رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-277-6
الصفحات: ٥٤٦

من حيث إنّه فرض كفاية يجوز له تركه إذا قام غيره مقامه ، ولهذا إذا لم يقم غيره مقامه وخاف لحوق ضرر بإبطال الحق وجب عليه إقامة الشهادة ، فإن قصد ابن إدريس الوجوب هنا عيناً فهو ممنوع ، نعم في الحقيقة لا يبقى فرق بين أن يشهد من غير استدعاء وبين أن يشهد معه (١). انتهى.

ومن قوله : نعم ، إلى آخره ، يظهر تفطنه لكون النزاع معنوياً ، ولا وجه له بعد اعترافه بكون مذهب الشيخ الوجوب كفايةً مع عدم الاستدعاء إلاّ ما قدّمنا من الوجوب عيناً مطلقاً مع الاستدعاء ، كما هو ظاهر مفهوم كلام الشيخ والأخبار التي قدّمناها بعد ضمّ بعضها إلى بعض كما مضى.

وحيث ظهر لك اعترافه أخيراً بكون النزاع بينهم معنوياً اتضح لك ما في كلام شيخنا في المسالك وصاحب الكفاية (٢) عليه حيث قالا بعد أن نقلا عنه جعله النزاع لفظياً ؛ لما ذكره ـ : وفيه نظر ؛ لأنّ الأخبار المذكورة مفصّلة مصرّحة بالفرق بين من يستدعي وبين من لا يستدعي ، وأنّه يتعين على المستدعي الشهادة مع أنّ الوجوب حينئذ كفائي اتفاقاً وإن عرض له التعيين ، وعلى ما ذكره في المختلف من المعنى لا فرق بين الحالتين ، ولا يبقى للتفصيل في الأخبار فائدة أصلاً ، ولا وجه لهذا التكلّف الذي لا يساعد عليه الكلام ، والحق أنّ النزاع معنوي صرف. انتهى.

وكأنّهما لم يلاحظا قوله الأخير المعترف فيه بمعنوية النزاع كما ذكراه ، ويتوجه عليهما زيادةً على ذلك أنّ الفاضل جعل النزاع بين الشيخ والحلّي لفظياً ، لا بين الأخبار ، بل ما ذكر منها شيئاً ، فتأمّل جدّاً.

__________________

(١) المختلف : ٧٢٥.

(٢) المسالك ٢ : ٤١٥ ، الكفاية : ٢٨٦.

٤٠١

وأيضاً فدعواهما الوفاق على كفائية الوجوب بعد اعترافهما بمعنوية النزاع ، وظهور العينية مطلقاً مع الاستدعاء من الشيخ وموافقيه ليس في محله ، بل الظاهر كون العينية مطلقاً حيث قالوا به ليس محل وفاق ، بل محل نزاع كما اعترفا به ، وحينئذ يتقوى مختارهم كما تقدم.

وأيضاً ظاهر عبارتهما التي حكيناها أنّ أثر معنوية النزاع إنّما يظهر في عينية الوجوب مطلقاً مع الاستدعاء وكفائيته مع عدمه ، مع أنّهما ذكرا في تحرير محل النزاع ما ظاهره كون أثره إنّما هو أصل الوجوب مع عدم الاستدعاء ، حيث قالا بعد الحكم بكفائية الوجوب مطلقاً ـ : والمشهور عدم الفرق في الوجوب بين من استدعي وغيره ؛ لعموم الأدلة إلى أن قالا ـ : وذهب جماعة منهم الشيخ وابن الجنيد وأبو الصلاح إلى عدم الوجوب إلاّ مع الاستدعاء ؛ لصحيحة محمّد بن مسلم. ثم ساقا جملة من الأخبار المطلقة.

وعبارتهما هذه كالنص بل نص في أنّ الشيخ ومن بعده لم يقولوا بالوجوب في صورة عدم الاستدعاء بالكلية ولو كفايةً ، وهذا مع منافاته لعبارتهما المتقدمة منافٍ لما نسبه إليهم الفاضل والشهيد كما عرفته ، وعرفت أنّ الحقّ معهما.

( ويكره أن يشهد ) المؤمن ( لمخالف ) له في المذهب ( إذا خشي أنّه لو استدعاه إلى الحاكم ) ليشهد له ( يردّ شهادته ) فيكون قد أذلّ نفسه ، كما في المرسل : قلت له : إن شريكاً يردّ شهادتنا ، قال : فقال : « لا تذلّوا أنفسكم » (١).

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٢٨٣ / ٧٧٩ ، الوسائل ٢٧ : ٤١٢ كتاب الشهادات ب ٥٣ ح ١.

٤٠٢

وقصور سنده بل ضعفه يمنع عن العمل به ، سيّما وأن يخصَّص به عموم أدلة وجوب إقامة الشهادة من الكتاب والسنّة ، ولذا أنّ في التحرير نسب الحكم إلى الرواية (١) ، مشعراً بتردّده فيه.

وحمله الصدوق في الفقيه على كراهية التحمّل دون الأداء (٢).

ونحوه الحلّي ، فقال : وفقه هذه الرواية أنّه إنّما يكره أن يتحمّل له شهادةً ابتداءً ، فأمّا إن تحمّلها فالواجب عليه أداؤها وإقامتها إذا دعي [ إلى ] ذلك عند من دعي إلى إقامتها عنده ، سواء ردّها أو لم يردّها ، قبلها أو لم يقبلها ، بغير خلاف ؛ لقوله تعالى ( وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) (٣) (٤) انتهى.

