوز له مطلقاً أو في الجملة ، على تفصيل تقدّم ذكره ثمّة ، فقيل : بأنّ الرشوة هي التي يشترط باذلها الحكم بغير حق والامتناع من الحكم به ، والهدية هي العطية المطلقة (٣).

وهذا الفرق يناسب ما أطلقه الماتن في الشرائع (٤) من اختصاص‌

__________________

(١) المبسوط ٨ : ١٥٥ ، القواعد ٢ : ٢٠٧ ، مفاتيح الشرائع ٣ : ٢٥٣.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٩١.

(٣) حكاه في المسالك ٢ : ٣٦٤.

(٤) الشرائع ٤ : ٧٨.

٥٣

تحريم الرشوة بطلب التوصل إلى الحكم بالباطل دون الحق.

ولكن ذكر جماعة تحريمها على التقديرين ، خصوصاً من جانب المرتشي (١).

وقد قدّمنا ثمّة أنّها محرمة على المرتشي مطلقاً ، وعلى الراشي كذلك إلاّ أن يكون محقاً ، ولا يمكن وصوله إلى حقّه بدونها فلا تحرم عليه حينئذٍ ، وعلى هذا يحتاج إلى فرق آخر.

والأظهر فيه أن يقال : إنّ دفع المال إلى القاضي ونحوه من العمّال إن كان الغرض منه التودّد أو التوسل لحاجة من العلم ونحوه فهو هدية.

وإن كان للتوسل إلى القضاء والعمل فهو رشوة ، صرّح بذلك شيخنا في المسالك وغيره (٢) ، ولعلّ وجهه التبادر العرفي ، وما في مجمع البحرين من أنّها ما يعطيه الشخص الحاكم وغيره ليحكم له ، أو يحمله على ما يريد (٣). وقريب منه ما في القاموس (٤) وكنز اللغة ، وهو كما ترى عامّ لما إذا كان الحكم باطلاً أو حقاً ، فلا وجه لتخصيصها بالأوّل.

نعم في النهاية الأثيرية : الراشي الذي يعينه على الباطل (٥).

والفرق بينها وبين أخذ الجعل على القضاء من المتحاكمين أو أحدهما لو قيل بجوازه أخفى.

وبيانه : أنّ الغرض من الرشوة أن يحكم لباذلها على التعيين لحقّ أو باطل ، وفي الجعل إن شرط عليهما أو على المحكوم عليه ، فالفرق واضح ؛

__________________

(١) منهم المحقق الثاني في جامع المقاصد ٤ : ٣٥ ، والشهيد الثاني في الروضة ٣ : ٧٥.

(٢) المسالك ٢ : ٣٦٤ ؛ وانظر الكفاية : ٢٦٥.

(٣) مجمع البحرين ١ : ١٨٤.

(٤) القاموس ٤ : ٣٢٦.

(٥) النهاية الأثيرية ٢ : ٢٢٦.

٥٤

لأنّه حينئذ في مقابلة عمله معهما وفصل الحكومة بينهما من غير اعتبار الحكم لأحدهما بخصوصه.

وإن شرطه على المحكوم له ، فالفرق أنّ الحكم لا يتعلّق الغرض فيه بأحدهما بخصوصه ، بل من اتفق له الحكم منهما على الوجه المعتبر يكون عليه الجعل ، وهذا ليس فيه تهمة ولا ظهور غرض ، بخلاف الرشوة المبذولة له ابتداء من شخص معيّن ليكون الحكم له بخصوصه كيف كان ، فإنّ هذا ظاهر في فساد المقصد وصريح في تطرّق التهمة.

( و ) يجب ( على المرتشي إعادتها ) عيناً مع وجودها ، وعوضاً مثلاً أو قيمةً مع تلفها مطلقاً ، كان التلف بتفريطه أم لا ، وجوباً فورياً ، بلا خلاف في شي‌ء من ذلك بيننا ، بل يظهر من المسالك وغيره أنّ عليه إجماعنا (١) ، وفيه خلاف لبعض العامّة ، حيث ذهب إلى أنّه يملكها وإن فعل حراماً ؛ لوجود التمليك والقبول (٢).

