رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٥

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-277-6
الصفحات: ٥٤٦

وهذان الدليلان وإن كانا لا يخلوان عن شي‌ء ، إلاّ أنّهما للتأييد صالحان ، هذا.

مع أنّ الرواية قاصرة السند عن الصحة وإن كانت حسنة كالصحيحة بأبان وفضالة اللذين أجمع على تصحيح ما يصح عنهما العصابة.

ومع ذلك الدلالة ضعيفة ؛ لإجمال الدون فيها ، لصدقه على كل شي‌ء بالإضافة إلى ما فوقه ؛ فإنّه من الأُمور المتضايفة.

وإلى ما ذكرنا يشير كلام الفاضل في المختلف حيث قال : فإنّ قبول شهادته في الشي‌ء اليسير يعطي المنع من قبول الكثير من حيث المفهوم ، ولا يسير إلاّ وهو كثير بالنسبة إلى ما دونه ، فإذاً لا تقبل شهادته إلاّ في أقل الأشياء الذي ليس بكثير بالنسبة إلى ما دونه ؛ إذ لا دون له ، ومثله لا يملك (١). انتهى. فتأمّل جدّاً.

ثم إنّ المنع يختص بمن علم كونه ولد الزنا ، أمّا من جهل فتقبل شهادته بعد استجماعه الشرائط الأُخر من العدالة وغيرها وإن نسب إلى الزنا ما لم يكن العلم بصدق النسبة حاصلاً ، وبه صرّح جماعة (٢) من غير خلاف بينهم أجده.

ولعله للعمومات ، واختصاص الأخبار المانعة بالصورة الأُولى دون الثانية ؛ لكونها من الأفراد الغير المتبادرة ، فلا ينصرف إليها الإطلاق كما مرّ غير مرّة.

ويحتمل العدم في صورة النسبة ؛ عملاً بالإطلاق من باب المقدمة.

__________________

(١) المختلف : ٧١٩.

(٢) منهم المحقق في الشرائع ٤ : ١٣٢ والعلاّمة في التحرير ٢ : ٢١٠ والشهيد في الدروس ٢ : ١٢٧ والأردبيلي في مجمع الفائدة ١٢ : ٣٨٠.

٣٢١

( ويلحق بهذا الباب مسائل ) ثلاث :

( الاولى : التبرّع بالأداء ) أي أداء الشهادة ( قبل الاستنطاق ) وطلب الحاكم إيّاه من الشاهد ( يمنع القبول ) منه مطلقاً ، سواء كان قبل دعوى المدّعى أم بعدها ، بلا خلاف أجده ، وبه صرّح في الكفاية (١) ، ويظهر من المسالك وغيره (٢) ، واحتمله إجماعاً بعض الأجلة (٣) ، قالوا : ( لتطرّق التهمة ) بذلك ، فيدخل في عموم الأدلّة الدالة على كونها مانعة عن قبول الشهادة.

وللنبوي في معرض الذمّ : « ثم يجي‌ء قوم يعطون الشهادة قبل أن يسألوها » (٤) وفي لفظ آخر : « ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد » (٥).

وفيهما لولا فتوى الأصحاب نظر ، يظهر وجهه بالتدبّر فيما ذكره بعض من تأخر ، حيث قال بعد نقلهما معترضاً : وأنت خبير أنّ التهمة غير ظاهرة ، خصوصاً إذا كان جاهلاً ، فإنّا نجد كثيراً من يشهد قبل الاستشهاد من غير ميل إلى إثبات الشهود ، بل قد يكون إلى عدمه أميل لغرضٍ ، مثل فقر المشهود عليه ، أو مصاحبته ، أو عداوة المشهود له ؛ اعتقاداً لوجوب الشهادة وتحريم كتمانها ، كيف؟! والعدالة تمنع من الشهادة على الكذب مع العلم بقبحه والوعيد في الكتاب والسنّة وتحريمه بإجماع المسلمين. والرواية المذكورة ما نعرف سندها ، فضلاً عن صحتها ومعارضتها بمثلها ،

__________________

(١) الكفاية : ٢٨٢.

(٢) المسالك ٢ : ٤٠٨ ؛ وانظر كشف اللثام ٢ : ٣٧٦.

(٣) مجمع الفائدة ١٢ : ٤٠٠.

(٤) مسند أحمد ٤ : ٤٢٦.

(٥) عوالي اللئلئ ١ : ١٢٣ / ٥٣ ، المستدرك ١٧ : ٤٤٨ كتاب الشهادات ب ٤٦ ح ٨.

٣٢٢

والظاهر أنّها عامية.

وبالجملة : ردّ شهادة العدل بمجرد ذلك مع وجوب قبول العدل وعدم ردّه بالكتاب والسنّة والإجماع مشكل ، إلاّ أن يكون إجماعياً (١). انتهى.

وهو جيّد متين ، إلاّ أنّ دعواه أوّلاً عدم ظهور التهمة مطلقاً مشكل جدّاً ؛ لوضوحها مع التبرّع غالباً ، وإن أمكن فرض عدمها فيما فرضه من صورة الجهل وغيرها ، ولذا أطبق الأصحاب على عدّه تهمة ، ولعلّ مرادهم الغالب دون ما فرض من الصورة النادرة ، كيف لا؟! ولو كان مرادهم عدّه تهمةً مطلقاً لزم مخالفة ما ذكروه للوجدان جدّاً ، فهذا أظهر قرينة على إرادتهم من محل المنع ما أوجب التبرّع فيه التهمة كما هو الغالب دون غيره ، وإنّما أطلقوا من دون تقييد اتكالاً منهم إلى فهمه من تعليلهم المنع بالتهمة.

