رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-277-6
الصفحات: ٥٤٦

كافرين ، ومثل شهادة الصبيان على القتل إذا لم يوجد غيرهم » (١) فتدبّر.

وفي ثبوت النصف بالرجل لمساواته الاثنتين في المعنى ، أو الربع للفحوى ، أو سقوط شهادته أصلاً لفقد النص صريحاً ، أوجه ، خيرها أوسطها وفاقاً لجماعة كالفاضل في القواعد وشيخنا في الروضة والمسالك (٢) لضعف الأوّل بأنّه قياس ، والأخير بعدم اشتراط النص الصريح.

( ولا تردّ شهادة أرباب الصنائع المكروهة كالصياغة ) وبيع الرقيق ( ولا ) شهادة ذوي ( الصنائع الدنيئة ) بحسب العادة ( كالحياكة والحجامة ولو بلغت الدناءة ) الغاية ( كالزبّال والوقّاد ).

( ولا ) شهادة ( ذوي العاهات ) والأمراض الخبيثة ( كالأجذم والأبرص ) بعد استجماع جميع شرائط قبول الشهادة التي منها العدالة ، وعدم ارتكاب ما ينافي المروءة ، بلا خلاف بيننا أجده ، وبه صرّح في الكفاية (٣) ، بل في ظاهر السرائر والمسالك (٤) إجماعنا عليه ، وهو الحجة.

مضافاً إلى عمومات أدلة قبول الشهادة من الكتاب والسنّة ، مع سلامتها عن المعارض بالكلية ، عدا ما توهّمه بعض العامة من أنّ اشتغالهم بهذه الحِرَف ورضاهم بها يشعر بالخسّة وقلّة المروءة (٥).

وهو ضعيف غايته ، سيّما على القول بعدم اعتبار المروءة في قبول الشهادة ، وأمّا على اعتبارها فكذلك أيضاً إذا لم تكن في ارتكاب هذه‌

__________________

(١) علل الشرائع : ٥٠٨ / ١ ، عيون الأخبار ٢ : ٩٤ ، الوسائل ٢٧ : ٣٦٥ كتاب الشهادات ب ٢٤ ح ٥٠.

(٢) القواعد ٢ : ٢٣٩ ، الروضة ٣ : ١٤٦ ، المسالك ٢ : ٤١٤.

(٣) الكفاية : ٢٨١.

(٤) السرائر ٢ : ١١٨ ، المسالك ٢ : ٤٠٤.

(٥) المغني لابن قدامة ١٢ : ٣٥ ، والشرح الكبير ١٢ : ٤٨.

٣٦١

الصنائع منافاة للمروءة من غير جهة نفس الصنعة من حيث هي ، كأن يكون من أهل تلك الصنعة ، أو لم يُلَم مثله وأمثاله بارتكابها في العادة ، وأمّا مع الملامة له فيها ، بأن كان من أهل بيت الشرف الذي لا يناسب حاله تلك الصنعة ، فارتكبها بحيث يلام ، فيأتي عدم قبول شهادته حينئذ على القول باعتبار المروءة ، وعدم القبول من هذه الجهة غير عدم القبول من حيث ارتكاب الصنعة من حيث إنّها صنعة ، كما قاله بعض العامّة ، من حيث توهّمه تضمّنها من حيث هي هي خلاف المروءة.

وبالجملة : الحيثيات في جميع الأُمور معتبرة ، وعلى ما ذكرنا ينزّل إطلاق نحو العبارة ممن اعتبر المروءة في قبول الشهادة.

( الثاني : في ) بيان ( ما به يصير شاهداً ).

( وضابطه العلم ) واليقين العادي ، بلا خلاف إلاّ فيما استثني ؛ لقوله سبحانه ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (١) وقال عزّ من قائل ( إِلاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٢).

وفي النبوي وقد سئل عن الشهادة ـ : « هل ترى الشمس؟ » فقال : نعم ، فقال : « على مثلها فاشهد أو دع » (٣).

وفي الخبر : « لا تشهدنّ بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفّك » (٤).

وفي آخر : « لا تشهد بشهادة لا تذكرها ، فإنّه من شاء كتب كتاباً‌

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

(٢) الزخرف : ٨٦.

(٣) الشرائع ٤ : ١٣٢ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤٢ كتاب الشهادات ب ٢٠ ح ٣.

(٤) الكافي ٧ : ٣٨٣ / ٣ ، الفقيه ٣ : ٤٢ / ١٤٣ ، التهذيب ٦ : ٢٥٩ / ٦٨٢ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤١ كتاب الشهادات ب ٢٠ ح ١.

٣٦٢

ونقش خاتما » (١).

( ومستنده المشاهدة أو السماع ) أو هما معاً ؛ لأنّ الحواس مبادئ اقتناص العلوم ، فمن فقد حسّا فقد فقد علماً ، ويراد بالمشاهدة هنا ما يشمل الإبصار واللمس والذوق والشمّ ، فإنّه قد يقع الشهادة ويحتاج إليها فيما يفتقر فيه إلى شمّه أو ذوقه أو لمسه ، فيشترط وجود الحاسّة المدركة لذلك الشاهد ، وإلاّ لم تصح شهادته ، فلو شهد الأخشم أنّه غصبه ماء ورد مثلاً لم يصح.