وآخرون منهم ذهبوا إلى أنّه يضعها في بيت المال (٣).

وهما ضعيفان جدّاً ، ولا سيّما الثاني منهما.

( النظر الثالث : في ) بيان ( كيفية الحكم ، وفيه مقاصد ) ثلاثة :

( الأوّل : في وظائف الحاكم ) وآدابه ( وهي أربع ) :

( الأُولى : ) يجب على القاضي ( التسوية بين الخصوم في السلام ) عليهما وردّه إذا سلّما عليه ( والكلام ) معهما ( والمكان ) لهما فيجلسهما‌

__________________

(١) المسالك ٢ : ٣٦٥ ؛ وانظر الروضة ٣ : ٧٥ ، والكفاية : ٢٦٥.

(٢) لم نعثر عليه.

(٣) المغني ١١ : ٤٣٩ ، الشرح الكبير ١١ : ٤٠٥.

٥٥

بين يديه معاً ( والنظر ) إليهما ( والإنصات ) والاستماع لكلامهما ( والعدل في الحكم ) بينهما ، وغير ذلك من أنواع الإكرام كالإذن في الدخول ، وطلاقة الوجه.

للنصوص المستفيضة : منها : القريب من الصحيح بالحسن بن محبوب المجمع على تصحيح رواياته فيجبر به جهالة راويه ، وهو طويل ومن جملته قول علي عليه‌السلام لشريح : « ثم واس بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك ، حتّى لا يطمع قريبك في حيفك ، ولا ييأس عدوّك من عدلك » (١).

ومنها : القوى بالسكوني وصاحبه : « من ابتلى بالقضاء فليواسِ بينهم في الإشارة ، والنظر ، والمجلس » (٢).

وفي مثله : « إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى أن يضاف الخصم إلاّ ومعه خصمه » (٣).

وفي القريب منهما : « ثلاث إن حفظتهنّ وعملت بهنّ كفتك ما سواهنّ ، وإن تركتهنّ لم ينفعك شي‌ء ، إقامة الحدود على القريب والبعيد ، والحكم بكتاب الله تعالى في الرضا والسخط ، والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود » (٤).

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤١٢ / ١ ، الفقيه ٣ : ٨ / ٢٨ ، التهذيب ٦ : ٢٢٥ / ٥٤١ ، الوسائل ٢٧ : ٢١١ أبواب آداب القاضي ب ١ ح ١.

(٢) الكافي ٧ : ٤١٣ / ٣ ، الفقيه ٣ : ٨ / ٢٧ ، التهذيب ٦ : ٢٢٦ / ٥٤٣ ، الوسائل ٢٧ : ٢١٤ أبواب آداب القاضي ب ٣ ح ١.

(٣) الكافي ٧ : ٤١٣ / ٤ ، الفقيه ٣ : ٧ / ٢١ ، التهذيب ٦ : ٢٢٦ / ٥٤٤ ، الوسائل ٢٧ : ٢١٤ أبواب آداب القاضي ب ٣ ح ٢.

(٤) التهذيب ٦ : ٢٢٧ / ٥٤٧ ، الوسائل ٢٧ : ٢١٢ أبواب آداب القاضي ب ١ ح ٢.

٥٦

وهذه النصوص مع اعتبار أسانيدها جملة وحجية بعضها ظاهرة الدلالة على الوجوب ، كما هو الأظهر الأشهر بين متأخري الطائفة ، وفاقاً للصدوقين (١) ، بل حكى عليه الشهرة المطلقة في المسالك والروضة (٢) ، فهي أيضاً لقصور النصوص أو ضعفها لو كان جابرة.

خلافاً للديلمي والحلّي والفاضل في المختلف (٣) ، فحكموا بالاستحباب فيما عدا العدل في الحكم ؛ للأصل ، وضعف النصوص سنداً ودلالة.

وفي الجميع نظر يظهر وجهه بالتدبر فيما مرّ.

ثم إنّ الحكم بوجوب التسوية أو استحبابها مشروط بما إذا تساوى الخصوم في الكفر والإسلام.