وعلى هذا فلعلّه لا بأس عندهم بقبول شهادة المتبرّع في الفرد النادر الذي لا يكون فيه تهمة ، ولا ينافي ذلك استدلال بعضهم للمنع زيادةً على التعليل المتقدم بالنبوية ، بعد قوّة احتمال ورودها مورد الغالب ، وهو ما يحصل فيه التهمة كما عرفته ، فهي وإن ضعف سندها إلاّ أنّها بالموافقة للنصوص المانعة عن قبول الشهادة مع التهمة منجبرة.

وكيف كان ، فالمنع مقطوع به في كلامهم إذا كان المشهود به من حقوق الآدميين ، كما في نكت الإرشاد وغيره (٢).

( وهل يمنع ) التبرّع عن القبول ( في حقوق الله تعالى ) أم لا؟

__________________

(١) مجمع الفائدة ١٢ : ٣٩٩.

(٢) غاية المراد ( مخطوط ) النسخة الرضوية ، الورقة : ٢٦٧ ، كشف اللثام ٢ : ٣٧٦.

٣٢٣

( فيه ) قولان : أوّلهما للشيخ في النهاية كما في التنقيح (١) ، وثانيهما له في المبسوط كما فيه (٢) ، وهو المشهور على الظاهر ، المصرّح به في كلام الصيمري ، بل لعلّه عليه عامة المتأخرين حتى الماتن هنا وفي الشرائع ، والفاضل في الإرشاد (٣) ، لكن على ( تردّد ) منهما وإشكال.

قيل : ينشئان : من أنّ التهمة المانعة من قبول الشهادة موجودة في الموضعين فيمنع من القبول فيهما ؛ لتساويهما في العلّة. ومن أنّها في حقوق الله تعالى والمصالح العامّة لا مدّعي لها ، فلو لم تقبل فيها شهادة المتبرع لأدّى ذلك إلى سقوطها (٤).

وفي هذا نظر ؛ إذ ليس فيه ما يفيد تقييد الأدلة المانعة عن قبول الشهادة مع التهمة بعد حصولها كما هو فرض المسألة بحقوق الآدميين خاصّة ، ومجرّد عدم المدّعى لحقوق الله تعالى لا يرفع التهمة ، ولا يفيد التقييد المزبور ؛ إذ لا دليل على إفادته له من إجماع أو رواية ، وأداء عدم القبول فيها إلى سقوطها لا دلالة فيه على أحد الأمرين أصلاً ، ولا محذور في سقوطها مع عدم قبولها ، بل هو مطلوب ؛ لبناء حقوق الله تعالى على التخفيف اتفاقاً فتوًى ونصاً.

ولو سلّم فإنّما يؤدّي إلى السقوط لو ردّ مطلقاً ، سواء كان في مجلس التبرّع أو غيره ، أمّا لو خصّ الردّ بالأوّل كما هو رأي بعض في حقوق الآدميين (٥) فلا يؤدّي إلى السقوط ؛ لإمكان قبوله لو أُدّي في‌

__________________

(١) التنقيح الرائع ٤ : ٣٠٥.

(٢) التنقيح الرائع ٤ : ٣٠٥.

(٣) الشرائع ٤ : ١٣١ ، الإرشاد ٢ : ١٥٨.

(٤) قاله في التنقيح الرائع ٤ : ٣٠٤.

(٥) المسالك ٢ : ٤٠٨.

٣٢٤

مجلس آخر من غير تبرّع ثانياً ، فهذا الدليل ضعيف جدّاً.

كالاستدلال على القبول هنا بالنبوية الأُخرى : « خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها » (١) إذ هي بعد الإغماض عن سندها غير دالّة على القبول هنا خاصّة ، بل هي عامّة لما سبق من حقوق الآدميين أيضاً ، ولم يقل به أحد كما مضى ، وتقييدها بالمقام فرع وجود دليل عليه أو قرينة ، وليسا ، فتأمّل جدّاً.

وأضعف منهما ما ذكره الصيمري بعد مصيره إلى القبول من أنّ العدالة تدفع التهمة (٢) وذلك لمنع دفعها لها ، كيف لا؟! وقد أطبق هو وسائر الأصحاب على اجتماعها معها ، ولذا عدّوا التهمة من موانع قبول الشهادة زيادةً على الفسق المقابل للعدالة ، فلو أوجبت التهمة فسقاً لما كان لعدّهم إيّاها من الموانع في مقابلة الفسق وجه أصلاً.

ولو سلّم الدفع فهو جار في حقوق الآدميين أيضاً ، فلمَ أطبق هو وباقي الأصحاب على المنع فيها معلّلين بالتهمة؟! مع أنّها غير مجتمعة مع العدالة كما ذكره.

وبما ذكرنا يظهر قوّة القول الأوّل ، إلاّ أنّ ندرة القائل به ، بل وعدمه ، لرجوع الشيخ عنه في المبسوط إلى خلافه ، واشتهاره بين المتأخرين أوجب التردّد فيه ، ويمكن أن يكون هذا وجهاً للتردّد من الفاضلين ، لا ما مرّ ، فتأمّل.

واعلم أنّ التبرّع بالشهادة في محل المنع ليس جرحاً حتى لا تقبل شهادته في غير تلك الواقعة ؛ لأنّه ليس معصية فتسمع شهادته في غيرها ؛

__________________

(١) مسند أحمد ٤ : ١١٧.

(٢) غاية المرام ٤ : ٢٨٤.