( فالمشاهدة ) يفتقر إليها ( للأفعال ) ونحوها مما لا يدركه آلة السمع ( كالغصب والقتل ) والإتلاف ( والسرقة والرضاع والولادة والزنا واللواط ) ونحو ذلك ، فلا يكفي فيها البناء على السماع ، بلا خلاف ظاهر ولا إشكال إذا لم يفد العلم واليقين الذي هو الأصل والبناء في الشهادة ، ويشكل فيما لو أفاده ؛ لعدم دليل على المنع حينئذ مع عموم أدلة قبول شهادة العالم.

وإلى هذا الإشكال أشار المولى الأردبيلي رحمه‌الله فقال بعد أن نقل عنهم الحكم بعدم كفاية السماع فيما مرّ من الأمثلة ـ : وفيه تأمّل ؛ إذ يجوز أن يعلم هذه الأُمور بالسماع من الجماعة الكثيرة بقرائن أو غيرها بحيث يتيقن ولم يبق عنده شبهة أصلاً ، كسائر المتواترات والمحفوفات بالقرائن ، فلا مانع من الشهادة حينئذ ؛ لحصول العلم (٢).

ونحوه صاحب الكفاية (٣).

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨٣ / ٤ ، التهذيب ٦ : ٢٥٩ / ٦٨٣ ، الإستبصار ٣ : ٢٢ / ٦٦ ، الوسائل ٢٧ : ٣٢٣ كتاب الشهادات ب ٨ ح ٤.

(٢) مجمع الفائدة ١٢ : ٤٤٤.

(٣) الكفاية : ٢٨٣.

٣٦٣

وهو في محلّه ، إلاّ أنّ ظاهر كلمة الأصحاب الإطباق على الحكم المزبور ، فإن تمّ حجة ، وإلاّ فالرجوع إلى العموم أولى.

إلاّ أن يمنع بتخيل أنّ ما دلّ عليه متضمن للفظ الشهادة ، وهي لغةً : الحضور ، وهو بالنسبة إلى العالم الغير المستند علمه إلى الحسّ من نحو البصر وغيره مفقود ؛ إذا يقال له عرفاً ولغةً : إنّه غير حاضر للمشهود.

واشتراط العلم المطلق فيما مرّ من الفتوى والنص غير مستلزم لكفاية مطلقه بعد احتمال أن يكون المقصود من اشتراطه التنبيه على عدم كفاية الحضور الذي لم يفد غير الظن ، وأنّه لا بُدّ من إفادته العلم القطعي ، ومحصّله أنّه لا بُدّ مع الحضور من العلم ، لا أنّ مطلقه يكفي ، هذا.

وربما كان في النبوي ونحوه (١) إشعار باعتبار الرؤية ونحوها مما يستند إلى الحسّ الظاهري ، مع أنّ القطع المستند إلى الحسّ الباطني ربما يختلف شدّةً وضعفاً ، ولذا يتخلف كثيراً ؛ فلعلّ الشاهد المستند علمه إليه يظهر عليه خلاف ما شهد به ، فكيف يطمئن بشهادته؟! وهذا الخيال وإن اقتضى عدم الاكتفاء بالعلم المستند إلى التسامع والاستفاضة فيما سيأتي ، إلاّ أنّ الإجماع كافٍ في الاكتفاء به فيه ، مضافاً إلى قضاء الضرورة ومسيس الحاجة إليه اللذين استدلوا بهما للاكتفاء به فيه ، وهذا أوضح شاهد على أنّ الأصل في الشهادة عندهم القطع المستند إلى الحسّ الظاهري اعتباراً منهم فيها للمعنى اللغوي مهما أمكنهم.

وهذا الوجه من الخيال وإن كان ربما لا يخلو عن نظر ، إلاّ أنّ غاية الإشكال الناشئ من الفتاوى والعمومات الرجوع إلى حكم الأصل‌

__________________

(١) المتقدمين في ص ٣٦١.

٣٦٤

ومقتضاه ، ولا ريب أنّه عدم القبول ، فإذاً الأجود ما قالوه لكن مع تأمّل.

( أمّا السماع ) والمراد به هنا التسامع والاستفاضة ، لا استماع المشهود به من المشهود عليه مثلاً ، فإنّه من قسم المشاهدة وبعض أفرادها ( فيثبت به النسب ) مثل أنّ فلاناً أو فلانة إذا عرفها بعينها ولد فلان أو فلانة ، أو أنّهما من قبيلة كذا ؛ لأنّه أمر لا مدخل فيه للرؤية ، وغاية الممكن رؤية الولادة على فراش الإنسان ، لكن النسب إلى الأجداد المتوفين والقبائل القديمة لا يتحقق في الرؤية ومعرفة الفراش ، فدعت الحاجة إلى اعتماد التسامع والاستفاضة.

ولا خلاف فيه بين الطائفة إلاّ من شيخنا في المسالك وبعض من تبعه (١) في نسب الأُمّ خاصّة ، فقالا فيه وجه أنّه لا تجوز الشهادة عليه بالسماع ، لإمكان رؤية الولادة ، ثم قالا : ولكن الأشهر الجواز كالرجل.

وهو كما ترى ظاهر في تردّدهما ، مع ميلٍ ما إلى ما نسبوه إلى المشهور أخيراً ، ولعلّ مرادهما الشهرة بالمعنى الأعم الشامل لما لا يوجد فيه خلاف ، وإلاّ فهي بالمعنى الأخص غير ممكن الإرادة ؛ لعدم الوقوف على مخالف في المسألة ولا نقله أحد حتى هما حيث جعلا عدم القبول وجهاً ، لا قولاً.