وظاهرهما عدم الاستشكال في جواز ترك التحمّل ، وهو مشكل جدّاً ؛ لتساوي الأداء معه في الأدلة الدالة على وجوبهما من الكتاب والسنّة ، وعدم قابلية الرواية لتخصيصها ، اللهم إلاّ أن يكون إجماعاً ، أو يريدا بترك التحمّل إخفاء نفسه عن المخالف لئلاّ يشهده ، لا تركه عند إشهاده.

وممّا ذكرنا ظهر ما في عمل الماتن بالرواية وحكمه بكراهة الشهادة مطلقاً ولو خيف من فوت الحقّ بتركها ، إلاّ أن يوجّه بأنّ إقامة الشهادة حينئذ يتضمن إذلال المؤمن نفسه بلا شبهة ، وصرّحت به الرواية ، وهو لا يقصر عن الضرر الذي أُبيح لأجله ترك الشهادة مطلقاً اتفاقاً فتوًى وروايةً ، ولا بأس به ، وإن كان الأحوط الشهادة ، سيّما في صورة اليقين‌

__________________

(١) التحرير ٢ : ٢١٣.

(٢) الفقيه ٣ : ٤٤.

(٣) البقرة : ٢٨٣.

(٤) السرائر ٢ : ١٣٠ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر لاستقامة العبارة.

٤٠٣

بخوف فوت الحق بتركها ، وإن كان لا فائدة فيها بعد فرض تيقن ردّها كما هو مورد الرواية.

ومنه يظهر وجه قوّة أُخرى لها ، ولما عليه الماتن من الكراهة ، لكن في الجملة لا مطلقا ، فتأمّل جدّاً.

( الثالث : في ) بيان أحكام ( الشهادة على الشهادة ) :

( وهي مقبولة في الديون والأموال ) كالقرض والقراض وعقود المعاوضات ( والحقوق ) المتعلّقة بالآدميين ، سواء كانت عقوبة كالقصاص ، أو غيرها كالطلاق والنسب والعتق وعيوب النساء والولادة والاستهلال والوكالة والوصية بفرديه ، بلا خلاف أجده ، وبه صرّح في الكفاية (١) ، بل عليه الإجماع في كلام جماعة (٢) ، وهو الحجة.

مضافاً إلى ما استدلوا به من عمومات الكتاب والسنّة بقبول الشهادة.

وخصوص الخبر المروي في التهذيب بسند فيه جهالة ، وفي الفقيه بسند يحتمل الصحة ، بل صرّح بصحته جماعة (٣) ، مع أنّ القصور إن كان مجبور بعمل الطائفة ، وفيه : عن الشهادة على شهادة الرجل وهو بالحضرة في البلد ، قال : « نعم ولو كان خلف سارية إذا كان لا يمكنه أن يقيمها هو لعلّة تمنعه من أن يحضر ويقيمها » (٤).

__________________

(١) الكفاية : ٢٨٦.

(٢) منهم الشهيدان في غاية المراد ( مخطوط ) النسخة الرضويّة ، الورقة : ٢٧٧ ، المسالك ٢ : ٤١٥ ، والفيض الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٩٢ ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٨٤.

(٣) انظر روضة المتقين ٦ : ١٨٧ ، والكفاية : ٢٨٦.

(٤) الفقيه ٣ : ٤٢ / ١٤١ ، التهذيب ٦ : ٢٥٦ / ٦٧٢ ، الإستبصار ٣ : ٢٠ / ٥٩ ، الوسائل ٢٧ : ٤٠٢ كتاب الشهادات ب ٤٤ ح ١.

٤٠٤

وعلّلوه أيضاً بدعاء الحاجة إليها ؛ فإنّ شهود الواقعة قد يتفق لهم الموت أو الغيبة ، وأنّ الشهادة حق لازم الأداء فتجوز الشهادة عليها كسائر الحقوق المقبولة فيها.

( ولا تقبل في الحدود ) وما كان عقوبة لله تعالى ، إجماعاً في المختصة به سبحانه كحدّ الزنا واللواط ونحوهما ، على الظاهر المصرَّح به في الإرشاد والإيضاح والتنقيح والمسالك والروضة (١) ، وغيرها من كتب الجماعة (٢) ، وهو الحجة.

مضافاً إلى المعتبرين (٣) القريب أحدهما من الصحة عن علي عليه‌السلام : « أنّه كان لا يجيز شهادة على شهادة في حدّ ».

وكذا في المشتركة بينه تعالى وبين الآدميين كحدّ القذف والسرقة عند الأكثر ، كما في التنقيح والروضة (٤) ، بل المشهور ، كما في الإيضاح والمسالك والكفاية (٥) ، ولعلّه الأظهر ، لإطلاق ما مرّ من المعتبرين ، بل عمومهما الناشئ من النكرة المنساقة في سياق النفي ، وقصور سندهما منجبر بالاتفاق في الجملة ، وبالشهرة في خصوص المسألة ، وبأنّ الحدود تدرأ بالشبهة ، وقيام البدل مقام المبدل لا تخلو من شبهة.

خلافاً للمبسوط وابن حمزة وفخر الإسلام في الإيضاح والشهيدين‌

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ١٦٤ ، الإيضاح ٤ : ٤٤٤ ، التنقيح ٤ : ٣١٧ ، المسالك ٢ : ٤١٥ ، الروضة ٣ : ١٤٩.

(٢) كمجمع الفائدة ١٢ : ٤٧٦ ، وكشف اللثام ٢ : ٣٨٤.

(٣) التهذيب ٦ : ٢٥٥ / ٦٦٧ ، و ٢٥٦ / ٦٧١ ، الوسائل ٢٧ : ٤٠٤ كتاب الشهادات ب ٤٥ ح ١ ، ٢.

(٤) التنقيح ٤ : ٣١٧ ، الروضة ٣ : ١٤٩.