٣٢٥

للأصل والعمومات مع عدم ظهور خلاف فيه بين الأصحاب ، بل ظاهر المسالك (١) إجماعهم عليه.

ولو أعاد تلك الشهادة في مجلس آخر على وجهها ففي قبولها وجهان : من بقاء التهمة في الواقعة ، ومن اجتماع الشرائط في الشهادة الثانية ، والأول أجود ، وفاقاً لجماعة (٢) ، خلافاً لشيخنا في المسالك (٣) فاستجود الثاني.

( الثانية : الأصمّ ) المؤوف السمع ( تقبل شهادته فيما لا يفتقر ) العلم به ( إلى السماع ) وفيما يفتقر إليه أيضاً إذا سمع ثم اعتل وأُثبت ، بلا خلاف فيه في الجملة ؛ للأصل والعمومات ، وخصوص ما سيأتي من بعض الروايات مع سلامتها عن المعارض.

والصمم ليس له قابلية المانعية حيثما يأتي معه الشروط المعتبرة في سماع الشهادة التي منها العلم بالمشهود به ، كما سيأتي إليه الإشارة.

( وفي رواية ) جميل الضعيفة بسهل ودرست قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن شهادة الأصمّ في القتل ، قال : « ( يؤخذ بأوّل قوله ) ولا يؤخذ بثانيه » (٤).

وبها أفتى الشيخ في النهاية والقاضي وابن حمزة (٥) ، ونسبها في‌

__________________

(١) المسالك ٢ : ٤٠٨.

(٢) منهم ابن فهد في المهذب البارع ٤ : ٥٣٤ والفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٧٦.

(٣) المسالك ٢ : ٤٠٨.

(٤) الكافي ٧ : ٤٠٠ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٥٥ / ٦٦٤ ، الوسائل ٢٧ : ٤٠٠ كتاب الشهادات ب ٤٢ ح ٣.

(٥) النهاية : ٣٢٧ ، المهذّب ٢ : ٥٥٦ ، الوسيلة : ٢٣٠.

٣٢٦

الدروس إلى الشيخ وأتباعه كافّة ، قال : ولم يقيّدوا بالقتل ، والأكثر على إطلاق قبول شهادته ، وهو الأصح ، وفي طريق الرواية سهل بن زياد وهو مجروح (١). انتهى.

أقول : ما اختاره هو والماتن هنا وفي الشرائع مختار الأكثر (٢) كما ذكره ، بل المشهور كما في شرح الشرائع للصيمري (٣) ، وعليه عامة المتأخرين ، وفاقاً منهم للحلبي والحلّي (٤).

ووجه إعراضهم عنها مع دلالتها على قبول شهادته في الجملة يظهر مما ذكره الفاضل المقداد في شرح الكتاب ، حيث قال بعد تضعيف سنده : مع أنّ (٥) العمل بها محل بحث ، وهو أنّ القول الثاني إن كان منافياً للأوّل فهو رجوع فيردّ ، وإن كان غير مناف فإمّا أن يكون مدلوله مدلول الأوّل فهو إذن تأكيد غير مردود ، أو لا يكون فهو كلام مستقل لا تعلّق له بالأوّل (٦).

وقريب منه كلام الفاضل في المختلف ، إلاّ أنّه قال بعد تضعيف السند : وأيضاً القول بالموجب ، فإنّ الثاني إن كان منافياً (٧) ، إلى آخر ما مرّ.

وفيه نظر ؛ فإنّ ردّ القول الثاني على تقدير استقلاله وعدم منافاته للأوّل وعدم ارتباطه به مناف لما اختاره من قبول شهادته على الإطلاق ،

__________________

(١) الدروس ٢ : ١٣٤.

(٢) الشرائع ٤ : ١٣٢.

(٣) غاية المرام ٤ : ٢٨٧.

(٤) حكاه عن الحلبي في المختلف : ٧١٩ ، وانظر الكافي في الفقه : ٤٣٦ ، السرائر ٢ : ١٢٣.

(٥) في النسخ زيادة : في ، حذفناها لاستقامة المعنى.

(٦) التنقيح الرائع ٤ : ٣٠٦.

(٧) المختلف : ٧١٩.

٣٢٧

فكيف يجتمع مختاره مع القول بموجب الرواية في هذه الصورة ، ولعلّه لهذا تنظّر في كلامه فيها في المسالك ، فقال بعد نقله : وفي هذا القسم الأخير نظر (١).

أقول : بل ولعلّ في القسم الأوّل وهو صورة منافاة الثاني للأوّل أيضاً نظر ؛ لأنّه إن كان المردود هو الشهادة الأُولى لم يكن قولاً بموجبها ؛ لتصريحها بردّ الشهادة الثانية وقبول الأُولى خاصّة ، عكس ما ذكره ، وإن كان هو الشهادة الثانية فلا يتّجه ردّها على الإطلاق ، بل يختص بما إذا كانت بعد حكم الحاكم بشهادة الأُولى ، وإلاّ فلو كانت قبله ردّت الاولى ، كما ذكروه في مسألة رجوع الشاهد عما شهد به وسيأتي إن شاء الله تعالى.

وممّا ذكر ظهر أنّ تعبير الفاضل المقداد وإسقاطه ما ذكره من القول بالموجب أجود.

وحيث قد عرفت ما في العمل بها من المخالفة للأُصول والفرق بينهما وبين القول المشهور ظهر لك ما في كلام بعض الفحول حيث قال بعد تضعيفها : بل لا محصّل لها وللقول بها ، فتأمّل (٢) انتهى.

فكيف لا محصّل لها؟ وقد عرفت ما فيها ، ولعله لهذا أمر بالتأمّل أخيراً.