( ولو كان أحد الخصمين ) مسلماً والآخر ( كافراً جاز أن يكون الكافر قائماً والمسلم قاعداً ، أو أعلى منزلاً ) قولاً واحداً ، كما جلس علي عليه‌السلام بجنب شريح في خصومة له مع يهودي (٤).

وهل تجب التسوية بينهما فيما عدا ذلك؟ ظاهر العبارة وما ضاهاها من عبائر الجماعة ذلك (٥).

ويحتمل قوياً تعدّيه إلى غيره من وجوه الإكرام ، وفاقاً للشهيد الثاني (٦) ؛ للأصل ، واختصاص النصوص الموجبة للتسوية بحكم التبادر‌

__________________

(١) الصدوق في الفقيه ٣ : ٨ ، وحكاه عن والده في المختلف : ٧٠٠.

(٢) المسالك ٢ : ٣٦٥ ، الروضة ٣ : ٧٢.

(٣) المراسم : ٢٣٠ ، السرائر ٢ : ١٥٧ ، المختلف : ٧٠١.

(٤) الغارات ١ : ١٢٤ ، المستدرك ١٧ : ٣٥٩ أبواب آداب القاضي ب ١١ ح ٥.

(٥) كالمحقق في الشرائع ٤ : ٨٠ ، والعلاّمة في القواعد ٢ : ٢٠٤ ، والشهيد في اللمعة ( الروضة البهية ٣ ) : ٧٣.

(٦) الروضة ٣ : ٧٣.

٥٧

وغيره بغير مفروض المسألة ، وهو تساوي الخصوم في الإسلام أو الكفر أيضاً ، على بعد فيه خاصة ، مع أنّ شرف الإسلام يقتضي ذلك.

ولا يجب التسوية بينهم مطلقاً في الميل القلبي ، بلا خلاف فيه ، ولا في استحبابها بقدر الإمكان.

( الثانية : لا يجوز ) للحاكم ( أن يلقّن أحد الخصمين ) ويعلّمه ( شيئاً يستظهر به على خصمه ) كأن يدّعي بطريق الاحتمال فيلقنه الدعوى بالجزم حتى تسمع دعواه ، أو ادّعي عليه قرض وأراد الجواب بالوفاء فيعلّمه الإنكار لئلاّ يلزمه البيّنة بالاعتراف ، أو نحو ذلك ، بلا خلاف فيه على الظاهر.

قالوا : لأنّه منصوب لقطع المنازعة لا لفتح بابها ، فتجويزه ينافي الحكمة الباعثة لنصبه.

قيل : نعم لا بأس بالاستفسار والتحقيق وإن أدّى بالأخرة إلى تلقين صحة الدعوى (١).

وزاد بعض متأخري المتأخرين فقال : بل لا يبعد جواز الأوّل أيضاً إذا كان المدّعى جاهلاً لا يعرف التحرير والقاضي علم بالحال ، وما ذكروه لا يصلح دليلاً للتحريم مطلقاً ؛ إذ فتح باب المنازعة الحقيقية التي تصير سبباً لعدم إبطال حقوق الناس ما نعرف فساده ، إلاّ أن يكون لهم دليل آخر من إجماع وغيره (٢). انتهى.

وهو حسن إلاّ أنّ فرض علم القاضي بحقيقة الحال لا يتصور معه فتح باب المنازعة بناءً على ما مرّ من جواز القضاء بالعلم ، بل لا يحتاج‌

__________________

(١) قاله الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٣٦٥.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٥٤.

٥٨

حينئذٍ إلى تلقين المدّعى ، بل يحكم ابتداء على الخصم بعلمه ، فتأمّل.

( الثالثة : إذا سكتا ) أي الخصمان ( استحب للحاكم أن يقول ) لهما : ( تكلما ) أو : ليتكلم المدّعى منكما ( أو : إن كنتما حضرتما لشي‌ء فاذكراه ، أو ما ناسبه ) من الألفاظ الدالة عليه. ولو احتشماه أَمَرَ من يقول لهما ذلك ، ولا يواجه بالخطاب أحدهما. بلا خلاف في شي‌ء من ذلك على الظاهر حتى في النهي عن مواجهة أحدهما بالخطاب ، ولكن قد اختلفوا في الأخذ بظاهره كما هو مقتضى وجوب التسوية ، أو الكراهة ، والوجه الأوّل ؛ لما عرفته.