(٥) الإيضاح ٤ : ٤٤٤ ، المسالك ٢ : ٤١٦ ، الكفاية : ٢٨٦.

٤٠٥

في النكت والمسالك (١) ، فقالوا بالقبول ، وحجتهم غير واضحة ، عدا ما في المسالك من العموم ، وعدم دليل صالح للتخصيص ، مع ما فيه من ترجيح حق الآدمي.

وهو حسن إن لم نقل بحجية المعتبرين المنجبرين بما مرّ ، وإلاّ فما عليه المشهور متعين ، وبهما يذبّ عن العموم ، والدليل الصالح للتخصيص يقوم ، والأمر الثالث الاعتباري بعد تسليمه في مقابلة النص المعتبر غير مسموع.

ولو اشتمل سبب الحدّ على أحكام أُخر كاللواط المترتب عليه نشر الحرمة بأُمّ المفعول وأُخته وبنته ، وكالزنا بالعمّة والخالة المترتب عليه تحريم بنتهما ، وكالزنا مكرِهاً للمرأة بالنسبة إلى ثبوت المهر ، ونحو ذلك ، فهل تقبل في غير الحدّ من الأحكام؟ وجهان :

من تلازم الأمرين ، وكونهما معلولي علّة واحدة.

ومن وجود المانع في بعضها ، وهو الحدّ بالنص والإجماع ، فيبقى الباقي ؛ لأنّه حق آدمي لا مانع من إثباته بشهادة الفرع ، وعلل الشرع معرّفات فجاز انفكاك معلولاتها ، ولذا يثبت بها في السرقة [ المال (٢) ] دون الحدّ عند المانعين لها في الحدّ مطلقاً ، وكذا مع الشاهد والمرأتين ، وبالعكس لو كان المقرّ سفيهاً ، إلى غير ذلك.

واختار هذا الفاضلان في الشرائع والتحرير والقواعد والإرشاد ،

__________________

(١) المبسوط ٨ : ٢٣١ ، الوسيلة : ٢٣٣ ، الإيضاح ٤ : ٤٤٤ ، وفيه : أنّ الأصح عدم القبول ، غاية المراد ( مخطوط ) النسخة الرضوية ، الورقة : ٢٧٨ ، المسالك ٢ : ٤١٦.

(٢) أضفناه لاستقامة المعنى.

٤٠٦

والشهيدان في الدروس والمسالك واللمعتين (١) ، من دون إشارة منهم إلى خلاف ولا تردّد ، عدا شيخنا في المسالك فأشار إلى الوجهين ، مشعراً بتردّده بينهما ، لكن جعل ثانيهما أقوى.

( ولا يجزئ ) في الشهادة على الشهادة ( إلاّ اثنان ) عدلان ( على شاهد الأصل ) إجماعاً ، وللنصوص.

ففي الخبرين : « إنّ عليّاً عليه‌السلام كان لا يجيز شهادة رجل على رجل إلاّ شهادة رجلين على رجل » (٢).

ولأنّ المقصود إثبات شهادة الأصل ؛ لأنّه الأمر المشهود به في الشهادة الثانية ، دون ما شهد به الأصل ، وذلك لا يتم بشهادة الواحد كما هو الأصل.

نعم لا يشترط المغايرة ، فتجوز شهادة اثنين على كل واحد من شاهدي الأصل ، وكذا شهادة أحد الأصلين مع الآخر على شهادة الأصل الآخر ، ونحو ذلك ، بلا خلاف فيه عندنا وعند أكثر من خالفنا كما في الغنية والمسالك (٣) ، بل ظاهرهما كغيرهما ـ (٤) دعوى إجماعنا عليه ، ولعلّه للإطلاق كما صرّح به جمع (٥) ، وفي التمسك به لو لا الإجماع نظر.

__________________

(١) الشرائع ٤ : ١٤٠ ، التحرير ٢ : ٢١٦ ، القواعد ٢ : ٢٤٢ ، الإرشاد ٢ : ١٦٥ ، الدروس ٢ : ١٤١ ، المسالك ٢ : ٤١٨ ، اللمعة والروضة البهيّة ٣ : ١٥٠.

(٢) الأول في : الفقيه ٣ : ٤١ / ١٣٦ ، الوسائل ٢٧ : ٤٠٣ كتاب الشهادات ب ٤٤ ح ٤. الثاني في : التهذيب ٦ : ٢٥٥ / ٦٦٨ ، الإستبصار ٣ : ٢١ / ٦١ ، الوسائل ٢٧ : ٤٠٣ كتاب الشهادات ب ٤٤ ح ٢.

(٣) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥ ، المسالك ٢ : ٤١٦.

(٤) انظر المفاتيح ٣ : ٢٩٣ ، وكشف اللثام ٢ : ٣٨٤.

(٥) منهم الشهيد في غاية المراد ( مخطوط ) النسخة الرضوية ، الورقة : ٢٧٨ والأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٤٧٩.

٤٠٧

( وتقبل على الشهادة شهادة النساء في الموضع الذي تقبل فيه شهادتهن ) منفردات أو منضمّات على قول الإسكافي والشيخ في الخلاف وموضع من المبسوط (١) ، مدّعياً في الأوّل إجماع الفرقة وأخبارهم ، واختاره في المختلف (٢) ؛ للأصل ، وعموم قوله ( فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ ) (٣).

والخبر : « شهادة النساء لا تجوز في طلاق ولا نكاح ولا حدود إلاّ في الديون وما لا يستطيع النظر إليه للرجال » (٤) فإنّه شامل للشهادة الأصلية والفرعية.

وهذه الأدلة كما ترى ؛ لوهن الإجماع بندرة القائل بمضمونه عدا الناقل ونادر.