وكيف كان ، فينبغي القطع بطرحها ؛ لما هي عليه زيادةً على ما مضى من الندرة ، كما صرّح به الماتن في الشرائع (٣) ، مشعراً بمخالفتها الإجماع ، فتقبل شهادة الأصمّ فيما مرّ مطلقاً.

__________________

(١) المسالك ٢ : ٤١٠.

(٢) مجمع الفائدة ١٢ : ٤٥٢.

(٣) الشرائع ٤ : ١٣٢.

٣٢٨

( وكذا تقبل شهادة الأعمى فيما لا يفتقر ) العلم به ( إلى الرؤية ) وتحصل بالسماع وحده ، بلا خلاف بيننا أجده ، بل عليه في صريح الانتصار والخلاف وظاهر الغنية (١) إجماع الإمامية ، وهو الحجّة ؛ مضافاً إلى ما مرّ في المسألة السابقة ، وخصوص الخبرين : عن الأعمى تجوز شهادته؟ قال : « نعم إذا أثبت » (٢).

وفي الوسائل عن الطبرسي في الاحتجاج ، عن محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري ، عن مولانا صاحب الزمان عليه‌السلام : إنّه كتب إليه يسأله عن الضرير إذا شهد في حال صحّته على شهادة ، ثم كفّ بصره ولا يرى خطّه فيعرفه ، هل تجوز شهادته أم لا؟ وإن ذكر هذا الضرير الشهادة هل يجوز أن يشهد على شهادته أم لا يجوز؟ فأجاب عليه‌السلام : « إذا حفظ الشهادة وحفظ الوقت جازت شهادته » (٣).

وهو صريح في قبول شهادته فيما يفتقر إلى الرؤية أيضاً إذا حصل له العلم بالمشهود به ، وكان مثبتاً له إلى حين الأداء ، وبه صرّح جماعة (٤) ، ويعضده إطلاق الخبرين وعموم الأدلة.

ويمكن أن ينزل عليه العبارة ونحوها مما خصّ القبول فيه بما لا يفتقر إلى الرؤية ، بحملها على الشهادة التي يتحملها حال العمى ، ويقرّبه عموم أدلتهم فيما لا يفتقر إلى الرؤية لهذه الصورة.

__________________

(١) الانتصار : ٢٤٩ ، الخلاف ٦ : ٢٦٧ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٤.

(٢) الكافي ٧ : ٤٠٠ / ١ ، ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٥٤ / ٦٦٢ ، ٦٦٣ ، الوسائل ٢٧ : ٤٠٠ كتاب الشهادات ب ٤٢ ح ١ ، ٢.

(٣) الاحتجاج : ٤٩٠ ، الوسائل ٢٧ : ٤٠٠ كتاب الشهادات ب ٤٢ ح ٤.

(٤) منهم المحقق في الشرائع ٤ : ١٣٥ ، والشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤١٢ ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٨١.

٣٢٩

ونحوه الكلام في قبول شهادة الأصمّ فيما يفتقر إلى السماع إذا سمعه ثم اعتل وأثبته ، فتقبل حينئذ ، كما تقدم إليه الإشارة.

( الثالثة ) : اعلم أنّ الأصل في الشهادة رجلان بحكم الاستقراء والأصل في الجملة ، وظاهر الآيات المأمور فيها باستشهاد رجلين وذوي عدل ؛ فإنّ الاقتصار عليهما في الذكر في معرض الإرشاد يدلّ على الاقتصار في الحكم.

وحينئذ فلا تقبل الواحد مطلقاً ، إلاّ ما قيل في هلال رمضان (١) ؛ للخبر ، بل الصحيح (٢).

وهو شاذّ ضعيف ، ومستنده مع احتمال قصور سنده واختلاف متنه غير دالّ ، معارض بالصحاح المستفيضة وغيرها من المعتبرة (٣) ، ومع ذلك قد ادّعي في صريح الغنية والإيضاح ، وظاهر شرح الشرائع للصيمري (٤) على خلافه الإجماع.

و ( لا تقبل شهادة النساء في الهلال والطلاق ) بلا خلاف إذا كنّ عن الرجال منفردات ، وكذا إذا انضمّوا إليهنّ على الأظهر الأشهر ، بل عليه عامّة من تقدم وتأخّر.

عدا العماني ، فقال : شهادة النساء مع الرجال جائزة في كل شي‌ء إذا كنّ ثقات (٥).

__________________

(١) المراسم : ٢٣٣ ، وانظر الإرشاد ٢ : ١٦٠.

(٢) الفقيه ٢ : ٧٧ / ٣٣٧ ، التهذيب ٤ : ١٥٨ / ٤٤٠ ، الإستبصار ٢ : ٦٤ / ٢٠٧ ، الوسائل ١٠ : ٢٧٨ أبواب أحكام شهر رمضان ب ٨ ح ١.

(٣) الوسائل ١٠ : ٢٨٦ أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١.

(٤) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٤ ، إيضاح الفوائد ٤ : ٤٣١ ، غاية المرام ٤ : ٢٩٤.

(٥) حكاه عنه في المختلف : ٧١٢.

٣٣٠

وهو شاذّ ، بل على خلافه في الغنية الإجماع (١).

والشيخ في المبسوط والإسكافي (٢) ، فقالا بالقبول في الطلاق ، ويظهر من الثاني إجماعنا عليه ، وحكاه عن عمر بن الخطاب.