وبالجملة : الظاهر عدم الخلاف هنا قبلهما ، وهو كافٍ في الحكم بما ذكره الأصحاب ، سيّما مع ما عرفت من ميلهما إليه ولو إشعاراً.

( و ) كذا يثبت به الموت و ( الملك ) المطلق ( والوقف ، والزوجية ) والولاء ، والعتق ، والرقّ ، والعدالة ، بلا خلاف أجده ، إلاّ من‌

__________________

(١) المسالك ٢ : ٤١٠ ، وتبعه الفيض الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٨٧.

٣٦٥

الإسكافي ، فخصّ الثبوت به بالنسب ، وأوجب فيما عداه الشهادة على الشهادة ، إلاّ أن يتصل بإقرار أو رؤية أو غيرهما من الطرق (١).

ومن شيخنا في المسالك وبعض من تبعه (٢) في الموت ، فقالا فيه وجه بالمنع ؛ لأنّه يمكن فيه المعاينة ، بخلاف النسب.

وهما شاذّان ، بل على خلافهما الإجماع في ظاهر شرح الشرائع للصيمري ، حيث قال بعد الحكم بثبوت ما مرّ ونحوه بالاستفاضة ـ : هذا هو المحقّق من فتاوي الأصحاب ، واقتصر ابن الجنيد على النسب فقط ، ولم يذكر المصنف غير النسب والموت والملك المطلق والوقف ، والمعتمد ما قلناه (٣). انتهى.

وشيخنا ومن تبعه لم ينقلا فيما خالفا فيه ولا غيره خلافاً ، نعم نسبا الحكم بالقبول فيما خالفا فيه إلى المشهور ، مشعرين بوجود الخلاف فيه ، ولكنه غير معلوم ، ويحتمل إرادتهما المشهور بالمعنى الأعم المجامع لعدم الخلاف كما سبق ، أو الأخص لكن بالإضافة إلى الإسكافي خاصّة ولكن لم يذكراه.

والفاضل المقداد في التنقيح نسب الثبوت في الموت والملك المطلق إلى الأكثر ، قال : واتفقوا عليه ، وفي الوقف والولاء والعتق والنكاح إلى الخلاف والفاضلين (٤).

وعباراته وإن أوهمت الخلاف ، إلاّ أنّ الظاهر كون المخالف هو‌

__________________

(١) حكاه عنه في المختلف : ٧٢٩.

(٢) المسالك ٢ : ٤١٠ ، المفاتيح ٣ : ٢٨٧.

(٣) غاية المرام ٤ : ٢٨٩.

(٤) التنقيح الرائع ٤ : ٣١٠.

٣٦٦

الإسكافي حيث لم ينقله عن غيره.

وبمجموع ما ذكرناه ظهر أنّه لا مخالف هنا صريحاً ( بل ولا ظاهراً ) (١) عداه ، وهو بالإضافة إلى باقي الأصحاب شاذّ ، فلا عبرة بمخالفته ، سيّما مع عدم معلوميتها منه أيضاً ، كما يستفاد من عبارة الصيمري التي قدّمناها ، ومع ذلك قد استدلوا على خلافه بأدلّة لا تخلو جملة منها عن قوّة ، ومنهم الفاضل في التحرير ، فقال بعد الحكم بثبوت النسب بالاستفاضة ـ :

وكذلك الموت ؛ لتعذّر مشاهدة الميت في أكثر الأوقات للشهود ، وكذلك الملك المطلق إذا سمع من الناس أنّ هذه الدار لفلان شهد بذلك ؛ فإنّ الملك المطلق لا يمكن الشهادة عليه بالقطع ، والوقف لو لم تسمع فيه الاستفاضة لبطلت الوقوف على تطاول الأزمنة ؛ لتعذّر بقاء الشهود ، والشهادة الثالثة عندنا لا تسمع ، وهي تراد للتأبيد ، والنكاح يثبت بالاستفاضة ؛ فإنّا نعلم أنّ خديجة زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما نقضي بأنّها أُمّ فاطمة ( سلام الله عليها ) ، والتواتر هنا بعيد ؛ لأنّ شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة والطبقات الوسطى ، والمتصلة بنا وإن بلغت التواتر لكن الاولى غير متواترة ؛ لأنّ شرط التواتر الاستناد إلى الحسّ ، والظاهر أنّ المخبرين أوّلاً لم يخبروا عن المشاهدة ، بل عن السماع (٢). انتهى.

واحترز بالملك المطلق عن المستند إلى السبب كالبيع ، فلا يثبت السبب به ، بل الملك الموجود في ضمنه ، فلو شهد وأسنده إلى سبب يثبت بالاستفاضة كالإرث قُبل ، ولو لم يثبت بها كالبيع قُبل في أصل الملك لا في‌

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في « ب ».

(٢) التحرير ٢ : ٢١١.

٣٦٧

السبب ، وتظهر الفائدة في ترجيحه على مدّعٍ آخر.

واعلم أنّه قد اختلف الأصحاب في الاستفاضة التي هي مستند الشهادة هل يشترط إيراثها العلم القطعي ، أو يكفي الظن مطلقاً ، أو القوي منه المتاخم للعلم خاصّة ، على أقوال ثلاثة.