والأخبار لم نقف لها على أثر إن أُريد منها ما يدل على الخصوص ، وإن أُريد بها نحو الخبر الأخير مما يدل على الحكم بالإطلاق أو العموم فبعد تسليم سنده هنا لا عموم فيه ، بل غايته الإطلاق ، بل الإجمال الغير المعلوم شموله لمثل ما نحن فيه ، سيّما مع عدم تبادره منه ، بل تبادر غيره ، وهو شهادتهن على نفس الديون ونحوها ، دون شهادتهن على الشهادة عليها.

وتقريب الاستدلال بنحو الخبر بالأولوية لا العموم أو الإطلاق كما‌

__________________

(١) حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٧٢٤ ، الخلاف ٦ : ٣١٦ ، المبسوط ٨ : ٢٣٣.

(٢) المختلف : ٧٢٤.

(٣) البقرة : ٢٨٢.

(٤) التهذيب ٦ : ٢٨١ / ٧٧٣ ، الإستبصار ٣ : ٢٥ / ٨٠ ، الوسائل ٢٧ : ٣٦٢ كتاب الشهادات ب ٢٤ ح ٤٢.

٤٠٨

يفهم من جماعة (١) ، المناقشة فيه واضحة بعد إمكان دعوى الفرق بأنّ المستفاد من الفتوى والرواية أنّ العلّة في قبول شهادتهن في الديون ونحوها أصالةً إنّما هي الضرورة ومسيس الحاجة ، إمّا لضرورة الانفراد كالعيوب الباطنة ، أو لفقد الرجال كما في الوصية ، وهي في نحو المسألة منتفية بلا شبهة ، كما ذكره جماعة (٢).

والأصل لا وقع له هنا ، بل مقتضاه العكس كما قدّمناه سابقاً.

والآية موردها الأموال ، والشهادة ليست مالاً.

ومن هنا يظهر جواب آخر عن نحو الخبر الذي مرّ ، وهو أنّه جعل مورد شهادتهن الديون ونحوها ، وشهادتهن فرعاً إنّما هي على الشهادة ، ونفس الشهادة ليست من الديون والأموال وما لا يطلع عليه الرجال ، فلا يدخل في الخبر ، ولا في قاعدة ما تقبل فيه شهادة النساء.

وعلى هذا فالمنع أقوى ، وفاقاً للحلّي والفاضلين في الشرائع والقواعد والتحرير وفخر الدين والشهيدين في النكت والمسالك والفاضل المقداد في الشرح (٣) ، وغيرهم من متأخري الأصحاب (٤) ، بل لم أقف فيهم ( على ) مخالف ، وإن ( تردّد ) الفاضلان هنا وفي الإرشاد والشهيدان في‌

__________________

(١) منهم الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤١٧ ، والأردبيلي في مجمع الفائدة ١٢ : ٤٨٠ ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٨٥.

(٢) منهم العلاّمة في القواعد ٢ : ٢٤٢ ، وولده في الإيضاح ٤ : ٤٤٧ ، والفاضل المقداد في التنقيح ٤ : ٣١٩ ، والمفاتيح ٣ : ٢٩٣.

(٣) السرائر ٢ : ١٢٨ ، الشرائع ٤ : ١٤٠ ، القواعد ٢ : ٢٤٢ ، التحرير ٢ : ٢١٦ ، الإيضاح ٤ : ٤٤٨ ، غاية المراد ( مخطوط ) النسخة الرضوية ، الورقة : ٢٧٨ ، المسالك ٢ : ٤١٨ ، التنقيح ٤ : ٣١٩.

(٤) الكفاية : ٢٨٧ ، المفاتيح ٣ : ٢٩٣.

٤٠٩

الدروس والروضة (١) ، ولكن لا وجه له كما عرفته.

ولو لا الإجماع المنقول لأمكن القطع بفساد القول الأوّل ، ومعه وإن كان لا يمكن إلاّ أنّ الظن بأظهرية القول المقابل بما قدّمناه حاصل ، سيّما مع تأيّده بل واعتضاده بمفهوم الحصر في الخبرين المتقدمين (٢) المتضمّنين لأنّ عليّاً عليه‌السلام كان لا يجيز شهادة رجل على رجل إلاّ شهادة رجلين على رجل ، فتأمّل.

هذا مضافاً إلى تأيّده بموافقة الشافعي (٣) له ، ومخالفة أبي حنيفة إيّاه (٤) ؛ لأغلبية موافقة الأوّل للشيعة ، بخلاف الثاني ، فتدبّر.

واعلم أنّه لا يجوز للفرع التحمّل إلاّ إذا عرف أنّ عند الأصل شهادة جازمة بحق ثابت ، بلا خلاف ؛ لانّه المتبادر ، والمعنى الحقيقي للشهادة على الشهادة.

( وأجلى الألفاظ ) التي تتحمّل بها هو ( أن يقول ) له شاهد الأصل : ( اشهد على شهادتي أنني أشهد كذا ) أو أُشهدك ، أو إذا استشهدت على شهادتي فقد أذنت لك في أن تشهد ، ونحو ذلك.

وسمّوه بالاسترعاء ، لالتماس شاهد الأصل رعاية شهادته والشهادة بها ، ولا خلاف في جواز التحمّل به على الظاهر ، المصرَّح به في الكفاية (٥) وغيره (٦) ، بل عليه الإجماع في الإيضاح والتنقيح والمسالك (٧).

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ١٦٥ ، الدروس ٢ : ١٤١ ، الروضة ٣ : ١٥٢.

(٢) في ص ٤٠٦.

(٣) الأُم ٧ : ٤٩.