وكفاه هذا ردّاً ، مع دعوى الإجماع على خلافه في الغنية صريحاً وفي الدروس (٣) ظاهراً ، وهو الحجة هنا وسابقاً ، مضافاً إلى الأصل المتقدم ، والنصوص المستفيضة جدّاً ..

ففي الصحيح : « لا تجوز شهادة النساء في الهلال والطلاق » (٤).

ونحوه آخر بدون ذكر الطلاق (٥).

وفي آخرين : « لا تقبل شهادة النساء في رؤية الهلال ولا تقبل في الهلال إلاّ رجلان عدلان » (٦).

وزيد في أحدهما : « ولا في الطلاق ».

وفي خامس : « شهادة النساء تجوز في النكاح ولا تجوز في الطلاق » (٧).

__________________

(١) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٤.

(٢) المبسوط ٨ : ١٧٢ ، وحكاه عن الإسكافي في المختلف : ٧١٢.

(٣) الدروس ٢ : ١٣٧.

(٤) الكافي ٧ : ٣٩١ / ٦ ، الوسائل ٢٧ : ٣٥٣ كتاب الشهادات ب ٢٤ ح ٨.

(٥) الكافي ٧ : ٣٩١ / ٨ ، التهذيب ٦ : ٢٦٤ / ٧٠٢ ، الإستبصار ٣ : ٢٣ / ٧٠ ، الوسائل ٢٧ : ٣٥٣ كتاب الشهادات ب ٢٤ ح ١٠.

(٦) الأول في : التهذيب ٦ : ٢٦٩ / ٧٢٤ ، الوسائل ٢٧ : ٣٥٥ كتاب الشهادات ب ٢٤ ح ١٧.

الثاني في : الاستبصار ٣ : ٣٠ / ٩٦ ، الوسائل ٢٧ : ٣٥٦ كتاب الشهادات ب ٢٤ ذيل الحديث ١٧.

(٧) التهذيب ٦ : ٢٦٧ / ٧١٣ ، الإستبصار ٣ : ٢٧ / ٨٤ ، الوسائل ٢٧ : ٣٥٧ كتاب الشهادات ب ٢٤ ح ٢٥.

٣٣١

ونحوه سادس : عن شهادة النساء في النكاح ، فقال : « تجوز ، وكان عليّ عليه‌السلام يقول : لا أُجيزها في الطلاق » (١) الحديث.

ونحوهما سابع : « لا تجوز شهادتهن في الطلاق ولا في الدم ، وتجوز شهادتهن في النكاح إذا كان معهن رجل » (٢).

والموثق : « كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يجيز شهادة المرأتين في النكاح عند الإنكار ، ولا يجيز في الطلاق إلاّ شاهدين عدلين » (٣).

والقريب من الصحيح بابن محبوب المجمع على تصحيح ما يصح عنه : « تجوز شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه ويشهدوا عليه ، وتجوز شهادتهن في النكاح ، ولا تجوز في الطلاق ولا في الدم » (٤) الحديث.

والخبران : في أحدهما : « تجوز شهادة النساء وحدهنّ على ما لا يستطيع الرجال النظر إليه ، وتجوز شهادة النساء في النكاح إذا كان معهن رجل ، ولا تجوز في الطلاق ولا في الدم » الحديث (٥).

وفي الثاني : عن شهادة النساء تجوز في النكاح؟ قال : « نعم ،

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٩٠ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٦٩ / ٧٢٣ ، الإستبصار ٣ : ٢٩ / ٩٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣٥١ كتاب الشهادات ب ٢٤ ح ٢.

(٢) الكافي ٧ : ٣٩١ / ٥ ، الفقيه ٣ : ٣١ / ٩٤ ، التهذيب ٦ : ٢٦٤ / ٧٠٥ ، الإستبصار ٣ : ٢٣ / ٧٣ ، الوسائل ٢٧ : ٣٥٢ كتاب الشهادات ب ٢٤ ح ٧ ؛ بتفاوت يسير.

(٣) التهذيب ٦ : ٢٨١ / ٧٧٤ ، الإستبصار ٣ : ٢٦ / ٨١ ، الوسائل ٢٧ : ٣٦٠ كتاب الشهادات ب ٢٤ ح ٣٥.

(٤) الكافي ٧ : ٣٩٢ / ١١ ، التهذيب ٦ : ٢٦٥ / ٧٠٧ ، الإستبصار ٣ : ٢٤ / ٧٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣٥٢ كتاب الشهادات ب ٢٤ ح ٥.

(٥) الكافي ٧ : ٣٩١ / ٤ ، التهذيب ٦ : ٢٦٤ / ٧٠٤ ، الإستبصار ٣ : ٢٣ / ٧٢ ، الوسائل ٢٧ : ٣٥١ أبواب الشهادات ب ٢٤ ح ٤.

٣٣٢

ولا تجوز في الطلاق » (١).

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة التي لا معارض لها في المقامين لا عموماً ولا خصوصاً ، عدا ما عن المبسوط من أنّه روي قبول شهادتهن في الطلاق مع الرجال.

وهو مع إرساله ، وعدم معارضته لما مرّ من الأدلة نادر ، ولم يحكه عن المبسوط إلاّ في الكفاية (٢).

وبالجملة : فالخلاف فيهما ضعيف غايته ، والمصير إلى مقتضاها متعين.

وظاهر إطلاق العبارة وغيرها مما أُطلق فيه المنع عن القبول في الطلاق انسحاب المنع فيه في جميع أنواعه التي منها الخلع والمباراة والطلاق بعوض ، وهو المشهور كما في المسالك (٣) ، وشرح الشرائع للصيمري وغيرهما (٤) ؛ لإطلاق ما مرّ من النصوص ، بناءً على كون الخلع وما بعده من أفراد الطلاق وفي معناه ، كما صرّح به الفاضل في المختلف (٥).