أقواها عند جماعة : الأوّل ، كالماتن في ظاهر الكتاب والشرائع (١) ، ونحوه من الأصحاب ممن جعل ضابط الشهادة العلم من دون استثناء للاستفاضة المفيدة للمظنة ، وهو صريح الفاضل في جملة من كتبه ، وولده في الإيضاح ، والفاضل المقداد في شرح الكتاب (٢) ، وغيرهم (٣).

وهو الأحوط ، كما في شرح الشرائع للصيمري (٤) ، بل لعلّه الأظهر ؛ اقتصاراً فيما خالف الأصل على المتيقن ، مضافاً إلى ما مرّ في النبوي وغيره (٥) من اعتبار العلم في الشهادة.

والثاني خيرة الشيخ في الخلاف والمبسوط (٦) ، محتجاً عليه بما مرّ في كلام الفاضل في التحرير من إثبات زوجية مولاتنا خديجة بالاستفاضة.

وفيه أوّلاً : أنّه فرع إفادة تلك الاستفاضة المظنة ، بل الظاهر إفادتها القطع واليقين بلا شبهة ؛ ولذا استدل بها كل من اعتبر العلم دون المظنة.

وثانياً : يتوقف ذلك على تسليم ثبوت القضية المزبورة بالاستفاضة ،

__________________

(١) الشرائع ٤ : ١٣٣.

(٢) القواعد ٢ : ٢٣٩ ، والتبصرة : ١٩٠ ، والتحرير ٢ : ٢١١ ، إيضاح الفوائد ٤ : ٤٣٩ ، التنقيح الرائع ٤ : ٣١١.

(٣) انظر الكفاية : ٢٨٤.

(٤) غاية المرام ٤ : ٢٨٩.

(٥) راجع ص : ٦٩٣٧.

(٦) الخلاف ٦ : ٢٦٦ ، المبسوط ٨ : ١٨٢ ، ١٨٣.

٣٦٨

مع أنّه محل كلام عند جماعة ، بل قالوا بثبوتها بالتواتر (١) ، ومنعه بما مرّ في كلام التحرير محل نظر يظهر وجهه بالتدبّر فيما ذكره شيخنا في المسالك ، حيث تنظّر فيه وقال :

لأنّ الطبقة الأُولى السامعين للعقد ، الشاهدين للمتعاقدين ، بالغون حدّ التواتر وزيادة ؛ لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ذلك الوقت من أعلى قريش ، وعمّه أبو طالب المتولّي لتزويجه كان يومئذ رئيس بني هاشم وشيخهم ومن إليه مرجع قريش ، وخديجة ( سلام الله عليها ) كانت أيضاً من أجلاّء بيوتات قريش ، والقصة في تزويجها مشهورة ، وخطبة أبي طالب رحمه‌الله في مسجد الحرام بمجمع من قريش ممن يزيد عن العدد المعتبر في التواتر ، فدعوى معلومية عدم استناد الطبقة الاولى إلى مشاهدة العقد وسماعة ظاهرة المنع ، وإنّما الظاهر كون ذلك معلوماً بالتواتر ؛ لاجتماع شرائطه ، فلا يتم الاستدلال به على هذا المطلوب (٢). انتهى.

وبالجملة : لا ريب في ضعف هذا القول.

وأضعف منه ما بالغ به في المبسوط ، فقال : يكفي أن يسمع من عدلين فصاعداً فيصير بسماعه منهما شاهد أصل ومتحمّلاً للشهادة ؛ لأنّ ثمرة الاستفاضة هو الظن ، وهو حاصل بهما (٣).

ويضعّف أوّلاً : بمنع اعتبار الاستفاضة المثمرة للمظنة ، بل المعتبر منها ما أفاد العلم خاصّة ، كما عرفته.

وثانياً : بعد تسليمه ينبغي الاقتصار عليه ؛ لعدم دليل على العموم ، مع‌

__________________

(١) منهم العلاّمة في المختلف : ٧٢٩ ، وولده في الإيضاح ٤ : ٤٣٨.

(٢) المسالك ٢ : ٤١٢.

(٣) المبسوط ٨ : ١٨١.

٣٦٩

أنّ اعتبار الظن مطلقاً يقتضي الاكتفاء به ولو حصل من واحد ولو كان أُنثى ، ولا يقول الشيخ به قطعاً.

وما يجاب به من أنّه لم يعتبره مطلقاً ، بل يعتبر منه ما ثبت اعتباره شرعاً ، وهو شهادة العدلين ، والظن يقبل الشدّة والضعف ، فلا يلزم من الاكتفاء بفرد قوي منه الاكتفاء بالضعيف.

مدفوع بأنّ الظن المستند إلى جماعة غير عدول ممّا لم يثبت اعتباره شرعاً ، فإنّه عين المتنازع ، فاكتفاؤه به وتعديته الحكم إلى العدلين يدلّ على عدم تقييده بالظن المعتبر شرعاً.

والثالث مختار الفاضل في الإرشاد والشهيدين في الدروس والمسالك واللمعتين (١).

وحجتهم عليه غير واضحة ، عدا ما يستفاد من المسالك من أنّها الأولوية المستفادة من حجية الظن المستفاد من اعتبار شهادة العدلين ، حيث قال بعد التوقف في الاكتفاء بالظن الغالب ـ : إلاّ أن يفرض زيادة الظن على ما يحصل منه بقول الشاهدين ، بحيث يمكن استفادته من مفهوم الموافقة بالنسبة إلى الشاهدين الذي هو حجة منصوصة ، فيمكن إلحاقه به حينئذ (٢). انتهى.