(٤) بدائع الصنائع ٦ : ٢٨٢ ، حكاه عنه في الخلاف ٢ : ٦٣٠.

(٥) الكفاية : ٢٨٧.

(٦) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٤٧٧.

(٧) الإيضاح ٤ : ٤٤٥ ، التنقيح ٤ : ٣١٩ ، المسالك ٢ : ٤١٦.

٤١٠

وألحَقَ به جماعة أن يسمعه يسترعي آخر (١).

قالوا : ودونه أن يسمعه يشهد عند الحاكم وإن لم يسترعه ؛ لأنّه لا يتصدّى للإقامة عند الحاكم إلاّ بعد تحقق الوجوب.

ودونه أن يسمعه يبيّن سبب وجود الحق من ثمن مبيع أو قرض أو غير ذلك ؛ لأنّه بعيد عن التساهل والوعد.

أمّا لو قال : أشهد أنّ عليه كذا ، من دون استرعاء ولا ذكر سبب ولا في مجلس الحكم فلا تجوز شهادة الفرع ، لاعتياد التسامح بذلك من غير تحقق لغرض صحيح أو فاسد ، بخلاف ما لو سمعه يقرّ لآخر ، فإنّه تجوز الشهادة عليه ، لأنّه مخبر عن نفسه ، ولأنّه يعتبر في الشهادة ما لا يعتبر في الإقرار.

والأصل في ترتيب هذه المراتب هو الشيخ في المبسوط (٢) ، ووافقه الإسكافي على القبول في صورة الاسترعاء خاصّة (٣) ، وظاهره المنع فيما عداها.

والمتأخرون تبعوا الشيخ إلاّ في الجزم بالقبول في المرتبة الثالثة ، فقد تردّد فيه الفاضلان (٤) وغيرهما (٥) ، وجزموا بالفرق بينها وبين الرابعة عدا الماتن في الشرائع (٦) فقد استشكله ، قيل : لاشتمالهما على الجزم الذي لا يناسب العدل أن يتسامح به ، فالواجب إمّا القبول فيهما أو الردّ كذلك ،

__________________

(١) منهم المحقق الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٩٤ ، والشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤١٦ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٨٧.

(٢) المبسوط ٨ : ٢٣١.

(٣) نقله عنه في المختلف : ٧٢٩.

(٤) المحقق في الشرائع ٤ : ١٣٩ ، العلاّمة في القواعد ٢ : ٢٤١.

(٥) انظر الإيضاح ٤ : ٤٤٦.

(٦) الشرائع ٤ : ١٣٩.

٤١١

لكن الأوّل بعيد ، بل لم يقل به أحد ، فيتعين الثاني (١).

والتحقيق أن يقال : إنّ هذه المراتب خالية عن النص كما ذكره الحلّي (٢) متردّداً فيها بعد أن نقلها عن المبسوط ، فينبغي الرجوع إلى مقتضى الأُصول ، وهو ما قدّمناه من اعتبار على الفرع بشهادة الأصل من دون فرق بين الصور المتقدمة ، حتى لو فرض عدمه في صورة الاسترعاء وإن بعد باحتمال إرادة الأصل منه المزاح ونحوه لم يجز أداء الشهادة على شهادته ، ولو فرض حصوله في الصورة الرابعة التي هي عندهم أدونها جاز ، بل وجب.

وبالجملة : لا بدّ من العلم بشهادة الأصل ، فحيثما حصل تبع ، وحيث لا فلا.

وإلى هذا يشير كلام الفاضل المقداد في الشرح ، حيث قال بعد أن نقل من الماتن التردّد في المرتبة الثالثة ـ : والأجود أنّه إن حَصَلت قرينة دالة على الجزم وعدم التسامح قبلت ، وإن حصلت قرينة على خلافه كمزاح أو خصومة لم تقبل (٣).

وأظهر منه كلام المقدّس الأردبيلي رحمه‌الله ، فإنّه قال بعد ذكر التردّد ووجهه ـ : والأقوى أنّه إن تيقن عدم التسامح صار متحمّلاً ، وإلاّ فلا (٤).

وبالجملة : ينبغي العمل بعموم الأدلة ، ففي كل موضع يحصل اليقين بشهادة الأصل مجزوماً يقيناً بأنّ الأصل شهد بكذا وليس فيما قاله مسامحة‌

__________________

(١) قاله الفيض الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٩٤.

(٢) السرائر ٢ : ١٣٠.

(٣) التنقيح الرائع ٤ : ٣٢٠.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٤٧٨.

٤١٢

ومماشاة للفرع أن يشهد بشهادته وتقبل ، وإلاّ فلا خصوصية بعبارة دون أُخرى ، إلاّ أنّ بعض العبارات أولى وأصرح من البعض.

ثم إنّه ينبغي أن يأتي الفرع وقت الشهادة بمثل ما أُشهد ، فإن كان في المرتبة الأُولى يقول : أشهدني على شهادته فلان بن فلان ، إلى آخره. وفي الثانية يقول : أشهد أنّ فلاناً شهد عند الحاكم بكذا. وفي الثالثة يقول : أشهد أنّ فلاناً شهد على فلان بكذا بسبب كذا.

( ولا تقبل شهادة الفرع إلاّ مع تعذّر حضور شاهد الأصل ) مجلس الحكم ( لمرض أو غيبة أو موت ) أو نحو ذلك مما يمنعه من حضور المجلس وإن كان حاضراً ، أو يوجب مشقّةً لا تتحمّل غالباً ، على المشهور بين الأصحاب على الظاهر ، المصرَّح به في كلام جماعة (١) حدّ الاستفاضة ، بل لا يكاد يتحقق فيه خلاف حتى من الخلاف (٢) وإن حكي فيه عن بعض الأصحاب ، وقيل : مال إليه (٣) لدعواه الإجماع على الاشتراط ، وعدم وضوح ميله إلى ما نقله عن البعض ، إلاّ من حيث ذكره دليله ساكتاً عليه ، ولعلّ وجهه اكتفاؤه في ردّه بما قدّمه من الإجماع.