وظاهره عدم القائل بالفرق بينه وبين غيره من أنواع الطلاق ، فكلّ من قال فيه بالمنع كالمفيد ، والصدوقين ، والشيخ في النهاية والخلاف ،

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٩١ / ٩ ، التهذيب ٦ : ٢٦٥ / ٧٠٦ ، الإستبصار ٣ : ٢٤ / ٧٤ ، الوسائل ٢٧ : ٣٥٤ أبواب الشهادات ب ٢٤ ح ١١.

(٢) الكفاية : ٢٨٥ ، وهو في المبسوط ٨ : ١٧٢.

(٣) المسالك ٢ : ٤١٣.

(٤) غاية المرام ٤ : ٢٩٤ ، مجمع الفائدة ١٢ : ٤٢٣ ، الكفاية : ٢٨٥.

(٥) المختلف : ٧١٤.

٣٣٣

والديلمي ، والحلبي ، والقاضي ، وابن حمزة ، والحلّي (١) ، وغيرهم (٢) قال به مطلقاً ، ومن قال بالقبول كالشيخ في المبسوط ، والإسكافي ، والعماني قال به كذلك (٣).

واختار في المسالك (٤) قولاً بالتفصيل بين ما لو كان مدّعيه المرأة فكالطلاق لا تقبل فيه ، أو الرجل فتقبل ؛ لتضمنه دعوى المال.

وحكى فيه وفي غيره القبول فيه مطلقاً (٥) من جهة تضمنه المال ، وهو مستلزم للبينونة ، فتثبت أيضاً لذلك.

ومبنى هذين القولين على ما تقرر عندهم وسيظهر من قبول شهادتهن فيما يتضمن مالاً أو يكون المقصود منه المال ، وأنكره بعض الأصحاب (٦) ، ولعلّه لعدم الدليل على الكلية في النصوص ؛ ولعدم تبادر نحو المقام من الدين المحكوم فيها بجواز شهادتهنّ مع الرجال فيه ، والإجماع مفقود في محل النزاع.

وفي الأخير نظر يظهر وجهه مما قدمناه في بحث الشاهد واليمين في كتاب القضاء ، فالأولى في الجواب تخصيص الكلية على تقدير ثبوتها بما‌

__________________

(١) المفيد في المقنعة : ٧٢٧ ، الصدوق في المقنع : ١٣٥ ، وحكاه عن والده في المختلف : ٧١٤ ، النهاية : ٣٣٢ ، الخلاف ٦ : ٢٥٢ ، الديلمي في المراسم : ٢٣٣ ، الحلبي في الكافي : ٤٣٦ ، القاضي في المهذب ٢ : ٥٥٨ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٢٢٢ ، الحلّي في السرائر ٢ : ١١٥.

(٢) الكفاية : ٢٨٤.

(٣) المبسوط ٨ : ١٧٢ وحكاه عن الإسكافي والعماني في المختلف : ٧١٤.

(٤) المسالك ٢ : ٤١٣.

(٥) المفاتيح ٣ : ٢٩١.

(٦) انظر كشف اللثام ٢ : ٣٧٨.

٣٣٤

مرّ من إطلاق النصوص والإجماع البسيط المنقول في الغنية (١) ، والمركب الظاهر من المختلف (٢) ، كما عرفته.

مضافاً إلى الأصل ، والشهرة العظيمة الجابرة لضعف دلالة النصوص المزبورة ، من حيث عدم تبادر نحو الخلع من الطلاق المطلق فيها أيضاً ؛ لكونه من الأفراد النادرة له.

ثم إنّ مقتضى الصحيحة الخامسة وما بعدها جملةً بعد حمل مطلقها على مقيدها قبول شهادتهن مع الرجال في النكاح ، وهو خيرة العماني ، والإسكافي ، والصدوقين ، والحلبي ، والشيخ في المبسوط والتهذيبين ، وابن زهرة مدّعياً عليه إجماع الإمامية ، والفاضلين في الشرائع والإرشاد والقواعد ، وولده في الشرح ، والشهيد في الدروس (٣) ، وغيرهم من المتأخرين (٤) ، وبالجملة : الأكثرون على الظاهر ، المصرَّح به في المسالك (٥) ، وهو الأظهر.

خلافاً للخلاف ، والمفيد ، والديلمي ، وابن حمزة ، والحلّي (٦) ، وهو‌

__________________

(١) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٤.

(٢) المختلف : ٧١٤.

(٣) حكاه عن العماني والإسكافي في المختلف : ٧١٢ ، الصدوق في المقنع : ١٣٥ ، وحكاه عن والده في المختلف : ٧١٣ ، الحلبي في الكافي : ٤٣٦ ، المبسوط ٨ : ١٧٢ ، التهذيب ٦ : ٢٨٠ ، الاستبصار ٣ : ٢٥ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٤ ، الشرائع ٤ : ١٣٦ ، الإرشاد ٢ : ١٥٩ ، القواعد ٢ : ٢٣٨ ، إيضاح الفوائد ٤ : ٤٣٢ ، الدروس ٢ : ١٣٧.

(٤) انظر المسالك ٢ : ٤١٣ ، والكفاية : ٢٨٥.

(٥) المسالك ٢ : ٤١٣.

(٦) الخلاف ٦ : ٢٥٢ ، المقنعة : ٧٢٧ ، المراسم : ٢٣٣ ، الوسيلة : ٢٢٢ ، السرائر ٢ : ١١٥.