وفيه نظر لا يخفى ؛ فإنّ الأولوية إنّما تنهض حجة لو كان المناط والعلّة في حجية شهادة العدلين إنّما هو إفادتها المظنة ، وليس كذلك ، بل هي من جملة الأسباب الشرعية ، كاليد والأنساب ونحو ذلك ، حتى أنّها لو‌

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ١٦٠ ، الدروس ٢ : ١٣٤ ، المسالك ٢ : ٤١٠ ، اللمعة والروضة البهية ٣ : ١٣٥.

(٢) المسالك ٢ : ٤١٠.

٣٧٠

لم تفد مظنة بالكلية لكانت حجة أيضاً بلا شبهة.

مع أنّه لو كان ذلك المناط في حجيتها وجب أن يدار مدار الظن الأقوى حيث حصل كان متّبعاً ، حتى لو فرض حصوله من شهادة الفاسقين أو الفاسق الواحد أو نحوهما كشهادة الصبي أو القرائن دون شهادة العدلين كان حجة ، دون شهادتهما ، وهو باطل اتفاقاً فتوًى ونصّاً.

فظهر أنّ العلّة في حجية شهادتهما إنّما هو من حيث نص الشارع على اعتبارهما بالخصوص وجعلهما سبباً ، وهذه العلّة مفقودة في المقيس الذي هو محل البحث ؛ لعدم نص من الشارع فيه بالخصوص كما هو المفروض ، وإلاّ لما وقع النزاع فيه ، وحينئذ فلا أولوية ؛ إذ يشترط في ثبوتها وجود العلّة الجامعة بلا شبهة ، وهي كما عرفت مفقودة.

هذا ، مع أنّ الظن الأقوى على تقدير ثبوت اعتباره بالأولوية شرعاً أعم من أن يكون للعلم متاخماً أم لا ، فقد يكون بعيداً منه وإن كان من ظن شهادة العدلين أقوى ، وهو لم يعتبر إلاّ الأوّل منه خاصّة ، ودليله هذا لا يساعده ؛ لكونه أعم منه كما ترى.

ولو سلّم جميع ذلك ففيه اطراح لما دلّ على اعتبار العلم الضروري من النص والفتوى صريحاً بحيث لا يكاد يقبل التخصيص بما ذكره من الأولوية ، فتأمّل جدّاً.

وبالجملة : فهذا القول ضعيف في الغاية كسابقه ، مع ندرة القائل بهما. ومنه يظهر ما في المسالك من نسبة تجويز الشهادة بمجرد الظن إلى الأكثر (١) في شرح قول المصنف : والوقف والنكاح يثبت بالاستفاضة.

__________________

(١) المسالك ٢ : ٤١١.

٣٧١

فتأمّل.

وأمّا ما يفتقر إلى السماع والمشاهدة معاً فهو الأقوال من النكاح والطلاق والبيع وسائر العقود والفسوخ والإقرار بها ، فإنّه لا بُدّ من سماعها ومن مشاهدة قائلها ، فلا تقبل فيها شهادة الأصمّ الذي لا يسمع شيئاً إذا لم يكن سمعها قبل الصمم ، أو لم يثبتها حين الأداء ، وكذا الأعمى ، وقد مضى الكلام فيهما.

وفي جواز شهادة الأخير ، اعتماداً على ما يعرفه من الصوت وجهان ، من أنّ الأصوات متشابهة ويتطرّق إليها التخيل (١) والتلبيس ، ومن أنّ الغرض علمه القطعي بالقائل ومعرفته إيّاه ، ووقوع ذلك أكثري ، وقد وقع الإجماع على أنّ له وطء حليلته اعتماداً على ما يعرفه من صوتها ، وهذا هو المشهور بين أصحابنا ، بل عليه في ظاهر الغنية والانتصار (٢) إجماعنا ، فهو الأقوى ، وربما أشعر به النصوص التي مضت في بحث قبول شهادتهما فيما لا يفتقر إلى الرؤية والسماع.

( ويصير الشاهد متحمّلاً ) للشهادة ( بالمشاهدة لما تكفي ) هي ( فيه ، و ) بـ ( السماع لما تكفل به السماع ) (٣) مطلقاً ( وإن لم يستدعه المشهود عليه ) أي على تحمّل الشهادة.

( وكذا لو قيل له : لا تشهد ) ولا تتحمّل الشهادة ( فسمع من القائل ما يوجب حكماً ) عليه ، أو له ، صار متحمّلاً للشهادة ، بلا خلاف أجده إلاّ من الإسكافي (٤) في الثاني وما يأتي.

__________________

(١) في « ح » : التخييل.

(٢) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥ ، الانتصار : ٢٤٩.

(٣) في المطبوع من المختصر (٢٨٩) : لما يكفي فيه السماع.

(٤) حكاه عنه في المختلف : ٧٢٥.

٣٧٢

وهو شاذّ لا يعبأ به ؛ لأنّ المعتبر في قبول شهادة الشاهد مع استجماعه للصفات المعتبرة فيه علمه بما يشهد به ، سواء كان سبب العلم استدعاء المشهود له وعليه ، أم اتفاق علمه بالواقعة ؛ لاشتراك الجميع في المقتضي ، وهو العلم ، فعليه أوله أن يشهد بما علم ؛ لعموم الأدلة فتوًى ونصّاً كتاباً وسنّةً.