ولعلّ البعض الذي نقل الخلاف عنه هو والد الصدوق ، فإنّه المخالف في المسألة ، كما يستفاد من جماعة ومنهم الشهيد في النكت والمقدّس الأردبيلي رحمه‌الله وصاحب الكفاية (٤) ، ولكن أنكره الفاضل في المختلف (٥)

__________________

(١) منهم الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤١٧ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٨٧ ، والمحقق الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٩٣.

(٢) الخلاف ٦ : ٣١٤.

(٣) قاله الشهيد في الدروس ٢ : ١٤١.

(٤) غاية المراد ( مخطوط ) النسخة الرضوية ، الورقة : ٢٧٨ ، مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٤٨١ ، الكفاية : ٢٨٧.

(٥) المختلف : ٧٢٤.

٤١٣

بعد أن حكى النسبة المزبورة إليه عن الحلّي ، ويحتمل أن يكون هو الإسكافي كما يظهر من مذهبه الآتي ، وبه صرّح في الدروس (١).

وكيف كان ، لا ريب في ندرته ومخالفته الإجماع الظاهر والمحكي ، المعتضد زيادةً على الأصل بمفهوم خصوص ما مرّ من بعض النصوص : عن شهادة على شهادة الرجل وهو بالحضرة في البلد ، قال : « نعم ، ولو كان خلف سارية إذا كان لا يمكنه أن يقيمها هو لعلّة تمنعه أن يحضر ويقيمها » (٢).

( ولو شهد الفرع ) على شهادة الأصل ( فأنكر شاهد الأصل ) ما شهد به ( فالمروي : العمل بأعدلهما ، فإن تساويا اطرح الفرع ).

ففي الصحيح المروي في الفقيه : في رجل شهد على شهادة رجل ، فجاء الرجل فقال : لم أشهده ، فقال : « تجوز شهادة أعدلهما ، وإن كانت عدالتهما واحدة لم تجز الشهادة » (٣).

ونحوه غيره في الكافي والتهذيب (٤).

وبه أفتى الشيخ في النهاية والقاضي والصدوقان وابن حمزة (٥) لكن فيما إذا أنكر بعد الحكم ، وأمّا قبله فيطرح الفرع ، وقريب منه الفاضل في المختلف (٦).

__________________

(١) الدروس ٢ : ١٤١.

(٢) في ص ٤٠٢.

(٣) الفقيه ٣ : ٤١ / ١٣٧ ، الوسائل ٢٧ : ٤٠٥ كتاب الشهادات ب ٤٦ ح ١.

(٤) الكافي ٧ : ٣٩٩ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٥٦ / ٦٦٩ ، الوسائل ٢٧ : ٤٠٥ كتاب الشهادات ب ٤٦ ح ٢.

(٥) النهاية : ٣٢٩ ، القاضي في المهذب ٢ : ٥٦١ ، الصدوق في المقنع : ١٣٣ ، وحكاه عن والده في المختلف : ٧٢٣ ، الوسيلة : ٢٣٤.

(٦) المختلف : ٧٢٣.

٤١٤

وحجتهما على هذا التفصيل غير واضحة ، عدا الجمع بين ما مرّ من الأدلة على اشتراط تعذر حضور الأصل في سماع شهادة الفرع ، وهذه الرواية بحملها على بعد الحكم ، والسابقة على العكس.

ولا شاهد عليه مع إطلاق أدلة الطرفين ، مع أنّ ظاهر جماعة من الأصحاب ومنهم الفاضل أيضاً في جملة من كتبه (١) تقييد الرواية وكلام القائلين بها بعكس ما ذكراه ، معربين عن عدم الخلاف في عدم الالتفات إلى الإنكار بعد الحكم ، معلّلين بنفوذه فيستصحب.

ونسبه المقدّس الأردبيلي رحمه‌الله إلى أصحاب (٢) ، مؤذناً بدعوى الإجماع عليه.

فلا إشكال فيه ، ولا في فساد ما عليه الإسكافي (٣) من عدم الالتفات إليه مطلقاً ولو قبل الحكم مع أعدلية أحدهما أو تساويهما فيها ؛ لاتفاق الرواية وما مرّ من الأدلة على ردّه ، لمنافاة ما ذكره لمضمون كل منهما.

وإنّما الإشكال في العمل بهذه الرواية وترجيحها على تلك الأدلة في المسألة ، إمّا بتقييدها بهذه الرواية ، أو حملها ككلام الأصحاب العاملين بها من دون إشكال ولا خلاف معتدّ به كما عرفت على ما ذكره الشهيد في النكت (٤) من أنّ المراد اشتراط تعذّر الأصل في صحة أداء شهادة الفرع ، لا في سماعها منه ، فإذا أدّاها والأصل غائب حصل الشرط ، ولا ينافي سماعها منه بعد حضوره مع أعدليته كما عليه الجماعة ودلّت عليه الرواية.

__________________

(١) انظر المختلف : ٧٢٣ ، والقواعد ٢ : ٢٤٢ ، والتحرير ٢ : ٢١٦.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٤٨٦.

(٣) حكاه عنه في المختلف : ٧٢٣.

(٤) غاية المراد ( مخطوط ) النسخة الرضوية ، الورقة : ٢٧٩.