٣٣٥

ظاهر التحرير ولكن احتمل الأوّل ثانياً (١) ، وفي شرح الشرائع للصيمري أنّه المشهور (٢). وفيه ما فيه.

ومستندهم الخبر : « شهادة النساء لا تجوز في طلاق ، ولا نكاح ، ولا في حدود ، إلاّ في الديون ، وما لا يستطيع الرجال النظر إليه (٣).

وهو مع ضعف سنده بالسكوني وعدّة من الجهلاء غير مكافئ لما تقدم من الأدلة لوجوه شتى لا تخفى ، وحمله الشيخ تارةً على الكراهة ، وأُخرى على التقية ، قال : لأنّ ذلك مذهب العامة (٤).

أقول : ويعضده كون الراوي : السكوني ، وهو من قضاتهم.

ومع جميع ذلك فهو مطلق يحتمل التقييد بصورة الانفراد عن الرجال ، كما ذكره جماعة من الأصحاب (٥).

ولا ينافيه الاستثناء للديون المثبت لقبول شهادتهنّ فيها مع أنّه لا يكون ذلك مع انفرادهن عن الرجال كما سيأتي ؛ لمنع عدم قبول شهادتهنّ فيها على الانفراد عنهم مطلقاً ؛ لما يأتي من قبولها مع اليمين ، فلعله المراد من القبول في صورة الاستثناء.

ومع ذلك يحتمل حمله على ما حمل عليه بعض النصوص الدالّة على قبول شهادتهن مع الانفراد عن الرجال في الديون ، كالصحيح : « إنّ‌

__________________

(١) التحرير ٢ : ٢١٢.

(٢) غاية المرام ٤ : ٢٩٥.

(٣) التهذيب ٦ : ٢٨١ / ٧٧٣ ، الإستبصار ٣ : ٢٥ / ٨٠ ، الوسائل ٢٧ : ٣٦٢ كتاب الشهادات ب ٢٤ ح ٤٢.

(٤) التهذيب ٦ : ٢٨١.

(٥) منهم الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤١٣ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٨٥ ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٧٩.

٣٣٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجاز شهادة النساء في الدين وليس معهن رجل » (١) من دين من جهة الوصية ، أو ميراث المستهل.

أو صورة ما إذا حصل العلم بقولهن ، كما ذكره خالي العلاّمة المجلسي طاب رمسه في حاشيته المحكية عنه على الصحيحة ، قال : وإلاّ فالمعمول عليه أنّه لا تقبل شهادة النساء منفردات إلاّ فيما يعسر اطلاع الرجال عليه ، إلى آخر ما ذكره (٢).

وأمّا الجمع بينهما بحمل رواية المنع على ما إذا كان المدّعى الزوج ؛ لأنّه لا يدّعي مالاً ، وأخبار القبول على ما إذا كان المدّعى المرأة ؛ لأنّ دعواها تتضمن المال من المهر والنفقة ، كما ذكره شيخنا في المسالك (٣) واستوجهه.

فضعيف غايته ؛ لعدم الشاهد عليه صريحاً ، بل ولا ظاهراً كما في الكفاية (٤) ، وكونه فرع التكافؤ المفقود في الرواية المانعة لوجوه عديدة.

نعم لو صحّ البناء المتقدم للقول بالتفصيل في المسألة السابقة اتجه ما ذكره ، ولكن فيه هنا نظير ما عرفته ثمّة ، إلاّ اعتضاد أخبار المشهور بالأصل ؛ فإنّه على خلافها ، بل معاضد للرواية المانعة ، ولكنه غير نافع للقول بالتفصيل ؛ إذ كما يعضده في شقّ ينافيه في آخر ، فتدبّر.

( وفي قبولها ) أي شهادتهن ( في ) حصول ( الرضاع ) المحرّم ( تردّد ) واختلاف بين الأصحاب :

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٣٢ / ١٠٠ ، التهذيب ٦ : ٢٧١ / ٧٣٤ ، الإستبصار ٣ : ٢٢ / ٦٩ ، الوسائل ٢٧ : ٣٦٣ كتاب الشهادات ب ٢٤ ح ٤٣.

(٢) ملاذ الأخيار ١٠ : ١٣٤.

(٣) المسالك ٢ : ٤١٣.

(٤) الكفاية : ٢٨٥.

٣٣٧

فبين مانع عنه ، كالشيخ في الخلاف وموضع من المبسوط ، والحلّي ، ونجيب الدين يحيى بن سعيد (١) ، وفي السرائر والتحرير والمسالك أنّه مذهب الأكثر (٢) ، ونسبه في موضع من المبسوط إلى روايات الأصحاب (٣) ، وفي موضع آخر منه إليهم فقال : شهادة النساء لا تقبل في الرضاع عندنا (٤). مشعراً بدعوى الإجماع عليه ، كما صرّح به في الخلاف (٥) ؛ لأصالة الإباحة مع عدم وضوح مخصّص لها من الأدلّة.

وبين من جعل ( أشبهه القبول ) كالمفيد ، والعماني ، والإسكافي ، والديلمي ، وابن حمزة ، والشيخ في موضع آخر من المبسوط ، والفاضلين في كتبهما ، وكذا الشهيدان ، وفخر الإسلام ، والصيمري (٦) ، وغيرهم من سائر المتأخرين (٧) ، بل عليه عامّتهم ؛ لأنّه أمر لا يطلع عليه الرجال غالباً ، فمسّت الحاجة إلى قبول شهادتهن فيه كغيره من الأُمور الخفية على الرجال من عيوب النساء وغيرها.