( الرابعة : إذا بدر أحد الخصمين ) وسبق إلى الدعوى ( سمع منه ) وجوباً هي دون غيرها فهو أولى.

( ولو قطع عليه غريمه ) كلامه في أثناء الدعوى فقال : كنت أنا المدّعى ، لم يلتفت إليه الحاكم ، بل ( منعه حتى تنتهي دعواه وحكومته ) بمطالبة جوابها منه ، ثم الحكم بمقتضاه.

( ولو ابتدرا ) وسبقا إلى ( الدعوى ) معاً ( سمع من الذي ) وقف ( عن يمين صاحبه ) في المجلس ؛ للخبر الذي أجمع أصحابنا على روايته كما في الانتصار والخلاف والمبسوط والسرائر (١) ، حيث قالوا : رواه أصحابنا ، وزاد الأوّلان دعوى إجماعنا عليه فتوى أيضاً وفيه : « قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقدّم صاحب اليمين في المجلس بالكلام » (٢) وعليه عامّة متأخّري أصحابنا ، بل ومتقدميهم أيضاً ، عدا الشيخ فمال إلى القرعة (٣)

__________________

(١) الانتصار : ٢٤٣ ، الخلاف ٦ : ٢٣٤ ، المبسوط ٨ : ١٥٤ ، السرائر ٢ : ١٥٧.

(٢) الفقيه ٣ : ٧ / ٢٥ ، الوسائل ٢٧ : ٢١٨ أبواب آداب القاضي ب ٥ ح ٢.

(٣) المبسوط ٨ : ١٥٤ ، الخلاف ٦ : ٢٣٤.

٥٩

كما تقوله العامّة (١) ، مع أنّه ادّعى على الأوّل إجماع الطائفة ، فهو ضعيف غايته.

كتأمّل الإسكافي (٢) في دلالة الرواية بجواز أن يكون أراد بذلك المدّعى ؛ لأنّه صاحب اليمين ، واليمين المردودة إليه.

وزاد بعض متأخري المتأخرين جواز أن يكون المراد باليمين يمين القاضي (٣).

لمخالفة الاحتمالين للظاهر ، سيّما بعد الاتفاق على الظاهر المستظهر من تلك الكتب المتقدّمة (٤) المصرح به في المسالك (٥) على كون المراد منها ما ذكره ، والتأيّد بالصحيح : « إذا تقدّمت إلى والٍ أو قاضٍ فكن يمينه » يعني : يمين الخصم (٦).

( وإن اجتمع خصوم ) فإن وردوا مترتبين بدأ بالأول منهم فالأوّل ، وإن وردوا جميعاً ( كتب أسماء المدعين ) في رقاع ( واستدعى من يخرج اسمه ) بالقرعة إلاّ أن يتضرر بعضهم بالتأخير ، فيقدّم دفعاً للضرر. ومثله ما لو تزاحم الطلبة عند المدرس والمستفتون عند المفتي مع وجوب التعليم والإفتاء ، فيقدّمان الأسبق منهم فالأسبق ، فإن جهل أو جاؤا معاً أُقرع بينهم.

ولو جمعهم على درس واحد مع تقارب أفهامهم جاز ، وإلاّ فلا.

__________________

(١) المغني لابن قدامة ١١٧ : ٤٤٧ ، الشرح الكبير ١١ : ٤٢٣.

(٢) حكاه عنه في الانتصار : ٢٤٤ ، والمختلف : ٦٩٩.

(٣) وهو الفيض الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٥٣.

(٤) في « ب » زيادة : للأخيار.

(٥) المسالك ٢ : ٣٦٦.

(٦) الفقيه ٣ : ٧ / ٢٦ ، التهذيب ٦ : ٢٢٧ / ٥٤٨ ، الوسائل ٢٧ : ٢١٨ أبواب آداب القاضي ب ٥ ح ١.

٦٠