٤١٥

أو أنّه إذا كان الأصل والفرع متفقين ، فإنّه حينئذ لا يحتاج إلى شهادة الفرع ، للاستغناء بالأصل وزيادة الكلفة بالبحث عن الجرح والتعديل ، أمّا مع التناكر فيمتنع تناول العبارة.

قال : وبالجملة : فهم لم يصرِّحوا بأنّ ذلك مناف لشهادة الفرع ، بل ظاهر كلامهم أنّ سماع شهادة الفرع مشروط بتعذّر شاهد الأصل إذا كان يشهد والمنكر لا يشهد.

أو ترجيح تلك الأدلة على هذه الرواية وإن كانت صحيحة ؛ لأنّ ظاهرها متروك من حيث اشتمالها على شهادة الرجل الواحد ( على الواحد ) (١) وهو مخالف للإجماع فتوًى ونصّاً كما مضى.

وهذا مذهب الشيخ في المبسوط والحلّي وابن زهرة والفاضلين (٢) ، وغيرهم (٣).

وبالجملة : أكثر المتأخرين ، بل المشهور مطلقاً كما في المسالك وغيره (٤) ، وزاد الأوّل فنسبه كالشهيد في النكت إلى عامّة المتأخرين ، معربين عن دعوى إجماعهم عليه.

ولعلّه أقرب ؛ للشهرة المرجّحة للأدلة المتقدمة على هذه الرواية ، سيّما مع ما هي عليه من الكثرة والاعتضاد من أصلها بالشهرة بل الإجماع كما عرفته ، وحيث تعيّن ترجيحها على الرواية ظهر صحة ما أورده الماتن‌

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في « س ».

(٢) المبسوط ٨ : ٢٣٣ ، الحلّي في السرائر ٢ : ١٢٧ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥ ، المحقق في الشرائع ٤ : ١٣٩ ، العلاّمة في القواعد ٢ : ٢٤٢.

(٣) منهم الشهيد في الدروس ٢ : ١٤١ ، والمحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة ١٢ : ٤٨٦.

(٤) المسالك ٢ : ٤١٧ ؛ وانظر مجمع الفائدة ١٢ : ٤٨٣.

٤١٦

على العمل بها بقوله :

( وفيه إشكال ؛ لأنّ قبول الفرع مشروط بعدم شاهد الأصل ) كما عرفته من الأدلة الراجحة ، فينبغي طرح هذه الرواية ، أو تخصيصها بما إذا قال الأصل : لا أعلم ، دون أن يردّه بصريح الإنكار ، كما ذكره الفاضلان في الشرائع والتحرير والقواعد وفخر الإسلام في الشرح (١) ، ولكن لا شاهد لهم على هذا التخصيص ، عدا وجه جمع خال عن الدليل ، مع إمكانه بغيره.

ومع ذلك فاعترضه عميد الرؤساء بأنّه لا يمكن حينئذ العمل بقول الأعدل إذا كان هو الأصل ؛ لأنّه غير شاهد (٢). وزاد الشهيد رحمه‌الله بأنّه غير منطوق الرواية (٣) ؛ لتضمّنها قوله : « لم أشهده » وفيه نظر.

والصيمري في شرح الشرائع ، حيث قال بعد نقل ما مرّ من التخصيص عن الفخر ـ : وفيه نظر ؛ لأنّ المشهور بين الأصحاب عدم قبول شهادة الفرع مع حضور شاهد الأصل وهو أعم من أن يقيم الأصل الشهادة ، أو يترك الإقامة ؛ لعدم علمه بها ، أو لغير ذلك (٤).

( و ) اعلم أنّه ( لا تقبل شهادة على شهادة على شهادة ) ومحصّله أنّ الشهادة الثالثة فصاعداً غير مسموعة ( في شي‌ء ) حتى في حقوق الناس وأموالهم ، بلا خلاف أجده ، بل عليه الإجماع في ظاهر التحرير والمسالك (٥) ، وصريح الغنية ، والمحكي عن الماتن والمقدس الأردبيلي‌

__________________

(١) الشرائع ٤ : ١٣٩ ، التحرير ٢ : ٢١٦ ، القواعد ٢ : ٢٤٢ ، الإيضاح ٤ : ٤٥٠.

(٢) كنز الفوائد ٣ : ٥٦٣.

(٣) غاية المراد ( مخطوط ) النسخة الرضويّة ، الورقة : ٢٧٩.

(٤) غاية المرام ٤ : ٣٠١.

(٥) التحرير ٢ : ٢١١ ، المسالك ٢ : ٤١٥.

٤١٧

وغيرهم (١) ، وهو الحجة.

مضافاً إلى الأصل ، واختصاص ما دلّ على قبول الشهادة على الشهادة بالثانية دون ما زاد ، وخصوص الخبر المنجبر بالعمل : « ولا تجوز شهادة على شهادة على شهادة » (٢).

( الرابع : في اللواحق ، وفيه مسائل ) ست :

( الأُولى : إذا رجع الشاهدان ) أو أحدهما ( قبل القضاء ) بشهادتهما ( لم يحكم ) بلا خلاف على الظاهر ، المصرَّح به في المبسوط (٣) وكثير من العبائر (٤) ، وهو الحجة.

مضافاً إلى المرسل الآتي ، والأصل ، مع اختصاص ما دلّ على وجوب الحكم بالبينة من الفتوى والرواية بحكم التبادر بصورة عدم الرجوع بلا شبهة ، مع أنه لا يدرى أنهم صدقوا أوّلاً أو آخراً ، فلا يبقى ظن الصدق بهما ، ولم يحصل حكم يكون نقضه ممتنعاً.