وللنصوص الكثيرة المتقدم جملة منها ، وسيأتي الإشارة إلى باقيها ـ

__________________

(١) الخلاف ٦ : ٢٥٨ ، المبسوط ٥ : ٣١١ ، الجامع : ٥٤٣.

(٢) السرائر ٢ : ١١٥ ، التحرير ٢ : ٢١٢ ، المسالك ٢ : ٤١٤.

(٣) المبسوط ٨ : ١٧٢.

(٤) المبسوط ٥ : ٣١١.

(٥) الخلاف ٦ : ٢٥٨.

(٦) المفيد في المقنعة : ٧٢٧ ، وحكاه عن العماني والإسكافي في المختلف : ٧١٦ ، الديلمي في المراسم : ٢٣٣ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٢٢٢ ، المبسوط ٨ : ١٧٢ ، المحقق في الشرائع ٤ : ١٣٧ ، العلاّمة في التحرير ٢ : ٢١٢ ، والقواعد ٢ : ٢٣٩ ، الشهيدان في اللمعة والروضة البهية ٣ : ١٤٤ ، فخر الإسلام في الإيضاح ٤ : ٤٣٥ ، الصيمري في غاية المرام ٤ : ٢٩٦.

(٧) كشف الرموز ٢ : ٥٢٥ ، والمقتصر : ٣٩١ ، والمفاتيح ٣ : ٢٩١.

٣٣٨

الدالة على قبول شهادتهن فيما لا يجوز للرجال النظر إليه.

وللمرسل كالموثق بابن بكير المجمع على تصحيح ما يصح عنه المروي في التهذيب في أواخر باب ما يحرم من النكاح من الرضاع : في امرأة أرضعت غلاماً وجارية ، قال : « يعلم ذلك غيرها؟ » قلت : لا ، قال : « لا تصدّق إن لم يكن غيرها » (١).

فإنّ مفهوم الشرط أنّها تصدّق حيث يعلم بذلك غيرها ، والسند كما عرفت معتبر ، ومع ذلك بالشهرة العظيمة المتأخرة (٢) القطعية التي كادت تكون إجماعاً ، بل إجماع في الحقيقة منجبر ، والمفهوم حجة ، وهو عام شامل لما إذا كان الغير ذكراً أو أُنثى ، وخروج بعض الأفراد منه بالإجماع وغيره غير قادح ؛ لكون العام المخصّص في الباقي حجة.

هذا على تقدير عمومه لغةً ، كما هو الأقوى ، وحقق في محله مستقصى ، وأمّا على تقدير إطلاقه المنصرف إليه بالدليل الذي به تصرف الإطلاقات إليه فلا قدح بذلك قطعاً وإن قلنا بأنّ العام المخصَّص ليس حجة ؛ لوضوح اختلاف حال العموم والإطلاق في ذلك جدّاً ، فاندفع بما قررنا المناقشة الموردة على هذه المرسلة بحذافيرها.

ومع ذلك فالمسألة لا تخلو عن شوب الإشكال ، لا لما مر من الأصل ؛ لوجوب تخصيصه بما مرّ من الدليل ، بل لما عرفت من الإجماع المحكي في صريح الخلاف وظاهر المبسوط ، والرواية المحكية فيه المنجبر إرسالها بالإضافة إلينا بالشهرة المنقولة فيما مرّ من عبائر جملة من‌

__________________

(١) التهذيب ٧ : ٣٢٣ / ١٣٣٠ ، الوسائل ٢٠ : ٤٠١ أبواب ما يحرم بالرضاع ب ١٢ ح ٣.

(٢) في « س » : المعتبرة.

٣٣٩

أصحابنا.

وإن أمكن المناقشة في جميع ذلك : فحكاية الإجماع بعدم صراحتها فيه في المبسوط ، ومعارضته بإجماع المرتضى الآتي ، مع احتمال وهنه كالشهرة المنقولة بأكثريّة القائل بالقبول في قدماء الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم من القائل منهم بالمنع ، سيّما وإذا ضممنا إليهم جملة منهم ممّن لم يتعرض لخصوص المسألة نفياً ولا إثباتاً ، ولكن صرّح بقبول شهادتهن فيما لا يطّلع عليه الرجال غالباً ومنه الرضاع قطعاً ، وقد ادّعى بعضهم الإجماع عليه كابن زهرة ، بل ادّعى الإجماع على قبول شهادتهن مع الرجال فيما عدا الطلاق وغيره مما عدّه قبل ذلك ولم يكن منه الرضاع ، فقال : وتقبل شهادتهن فيما عدا ما ذكرناه مع الرجال بدليل إجماع الطائفة (١). فتأمّل.

مع أنّ المرتضى صرّح بالإجماع على القبول ، فقال : الذي يقوله أصحابنا : إنّ شهادة النساء في الرضاع مقبولة على الانفراد ، وفي الولادة أيضاً إلى أن قال ـ : والدليل على ذلك بعد الإجماع المتقدم ذكره ما روي (٢). إلى آخر ما ذكره.

والرواية المحكية في المبسوط لم نقف عليها ، فهي كما عرفت مرسلة ، والشهرة المحكية على تقدير صحتها إنّما تجبر وهن السند بعد اتضاح الدلالة ، وهي غير معلومة ، فيحتمل الغفلة عنها للحاكي ، أو بناؤه إيّاها على ما لم نرض به.

ولو سلّم جميع ذلك فهي معارضة بالروايات المتقدمة عموماً‌

__________________

(١) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٤.

(٢) الناصريات ( الجوامع الفقهية ) : ٢١٢.

٣٤٠