مضافاً إلى خصوص المعتبرة الآتية سنداً للشيخ وجماعة في حكمهم بعدم وجوب أداء الشهادة مع عدم استدعاء المشهود له للتحمّل وتخيّره في أدائها ، منها الصحيح : « إذا سمع الرجل الشهادة ولم يُشهد عليها فهو بالخيار إن شاء شهد وإن شاء سكت » (١).

وسأله أيضاً عن الرجل يحضر حساب الرجلين فيطلبان منه الشهادة على ما سمع منهما ، قال : « ذاك إليه إن شاء شهد وإن شاء لم يشهد ، وإن شهد شهد بحق قد سمعه ، وإن لم يشهد فلا شي‌ء عليه ؛ لأنّهما لم يُشهداه » (٢).

ولو لا تحقق التحمّل بمجرد السماع مع عدم الاستدعاء لم يجز له الشهادة مع أنّه قد صرّح به بالجواز في هذه المعتبرة ، فلا ريب فيه ولا شبهة.

( وكذا لو خبئ ) الشاهد بالخاء المعجمة ، ثم الباء المنقطة من تحت نقطة واحدة بمعنى : حبس في زاوية مستخفياً لتحمّل الشهادة‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨٢ / ٥ ، التهذيب ٦ : ٢٥٨ / ٦٧٨ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٧ كتاب الشهادات ب ٥ ح ١.

(٢) الكافي ٧ : ٣٨٢ / ٦ ، التهذيب ٦ : ٢٥٨ / ٦٧٧ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٨ كتاب الشهادات ب ٥ ح ٥.

٣٧٣

( فنطق المشهود عليه ) صار متحمّلاً وقبل شهادته ، بلا خلاف ظاهر ، إلاّ ممن مرّ ، مصرّح به في كلام الشهيد بقول مطلق كما حكي (١) ، بل عليه الإجماع في ظاهر السرائر (٢) ، وهو الحجة.

مضافاً إلى جميع ما مرّ من الأدلة السليمة عما يصلح للمعارضة حتى من جهة الأخبار المانعة عن قبول الشهادة مع التهمة ، بناءً على عدم انحصار وجه الاختفاء للتحمّل فيها ، بل يحتمل وجوهاً أُخر صحيحة عنها خالية ؛ إذ الحاجة قد تدعو إليه ، بأن يقرّ من عليه الحق إذا خلا به المستحق ، ويجحد إذا حضر غيره.

قيل : ولأنّ الحرص على التحمّل ، لا على الأداء (٣). وفيه نظر ؛ لأنّه يدل على الحرص في الأداء ويؤول إليه ، بل قد يدّعى أنّه عين الحرص على ذلك على الوجه البليغ ، كذا قيل (٤). وفيه نظر.

( وإذا دعي الشاهد للإقامة ) إقامة الشهادة بعد تحمّلها ( وجب ) إقامتها بلا خلاف ، بل عليه الإجماع في الظاهر ، المصرّح به في كثير من العبائر كالقواعد والتحرير والدروس والروضة والمسالك (٥) ، وغيرها من كتب الجماعة (٦) ، وهو الحجة.

__________________

(١) غاية المراد ( مخطوط ) النسخة الرضوية الورقة : ٢٦٨ ، وحكاه عنه في مجمع الفائدة ١٢ : ٤٠٢.

(٢) السرائر ٢ : ١٢٠.

(٣) قاله الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤٠٨.

(٤) مجمع الفائدة ١٢ : ٤٠٢.

(٥) القواعد ٢ : ٢٤٠ ، التحرير ٢ : ٢١٣ ، الدروس ٢ : ١٢٣ ، الروضة البهية ٣ : ١٣٨ ، المسالك ٢ : ٤١٥.

(٦) انظر كشف اللثام ٢ : ٣٨٣.

٣٧٤

مضافاً إلى الكتاب والسنّة المستفيضة ، بل المتواترة.

قال تعالى ( كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ) (١) وفي غير واحد من النصوص : « أقم الشهادة ولو على نفسك أو الوالدين والأقربين » (٢).

وقال عزّ شأنه ( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) (٣).

وفي المروي بعدّة طرق في الكافي والفقيه وعقاب الأعمال والأمالي ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كتم شهادة أو شهد بها ليهدر بها دم امرئ مسلم ، أو ليزوي » وفي الفقيه : « ليتوي » « بها مال امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مدّ البصر ، وفي وجهه كُدوح يعرفه الخلائق باسمه ونسبه ، ومن شهد بشهادة حق ليحيي بها مال امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه نور مدّ البصر تعرفه الخلائق باسمه ونسبه » ثم قال أبو جعفر عليه‌السلام : « ألا ترى أنّ الله عزّ وجلّ يقول ( وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ ) » (٤).

وفي حديث المناهي المروي في الفقيه : « أنّه صلّى عليه وآله نهى عن كتمان الشهادة ، وقال : من كتمها أطعمه الله تعالى لحمه على رؤوس‌

__________________

(١) النساء : ١٣٥.

(٢) الكافي ٧ : ٣٨١ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٧٦ / ٧٥٧ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٥ كتاب الشهادات ب ٣ ح ١.

(٣) البقرة : ٢٨٣.

(٤) الكافي ٧ : ٣٨٠ / ١ ، الفقيه ٣ : ٣٥ / ١١٤ ، التهذيب ٦ : ٢٧٦ / ٧٥٦ ، عقاب الأعمال : ٢٢٥ ، أمالي الصدوق : ٣٩٠ / ٤ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٢ كتاب الشهادات ب ٢ ح ٢.