( ولو رجعا بعد القضاء لم ينقض الحكم وضمن الشهود ) ما غرمه المشهود عليه ، بلا خلاف مع استيفائه وتلفه على الظاهر ، المصرَّح به في كثير من العبائر (٥) ، بل عليه الإجماع في السرائر والقواعد (٦) ، وهو الحجة.

__________________

(١) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥ ، مجمع الفائدة ١٢ : ٤٧٥ ، وانظر غاية المراد ( مخطوط ) النسخة الرضوية ، الورقة : ٢٧٧ ، والمفاتيح ٣ : ٢٩٢.

(٢) الفقيه ٣ : ٤٢ / ١٤٢ ، الوسائل ٢٧ : ٤٠٤ كتاب الشهادات ب ٤٤ ح ٦.

(٣) المبسوط ٨ : ٢٤٦.

(٤) الكفاية : ٢٨٨ ، والمفاتيح ٣ : ٢٩٦.

(٥) كما في مجمع الفائدة ١٢ : ٥٠٣ ، والكفاية : ٢٨٨.

(٦) السرائر ٢ : ١٤٨ ، القواعد ٢ : ٢٤٥.

٤١٨

مضافاً إلى مرسلة جميل كالصحيحة به وبابن أبي عمير الراوي عنه ، فإنّهما ممن أجمع على تصحيح ما يصح عنه العصابة : في الشهود إذا شهدوا على رجل ، ثم رجعوا عن شهادتهم وقد قضي على الرجل : « ضمنوا ما شهدوا به وغرموه ، وإن لم يكن قضي طرحت شهادتهم ولم [ يغرم ] الشهود شيئاً » (١).

وفي النبوي الخاصي : « من شهد عندنا بشهادة ثم غيّرها أخذنا بالأُولى وطرحنا الأُخرى » (٢).

وكذا مع بقائه مطلقاً ، استوفي أم لا ، على الأشهر الأقوى ، بل عليه عامة متأخري أصحابنا ، بل وقدمائهم أيضا كما يفهم من المبسوط ، لكن في صورة الاستيفاء خاصّة فإنّه قال : وإن رجعوا بعد الحكم وبعد الاستيفاء لم ينقض حكمه ، بلا خلاف إلاّ من سعيد بن المسيب والأوزاعي ، فإنّهما قالا ينقض (٣).

وعبارته كما ترى عامّة لصورتي بقاء العين وتلفها ، وفي السرائر الإجماع عليه أيضاً (٤) ، وهو الحجة.

مضافاً إلى إطلاق المرسل وما بعده المؤيد بعد الشهرة وحكاية الإجماع ونفي الخلاف المتقدمة بما ذكره الجماعة من الأدلة : من نفوذ‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨٣ / ١ ، الفقيه ٣ : ٣٧ / ١٢٤ ، التهذيب ٦ : ٢٥٩ / ٦٨٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣٢٦ كتاب الشهادات ب ١٠ ح ١ ، وبدل ما بين المعقوفين في النسخ : يغرموا ، والصحيح ما أثبتناه من المصادر.

(٢) الفقيه ٣ : ٢٧ / ٧٤ ، التهذيب ٦ : ٢٨٢ / ٧٧٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣٢٨ كتاب الشهادات ب ١١ ح ٤.

(٣) المبسوط ٨ : ٢٤٦.

(٤) السرائر ٢ : ١٤٦ ١٤٨.

٤١٩

الحكم بالاجتهاد فلا ينقض بالاحتمال ؛ وأنّ الشهادة إقرار والرجوع إنكار ، والإنكار بعد الإقرار غير مسموع ، وأنّ الشهادة أثبت الحق فلا يزول بالطارئ كالفسق والموت.

( و ) منه يظهر ضعف ما اختاره الشيخ ( في النهاية ) والقاضي وابن حمزة (١) من أنّه ( إن كانت العين ) المحكوم بها للمشهود له ( قائمة ) عنده ( ارتجعت ) منه ( ولم يغرما ) شيئاً ( وإن كانت تالفة ضمن الشهود ) مثلها أو قيمتها للمشهود عليه.

ومع ذلك حجتهم عليه غير واضحة ، عدا ما استدل لهم جماعة من أنّ الحقّ ثبت بشهادتهما ، فإذا رجعا سقط كما لو كان قصاصاً (٢).

وهو كما ترى ، لما فيه من إعادة المدّعى ، والقياس المتضمن فارقاً ؛ فإنّ القصاص يسقط بالشبهة ، بخلاف الحق المالي ، مع أنّه جارٍ فيما إذا استوفي العين وتلفت ، ولم يقولوا فيه بما هنا ، بل التزموا بالحكم ثمّة ، فتأمّل جدّاً.

وأمّا ما في الكفاية (٣) من الاستدلال لهم بالصحيح : في شاهد الزور ، قال : « إن كان الشي‌ء قائماً بعينه ردّ إلى صاحبه ، وإن لم يكن قائماً ضمن بقدر ما تلف من مال الرجل » (٤) فضعيف في الغاية ، بل هو غفلة واضحة ؛ لوضوح الفرق بين شهادة الزور والرجوع عن الشهادة ؛ لأعميته عن الأوّل‌

__________________

(١) النهاية : ٣٣٦ ، القاضي في المهذب ٢ : ٥٦٤ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٢٣٤.

(٢) منهم الفاضل المقداد في التنقيح ٤ : ٣٢٢ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٨٨ ، والفيض الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٩٧.

(٣) الكفاية : ٢٨٨.

(٤) الكافي ٧ : ٣٨٤ / ٣ ، الفقيه ٣ : ٣٥ / ١١٦ ، التهذيب ٦ : ٢٥٩ / ٦٨٦ ، الوسائل ٢٧ : ٣٢٧ كتاب الشهادات ب ١١ ح ٢.

٤٢٠