٣٧٥

الخلائق ، وهو قول الله عزّ وجلّ ( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ ) » (١) الآية.

ونحوه مروي عن عقاب الأعمال (٢).

وعن العيون في حديث النص على مولانا الرضا عليه‌السلام أنّه قال : « وإن سئلت عن الشهادة فأدّها ، فإنّ الله تعالى يقول ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) (٣) وقال ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً ) (٤) » (٥). إلى غير ذلك من النصوص.

وإطلاقها كالآيات المشار إليها وإن اقتضى وجوب الإقامة عيناً ، إلاّ أنّ ظاهر الأصحاب الإطباق على وجوبها كفايةً إن زاد الشهود على العدد المعتبر شرعاً ، وإلاّ فمقتضاها ، وادّعوا عليه الإجماعات التي نقلناها ، وهي كافية في تقييد الإطلاقات.

مضافاً إلى المعتبرة المستفيضة الدالة على عدم وجوب الإقامة مع عدم الاستدعاء لتحمّل الشهادة إلاّ مع خوف فوت الحق بعدم شهادة غيره ، منها : زيادةً على ما مرّ الصحيحان : « إذا سمع الرجل الشهادة ولم يُشهد عليها فهو بالخيار إن شاء شهد وإن شاء سكت » (٦) وقال في ثانيهما : « إذا أُشهد لم يكن له إلاّ أن يشهد » (٧).

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٧ / ١ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٣ كتاب الشهادات ب ٢ ح ٤.

(٢) عقاب الأعمال : ٢٨٣ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٤ كتاب الشهادات ب ٢ ح ٦.

(٣) النساء : ٥٨.

(٤) البقرة : ١٤٠.

(٥) عيون الأخبار ١ : ٢١ / ٩ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٣ كتاب الشهادات ب ٢ ح ٥.

(٦) الكافي ٧ : ٣٨٢ / ٥ ، التهذيب ٦ : ٢٥٨ / ٧٨ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٧ كتاب الشهادات ب ٥ ح ١.

(٧) الكافي ٧ : ٣٨١ / ١ ، التهذيب ٦ : ٢٥٨ / ٦٧٩ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٨ كتاب الشهادات ب ٥ ح ٢.

٣٧٦

والخبر : عن الرجل يحضر حساب الرجلين فيطلبان منه الشهادة على ما سمع منهما ، قال : « ذاك إليه إن شاء شهد وإن شاء لم يشهد ، وإن شهد شهد بحق ، وإن لم يشهد فلا شي‌ء عليه لأنّهما لم يُشهداه » (١).

وهذه النصوص وإن دلت بإطلاقها على عدم وجوب الإقامة مع عدم الاستدعاء للتحمل مطلقاً ولو انحصر ثبوت الحق بشهادتهما ، ولم يقل به أحد وإن توهم من جمع ، ولكن التحقيق خلافه كما يظهر من بعضهم (٢) ومن الفاضل في المختلف (٣) إلاّ أنّها محمولة على صورة عدم الانحصار ؛ للموثق (٤) وغيره (٥) : « إذا سمع الرجل الشهادة ولم يُشهد عليها فهو بالخيار إن شاء شهد وإن شاء سكت ، إلاّ إذا علم من الظالم فيشهد ، ولا يحلّ له إلاّ أن يشهد ».

وبذلك صرّح الصدوق في الفقيه ، فقال بعد نقل الخبر الذي جعل الخيار فيه إلى الشاهد بحساب الرجلين ـ : هو إذا كان على الحق غيره من الشهود ، فمتى علم أنّ صاحب الحق مظلوم ولا يحيى حقّه إلاّ بشهادته وجب عليه إقامتها ، ولم يحلّ له كتمانها ، فقد قال الصادق عليه‌السلام : « العلم شهادة إذا كان صاحبه مظلوماً » (٦). انتهى.

وبالجملة : دلالة هذه النصوص بعد ضمّ بعضها إلى بعض على عدم‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨٢ / ٦ ، التهذيب ٦ : ٢٥٨ / ٦٧٧ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٨ كتاب الشهادات ب ٥ ح ٥.

(٢) كالشيخ في النهاية : ٣٣٠.

(٣) المختلف : ٧٢٥.

(٤) الكافي ٧ : ٣٨١ / ٣ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٨ كتاب الشهادات ب ٥ ح ٤.

(٥) التهذيب ٦ : ٢٥٨ / ٦٨٠ ، الوسائل ٢٧ : ٣٢٠ كتاب الشهادات ب ٥ ح ١٠.

(٦) الفقيه ٣ : ٣٤.

٣٧٧

الوجوب عيناً ، وكونه كفايةً فيما إذا زاد عدد الشهود عن العدد المعتبر شرعاً واضحة ، ولا إشكال فيها من هذه الجهة ، بل الإشكال فيها إنّما هو من حيث دلالتها على التفصيل بين صورتي الاستدعاء لتحمّل الشهادة فتجب الإقامة ( عيناً مطلقاً ) (١) ولو زاد عددهم عن المعتبر شرعاً ، وعدمه فتجب كفايةً مع الزيادة ، وعيناً مع عدمها.

وهو مخالف لما عليه جمهور أصحابنا المتأخرين ، حيث حكموا بوجوب الإقامة كفاية مطلقاً ولو في الصورة الاولى مع الزيادة ، وادّعوا إجماعاتهم المتقدّمة (٢) على ذلك كذلك.

إلاّ أنّ جمهور قدماء الأصحاب كالشيخ في النهاية والإسكافي والقاضي والحلبي وابني زهرة وحمزة (٣) على التفصيل المتقدّم إليه الإشارة.

واستدل لهم زيادةً على ذلك بأنّه مع عدم الاستدعاء لم يؤخذ منه التزام ، بخلاف ما إذا تحمّل قصداً ، فإنّه يكون ملتزماً ، كضمان الأموال.

والمسألة عند العبد محل تردّد ، من استفاضة المعتبرة الصريحة المعتضدة بالشهرة القديمة وتعليلهم المتقدّم إليه الإشارة.

ومن إطلاقات الكتاب والسنّة بوجوب الإقامة ، المعتضدة بالأصل ، والشهرة العظيمة المتأخرة ، وإطلاقات الإجماعات المحكية على الوجوب كفايةً ، وبعض الأُمور الاعتبارية التي استدل بها جماعة (٤) ، من أنّها أمانة‌

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في « س ».

(٢) في ص ٣٧٣.

(٣) النهاية : ٣٣٠ ، حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٧٢٥ ، القاضي في المهذّب ٢ : ٥٦١ ، الحلبي في الكافي في الفقه : ٤٣٦ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٢٣٢.

(٤) منهم الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤١٥ ، والمحقق الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٨٥.

٣٧٨

جعلت عنده فوجب عليه الخروج منها ، كما أنّ الأمانات المالية تارةً يحصل عنده بقبولها كالوديعة ، وتارةً بغيره كإطارة الريح ونحوها.

إلاّ أنّ الأقرب : الأوّل ؛ لرجحان مستنده على مستند الثاني ، لكونه مطلقات ، دون مستند الأوّل ، لكونه أخباراً خاصّة واضحة الدلالة ، فلتكن عليها مقدمة ، والشهرة متعارضة ، كالتعليلات الاعتبارية ، وإلى المختار يميل في الكفاية (١).

ومحصّله أنّ الوجوب كفائي إلاّ مع الاستدعاء للتحمّل فعيني ، وهو كباقي الأُمور الموجبة لرجوع الواجب الكفائي إلى العيني لا ينافي كفائية الواجب من أصله.

ومن هنا يظهر جواب آخر عن الإجماعات المحكية على وجوب الإقامة كفايةً على الإطلاق ؛ لوضوح كون المدّعى فيها كفائيته في نفسه المجامعة للعينية بالعرض ، ولا مانع في كون الاستدعاء من العوارض.

وكيف كان ، فلا ريب في وجوب الإقامة ولا خلاف فيه ولو في الجملة ( إلاّ مع ) خوف ترتّب ( ضرر ) بسبب الشهادة ( غير مستحق ) على الشاهد ، أو المشهود عليه ، أو بعض المؤمنين ، فلا تجب حينئذ ، بل تحرم بلا خلاف ؛ للاعتبار ، مع أنّه لا حرج ولا ضرر ولا ضرار ، كما في الآيات والأخبار.

وفي الخبر : « أقم الشهادة » إلى أن قال : « فإن خفت على أخيك ضيماً فلا » (٢).

__________________

(١) الكفاية : ٢٨٦.

(٢) الكافي ٧ : ٣٨١ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٧٦ / ٧٥٧ ، الوسائل ٢٧ : ٣١٥ كتاب الشهادات ب ٣ ح ١.

٣٧٩

وقريب منه آخر في نسخة (١) ، ولكن في أُخرى من دون ذكر « فلا » مبدلاً فيها الفاء الاولى بالواو (٢).

وفي ثالث : قلت له رجل من مواليك عليه دين لرجل مخالف يريد أن يعسره ويحبسه وقد علم الله تعالى أنّه ليس عنده ولا يقدر عليه ، وليس لغريمه بيّنة ، هل يجوز له أن يحلف له ليدفعه عن نفسه حتى ييسّر الله تعالى له؟ وإن كان عليه الشهود من مواليك قد عرفوه أنّه لا يقدر ، هل يجوز أن يشهدوا عليه؟ قال : « لا يجوز أن يشهدوا عليه ، ولا ينوي ظلمه » (٣).

ونحوه آخر : « لا يحلّ لك أن تقيم الشهادة في حال العسر » (٤).

وقصور الأسانيد مجبور بالعمل ، وموافقة الكتاب والسنّة ، والاعتبار بنفي الحرج والضرر في الشريعة.

واحترز بغير المستحق عن مثل ما لو كان للمشهود عليه حق على الشاهد لا يطالبه وتوجب شهادته لا المطالبة ، فلا يكفي ذلك في سقوط الوجوب ؛ لأنّه ضرر مستحق.

واعلم أنّه إنّما يجب على الشاهد الإقامة ( ولا يحل ) له ( الامتناع ) منها ( مع التمكن ) إن ثبت الحق بشهادته ؛ لانضمام ما يتم به العدد ، أو حلف المدّعى إن كان مما يثبت بشاهد ويمين.

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٤٢ / ذيل الحديث ١٤٤.

(٢) الفقيه ٣ : ٤٢ / ١٤٤.

(٣) الكافي ٧ : ٣٨٨ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٦١ / ٦٩٣ ، الوسائل ٢٧ : ٣٣٩ كتاب الشهادات ١٩ ح ١.

(٤) الفقيه ٣ : ٣٠ / ٨٩ ، التهذيب ٦ : ٢٥٧ / ٦٧٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤٠ كتاب الشهادات ب ١٩ ح ٣.

٣٨٠